وحدة الإحياءدراسات عامة

الخطاب التأويلي المعاصر قراءة في مدخلية التجديد

إلى جانب الاتجاهات المعتبرة الداعية إلى تجديد الخطاب الإسلامي، عاود الظهور اتجاه آخر يلتمس في البحث التأويلي للنص الشرعي خلاص المسألة التجديدية، ولكونه التمس في ثابت النص الشرعي مدخلاً إشكالياً، ومنطلقاً منهجياً في قراءة الواقع ومكوناته المتغيرة، إضافة إلى فهمه المتعسف للبعد التأويلي ومجاله في سبيل تطويع النصوص؛ حتى تستجيب لمتطلبات الذات والوجود، ولأن هذا الاتجاه أيضا بدأ يفرض نفسه على الساحة العلمية بمناهجه وأسسه التي ينبغي الوقوف عندها، والكشف عن خلفياتها. اختارت هذه الورقة تحقيق النظر في أبعاد هذا الاتجاه ومرتكزاته مستندة إلى القراءة التأويلية المعاصرة لنصر حامد أبو زيد في مشروعه الفكري التأويلي.

فما هي أبعاد هذا الاتجاه؟ وما فلسفته المعرفية؟ وما هي أسسه ومرتكزاته العلمية؟ وما مدى إمكانات تحريره لإشكال التجديد؟

أولا: الخطاب والتأويل أو إشكال النص

تمحور الفكر الأصولي منذ بداياته التأسيسية حول عناصر كبرى، شكلت أركانه، ومكونات بنية خطابه وعمرانه، وقد لجأت أغلب الدراسات الباحثة في تطويره باعتباره المدخل الأساس في تغيير وضع الأمة والتأسيس لنهضة حقيقية إلى تلك المستويات إما إفرادا بالبحث، أو إجمالا في النظر، ويمكن تحديديها في العناصر الآتية:

1. مستوى الواقع

معتبرة أن حال الأمة ووضعها الاعتباري من جانب القوة والفعل الحضاريين مؤشران حقيقيان على مدى حضورها الإنساني، وإسهاماتها الثقافية في الواقع الذي تعيشه، لذلك فإن هذا المستوى دفع هذا الاتجاه إلى التساؤل حول إمكانية وجود الخلل في واقع الأمة بكل تجلياتها.

2. مستوى الأمة

 وإن كان بينه وبين المستوى السابق وثاقة فقد يقول قائل إن تجديد المنهج جزء من مكون الأمة لأن تفكيرها قاصر عن إنجاز رؤية تجديدية في المنهج المعتمد؛ لكن الفكر والإنتاج المعرفي راجع إلى مكون الأمة وقدرات أفرادها على التفكير والعطاء، وحالة الأمة وواقعها ليس بالضرورة مرتبط بالمنهج المعتمد؛ لأن بناء الأمة وقيامها مرتبط بالتنشئة والتربية والبناء الثقافي المستمر الذي يتطلب وقتا طويلا وأجيالا متوالية.

لكن في مواجهة ذلك، يحمل هذا الاتجاه الأمة مسؤوليتها المحصورة في تفعيل أفرادها للمنهج المعد وتنزيله على واقعها، لكسب ثمراته وفوائده العلمية والعملية حتى يتحقق الشهود الحكمي في مواقع الوجود.

3. مستوى المنهج

 أي آليات توليد وإنتاج المسودات القانونية والتشريعية المعتمدة في التنظيم الاجتماعي والتسيير العام للأمة بكل مؤسساتها، لكن من العسير تقبل نسبة تراجع الأمة إلى منهجها القانوني بالقصد الأصلي والسؤال الكلي؛ لأنه بين المنهج والمكلفين المؤسسين لمؤسسة الأمة علاقة جدلية وثنائية ترابطية، إضافة إلى مستوى واقعها بكل تجلياته المحلية والإقليمية والعالمية وبما يكتنفه من قوى وتكتلات دولية.

4. مستوى النص

 ما دام الأمر يتعلق بالتفكير في المجال التداولي الإسلامي المعتقد بخصوصية النص الشرعي، سواء كان قرآنا أو سنة فليس هناك من يشكك في سلامته وقوته الثبوتية من هذه الجهة، أو إتيان الإشكال منها، إلا ما كان من نصوص الحديث التي قد يمكن الاستغناء عنها حالة حصول الضعف في جهتها. لكن طبيعة الاستشكال المفترض عند بعض الاتجاهات تفترض في هذا المستوى إشكالا معرفيا ومنهجيا من حيث الفهم واكتشاف المعنى القريب أو البعيد، مستغلة الغياب الفعلي لذلك المعنى المطلق، فاعتبرت النص محور إشكالها متخذة المنحى التأويلي سبيلا لمعاودة النظر في الآليات والمناهج والقصود.

ثانيا: إشكال المنهج التأويلي

مهما تعددت صور التأويل وآلياته، فإن حقيقة الإشكال المعتبر فيه يبقى مجاله النص، ومحوره المعنى والمفهوم، وإن استثمار النظر التأويلي في إدراك المعاني الخفية ضرب من التدافع بين الواقع والنص، إما على أساس فهم الأول على ضوء الثاني، وإما بتطويع دلالات الثاني ومعانيه؛ حتى تجيب على أسئلة الأول؛ لأن قراءة النص بهذا المعنى “يجعل البشرية تطوع النص ولا تستطيع أن تتحرر مما يسيطر عليها من ثقافة، عصراً ومذهبية، فتكون النتيجة أن هؤلاء المفسرين لا يقدمون لنا القرآن، بل يقدمون لنا أنفسهم وثقافتهم وعصرهم([1])”، وهذه الغاية هي التي تم رفض المنهج التأويلي بسببها.

ولقد تطورت المناهج التفسيرية والأدوات الأصولية عبر السياق المعرفي لتاريخ العلوم الاسلامية، وقد ترتب عن ذلك “جهود بنيت من داخل النص، وعلى ضوء معايشته، وعلى وعي حقيقي لمفهوم النص، وتتضمن الكثير مما لم يتم استنفاده أو الاستفادة منه، ولا شك أن تجاهل أو تجاوز ذلك الإرث الأصولي الضخم خسارة جسيمة في حق مناهج البحث والتأويل المعاصرة في قراءة النص القرآني([2])”.

 وعلى افتراض صحة أن العمل على فهم المعاني النصية في القرآن الكريم بواسطة الأدوات الموروثة، وآلياتها، لم يعد يفي بالحاجات العلمية الضرورية، إلا أنه “ليس من العدل مع النص القرآني، أيضاً، أن نستخدم مناهج تحليل النص المعاصرة كما هي دون استصحاب الرؤية الإسلامية لتحليل نص القرآن المجيد([3]).”

فأهل التأويل وأصحابه إذن، يضبطون حقيقة إشكال القراءة في خصوصية النص ومتعلقاته؛ لأن النص حسب مفهومهم النقدي “يحتمل فراغات يملؤها القارئ بالأسئلة والإشكالات، فالتأويل في جوهره حوار وجدلية في المساءلة، والتساؤل: مساءلة للنص، وتساؤل حول ما يمكن أن يمنحه النص للقارئ، رغم المسافة الزمنية([4]).”

 لذلك لا يمكن التعامل مع مبانيه إلا باستيعاب معانيه، وتجاوزه إلى دلالات وفهومات الواقع والوجود، وإلا تم استثمار المنهج التأويلي في كليته مع استحضار الخطاب، والمخاطِب، والمخاطَب، وآليات التفسير المنسجمة مع هذا الثلاثي، والمنتمية إلى حقله المعرفي، فلم يتم الفصل بين هذه المكونات استعارة واستجداء بمفاهيم النقد الأدبي ومدارسه.

لذلك، فإذا سبق للتأويل أن رُفِضَ تاريخياً مع المعتزلة وغيرهم على حسن نياتهم وصفاء مقاصدهم في حفظ الخطاب الشرعي، وفهم معانيه ودلالته، وحماية مكتسبات المكونات الكبرى للخطاب الشرعي، فإنه لا يمكن أن تتحقق معه مسألة حسم تجاوز النص والخطاب جملة، وقراءته قراءة يوحي بها واقع الإنسان؛ لأن الخطاب له مضمرات لغوية وشرعية وبيانية، قد لا تفهم على قدر ما يتيحه الواقع الإنساني من مساحة ومجال معرفيين، وهذا، بلا شك، سيحيل النظر التأويلي في تفاعله مع النصوص وبناء على الواقع الإنساني، إلى مسألة إدراك المصالح الشرعية بالعقل.

ثالثا: الخطاب التأويلي والتجديد، في الأبعاد

يصعب إدراج الاتجاه التأولي للخطاب الشرعي وفهوماته للنص الشرعي ضمن نظريات التجديد المعاصرة، سواء كانت فكرية أو شرعية أو فلسفية؛ لكونه التمس في ثابت النص الشرعي مدخلاً إشكالياً، ومنطلقاً منهجياً في قراءة الواقع ومكوناته المتغيرة، إضافة إلى فهمه المتعسف للبعد التأويلي ومجاله في سبيل تطويع النصوص؛ حتى تستجيب لمتطلبات الواقع والإنسان، إلا أن ما يشفع ضرورة إدراجه ضمن تلكم النظريات؛ كونه بدأ يفرض نفسه على الساحة العلمية بمناهجه وأسسه التي ينبغي الوقوف عندها، والكشف عن خلفياتها.

ويعتبر نصر حامد أبو زيد من كبار رواد هذا الاتجاه، حيث أبدى في السنوات الأخيرة اهتماماً بالغاً، واشتغالاً كبيراً على نظرية التأويل وتطبيقاتها على النص الشرعي، ومن أهم كتاباته في هذا المجال: مفهوم النص، ودراسة في علوم القرآن، ثم كتاب الهرمينوطيقا ومعضلة تفسير النصوص، إشكاليات القراءة والتأويل، ثم كتاب الخطاب والتأويل، وغيرها من الأبحاث والمقالات، كلها دراسات في المنهج التأويلي ومسالكه وأبعاده.

لابد من التذكير في البداية أن النظر التأويلي في النصوص الشرعية لا يعد أمرا جديدا على الدراسات الأصولية، وليس غريباً عنها، بل عرفته إلى جانب تفسير النصوص، وقد حسم فيه النظر علماء الأصول بقبول ما يوافق المقتضيات الشرعية، ولا يتجاوز الفهم الدلالي للنص الشرعي من دون تعسف، ورفض ما عدا ذلك؛ لكونه تقصيد للمتكلم والمخاطب من غير دليل، أو قرينة شرعية مسوغة أو عقلية دالة على صحة مذهب التأويل. ونظراً لمحورية النص في التراث الإسلامي، ومركزيته في الفكر الأصولي خصوصاً “فإن علماء الأصول تعلقوا بالدقة والضبط والصرامة المنهجية في إرسائهم لقواعد القراءة وضوابط التفسير، ووضعوا في كتبهم عدداً من القواعد والضوابط التي تعد أمراً ملزماً وضرورياً في تفسير الخطاب الشرعي([5]).”

وفي هذا الشأن وقف العلماء من القراءات التأويلية للنصوص الشرعية موقفاً حازماً لما وظفت انتصاراً للمذاهب الفقهية، وتأسيساً على المرجعيات العقدية، أو تخطيئاً لغيرها من المخالفة لها التي تبتعد عن نشدان الحق والصواب، والمعرفة العلمية المرغوب منها إدراك الأحكام الشرعية غير المنصوص عليها.

وفي هذا السياق يقول ابن تيمية واصفا مسالك هؤلاء المتأولة بأنهم: “تارة يسلبون لفظ القرآن ما دل عليه وأريد به، وتارة يحملونه على ما لم يدل عليه ولم يرد به، وفي كلا الأمرين قد يكون ما قصدوا نفيه وإثباته من المعنى باطلاً، فيكون خطؤهم في الدليل والمدلول، وقد يكون حقاً، فيكون خطؤهم في الدليل لا في المدلول، وهذا كما وقع في تفسير القرآن؛ فإنه وقع، أيضاً، في تفسير الحديث… وعمدوا إلى القرآن فتأولوه على آرائهم، وتارة يستدلون بآيات على مذهبهم ولا دلالة فيها، وتارة يتأولون ما يخالف مذهبهم بما يحرفون به الكلم عن مواضعه([6]).”

لكن الخطاب التأويلي المعاصر بمناهجه الجديدة وآلياته المستحدثة، وإن تكوّن دفاعاً عن أفكاره وغاياته، فهو قد نشأ وتخلَّق في رحم التدافع بين الوضع الواقعي والحال الإنساني بما يحمله من ضغوطات وإكراهات، ويتمثل ذلك في أمرين اثنين:

أولهما؛ تحديات الواقع وإكراهات التطور الهائل الذي عرفه العالم المعاصر، يقول أبو زيد: “وإذا كنا لا نستطيع أن نتجاهل هذا التراث ونسقطه من حسابنا، فإننا بالقدر نفسه لا نستطيع أن نتقبله كما هو، بل علينا أن نعيد صياغته، فنطرح عنه ما هو غير ملائم لعصرنا، ونؤكد فيه الجوانب الإيجابية، ونجددها، ونصوغها بلغة مناسبة لعصرنا. إنه التجديد الذي لا غناء عنه إذا كنا نريد أن نتجاوز أزمتنا الراهنة، إنه التجديد الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة، ويربط بين الوافد والموروث([7]).”

والثاني؛ قوة المناهج العلمية الجديدة وهيمنتها على مختلف مجالاتها الإنسانية، والاجتماعية، الأمر الذي يدعو إلى الإفادة منها واستثمار فوائدها في فهم النصوص وفقه معانيها الغائبة عن العقل المجرد، يقول أبو زيد: “لكن مفهوم المصطلح؛ (أي التأويل) قد اتسع في تطبيقاته في الفكر الحديث، فصار يتناول، إلى جانب تأويل النصوص الدينية، عمليات التأويل المعرفية في العلوم الإنسانية، كالتاريخ وعلمي الاجتماع والأنثروبولوجيا، وعلم الجمال، والنقد الأدبي، والفولكلور، صارت التأويلية باختصار هي جوهر ولب “نظرية المعرفة” في محاولتها وصف فعل القراءة؛ أي قراءة لأي ظاهرة، تاريخية أو فلسفية أو أدبية أو سياسية، أو اقتصادية، بوصفها بناء معقداً من العلاقات التي تتضمن عناصر: الذات، والموضوع، والسياق، ونسق العلامات، والرسالة([8]).”

رابعا: الخطاب التأويلي بين التوسيل والتقصيد

يستعير أبو زيد البعد التأويلي بمنهجيته من الحقل الأدبي المتدرج في السياق الأوروبي، ورغم طبيعة المتغيرات الواقعية والعلمية المختلفة لا يجد أبو زيد حرجاً، أو بالأحرى لا يرى مانعاً، كيفما كانت طبيعته علمية أو منهجية أو شرعية، في تسويغ النظر التأويلي في الدرس الأصولي، كما وظف واستثمر في مجال الدرس الأدبي؛ لأن النص نص مهما اختلفت سياقاته ومجالاته وظروفه حسب أبو زيد.

 ثم لأنه “إذا كان مفهوم النص يمثل مفهوماً محورياً في علوم القرآن، فهو بالمثل مفهوم محوري في الدراسات الأدبية. إن تغاير المناهج واختلاف التوجهات النقدية في درس النصوص الأدبية ليسا في جوهرهما إلا اختلافاً في تحديد ماهية النص وخصائصه ووظائفه([9])”، كما أن المبحوث عنه في النص، أي المعنى و دلالته الواقعية، واحدٌ أيضاً، وذلك ما يجعله أبو زيد غاية من دراساته النقدية للنص القرآني، بحيث يحصرها في مقصدين: “يتمثل أولهما في إعادة ربط الدراسات القرآنية بمجال الدراسات الأدبية والنقدية بعد أن انفصلت عنها في الوعي الحديث والمعاصر؛ نتيجة لعوامل كثيرة أدت إلى الفصل بين محتوى التراث، وبين مناهج الدرس العلمي، وصارت الدراسات الإسلامية، نتيجة لذلك، مجالاً حائراً بين التخصصات الأكاديمية. والحقيقة أن هذه الدراسات تنتظم علوماً كثيرة، محورها واحد هو النص، سواء كان هذا النص هو القرآن أو الحديث النبوي. إن دراسة النص من حيث كونه نصاً لغوياً؛ أي من حيث بناؤه وتركيبه ودلالته، وعلاقته بالنصوص الأخرى في ثقافة معينة، دراسة لا انتماء لها إلا لمجال الدراسات الأدبية في الوعي المعاصر([10]).”

ولعل الاختيار المنهجي في دراسة أبي زيد النقدية للخطاب الأصولي هو بالأساس استمرار واستجابة لدعوة قديمة للشيخ الخولي، وهي التي تقوم في دعواها على أن “البحث في مفهوم النص ليس في حقيقته إلا بحثاً عن ماهية القرآن وطبيعته بوصفه نصاً لغوياً، وهو بحث يتناول القرآن من حيث هو كتاب العربية الأكبر، وأثره الأدبي الخالد، فالقرآن كتاب الفن العربي الأقدس، سواء نظر إليه الناظر على أنه كذلك في الدين أم لا، وهذا الدرس الأدبي للقرآن في ذلك المستوى الفني، دون نظر إلى اعتبار ديني، هو ما نعتده وتعتده معنا الأمم العربية أصلاً.. مقصداً أولاً، وغرضاً أبعد، يجب أن يسبق كل غرض، ويتقدم كل مقصد، ثم لكل ذي غرض أو صاحب مقصد بعد الوفاء بهذا الدرس الأدبي أن يعمد إلى ذلك الكتاب، فيأخذ منه ما يشاء، ويقتبس منه ما يريد…([11]).”

 وإن تلقي نصر حامد أبو زيد لتلك الدعوة في النظر التأويلي، وتبنيه المستمر والمستجيب لها لم تجد من يتلقاها غيره، يجعلني أتساءل عن أي منهج أدبي تأويلي يتحدث أبو زيد؟ وأي قراءة تأويلية إبداعية يزعمها كفيلة بإخراج النص من حيز الغيب إلى حيز الشهادة، ومن حيز الغموض إلى حيز الوضوح، ومن اللامعنى إلى المعنى؟ فتساؤلي هذا يبحث عن مشروعية الجواب في واقع الدرس الأدبي الحداثي، الذي تاه بين أمواج ريح الاتجاهات النقدية العاتية المتنوعة في قراءة النص، فأي قراءة يريدها أبو زيد؟ وأي تأويل يروم؟ وهو الموافق على صحة السؤال وأهميته، بالنظر إلى خطورة المنهج المقصود.

 يقول: “صحيح أننا نجد بعض النظريات التأويلية تبالغ أحياناً في التركيز على فعالية الذات القارئة إلى درجة زعم “موت المؤلف”، و”الوجود الوهمي للنص” لحساب “القارئ” أو “المؤول”، وإن استدرك بزعمه وجود تأويلية مغايرة على الجانب الآخر تعلي من شأن القراءة الموضوعية المحايدة، وتبالغ إلى حد الزعم بإمكانية الوصول إلى المعنى التاريخي الأصلي للحدث أو للوثيقة والنص، من الصعب أن نزعم تطوراً مثل هذا قد حدث في مفاهيم التأويل والتفسير في ثقافتنا الحديثة والمعاصرة([12]).”

وتجمع الدراسات النقدية في ميدان الأدب أن حمى فلسفة التأويل انتقلت إليها من الدراسات الدينية، حين ظهرت الحركة الإصلاحية بزعامة (مارتن لوثر)، الذي أشهر منهج النظر التأويلي في فهم النصوص الدينية في وجه رجال الدين، الذين احتكروا الفهومات التارخية في تفسير النصوص، التي لم تكن تواكب في اعتقاده الأوضاع الاجتماعية؛ إذْ غدت في تطور مستمر.

غير أن أهل النقد الأدبي طوروا مفهوم التأويل وآلياته، فتكونت معه اتجاهات ومدارس متباينة من حيث مرتكزات التأويل وأركانه، المخاطب و النص، وكذا المتلقي ثم الفهم، فمن مدرسة تقوم نظريتها على الوجود الوهمي للمعنى، إلى أخرى تتأسس على تلاشي مفهوم النص، إلى مدرسة ثالثة ترتكز على اضمحلال فعل القراءة، إلى أخرى مغايرة تماماً تنبني على الحضور الغائب للمؤلف، لتظهر التفكيكية التي اغتالت المؤلف وأعلنت وفاته بصورة مطلقة([13]).

 يقول أحد النقاد الأدبيين المعاصرين في هذا الصدد: “إن قراءة الحداثة تكتسب أبعاداً تصل المبالغة فيها عند التفكيكيين على وجه التحديد إلى إلغاء المؤلف، ثم النص في نهاية المطاف، فإلى جانب المقولة الجديدة بأنه لا يوجد معنى، وأن كل قراءة إساءة قراءة، سوف ينكر الحداثيون وجود المؤلف باعتبار أن التسليم بوجوده؛ يعني التسليم بوجود معنى قصد المؤلف توصيله، وأن وظيفة الناقد تحديد المعنى على أساس القصدية.

خلاصة الأمر أن الاعتراف بوجود المؤلف يمثل قيداً على تفسير النص، يتمثل في وجود معنى نهائي، والتسليم بوجود معنى نهائي بالنسبة لـ”رولان بارت” البنيوي الذي مهد الطريق للتفكيك هو التسليم بوجود حقيقة أو حقائق مسبقة وثابتة، ومن ثم فإن موت المؤلف، كما يقول “رولان بارت” مرة أخرى، يعني رفض فكرة وجود معنى نهائي أو سري للنص([14])”. لتنتقل مسألة القراءة إلى نظرية نقدية أخرى متناسلة عما سبق، وهي “نظرية التلقي” أو “جماليات التلقي“، “وهي النظرية التي أعطت القارئ حرية القراءة وتشكيل معنى النص من دون اعتبار لمقصد مؤلفه، وقد جعلت النص مفتوحاً لاحتمالات كثيرة ومتطورة، بتطور الحياة في الزمان والمكان، وتطور درجات وعي القراء حاضراً ومستقبلاً( [15]).”

خامسا: الخطاب التأويلي بين اللغة والثقافة

لا يسلم أبو زيد بعشوائية الاختيار المنهجي التأولي في سبر أغوار النصوص والنابع من التردد على عدد من المناهج، يقول: “إن اختيار منهج التحليل اللغوي في فهم النص والوصول إلى مفهوم عنه ليس اختياراً عشوائياً نابعاً من التردد بين مناهج عديدة متاحة، بل الأحرى القول: إنه المنهج الوحيد الممكن من حيث تلاؤمه مع موضوع الدرس ومادته([16])”. فما طبيعة المنهج التأويلي الذي يرغب أبو زيد اعتماده في فهم النص القرآني، لاسيَّما وأنه يفصح بواحدية المنهج الأدبي، ومطلقيته الأنسبية في ولوج العالم الخفي لدلالات النص الشرعي؟

 يجيبنا في نص آخر يفصح فيه عن نواياه المنهجة، ومقاصده العلمية وذلك في كتاب إشكاليات القراءة وآليات التأويل، حيث يقول بوضوح: “وتعد الهرمنوطيقا الجدلية عند غادامر بعد تعديلها من خلال منظور جدلي مادي نقطة بدء أصيلة للنظر إلى علاقة المفسر بالنص لا في النصوص الأدبية ونظرية الأدب فحسب، بل في إعادة النظر في تراثنا الديني حول تفسير القرآن منذ أقدم عصوره حتى الآن([17]).”

ولأنه يعتبر التفتيش عن خصائص الواقع المقصود والثقافة المتجسدة في اللغة أهم المحاور المدخلية في الدراسة العلمية “لظاهرة النص”، فإن طبيعة الواقع اللغوي يشكل بالنسبة له أحد الثوابت المركزية في فهم النص القرآني؛ وهذا كله يرجع إلى اعتبار الخطاب الشرعي يتكون من: رسالة، ومرسل، ومستقبل، ثم ما أسماه بالشفرة؛ أي النظام اللغوي المعتمد في البيان؛ لأن القرآن كما يقول: يصف نفسه بأنه رسالة، “والرسالة تمثل علاقة اتصال بين مرسل ومستقبل من خلال شفرة، أو نظام لغوي، ولما كان المرسل في حالة القرآن لا يمكن أن يكون موضعاً للدرس العلمي، فمن الطبيعي أن يكون المدخل العلمي لدرس النص القرآني مدخل الواقع والثقافة، الواقع ينتظم حركة البشر المخاطبين بالنص، وينتظم المستقبل الأول للنص وهو الرسول، والثقافة التي تتجسد في اللغة، بهذا المعنى يكون البدء في دراسة النص بالثقافة والواقع بمثابة بدء بالحقائق الإمبريقية، ومن تحليل هذه الحقائق يمكن أن نصل إلى فهم علمي لظاهرة النص([18]).”

وعليه، فإن الأفهام الثقافية للنص القرآني تشكل أحد أسس المنهج المعتمد في الدراسة التأويلية لديه، وكذا المفاهيم التي يعبر بها النص عن نفسه؛ لأن النص منتج ثقافي، تشكل في الواقع والثقافة خلال فترة من الزمن، وذلك ما أكد عليه بقوله: “تنطلق هذه الدراسة من مجموعة الحقائق التي صاغتها الثقافة العربية حول النص القرآني من جهة، كما أنها تنطلق من المفاهيم التي يطرحها النص ذاته عن نفسه من جهة أخرى.

 والحقيقة أن الفصل بين ما يطرحه النص عن نفسه، وبين ما صاغته الثقافة عنه فصل تعسفي، لكنه فصل لا غناء عنه للتوضيح والبيان. إن النص في حقيقته وجوهره منتج ثقافي، والمقصود بذلك؛ أنه تشكل في الواقع والثقافة خلال فترة تزيد على العشرين عاماً([19])”، وذلك لا يستقيم إلا بإلغاء التسليم الوجودي لعالم الغيب في تشكيل النص؛ لكون ذلك من شأنه أن يقف حاجزاً أمام منهج البحث التأويلي، التي يطمح بها فهم ظاهرة النص بصورة علمية، يقول: “إن الإيمان بوجود ميتافيزيقي سابق للنص يعود لكي يطمس هذه الحقيقة البديهية، ويعكر من ثم إمكانية الفهم العلمي لظاهرة النص([20]).”

وإن اعتبرت ما يسمى بالقراءة الموضوعية، أو الدراسة الحيادية للنصوص، أدبية كانت أو تاريخية أو اجتماعية، ضرباً من الخيال، وجانباً من المحال الذي لا ينسجم مع النصوص الدينية خصوصا، فإن الاتجاه التأويلي المعاصر لا يرى في ذلك حرجا أو ضيقا من معاودة المحاولات التفسيرية والتأويلية للنصوص، بناءً على تلك الرؤية المشوهة، وأكذوبة العصر العظمى التي ابتليت بها الدراسات العلمية والاجتماعية والأدبية المعاصرة.

 ولعل من أبرز مظاهر سلبيات هذا “التعامل الحداثي المتهافت مع المناهج النقدية الروائية الغربية نظرته الاختزالية لها، واعتبارها مجرد خطوات إجرائية مفصولة كلياً عن أية خلفية إبستمولوجية مؤطرة لها، مما سهل توظيفها بشكل مشوه أفقدها الكثير من طاقاتها الإجرائية وأبعادها المعرفية، ناسين أو متناسين أن هذا المستوى من المناهج لا يشكل سوى مظهرها السطحي المرئي فقط، وأن جذوره العميقة تمتد لترتبط برؤية فكرية لا مرئية تشكل قاعدته المعرفية…([21]).”

ويعبر نصر أبو زيد نفسه عن صعوبة ذلك النوع من الدراسة، مع أنه يمضي قدماً نحو تحقيقها في دراسة النص القرآني حيث يقول: “وليس معنى ذلك أن التأويل الموضوعي للنص الديني، أو للنص الأدبي، مطلبٌ عسير التحقيق، كما تبالغ بعض اتجاهات فلسفة التأويل المعاصر، فنفي الموضوعية في حقيقته تكريس للذاتية، إن الموضوعية التي يمكن تحقيقها في تأويل النصوص الموضوعية الثقافية المرهونة بالزمان والمكان، لا الموضوعية المطلقة، التي ثبت أنها مجرد وهم من إبداع أيديولوجية الغرب الاستعماري([22]).”

مبرزا أن المنهج الذي يستند إليه رغم صعوبة ذلك، إنما هو المنهج التأويلي الموضوعي النسبي بتقييده وتخصيصه للنص القرآني.

وهذا، ما سيؤثر بالضرورة سلبا على دراسة النص القرآني الذي تتطلب دراسته نوعا من القداسة والتقدير، وبترسانة من الشروط المعتبرة في فهمه واستجلاء معانيه؛ الأمر الذي دعا علماء التفسير والأصول إلى التواضع على بعض الشروط العامة في اقتحام فهم النص القرآني تفسيراً وتأويلاً، يقول في ذلك الشريف التلمساني المالكي في مفتاح الوصول: “اعلم أن تأويل الظاهر يفتقر إلى بيان ثلاثة أمور: أحدها؛ كون اللفظ محتملاً للمعنى الذي يصرف اللفظ إليه، وثانيها؛ كون ذلك المعنى مقصوداً بدليل، وثالثها؛ رجحان ذلك الدليل على الأصل المقتضي للظاهر، فإن تعذر بيان أحد هذه الأمور بطل التأويل([23]).”

 ومن هذا المنطلق كانت الممارسة التأويلية ليست بالعملية البسيطة، التي تفضي إلى نتائج حاسمة ويقينية غير قابلة للاعتراض أو للرد، وإنما هي جهد جهيد، واجتهاد مضن مشروط، لا يوصل صاحبه في غالب الأحوال إلا إلى الظن الغالب، ولاسيما في المستويات القولية المتميزة بدرجة عالية من الاحتمال والرجحان([24]). كما أن للتأويل اعتباره أصولي، من حيث حقيقة عودته بالشيء إلى أصله الأول، ورجوعه إليه بحسب السياق اللغوي([25]).

ومن المفاهيم التي حاول معاودة النظر فيها أبو زيد وفق الاختيار المنهجي القائم على البعد التأويلي للنص القرآني مفهوم الإجماع، داعياً إلى ضرورة إعادة النظر في مسالكه؛ حتى تكون منسجمة مع خصوصيات العصر ومستجدات الواقع الراهن، معتبراً أن إجماع أهل الحل والعقد لم يعد يحقق المقصود من إجماع الأمة الرامي إلى تحقيق المصلحة العامة؛ لأنه “يتعين إعادة النظر في مفهوم الإجماع، فلا يكون إجماع أهل الحل والعقد هو الإجماع الذي يعمل به؛ ذلك أن أهل الحل والعقد في عصر سيطرة وسائل الإعلام، هم من يملكون هذه الوسائل بحكم سيطرتهم على مقدرات المجتمع، وعلى ذلك يكون الفقهاء الممثلون لهم مُعبِّرين عن مصالحهم([26])”، مقترحا، وفق ذلك، اعتماد المسلك الديمقراطي الشعبي للتعبير عن الرأي حتى يحقق مفهوم الإجماع المعبر عن الأغلبية تحقيقاً لمصالح الأمة، “إن الإجماع الذي يجب أن يعتد به في تأويل النصوص الدينية يجب أن يستند إلى مناخ ديمقراطي حقيقي، بحيث يكون معيار الإجماع هو الأغلبية المعبرة عن القوى المختلفة، ويكون معيار مصالح الأمة هو معيار الأغلبية([27]).”

سادسا: في تهافت الاتجاه التأويلي اللغوي

إنَّ الفكر التأويلي يعاود الكَرَّة ثانية في الآونة الأخيرة، وهو الذي تم رفضه ومحاصرته بعد أن تشكل عبر قواعد المنطق والفلسفة في الزمن الماضي؛ لاسيَّما إبان التقابل العلمي بين المعتزلة والأشاعرة، إلا أن أوبته هذه المرة تجلت عبر قواعد اللغة والنقد في ميدان الأدب وفلسفته، تحت مسميات مختلفة؛ كتعدد القراءات للنص الواحد، وحضور النص وغياب الناصّ، وحرية الفهم والتعبير.. والموضوعية في القراءة، تحت ذريعة تغير الواقع والعقل الإنساني، وظهور المستجدات غير المحسوبة الوقوع.

ثم إن المفارقة الغريبة التي لم يلتفت إليها؛ رغم أن أبو زيد أشار إلى مسوغاتها ومحدداتها، هي أن استثمار المنهج االتأويلي في قراءة النص الديني، الذي ظهر مع (مارتن لوثر) الإصلاحي، واستعارته من قبل أهل النقد الأدبي وفلاسفته، بقصد دراسة النصوص الأدبية وتحليلها، تحيل الباحث في هذا المجال على تسجيل ملحظين اثنين:

الملحظ الأول؛ أنه كما تم في الغرب، فإن تعميم القراءة التأويلية للنص الديني المسيحي أو اليهودي، على النص القرآني أمر في غاية الخطورة، على اعتبار الاختلاف الجوهري المتعدد الأوجه والأبعاد، من حيث أصول النصوص ووثاقتها، ومن حيث تعدد وجوه النص في الأصل الواحد، بخلاف النص القرآني السليم من الانحراف والتزوير.

الملحظ الثاني؛ وهو لا يقل خطورة عن سابقه، وهو أن استعارة المنهج التأويلي من مجال الدرس الأدبي، المستعار ابتداء من مجال الدرس الديني، وتنويعه لآليات استثماره وتعديده لمناهج توظيفه في الدراسة والنقد، كل ذلك تبخيس للنص القرآني، على قدسيته وصفائه وقوته، وإنزاله منزلة وضعية غير لائقة، وغير مُقدَّرة، يتلاشى فيها مفهوم النص، وتميع فيها معانيه ودلالاته وفق حرية القراءة وتعددها وتنوعها وفق نظريات النقد الأدبي التأويلي. لأن حقيقة اشتمال النص الديني على غاية البيان مستهدفة من أصحاب القراءات المعاصرة، بحيث يزعمون أن ذلك النص؛ لأجل تعاليه وقداسته، لا يستطيع الوقوف على حقيقة مراد صاحبه منه، أو لأجل ما يزعمون من نسبية مطلقة لا تتأتى معها معرفة مدلوله([28]).

إن عدم الاستناد إلى رؤية تبحث عن حقيقة المعنى المراد والمقصود من النص، بحسب الآليات والوسائل المشروعة والمنسجمة مع طبيعة الخطاب وأسسه الشرعية، مع إطلاق العنان للفكر التأويلي يسبح فيما تناسل من نظريات، وقراءات متعددة، سيوجه كل تلك القراءات وجهات لا تنسجم مع حقائق المعنى المضمر والقريب، وانتهائها “في متاهات لانهائية المعنى، وأن القراءة بعدد القراء، وهي مجرد مجال عشوائي للعب الدوال ورقصها، والشفرات المتداخلة؛ إذ هي معان لا يربطها مركز واحد، فتتبدد، ويغدو البحث عنها نوعاً من العبث النقدي([29])”.

 كما أنه إذا تقرر أن “ليس من حق أحد أن يفرض على النص الأدبي قراءة واحدة، زاعماً أنها جمعت كل ما في النص، وكل ما يمكن أن يقال فيه؛ لأن مثل هذا الاتجاه في النقد الأدبي لا يعني سوى شيء واحد، وهو موت النص([30])”. فإن الأمر يختلف كلية عن وضع النص الديني، لخصوصيته وتميزه المنفرد، لتعين معناه وحصر مقصوده في حالات كثيرة، لا يليق معها تلاشي المعنى في فعل القراءة المتعددة.

وعليه، فإن تهافت هذه القراءات ذات النزعة الأدبية لنصوص مجالها الاختصاصي يكمن تحديدا في أن فعلها هو الذي يسهم في إنتاجها وفق خصوصيات القارئ، ونطاقه الاجتماعي والبيئي؛ وهو الذي يرسم معالم وحدود المعاني المراد الوصول إليها؛ لأن القراءة بحسب هذه الرؤية، “تفسير أوتأويل للنص، وكل تفسير أو تأويل هو قراءة، وهما إنتاج جديد للمعنى، أو إسهام في إنتاج معنى آخر، والقراءة عملية تلفظ للنص الذي ينطق عبر قارئه، ولذلك هي نتاج لدلالته، وتقديم معرفة جديدة تتلاءم وتصور القارئ فرداً أو جماعة، ولذلك قد يتغير معه النص حسب حالة القارئ النفسية، وحسب الفروق بين الأفراد، والبيئات الثقافية، والحضارات والعصور([31]).”

 إن التأويل بهذه المعاني المذكورة عند أبي زيد “هو ما ينتج عن حركة ذهن المؤول لاستجلاء المعنى الباطن، والدلالة الغامضة التي لا تنتزع من ظاهر النص، وسياق الخطاب، وإنما مرجع استنباطها إلى جدلية النص/القارئ بأفق إبداعه، ودوال ثقافته، وروافد تجربته، إنه ينظر لتأويل منفلت يؤثر المنهج التفكيكي البتري الذي يقطع كل سبب ممدود بين النص وقائله، والخطاب وسياقه، والمعنى واحتمالاته([32]).”

خاتمة

يمكن القول إن جوهر الإشكال في فقه الخطاب الشرعي وفق المنهج التأويلي، كما سلف البيان، يتلخص في تعالي الخطاب الشرعي وسمو معانيه الكلية عن متطلبات الواقع الإنساني بجزئياته المتجددة والمتعددة، بما يحمله من حاجات ومصالح، ولا تعدو مداخل النظر فيه أن تكون ثلاثة:

ـ الأول؛ تقديم نصوص الخطاب الشرعي بصورة متعينة، واستثمار معانيها الظاهرة الواضحة، وهذا سَيُفوِّت عدداً من المصالح والحاجات الإنسانية.

ـ الثاني: تقديم المصالح الإنسانية ومشخصاتها الجزئية على النصوص الكلية العامة وإخضاعها لتأويلات مخصوصة وفق مناهج وأدوات خاصة إما عقلية أو ذوقية؛ حتى تستجيب لتلك المصالح، وهذا فيه تعسف وإلغاء لمحمولات الخطاب لا يليق بقدسية الخطاب الشرعي.

ـ الثالث: الجمع بين المتعارضين بوجوه من الوثاقة والارتباط بحيث تحفظ قيمة الخطاب الشرعي، وتراعي مصالح الإنسان، بناء على قواعد تخرج عن المنهج الظاهري وتحترز من المسالك التأولية المتعسفة، وهو الأسلم والموافق لخصوصيات النظر الشرعي.

وليس في استطاعة العقل الأصولي بناء على ما سبق من معطيات ومسائل قائمة على التعارض، أن يأتي أبلغ وأجرأ مما أتى به أبو الربيع الطوفي خلال القرن الثامن، حينما قدَّم المصالح على النص والإجماع، وإن تغيرت الأسماء والمسميات والمصطلحات، من تأويل وتفسير وقراءة وفهم علمي للنصوص.

وإن تعددت القراءات التأويلية بصيغها وأساليبها المتعددة، فإنها ليست بالجديدة على هذا المعنى، لذلك فإن حل الإشكال وخلاصه، في اعتقادي، يمر عبر الجواب عن الأسئلة الملحة على الفكر الأصولي والكامنة تلخيصا في فقه العلاقة والوثاقة بين مدركات النص والواقع الوجودي للإنسان.

الهوامش


[1]. جمال البنا، نحو قراءة جديدة للقرآن في ظل التحديات المعاصرة، حوار مع مجلة رؤى بباريس، عن مركز الدراسات الحضارية، عدد:23-24، 2004م، ص107.

[2]. عبد الرحمن الحاج، ظاهرة القراءة المعاصرة للقرآن وأيديولوجيا الحداثة، مجلة: التسامح، عدد:1، سلسلة:1، شتاء (1423ﻫ/2003م)، ص234.

[3]. طه جابر العلواني، تجديد المعرفة الإسلامية: المفهوم والآفاق، مجلة: دار الحديث الحسنية، عدد:16، (1419ﻫ/1999م)، ص218.

[4]. محمد شوقي الزين، مدخل إلى تاريخ التأويل(الهيرمينوطيقا) ملاحظات أولية حول الفكر التأويلي، مجلة: التسامح، عدد:7، سلسلة:2، صيف (1425ﻫ/2004م)، ص150.

[5]. بنعمر محمد، الإشكال الدلالي في قراءة النص، قراءة في تجربة علماء الأصول، دار النشر الجسور، ط1، 2001م، ص5.

[6].ابن تيمية، مقدمة في أصول التفسير، بيروت: مؤسسة الريان/لبنان، ط1، (1420ﻫ/2000م)، ص47-48.

[7].نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن، بيروت: المركز الثقافي العربي/لبنان، ط5، ص16.

[8].نصر حامد أبو زيد، الخطاب والتأويل، بيروت: المركز الثقافي العربي/لبنان، ط1، 2000م، ص 176-177.

[9]. نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن، م، س، ص19.

[10]. المرجع نفسه، ص18.

[11]. نصر حامد أبو زيد، الخطاب والتأويل، م، س، ص10.

[12]. المرجع نفسه، ص177.

[13].الحسان شهيد، الخطاب النقدي الأصولي: من تطبيقات الشاطبي إلى التجديد المعاصر، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 2012م، ص345.

[14]. عبد العزيز حمودة، المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك، سلسلة: عالم المعرفة، الكويت، عدد:232، أبريل 1998م، ص105.

[15]. عبد القادر الرباعي، التأويل دراسة في آفاق المصطلح، مجلة: عالم الفكر، عدد:2، المجلد:31، أكتوبر-دجنبر 2002م، ص174.

[16]. نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن، م، س، ص25.

[17]. نصر حامد أبو زيد، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، ص48.

[18]. المرجع نفسه، ص24.

[19]. المرجع نفسه، ص24.

[20]. المرجع نفسه.

[21]. عبد العالي بوطيب، إشكالية تأصيل المنهج في النقد الروائي العربي، مجلة: عالم الفكر، المجلد:27، عدد:1، يوليوز-شتنبر 1998م، ص13- 14.

[22]. نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن، م، س، ص240.

[23].التلمساني، مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول، م، س، ص77، وانظر أيضا: الشوكاني، إرشاد الفحول، م، س، ص300 -301.

وقد قسم محمد بن محمود البابتري الحنفي التأويل إلى ثلاثة أقسام: قريب وهو ما يترجح فيه الطرف المرجوح بالأدنى دلالة، وبعيد، وهو ما يحتاج إلى دليل قوي، ومتعذر لبعده فيرد، الردود والنقود شرح مختصر بن الحاجب، محمد بن محمود البابتري الحنفي، تحقيق: ترحيب بن ربيعات الدوسري، مكتبة الرشد ناشرون-الرياض، ط1، (1426ﻫ/2005م)، 2/341.

[24]. انظر: يحيى رمضان، القراءة في الخطاب الأصولي، الاستراتيجية والإجراء، عالم الكتب الحديث، جدارا للكتاب العالمي، ط، 2007م، ص356.

[25]. انظر: نعمان عبد الحميد بوقرة، تفسير النصوص وحدود التأويل عند ابن حزم الأندلسي، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، مجلس النشر العلمي، جامعة الكويت، عدد: 57، سلسة: 19، ربيع الآخرة (1425ﻫ/يونيو2004م)، ص223.

[26].نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن، م، س، ص214.

[27]. المرجع نفسه، ص241.

[28]. انظر: سعيد بيهي، الأسس التصورية للمنهج الأصولي في فهم النص الديني، مجلة: التذكرة، شهرية المجلس العلمي المحلي بجهة الدار البيضاء الكبرى، المجلد:1، عدد: 3-4، (ذو القعدة 1426ﻫ/دجنبر2005م)، ص18.

[29]. مرزاق، القراءة والمرجعية: نظرات في كتابات أدونيس، مجلة إسلامية المعرفة، م، س، ص260.

[30]. وهب أحمد رومية، شعرنا القديم والنقد الحديث، سلسلة: عالم المعرفة، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، عدد:207، شوال 1416ه–مارس 1996م، ص31.

[31]. خليل موسى، قراءة في الخطاب الشعري المعاصر، مجلة: عالم الفكر، عدد:3، المجلد:29، يناير-مارس2001م، ص209.

[32]. قطب الريسوني، النص القرآني من تهافت القراءة إلى أفق التدبر، منشورات وزارة الأوقاف المغربية، ط1، 2010م، ص291.

د. الحسان شهيد

أستاذ التعليم العالي، كلية أصول الدين وحوار الحضارات، تطوان-المغرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق