وحدة المملكة المغربية علم وعمرانأعلام

الخطيب بن مرزوق

د. جمال بامي
مدير وحدة العلم والعمران بالمغرب

      شخصية هذه الحلقة عالم مغربي كبير عاصر العلامة ابن خلدون والداهية لسان الدين بن الخطيب الذي تناولنا شخصيته في الحلقة الماضية؛ وقد كانا صديقيه؛ يتعلق الأمر بالعالم الأديب المؤرخ الخطيب بن مرزوق صاحب “المسند الصحيح الحسن في مآثر مولانا أبي الحسن”…
يعود أصل محمد بن مرزوق التلمساني المشهور بالخطيب إلى القيروان. هاجر جد العائلة مرزوق إلى تلمسان أيام حكم الدولة المرابطية، وقد اكتسب أسلاف الخطيب ابن مرزوق شهرة كبيرة بحاضرة تلمسان، وعُرفوا بالعلم والصلاح وخدمة الولي الشهير أبي مدين شعيب الغوث دفين العُبّاد بتلمسان. كان أبو بكر بن مرزوق التلمساني 520-594 هـ، خادما للعارف الكبير أبي مدين الغوث، واشتهر محمد بن محمد بن مرزوق 629-681 هـ بالعلم، إذ كان فقيها ومحدثا ومتصوفا كبيرا، توفي بتلمسان، ودفن في دار الراحة من الجامع الأعظم قرب ضريح أبي يحيى يغمراسن بن زيان…
اتبع ابنه أبو العباس أحمد والد مؤلف “المسند الصحيح الحسن” المولود بتلمسان سنة681 هـ والمتوفى بمكة سنة 741هـ منهج آبائه في التعاطي للعلم والتصوف.. ليس غريبا إذن أن ينشأ داخل هذا الفضاء العائلي الأستاذ الخطيب بن مرزوق مؤلف “المسند الصحيح الحسن”، الذي تلقى مبادئ العلم عن والده، خصوصا في مجال الفقه واللغة، كما تأثر بالبيئة الصوفية منذ صغره على الرغم من ابتعاده النسبي عن المسار الصوفي خلال مرحلة شبابه المفعمة بالسياسة والرياسة..
ونظرا لتعدد أفراد أسرة مرزوق  المعروفة بالعلم والمعرفة والخير والصلاح نرى من المفيد أن نميز صاحبنا الخطيب بن مرزوق رفعا للالتباس، ذلك أن كل هؤلاء الأفراد كانوا علماء فقهاء تركوا صيتا ذاع بالمشرق والمغرب، و خلفوا مؤلفات نفيسة، هناك العم، وهناك الجد والأب والأبناء والأحفاد، كلهم رجال خير وعلم، اشتهر من بينهم على الخصوص ابن مرزوق الكفيف، وابن مرزوق الخطيب الذي يهمنا في هذه الدراسة نظرا للصلة التي كانت تربطه بالبيئة المغربية في زمن بني مرين…
يقول الأستاذ محمد بن شقرون في دراسته “دور المغرب الأقصى في توحيد الثقافة بين دول المغرب العربي” (مجلة الثقافة المغربية، عدد 1،يناير-فبراير، 1970، ص74): “تبتدئ الحياة السياسية بالنسبة لمؤلف “المسند” عندما رجع من المشرق العربي في سنة 735 هجرية الموافق لسنة 1334 ميلادية، وعند وصوله إلى تلمسان مقر أسلافه في رمضان سنة 737 هجرية الموافق لأبريل سنة 1337 ميلادية كانت حملة أبي الحسن المريني على تلمسان في إطار التوجه الجديد للدولة المرينية، الهادف إلى تحقيق انتصارات على الجبهة الشرقية، ولقد كان لعم ابن مرزوق محمد علاقة بالدولة المرينية لكونه خطيبا في مسجد العُبّاد، وعند وفاته عين ابن مرزوق مكانه لما سمعه السلطان يمدحه في خطبته فقربه وجعله من خاصة مجلسه، ومنذ أن ولي مهمة الخطابة في مسجد العباد وأسندت إليه وظيفة الكتابة، أصبح ابن مرزوق يتعاظم نفوذه ومكانته لدى المرينيين وسلطانهم أبي الحسن على الخصوص إذ يعكس لنا كتابه “المسند الصحيح” هذه المكانة… لقد زاده ذلك تقربا من أبي الحسن، وارتفعت مكانته لديه وحظي بكثير ثقته، فقام ابن مرزوق بمهامه هذه أحسن قيام، وأخلص لرئيسه أيما إخلاص حيث رافقه في موقعة طريف الشهيرة، وترأس السفارة التي تفاوضت مع ملك قشتالة ألفونسو الحادي عشر لإبرام معاهدة صلح، فوفق السفير بن مرزوق في مهمته…
لقد شارك ابن مرزوق في موقعة طريف التي انهزم فيها المرينيون في 7 جمادى الأولى سنة 741 هجرية الموافق 6 أكتوبر 1340 ميلادية، حيث أرسل على رأس سفارة إلى المملكة القشتالية لإبرام معاهدة الصلح وفداء الأمير تاشفين بن أبي الحسن، وعند عودته من سفارته متجها إلى تونس، وصلته أنباء هزيمة أبي الحسن في معركة القيروان في محرم 749 هـ، فانتقل ابن مرزوق من مدينة قسطنطينة صحبة زوجة أبي الحسن إلى فاس، ثم رجع إلى تلمسان.. بعد ذلك سيكلفه الأمير الزياني العبد الوادي أبو سعيد عثمان بمهمة إبرام اتفاقية صلح مع السلطان أبي الحسن المريني الذي كان يسعى لاسترجاع تلمسان، لكن أخاه أبا ثابت لم يوافق على ذلك، فاعتقل الخطيب ابن مرزوق ونفي إلى الأندلس في عام 752 هـ، وفي غرناطة استقبله السلطان بن الأحمر، وتلميذه لسان الدين ابن الخطيب نظرا للصداقة التي كانت جمعت بينهما في مجلس السلطان  أبي الحسن المريني بمدينة سبتة –أعادها الله إلى سابق عهدها-، وكان وجود أبي الحسن بسبتة وقتها لأجل الإعداد  لمعركة طريف، فولي الخطبة بجامع الحمراء بغرناطة، وقام بإلقاء دروس علمية في المدرسة البلاطية سنة 753 هـ..
لما توفي السلطان أبو الحسن المريني قدم ابن مرزوق إلى المغرب عله يسترجع مكانته السابقة لدى السلطان أبي عنان، لكن الظروف لم تكن مواتية، فقفل راجعا إلى تلمسان حيث أقام بالعُبّاد، إلا أن الطموح السياسي وحب المغامرة، دفعه إلى استغلال ظروف أخرى حيث اتصل ببني عبد الواد فصار في خدمتهم إلى أن أوقعوا به في السجن مرة أخرى، فلبث في السجن إلى أن التحق بالعدوة الأندلسية حيث عين خطيبا بالمسجد الأعظم بغرناطة..
ونظرا للشهرة التي اكتسبها، ولدهائه وثقافته الواسعة، ومهارته في خدمة الملوك استدعاه السلطان أبو عنان المريني سنة 754هـ بعد استرجاعه تلمسان وقربه منه حتى أصبح من خواصه ومن كبار أعضاء مجلسه. وبعد مدة بلغت أربع سنوات، كلفه بمهمة شخصية وهي الاتصال بالسلطان الحفصي أبي يحيى ليخطب منه ابنته التي كان أبو عنان يرغب في التزوج بها، لكنه لم يوفق في هذه المهمة فرجع خائبا، وقد قيل لأبي عنان أن السبب في هذا الفشل هو ابن مرزوق نفسه الذي قصر في الأمر ولم يستغل نفوذه ولا الوسائل التي كان في استطاعته أن يستعملها لإنجاح المهمة، فثار أبو عنان ثورة عاطفية لم يستطع معها أن يقبض على زمام أمره، فما كان منه إلا أن قبض على السفير وألقى به في السجن عقابا له وانتقاما منه، فمكث فيه مدة من سنتين ثم أطلق سراحه.. ومع ذلك فابن مرزوق، كعادة معاصريه الخطيرين ابن خلدون ولسان الدين بن الخطيب لم يعتزل السياسة، فعاود الكرة واستعمل حيله ونفوذه ودهاءه، فتقرب من أبي سالم المريني بمجرد توليه السلطة، فاسترجع سابق عهده وما كان له من نفوذ أيام أبي الحسن المريني، لكن الأحداث السياسية والفتن الداخلية وتلاعب الوزراء بالسلطة واستبدادهم بشؤون الدولة، كل ذلك عكر الجو الصافي الذي كان يعيش فيه ونغص حياته وأصابه في الصميم حينما قبض عليه مرة أخرى، ذلك أن الوزير عمر بن عبد الله استولى على الأمر كما يخبرنا بذلك المقري في “نفح الطيب”، وخلع أبا سالم وسعى في قتله..
وخلال الحروب الداخلية التي تلت وفاة السلطان أبي عنان، ساند ابن مرزوق صديقه العائد من المنفى أبا سالم المريني بن أبي الحسن بشتى الوسائل، ولما ملك السلطان أبو سالم السلطة في 15 شعبان لعام 760 هجرية، أصبح الخطيب ابن مرزوق أكبر شخصية في البلاط يتحكم في أمور الدولة، لكن مكانته تسببت في اغتيال أبي سالم ابن أبي الحسن سنة 762 هجرية من طرف الوزير عمر بن عبد الله، حسب رأي صديق ابن مرزوق العلامة ابن خلدون، فسجن صاحبنا ابن مرزوق ليقضي سنتين في السجن إلى  حدود سنة 746 هجرية، حيث أطلق سراحه، فالتحق بالحاضرة التونسية ليعين خطيبا لمسجد الموحدين…
ترجم للخطيب بن مرزوق ابن خلدون في العبر، وابن الخطيب في الإحاطة، وابن حجر العسقلاني في “الدرر”، وتعرض له المقري بتفصيل في “نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب”…
فابن مرزوق كما تجلى لنا من خلال الوقفة السريعة مع مشواره العلمي والسياسي شخصية عظيمة لعبت دورا ثقافيا كبيرا حيث شغلت في المغرب مناصب سامية لم تكن تسند إلا لمن برهن على كفاءة ومقدرة علمية كبيرة كما لعبت إلى جانب ذلك، دورا خطيرا في ميدان السياسة والتدبير..
إن شخصية كهذه لابد أن تترك آثارا مهمة رغم الاشتغال بالسياسة، كما كان الشأن بالنسبة لمعاصريه ابن خلدون وابن الخطيب. خلف الخطيب ابن مرزوق قصائد شعرية أوردها المقري في “نفح الطيب” مع تعليقات ابن الخطيب عليها، وهي قصائد تنم عن ثقافة أدبية واسعة وشاعرية كبيرة.. أما في ميدان الفقه والحديث فقد خلف الخطيب بن مرزوق كتبا مهمة نذكر منها شرح على بن الحاجب الفرعي سماه “إزالة الحاجب عن فروع ابن الحاجب”؛ وشرح على العمدة في خمسة أسفار، و”العمدة” كتب في الحديث معروف ألفه الإمام عبد الغني المقدسي الحنبلي المتوفى سنة 1203م، وهذا الشرح نفيس ويقع في خمسة أسفار.. ولابن مرزوق كتاب “جنى الجنتين في شرف الليلتين وهو كتاب جدير بالتحليل، برهن فيه مؤلفه عن ثقافته الواسعة وعن قدرته على المناظرة والغوص في علمي الأصول والفروع. ولابن مرزوق في العلوم النقلية كتاب أسانيد البخاري وهو كتاب مفقود، لكن ذكره المؤلف في “المسند الصحيح الحسن في مآثر مولانا أبي الحسن”، وله برح الخفا في شرح الشفا؛ وله إيضاح المراشد، ذكره المؤلف في كتابه “جنى الجنتين”، وفي “المسند”؛ وترك بن مرزوق في علم العروض”المفاتيح المرزوقية لحل أقفال واستخراج خبايا الخزرجية”….
ويذكر الأستاذ بن شقرون في مقاله بمجلة المناهل (عدد: 1، ص: 138) لابن مرزوق فهرسة تكاد تكون مجهولة، فباستثناء ابن فرحون الذي اقتبس منها بعض الفقرات فإننا لا نعرف عنها شيئا كثيرا. ومن حسن الحظ –يقول الأستاذ بن شقرون- فإن الخزانة الملكية بالرباط تتوفر على نسخة منها، أما عنوانها فهو: “عجالة المستوفز المستجاز في ذكر من سمع من المشائخ دون من أجاز من أئمة المغرب والشام والحجاز” لقد اهتم فيها صاحبها بذكر أسماء الشخصيات الثقافية التي أخذ عنها مباشرة وتتلمذ لها مدة أو التي اتصل بها بقصد الاستفادة من نصائحها، ويتعلق الأمر بعلماء وفقهاء جلهم من مصر والمدينة المنورة وفلسطين بالإضافة إلى عدد من الأندلسيين والجزائريين والتونسيين، ومما يلفت النظر أننا نجد من بينهم ست نساء.
يستنتج الأستاذ محمد بن شقرون في مقاله بمجلة المناهل السابق الذكر (ص: 139) “أن فهرسة بن مرزوق جديرة بالاهتمام رغم كون صاحبها لم يهتم فيها بذكر سند أشياخه، ولم يعن العناية الكافية بتحديد نوع ومجال ثقافتهم كما أغفل تقريبا آثارهم..
ويذكر محمد بن شقرون في مقاله بمجلة “المناهل” (عدد 1، 1974) “أن الخزانة الملكية بالرباط” تتوفر على مجموعة من خطب ألقاها ابن مرزوق في أربعين مدينة من مدن الإسلام، ورتبها على حروف المعجم “اختطب فيها في قواعد الأمصار ومختلف الأقطار، كمدينة فاس وطنجة وسلا ومراكش وأزمور وأسفي وأغمات والمنصور والعباد من ظاهر تلمسان، وهو أول موضع تقلد فيه هذه الخطة”..
أما في ميدان التاريخ فقد ترك الخطيب بن مرزوق كتابا نفيسا هو “المسند الصحيح الحسن في مآثر مولانا أبي الحسن”. وتوجد منه نسخة مخطوطة بالخزانة الوطنية بالرباط  تحت رقم: ق 111، وقد قام العلامة ليفي بروفنصال بنشر جزء من المخطوط في مجلة هسبيريس (المجلد الخامس، سنة 1925) نشر بها الجزء الذي خصصه بن مرزوق للحديث عن أبي الحسن المريني وذلك تحت عنوان “منتخب جديد من تاريخ الدولة المرينية”.
يتضمن المسند بالإضافة إلى الديباجة خمسة وخمسين بابا كلها تدور حول أصل وتاريخ الدولة المرينية، ورغم كون الكتاب ألف حول شخصية أبي الحسن المريني كما يدل على ذلك عنوانه؛ فإن المؤلف شمل دولة بني مرين كلها بالعطف والتقدير وأثنى عليها، وإذا كان أبو الحسن المريني هو المعني بالأمر؛ فإن بن مرزوق خصص قسما كبيرا من مؤلفه هذا للحديث عن السلطان أبي يحيى والسلطان أبي يعقوب يوسف، بينما يتناول أبا عنان وأبا سالم بإيجاز شديد، رغم كون الأول يعتبر من أعظم ملوك دولة بني مرين ومن أكثرهم إيجابية وفعالية في ميدان السياسة والاقتصاد والفنون، فلماذا إذن لم يحظ أبو عنان بعناية ابن مرزوق كما حظي أبو الحسن وأبو يعقوب يوسف؟ لماذا هذا التغاضي وهذا الإجحاف من ابن مرزوق؟ لعل الجواب يكمن فيما لقيه ابن مرزوق على يد أبي عنان على الخصوص، من تعذيب ومن.. يعلق الأستاذ محمد بن شقرون في مقاله “دور المغرب الأقصى في توحيد الثقافة بين دول المغرب العربي” (مجلة الثقافة المغربية، عدد: 1، يناير-فبراير، 1970، ص: 78): “وهكذا لم يبرهن ابن مرزوق حتى في ميدان التفكير والتاريخ عن الاستقامة الضرورية والنزاهة التي يجب أن يتصف بها كل باحث ومدقق كي لا تشوه أحكامه ولا تحرف أقواله.. ومع ذلك “فالمسند الصحيح الحسن في مآثر مولانا أبي الحسن” رغم ما اتصف به من تحيز سافر في بعض المواضيع ورغم التصاقه بالملوك والرؤساء وخلوه من معلومات اجتماعية تتناول الطبقات الشعبية، وعلاقاتها بهؤلاء الملوك من حيث الاقتصاد والاجتماع، ورغم ذلك كله، يعتبر من المصادر التاريخية التي لا يمكن الاستغناء عنها لاسيما فيما يرجع لهذا العهد الذي نؤرخ له..”.
أما من حيث الأسلوب، فقد برهن الخطيب ابن مرزوق في مؤلفه على مقدرة كبيرة في التنظيم والتنسيق وربط الأحداث وحسن التخلص من باب إلى باب.. لا تعقيد في ذلك ولا تكليف ولا صناعة لفظية طاغية على الأفكار والمعاني كما هو الشأن في بعض كتابات معاصره لسان الدين بن الخطيب. فقد جاءت تراكيبه وجمله سهلة، جزلة في مجملها خالية من الزخرف والتنسيق والشجع المتكلف، وذلك ما يناسب الموضوع الذي تناوله؛ لأن الأمر يتعلق ببسط أفكاره وعرض الحوادث وشرحها وتبين عواملها الظاهرة والخفية، فلا مجال إذن للعاطفة وجموح الخيال..
وتجدر الإشارة إلى أن الدكتور عثمان عثمان إسماعيل اعتمد في كتابه “حفائر شالة الإسلامية” على نص لابن مرزوق في كتابه “المسند الصحيح الحسن في مآثر مولانا أبي الحسن” يذكر فيه-كشاهد عيان- كيف أن السلطان أبا الحسن المريني أمر بعد هزيمة جيشه في معركة طريف الشهيرة سنة 741هـ، أن تنقل جثامين العلماء والأعيان المستشهدين في المعركة إلى خلوة شالة برباط الفتح ليدفنوا هناك. لقد استطاع الأستاذ عثمان إسماعيل أن يحل بهذا النص الثمين لغزا ضل لسنوات دون إجابة، وهو غرفة بخلوة شالة سماها كل من ليفي بروفنصال وهنري باسيه في دراستهما “شالة مقبرة مرينية”، مجلة هسبريس، 1922) الغرفة المجهولة، بحيث سماها الباحث الأثري عثمان إسماعيل بقاعة شهداء طريف؛ لأن الحفريات أبرزت وجود مقابر متعددة بالقاعة المذكورة، فربط عثمان إسماعيل بين نص الخطيب بن مرزوق في “المسند الصحيح الحسن” وبين المعطيات المادية التي وقف عليها بنفسه. بذلك يكون الباحث عثمان إسماعيل قد أضاف إلى تاريخ شالة الإسلامية معطى علميا جديدا جديرا بالتقدير والاعتبار.
يقول الأستاذ محمد بن شقرون في مقاله “من مظاهر وحدة الثقافة بين دول المغرب العربي: الخطيب بن مرزوق” (مجلة المناهل، العدد: 1، نوفمبر 1974، ص136): “على أن لنا في الرجل جانبا إيجابيا مشرقا حافلا بالأعمال والمواقف الخالدة، ومعنى ذلك انه إذا كان قد فشل “كرجل سيف”؛ فإن انتصاراته “كرجل قلم” لا يمكن أن تنمحي وتندثر؛ لأن آثاره في هذا الميدان لا تزال ماثلة للعيان تشهد لصاحبها بجهوده الجبارة في خدمة الثقافة الإسلامية وشؤون الفكر، ذلك أنه رغم التقلبات التي عرفها، ورغم التنقلات التي قام بها-داخل المغرب وخارجه- والتكاليف الإدارية التي تحملها، والمسؤوليات الجسام التي صرف معظم أوقاته فيها، رغم ذلك فإن مؤلفاته الأدبية والعلمية تدل على طول باعه، وسعة إطلاعه، وإلمامه بشؤون الثقافة العربية وتاريخ الإسلام، فهو فقيه حجة في الأصول والفروع، وعمدة في الأحكام ومحدث ذو سند..”.
وهكذا نرى أن الخطيب بن مرزوق كان من أعظم الشخصيات المغربية التي ربطت بين دول المغرب العربي والمشرق برباط ثقافي متين، فهو نموذج من نماذج الهوية المغربية في حقبة معينة من تاريخها، وهي بلا شك حقبة تبلورت فيها العديد من العناصر الثقافية لبلدنا المبارك.. لقد أخد بن مرزوق من هذه البيئة وأعطاها، واتصل بعلمائها وفقهائها، فأفاد واستفاد منهم قبل أن يغادرها بصفة نهائية إلى الجناح الآخر من العالم الإسلامي ليفيد هناك أيضا بعلمه وثقافته وتجربته في الحياة، ذلك أنه لما تولى أبو العباس أحمد شؤون الحكم في تونس في ربيع الثاني 772 هجرية، أعفى ابن مرزوق من مهامه، فقرر هذا الأخير الهجرة النهائية إلى المشرق العربي سنة 773 هجرية، فنزل بالإسكندرية ثم انتقل إلى القاهرة، فلقي عناية من لدن صلاح الدين ناصر الدين بن حسين، الذي عينه قاضيا ومدرسا في مسجد صلاح الدين وبقي مستقرا بالقاهرة إلى أن توفي بها سنة 781 هجرية موقر الرتبة، معروف الفضيلة، مرشحا لقضاء المالكية كما أخبرنا بذلك  صديقه وتلميذه العلامة ابن خلدون في كتابه المسمى بالتعريف..
رحم الله الخطيب ابن مرزوق وجازاه عن المغرب خيرا.. والله الموفق للخير والمعين عليه..

د. جمال بامي

  • رئيس مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية، ومركز علم وعمران بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق