مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

الخلوة المحمدية في غار حراء وآثارها الروحية في حياة الانسان

     ولما قارب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم سن الأربعين، حبب إليه العزلة، والابتعاد عن مشاغل الحياة، بين الفينة والأخرى، فالتجأ إلى غار حراء للاختلاء فيه، وحراء جبل يقع في جانب الشمال الغربي من مكة، فكان يتعبد فيه الليالي ذوات العدد، ثم يعود إلى أهله، فيتزود من جديد ليعود إلى خلوته حتى فاجأه الوحي.

     عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (أولُ ما بُدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاءُ، وكان يخلو بغار حِراءَ ؛ فيتَحَنَّثُ فيه ـ وهو التعبد الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق، وهو في غار حراء). [1]

     وما أحسن قول البوصيري رحمه الله تعالى في همزيته يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدايته:

                                         أَلِفَ النُسكَ والعِبَادَةَ والخَلْـوَةَ               طفلاً وهكذا النجباء

     وللتعمق في هذا الحدث لابد أولا من تعريف الخلوة، وذكر أهميتها وفوائدها:

  • تعريف الخلوة:

     نشير قبل تعريف الخلوة إلى أن السادة الصوفية والفقهاء تحدثوا عن الخلوة، كل حسب تخصصه، قال المحدث الكشميري رحمه الله: “وهذا على نحو مجاهدات الصوفية وخلواتهم، ثم إن اعتكاف الفقهاء وخلوات الصوفية عندي قريب من السواء”،[2]  إلا أن الصوفية اختصوا بمصطلح الخلوة، ولهم فيها دلالات عامة وخاصة، تبعا لحال المريد في التربية والسلوك، وكلها مستمدة من السيرة النبوية.

  • التعريف العام للخلوة:

عرفها السهروردي بأنها: “التقرب إلى الله تعالى بعمارة الأوقات، وكف الجوارح عن المكروهات، فيصلح لقوم من أرباب الخلوة إدامة الأوراد، وتوزيعها على الأوقات، ويصلح لقوم ملازمة ذكر واحد، ويصلح لقوم دوام المراقبة، ويصلح لقوم الانتقال من الذكر إلى الأوراد، ولقوم الانتقال من الأوراد إلى الذكر، ومعرفة مقادير ذلك يعلمه المصحوب للشيخ، المطلع على اختلاف الأوضاع وتنويعها، مع نصحه للأمة وشفقته على الكافة، يريد المريد لله لا لنفسه، غير مبتلى بهوى نفسه”.[3]

     وعرفها ابن عجيبة: “هي انفراد القالب عن الناس”.[4]

  • التعريف الخاص للخلوة:

فقد عرفها القاشاني بأنها: “محادثة السر مع الحق بحيث لا ملك ولا أحد”[5]

ويقول القسطلاني: “والخلوة أن يخلو عن غيره بل وعن نفسه بربه”.[6]

وعرف ابن عجيبة العزلة بقوله: “انفراد القلب بالله”.[7]

     يتبين لنا من خلال تعريف الخلوة بمعناها العام أنها انعزال مؤقت عن الناس، للتفكر والتذكر، والتعبد… لكن بشرط أن تكون بإذن من شيخ عارف حتى لا يقع المريد في ما لا تحمد عقباه من هواجس النفس وحبائل الشيطان، فهي بهذا المعنى للمبتدئين، وقد اختلف الصوفية في تحديد المصطلح الأنسب للمرحلة الأولى للمريد والمرحلة الثانية، فمنهم من أطلق مصطلح العزلة للمبتدئين، كالقشيري،[8] أما ابن عجيبة فاختار مصطلح الخلوة، والعكس في المرحلة الثانية، ولكن عند التحقيق نجد أنه لا خلاف بينهم في الجوهر، لأن الأساس هو أن  يتدرج المريد في المراتب حتى يتحقق بمعاني الخلوة كما في التعريف الخاص، يقول ابن أبي جمرة: “الأولى بأهل البداية الخلوة والاعتزال لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أول أمره يخلو بنفسه، فلما انتهى عليه السلام حيث قدر له، لم يفعل ذلك وبقي يتحنث بين أهله”،[9] ويقول القشيري: “إن الخلوة صفة أهل الصفوة، والعزلة من أمارات الوصلة، ولابد للمريد في ابتداء حاله من العزلة عن أبناء جنسه، ثم في نهايته من الخلوة لتحققه بأنسه”،[10] ويقول ابن عجيبة: “لا ينفرد القلب في الغالب إلا إذا انفرد القالب”.[11]

  • أهمية الخلوة وفوائدها:

     للخلوة فوائد وآثار جليلة في حياة الناس، لا يعرفها إلا من ذاق حلاوتها، وعاش في نعيمها، من بينها:

  • فيها السلامة من صحبة الأشرار، ومخالطة أصحاب الهمم المنحطة، لأن في مخالطتهم فساد كبير، وانحطاط عن الهمة العلية، “فإن أردت الصحبة، فعليك بصحبة الصوفية، فإن صحبتهم كنز لا نفاد له”.[12]
  • أنها تعين الإنسان على اتيان الطاعات، والقدرة على آداء العبادات بهمة ونشاط، وزيادة حلاوة، قال ابن أبي جمرة في شرحه للحديث السابق: “فيه دليل على أن الخلوة عون للإنسان على تعبده وصلاح دينه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما اعتزل عن الناس وخلا بنفسه، أتاه هذا الخير العظيم، وكل أحد إذا امتثل ذلك أتاه الخير بحسب ما قسم الله له من مقامات الولاية”،[13] وقال أبو طالب المكي: “ولا يكون المريد صادقا حتى يجد في الخلوة من اللذة والحلاوة والمزيد ما لا يجده في الجماعة، ويجد في السر من النشاط والقوة ما لا يجده في العلانية، ويكون أنسه في الوحدة، وروحه في الخلوة، وأحسن أعماله في السر”.[14]
  • أنها تريح القلب من مشاغل الحياة ومشاكلها، وتعيد للانسان توازنه في الحياة، قال القسطلاني رحمه الله تعالى في شرحه لحديث عائشة المذكور: “وفيه تنبيه على فضل العزلة لأنها تريح القلب من أشغال الدنيا، وتفرغه لله تعالى، فيتفجر منه ينابيع الحكمة، والخلوة أن يخلو عن غيره بل وعن نفسه بربه، وعند ذلك يصير خليقاً بأن يكون قالبه ممراً لواردات علوم الغيب، وقلبه مقراً لها”،[15] ويقول أبو سليمان الخطابي رحمه الله: “حُبِّبَتْ العزلة إليه صلى الله عليه وسلم، لأن معها فراغ القلب، وهي معينة على التفكر، وبها ينقطع عن مألوفات البشر، ويتخشع قلبه”.[16]
  • فيها تشبه بالأنبياء وعباد الله الصالحين، قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في شرح حديث عائشة عند قوله: (حبب إليه الخلاء): “وهي شأن الصالحين، وعباد الله العارفين”.[17]
  • الخلوة فيها مجالسة الرحمن، والظفر بنعيم القرب والأنس، والعيش مع أنوار الحق، ففي الحديث: (أنا جليس من ذكرني)، [18] بحيث لا يشغله أي شاغل عن ربه، ولا يلتفت إلى الغير، بل أنسه ومنتهى طلبه الوصال مع حضرة القدس، وما أحسن قول عمر بن الفارض رحمه الله تعالى معبراً عن تلك الحالة الشائقة:

ولقد خَلوتُ مع الحبيب وبَيننا                    سرٍّ أرقُّ مِنَ النسيم إذا سرى

وأباح طرفي نظرة أملتها                 فغدوت معروفا وكنتُ منكرا

    فدهشتُ بين جماله وجلالهِ                وغدا لسانُ الحالِ عني مخْبراً [19]

الهوامش :

[1] صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، باب بدء الوحي

[2] فيض الباري على صحيح البخاري، محمد أنور الكشميري، جمع هذه الأمالي وحررها مع حاشية البدر الساري إلى فيض الباري: محمد بدر عالم الميرتهي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1426هـ/2005م، 1/99.

 [3]عوارف المعارف، السهروردي، 1/240.

 [4]إيقاظ الهمم في شرح الحكم، 56.

 [5]لطائف الأعلام في إشارات أهل الإلهام، للقاشاني، تحقيق: أحمد عبد الرحيم السايح، توفيق علي وهبة، عامر النجار، مكتبة الثقافة الدينية، ط: 1، 1426هـ/2005م، 2/370.

 [6] إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، شهاب الدين أبي العباس أحمد بن محمد الشافعي القسطلاني، ضبطه وصححه: محمد عبد العزيز الخالدي، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، الطبعة الأولى، 1416هـ/1996م، 1/87.

 [7]إيقاظ الهمم في شرح الحكم، 56.

 [8] الرسالة القشيرية، 101.

 [9] بهجة النفوس وتحليها  بمعرفة مالها وما عليها شرح مختصر صحيح البخاري المسمى: جمع النهاية في بدء الخير والغاية، لابن أبي جمرة الأندلسي، مطبعة الصدق الخيرية، مصر، الطبعة الأولى، 1348هـ، ، ص: 11.

  [10] الرسالة القشيرية، 101.

[11]إيقاظ الهمم في شرح الحكم، 56.

[12] إيقاظ الهمم في شرح الحكم، 58.

[13] بهجة النفوس وتحليها  بمعرفة مالها وما عليها شرح مختصر صحيح البخاري، لابن أبي جمرة الأندلسي، ص: 11.

[14] قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد، لأبي طالب المكي، تحقيق: محمود إبراهيم محمد الرضواني، مكتبة دار التراث، الطبعة الثانية، 1431هـ/2010م، 1/280.

[15] إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، 1/87.

[16] صحيح مسلم بشرح الإمام النووي، يحيى بن شرف النووي، مؤسسة  قرطبة، الطبعة الثانية، 1414هـ/1994م، 2/260.

[17] صحيح مسلم بشرح الإمام النووي، 2/260.

[18] الجامع لشعب الإيمان، البيهقي، لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق: عبد العلي عبد الحميد حامد، مكتبة الرشد، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1423هـ/2003م، رقم الحديث: 670، 2/171.

[19] ديوان ابن الفارض، دار صادر، بيروت، لبنان، 169-170.

Science

د.مصطفى بوزغيبة

باحث بمركز الإمام الجنيد التابع للرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق