مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

الخـوف بلا رجـاء يأس وقنوط

دة. ربيعة سحنون                           

باحثة بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة

     لا بد من اجتماعهما في قلب المؤمن معا، فلا ينفع خوف بدون رجاء، ولا رجاء بدون خوف، ومتى حل الرجاء دون الخوف أو العكس يحل القنوط واليأس من رحمة الله تعالى.

     قال ابن القيم: “الرجاء حاد يحدو به في سيره إلى الله، ويطيب له المسير، ويحثه عليه، ويبعثه على ملازمته؛ فلولا الرجاء لما سار أحد. فإن الخوف وحده لا يُحرِّكُ العبد. وإنما يُحرِّكُه الحب. ويزعجه الخوف. ويحدوه الرجاء. الخوف مستلزم للرجاء. والرجاء مستلزم للخوف. فكل راج  خائف. وكل خائف راج. ولأجل هذا حسن وقوع الرجاء في موضع يحسن فيه وقوع الخوف… والتحقيق: أنه ملازم له. فكل راج خائف من فوات مرجوه. والخوف بلا رجاء يأس وقنوط “[1].

     ومن المعلوم أن الخوف من الله سبحانه وتعالى فرض على كل واحد، يمنع العبد من الوقوع في المعاصي، وقد دعا الحق تبارك وتعالى عباده إلى الخوف منه وحده، قال عز وجل: ﴿فإياي فارهبون﴾[2]، وجعل الله جلَ شأنه الخوف من صفات المؤمنين في قوله: ﴿فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مومنين﴾[3].

     وعن عائشة قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: ﴿والذين يوتون ما آتوا وقلوبهم وجلة﴾[4]، قالت عائشة: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون، ويصلَون، ويتصدَقون، وهم يخافون أن لا يقبل منهم: أولئك الذين يسارعون في الخيرات)[5].

     فالخوف من الله تعالى، ومن عدم قبول العمل، يبعث المؤمن على مراقبة نفسه ومحاسبتها، ومحاولة معالجة عيوبها، والمواظبة على العلم والعمل، “ويكون حاله حال من وقع في مخالب سبع ضار لا يدري أيغفل عنه فيفلت، أو يهجم عليه فيهلك…، وقوة المراقبة والمحاسبة بحسب قوة الخوف الذي هو تألم القلب واحتراقه، وقوة الخوف بحسب قوة المعرفة والمجاهدة بجلال الله وصفاته وأفعاله، وبعيوب النفس، وما بين يديها من الأخطار والأهوال”[6].

     فمعرفة الحق تبارك وتعالى بأسمائه وصفاته، واستحضار عظمته وإجلاله، هي الباعث على الخوف منه سبحانه، فإن من كان بالله أعرف كان منه أخوف، وكلما كان العبد أقرب إلى الله عز وجل، كلما كان أتقى وأخشى لربه جل وعلا.

     وقد وصف الحق جل في علاه الملائكة المقرَبين الذين اصطفاهم على كثير من عباده، بأنهم ﴿يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يومرون﴾[7]، وكذلك وصف الأنبياء والرسل بأنهم (﴿يبلَغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله﴾[8]، وقال تعالى عن العلماء: ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾[9].

     وعلى هذه الكيفية كان خوف العارفين بالله عز وجل، الذين سلكوا طريق الحق والمعرفة، فلقد بلغوا بخوفهم من الله تعالى وخشيتهم له منازل عظيمة، قرَبتهم من الحق جلَ شأنه، فهذا الإمام الجنيد الذي بلغ خوفه من الله سبحانه أعلى الدرجات، يقول: “ما أحب أن أموت حيث أعرف، أخاف ألا تقبلني الأرض وأفتضح”[10].

     فهذا تاج العارفين، وهو من هو في طريق المعرفة لله تعالى، خائف من مولاه لدرجة أنه لا يريد أن يموت ببلده حتى لا يفتضح، وقد سئل عن الخوف، فقال: “هو توقع العقوبة مع مجاري الأنفاس”[11].

     فالصوفية والعارفون بالله تعالى خافوا من الله عز وجل، وخوفهم كان بالابتعاد عن المعاصي واجتنابها، وفعل الأوامر والمواظبة عليها، مع استحضار مراقبة الله تعالى لهم واطلاعه عليهم، ومجاهدة أنفسهم وترويضها على الطاعة المقربة لله سبحانه، يظهر ذلك من خلال تفريق الغزالي في الخوف بين مقامين: “أحدهما: الخوف من عذاب الله. والثاني: الخوف من الله، فأما الخوف منه فهو خوف العلماء وأرباب القلوب العارفين من صفاته ما يقتضي الهيبة والخوف والحذر، المطلعين على سر قوله: ﴿ويحذَركم الله نفسه﴾[12]، وقوله عز وجل: (اتقوا الله حقَ تقاته﴾[13]. وأما الأول: فهو خوف عموم الخلق، وهو حاصل بأصل الإيمان بالجنة والنار، وكونهما جزاءين على الطاعة والمعصية، وضعفه بسبب الغفلة وسبب ضعف الإيمان…، وأما الثاني وهو الأعلى: فأن يكون الله هو المخوف، أعني أن يخاف العبد الحجاب عنه ويرجو القرب منه”[14].

     ولتحقيق القرب منه تعالى، لا بد من اقتران الخوف بالرجاء، واعتدالهما، فلا يغلب أحدهما على الآخر، بل يجب أن يكونا رفيقين لبعضهما، فلا يجوز للمؤمن أن يعتمد على الخوف فقط حتى يقنط من رحمة الله، ولا على الرجاء فقط حتى يأمن من عذاب الله، بل يكون خائفا راجيا، يخاف ذنوبه، ويعمل بطاعة الله، ويرجو رحمته، كما قال تعالى عن أنبيائه: ﴿إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين﴾[15]، وقال عز وجل: ﴿أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه﴾[16].

     والخوف والرجاء إذا اجتمعا، دفعا العبد المؤمن إلى العمل وفعل الأسباب النافعة، فإنه مع الرجاء يعمل الطاعات رجاء ثوابها، ومع الخوف يترك المعاصي خوف عقابها، أما إذا يئس من رحمة الله تعالى، فإنه يتوقف عن العمل الصالح، وإذا أمن من عذاب الله وعقوبته، فإنه يندفع إلى فعل المعاصي.

     “فالخوف إذن مع الرجاء يمثلان اعتدال النظر والعمل في فهم الدين، لا خوف يفضي إلى اليأس والقنوط، ولا رجاء يمضي بالإنسان إلى سبيل الزيغ والإهمال والتعطيل”[17].

     وكان الإمام الجنيد رحمه الله يقول، جامعا بين الخوف والرجاء: “الخوف من الله يقبضني، والرجاء منه يبسطني، والحقيقة تجمعني، والحق يفرّقني. إذا قبضني بالخوف أفناني عنه، وإذا بسطني بالرجاء ردّني علي، وإذا جمعني بالحقيقة أحضرني، وإذا فرّقني بالحق أشهدني غيري فغطّاني عنه، فهو تعالى في ذلك كله محرِّكي غير ممسكي، وموحشي غير مؤنسي، فأنا بحضوري أذوق طعم وجودي، فليته أفناني عنَي فمتّعني، أو غيّبني عنه فروّحني”[18].

     فالرجاء ضروري للمريد السالك وكذلك الخوف، ولا يمكنه السير في طريقه دون التمسك بهما معا، في تكامل بينهما، فلا يُغلّبُ أحدهما على الآخر، ولا يُتمسّك بأحدهما دون الآخر، بل لا بد أن يجتمعا لتجتمع له المحبة لله عز وجل، وتتحقق له المعرفة، ويحصل القرب من تعالى.

     وهذا هو هدف الصوفية الذي ابتغوه من وراء سلوك طريق التصوف والتدرج فيها: تحقيق هدف أسمى وغاية مثلى، هي الوصول إلى معرفة الحق تبارك وتعالى حق المعرفة، والقرب منه والاستئناس به، ولن يتحقق للسالكين ذلك إلا بالطاعة لله سبحانه وتعالى، والمداومة على العبادة، والإخلاص فيها، والتذلل له جل وعلا، مع الإيمان الكامل والتصديق الجازم بأنه تعالى هو مالك كل شيء، وبيديه كل شيء، وإليه يرجع في كل شيء، وهو وحده الموصل لكل شيء جل شأنه، فإن “المعرفة صفة من عرف الحق سبحانه بأسمائه وصفاته، ثم صدق الله تعالى في معاملاته، ثم تنقّى عن أخلاقه الرديئة وآفاته، ثم طال بالباب وقوفه، ودام بالقلب اعتكافه، فحظي من الله تعالى بجميل إقباله، وصدق الله تعالى في جميع أحواله، وانقطعت عنه هواجس نفسه، ولم يصغ بقلبه إلى خاطر يدعوه إلى غيره…”[19].

     فالوصول إلى مقام المعرفة يقتضي التجرد الكامل لله عز وجل، والتخلُّق بالأخلاق المحمدية، والمواظبة على الطاعات، ودوام الوقوف على باب العلي الكبير، فإنه بقدر المعرفة تكون العبودية.

     والسالك لطريق التصوف محتاج إلى معرفته عز وجل، لتزداد خشيته له، وخوفه منه، ورجاؤه فيه، وتوكله عليه، وإخلاصه له، “لأن القلوب إنما تحب من تعرفه، وتخافه، وترجوه وتشتاق إليه، وتلتذ بقربه، وتطمئن إلى ذكره، بحسب معرفتها بصفاته”[20].

     والعارف بالله عز وجل تحُلُّ عليه السكينة والطمأنينة والسرور والأمان، فإن “من عرف الله –كما قال الجنيد- لا يُسرُّ إلا به، ومن عرف الله أطاعه، ومن عرف نفسه ساء بها ظنه، وخاف على حسناته ألاّ تُقبل”[21].

     ومن عرف الله عز وجل عظّمه وهابه في جميع أوامره ونواهيه، وانكسر له، وافتقر إليه، ولم يتعلق قلبه بشيء غيره سبحانه وتعالى، وحظي بقربه، لأنه “كلما أخلص العبد في الطاعات ازداد إلى الله تقرُّباً، ولا يزال على هذه الحال حتى يجد حلاوة قُربه من الله، فيتخذ من الطاعة وسيلة تُقرِّبه من الله”[22].

الهوامش:


[1] ابن القيم: مدارج السالكين، 43/2.

[2] سورة النحل، الآية 51.

[3] سورة آل عمران، الآية 175.

[4] سورة المومنون، الآية 60.

[5] الترمذي: السنن، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة المؤمنون، رقم 3175.

[6] الغزالي: الإحياء، 196/4.

[7] سورة النحل، الآية 50.

[8] سورة الأحزاب، الآية 39.

[9] سورة فاطر، الآية 28.

[10] سعاد الحكيم: تاج العارفين، ص: 115.

[11] المرجع السابق، ص: 115.

[12] سورة آل عمران، الآية 28.

[13] سورة آل عمران، الآية 102.

[14] الغزالي: الإحياء، 4 /210-211.

[15] سورة الأنبياء، الآية  90.

[16] سورة الإسراء، الآية 57.

[17] مجدي: التصوف السني، ص: 148.

[18] سعاد الحكيم: تاج العارفين، ص: 115.

[19] القشيري: الرسالة القشيرية، ص: 312.

[20] ابن القيم: مدارج السالكين، 3 /277.

[21] سعاد الحكيم: تاج العارفين، ص: 167.

[22] مجدي: التصوف السني، ص: 125.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق