مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

الخلوة والانقطاع إِلى الله

     عن عائشة رضي الله عنها قالت: «أول ما بُدئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إِلا جاءت مثل فَلَقِ الصُبح، ثم حُبِّبَ إِليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء، فيَتَحَنّثُ فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد، ويتزودُ لذلك»، رواه البخاري  [1].

     في هذا الحديث دليل للصوفية في الخُلوةِ والانقطاع عن الخَلْقِ في الزوايا والمساجد، قال العارف أبو محمد بن أبي جمرة في بهجة النفوس: «في الحديث دليل على أن الخُلوة عَونٌ للإِنسان على تعبده وصلاح دينه، لأن النبي r لمّا اعتزل عن الناس وخلا بنفسه أتاه هذا الخير العظيم، وكل أحد امتثل ذلك أتاه الخير بحسب ما قسم الله له من مقامات الولاية»[2].

    ولأن الخُلوة تعين على التفكر في عظمة الله، وسعة قُدرته، وعموم نعمته، وباهر حكمته، وقد كان تعبد النبي r في خلوته بغار حراء تفكراً واعتباراً، وحضّ القرآن الكريم على التفكر في غير آية، منها قوله تعالى: ﴿ إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض﴾[3].

     وأيضاً فإن الخلوة أجمعُ لقلبِ المُريد وأعونُ له على التفرغ لذكر الله وأبعدُ عن الرياء، وأيضا فإن الخُلوة تُبعدُ المُريد عن مواطنِ اللغوّ واللَّغَط، وتهيئهُ لقبول الواردات الإِلهية والتَجَلِيات الربّانية، ولهذا رغب الشارع فيها، وجعلها من العادات المطلوبة، وأفردها فقهاء المذاهب بباب خاص لها هو باب الاعتكاف، ذكروا فيه أحكامه وشروطه وآدابه، وثبت في الصحيحين «أن النبي ﷺ كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان»[4]، فيلزم المسجد النبوي، ويعتزل نساءه، ويُقبل على العبادة والذكر وتلاوة القرآن، ولا يخرج إِلا لقضاء حاجة الإِنسان، وفي سُنن أبي داود بإِسناد لا بأس به عن عائشة رضي الله عنها  قالت: «السُنّةُ على المعتكف أن لا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يُباشرها، ولا يخرج لحاجة إِلا لما لا بُد له منه»[5]، فهذه هي الخُلوة التي اتخذها الصوفية، وسموها تجريدا، لأن المُريد يتجرد من العلائق والعوائق وينقطع إِلى الذكر والعبادة مدة قد تطول وقد تقصر بحسب استعداده وما قُسِمَ له، لكنهم صرّحوا مع ذلك بأن المُريد إِذا كان له عمل يتكسب به كالتجارة أو صناعة مثلا، فلا ينبغي له تركه إِلى الخُلوة والتجريد، بل يبقى في عمله الذي أقامه الله فيه، ويستطيع أن يذكر الله في حالته تلك وفي أوقات فراغه، ولهذا قال ابن عطاء الله في الحكم: «إِرادتك التجريد مع إِقامة الله إِيّاك في الأسباب من الشهوة الخفيّة، وإِرادتك الأسباب مع إِقامة الله إِيّاك في التجريد انحطاط عن الهمّة العليّة»[6]، ودليلهم على ذلك حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه وأرضاه قال: مرَّ على النبي ﷺ رجل فرأى أصحاب رسول الله ﷺ من جلده ونشاطه، فقالوا يا رسول الله! لو كان هذا في سبيل الله، فقال رسول الله ﷺ: «إِن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإِن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإِن كان خرج يسعى على نفسه يعِفّها فهو في سبيل الله، وإِن كان خرج يسعى رياءً ومُفاخرةً فهو في سبيل الشيطان» رواه الطبراني بإِسناد صحيح [7].

     وقد كان في الصحابة أهل التجريد، وأصحاب الأسباب، أما أهل التجريد فهم أهل الصُّفَة كانوا نحو سبعين صحابياً مقيمين بالمسجد النبويّ لا أهل لهم ولا مال، وكان النبي ﷺ يُنفق عليهم، واسمع إِلى أبي هريرة يتحدث عن نفسه وعنهم –وهو أحدهم- فيقول: «والذي لا إِله إِلا هو إِن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإِن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه فمر بي أبو بكر فسألته عن آية في كتاب الله، ما سألته إِلا ليشبعني فلم يفعل، ثم مر عمر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إِلا ليشبعني فلم يفعل، ثم مر أبو القاسم ﷺ فتبسّم حين رآني وعرف ما في وجهي وما في نفسي، فقال: «يا أبا هريرة»، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «الحق» وَمَضى، فاتبعته فدخل فاستأذن، فأذن له فدخل فوجد لبناً في قدح، فقال «من أين هذا اللبن»، قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: «يا أبا هريرة»، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «الحق إِلى أهل الصفة فادعهم لي»،قال: وأهل الصفة أضياف الإِسلام لا يلوون على أهلٍ ولا مالٍ ولا على أحد، إِذا أتَتْهُ صدقةٌ بعث بها إِليهم ولم يتناول منها شيئا، وإِذا أتته هدية أرسل إِليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا واستأذنوا فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: «يا أبا هريرة» قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «خذ فأعطهم»، فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح حتى انتهيت إلى النبي ﷺ وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده، فتبسم فقال «يا أبا هريرة»، قلت: لبيك يا رسول الله، قال «وبقيت أنا وأنت»، قلت: صدقت يا رسول الله، قال: «اقعد فاشرب»، فشربت، فقال: «اشرب»، فشربت، فما زال يقول: «اشرب»، حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكاً، قال: «فأرني» فأعطيته القدح، فحمد الله تعالى وسمى وشرب الفضلة». رواه البخاري وغيره [8]. وجاء في حديث لأبي هريرة أن أهل الصفة كانوا سبعين صحابياً[9]، قال الحافظ ابن حجر: «وليس المراد حصرهم في هذا العدد، بل المراد عدّتهم في أول الأمر، وإِلا فمجموعهم أضعاف ذلك»[10]، وقد سرد أبو نعيم أسماءهم في أول الحلية فزادوا على المائة[11]، وأما أصحاب الأسباب فمعظم الصحابة، فالأنصار كانوا أهل نخل وزرع، والمهاجرون أهل تجارة وفيهم الخلفاء الأربعة إِلا علياً عليه السلام فإِنه كان على حال النبي ﷺ من الزهد وترك الأسباب إِلا في القليل النادر، ولذا كان من أوصافه اللازمة له لزوم الشجاعة والعلم، زهده.

الهوامــــــــــــــــــــــــش :

[1] صحيح البخاري: كتاب بدء الوحي، باب بدء الوحي، رقم3، وهو حديث طويل اقتطع منه المؤلف محل الشاهد عنده.

[1] بهجة النفوس شرح مختصر صحيح البخاري: عبد الله بن أبي جمرة، دار لكتب العلمية، ط. الثانية 1428ﻫ/2007م. (ص11).

[1]  آل عمران، الآية 189-190.

[1] صحيح البخاري، كتاب الاعتكاف، باب الاعتكاف في العشر الأواخر، رقم2025. وصحيح مسلم: كتاب الاعتكاف، باب اعتكاف العشر الأواخر من رمضان، رقم 1171.

[1] سنن أبي داود، كتاب الصوم، باب المعتكف يعود المريض، رقم 2473.

[1] إيقاظ الهمم في شرح الحكم: ابن عجيبة، راجعه وحققه محمد عزت، المكتبة التوقيفية، ط 2008م، (ص34).

[1] المعجم الكبير: الطبراني، رقم 15619.

[1] صحيح البخاري: كتاب الرقاق، باب كيف كان عيش النبي ﷺ وأصحابه وتخليهم من الدنيا؟، رقم 6452.

[1] صحيح البخاري: كتاب الصلاة، باب نوم الرجال في المسجد، رقم 442. ولفظ الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار، وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته.

[1]  فتح الباري: ابن حجر العسقلاني، (11/322). قال أبو نعيم: وكان عدد قاطني الصفة يختلف على حسب اختلاف الأوقات والأحوال، فربما تفرق عنها وانتقص طارقوها من الغرباء والقادمين فيقل عددهم، وربما يجتمع فيها واردوها من الوراد والوفود فينضم إليهم فيكثرون، غير أن الظاهر من أحوالهم، والمشهور من أخبارهم، غلبة الفقر عليهم، وإيثارهم القلة واختيارهم لها، فلم يجتمع لهم ثوبان، ولا حضرهم من الأطعمة لونان» حلية الأولياء، (1/417).

[1] حلية الأولياء: أبو نعيم، (1/425).

Science

د. طارق العلمي

  • أستاذ باحث في الرابطة المحمدية للعلماء، متخصص في المجال الصوفي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق