وحدة الإحياءدراسات عامة

الخطاب الإسلامي ضمن سياقات الغرب ومشكلة الخصوصية الثقافية

يرى الباحث أن تجربة الوجود الإسلامي في الغرب متفردة بما تزخر به من تعدد داخلي عرقي وثقافي، وما تواجهه من تحديات قادرة على إنضاجها، وأن هذا الوجود هو خيط وصل أساسي بالعالم الغربي، بتجربته المتحضرة والمتخلفة على حد السواء… كما بيّن أن المحدد الديني يتصدر اليوم المشهد الإعلامي والسياسي في تناول مشكلات الإسلام في الغرب. من ناحية أخرى أوضح الكاتب أن إدراك الخصوصية الثقافية الإسلامية للمشكلات الإنسانية المركبة فيه تعميق لقدرتها على التأثير فيها، وكذا لقابلية المجتمعات الغربية على فهمها.

قد يكون من العسير تبين ملامح لخطاب إسلامي في الغرب حول الخصوصية في زحمة الجدل والشبهات التي تحوم حول الوجود الإسلامي في الغرب، الذي يصنف بحد ذاته موضوعا سلبيا في الخصوصية، تتقاطع داخله مصالح خاصة متعددة تحت مظلة “المصلحة العامة” و”المشترك الإنساني”. فلا تزال الغرابة في الوعي العام غالبا لصيقة بمعنى الخاص حين يتصل بالمسلمين، وهو ما يفسر التعامل الانفعالي والمشحون أحيانا مع ثقافة الحجاب وخصوصيات الخطاب الديني والمساجد والشعائر والتعليم، ومؤخرا صورة الرسول صلى الله عليه وسلم في التصور والمخيال الإسلاميين. وكثيرا ما تنسب مظاهر فشل السياسات الاجتماعية كالفقر والبطالة والعنف الحضري، أو التعليمية كتصاعد نسب الإخفاق الدراسي، إلى خصوصية الوجود الإسلامي باعتباره يساعد من حيث تركيبته الثقافية والتاريخية على إنتاج عوامل مضادة للاندماج.

ويظل الوجود الإسلامي في الغرب على ضخامة جسمه في بعض المناطق مثل فرنسا وتوفر عنصر المراكمة التاريخية فيه، محدودا في قدرته على صياغة رؤية نظرية واستراتيجية لخصوصيات ثقافته ضمن احترام مشترك “التوطين” الغربي والقيم الكونية الإنسانية. فكثيرا ما يتحول الخاص ذريعة للانطواء أو التمرد على المشترك العام، فيكون حينها عامل إقصاء ذاتي يضاف إلى عوامل الإقصاء الخارجي المنظم. ولا شك أن تعاظم انتشار التشدد الديني وثقافة التكفير يستند بالأساس إلى حجة الخصوصية الإسلامية دون مراعاة أو تقدير لشروط التنزيل البيئية والتاريخية للأصول الدينية.

وتشكو ثقافة الديموقراطية وحقوق الإنسان التي تمثل واجهة لقيمتي الحرية والمسؤولية المؤسستين للفكر الغربي الحديث، من أزمة في التعامل مع تنامي الخصوصيات الدينية والثقافية الجماعية. فلا تملك هذه الثقافة آليات كافية ومتكاملة للاعتراف بمنزلة التساوي في الحقوق لدى الجماعات المصنفة سلفا بالأقلية حتى وإن امتدت أوصالها لتلتحق بالمجموعات التي تشكل الأغلبية. ذلك أن ثابت الديموقراطية يفرض التعامل مع الاختلاف داخل محدد الشخصية “Personne” ولا يسمح بالخصوصية الجماعية إلا ضمن مشروطية الانصهار في نسق القيم المشتركة الواحد. لذا تثار داخل المنتديات الفلسفية الغربية ما بعد الحداثية قيمة الاعتراف بخصوصيات الجماعات المغايرة قاعدة في تجاوز آلية حقوق الأقليات داخل ثقافة الديموقراطية.

ولا ريب أن الخطاب الإسلامي في الغرب لا يستمد خصوصيته من ذاتيته التاريخية والنفسية فحسب، إنما من خصوصيات الثقافة الغالبة التي يتمرس تدريجيا على التفاعل مع مكوناتها سلبا أو إيجابا. وليست ثقافة المقاومة النفسية داخل الذاتية الإسلامية في العلاقة مع الثقافة الغربية المهيمنة بالضرورة عامل انزواء، بل قد تدفع للمراجعة والنقد الذاتي في اتجاه التعامل مع الآخر بحثا في عمق حكمته وحنكته. إنما ثقافة التجاهل المطلق للبيئة الغربية هي التي يمكن أن تفتك بأية طاقة تفاعلية حيوية في الذات وتحيل خصوصيتها إلى قدر الجمود الكامل. ولا نعتبر من المجدي التركيز في دراستنا على هذا الصنف الساكن غير القادر البتة على إنتاج خطاب معين في الخصوصية الإسلامية، وإن كانت الدراسات الأمنية الغربية تجهد دون طائل في تأويل سكونه لفهم مظاهر العنف والتشدد المتأتية منه، وتغفل عن جهل أو عن وعي حقيقة الطبيعة النفسية التمردية لهذا الصنف من الثقافة الشعبية التي تعبر عن فيض من غيض تجاه واقع الإحباط والتهميش والقمع الذي يعانيه الشارع العربي والإسلامي، والذي يجد من يدعي تجاوزه على طوباويته بشكل جذري وسريع وبسيط ضمن وعود “العون الإلهي” و”التمكين” و”الخلافة في الأرض”. وستكون التجربة الإسلامية في فرنسا المثال الأساسي في دراستنا بحكم قربها من دائرة اهتمامنا.

المحددات الذاتية للخصوصية الثقافية الإسلامية في الغرب

تتداخل العناصر المكونة للذاتية الجماعية الإسلامية في الغرب تبعا لتدافع المصالح المؤثرة في وجهتها واستعمالاتها. ويكون من الإجحاف حصرها في المشهد الاجتماعي أو الانتماء العرقي أو الزخم الروحي أو الحركية والغيرة السياسية، فهي مكونات الشخصية الجمعية للمسلمين داخل الفضاء العام، بما يسمح للوجود الإسلامي أن يفارق موقع النكرة نحو أن يكون له خطاب وصورة وتأثير، يحفظ بهم حقوق جماعات المسلمين ويدفع الأذى عنهم ويمكنهم من الإسهام في ثقافة التعددية داخل المجتمع. ويمكننا النظر في ثلاثة محددات أساسية في تشكل هذه الذاتية تاريخيا ونفسيا.

1. المحدد القومي: ساهم توزيع المصلحة الاستعمارية على حدود وأطراف العالم الإسلامي في تنظيم الهجرة في شكل دفعات قومية وعرقية ومحلية، سواء للمساهمة في الحربين العالميتين أو في إعادة بناء وإعمار أوروبا بالأساس. وكان لقيام الدولة الوطنية ما بعد الاستعمارية دور في تقوية مشاعر الانتماء لقومية الحدود على حساب قومية المصلحة العربية والإسلامية المشتركة. ولا شك أن استراتيجيات الهيمنة الغربية ما بعد الاستعمارية تقتضي الحفاظ على عصبية الانتماء إلى قومية الحدود والإبقاء بذلك على واقع التفرقة بين أبناء أمة واحدة نصا وتاريخا. ويمثل الانتماء إلى المحدد القومي الحديث معادلة أساسية ضمن الرهان السياسي الرسمي في تمثيل الإسلام في الغرب، فهو معبر هام لدبلوماسية القوميات الحدودية بالعلاقة مع مصالحها الغربية، وقد يحقق أغراض احتكار الصفة الإسلامية الثقافية أو الدينية داخل المجموعة الرسمية العربية والإسلامية فيدعم منطق التنافس في تمثيل ذاكرة الإسلام وإرثه وقدسيته.

وبالرغم من قدرة الجهات الرسمية العربية والإسلامية على حبك خطط التأثير على أجندة المسلمين في الغرب تواؤما مع استراتيجياتها مع العالم الغربي وكذلك الإسلامي، إلا أن المشترك الإسلامي يغلب على محك اختبار التجربة في الغرب الذي تواجهه الجماعات المسلمة بكل أطيافها وطوائفها. فهي تعاني جميعها من العنصرية والتهميش، والإسلاموفوبيا، وتتصدى لسياسات الصراع بين الثقافات، ولهيمنة العقل الاستعماري الذي تخفيه جمالية شعارات الاندماج والتسامح والأخوة والصداقة بين الشعوب. من ثم كانت معركة الحقوق الأساسية من أجل فرض تطبيق ثوابت المساواة والعدالة على الأقليات المسلمة تتجاوز الحدود القومية. فـ”مسيرة العرب” بفرنسا  la marche des beursسنة 1984 احتجاجا على مظاهر العنصرية في الحياة العامة، أسست للمعارك الدينية ومعركة المواطنة فيما بعد. وكانت ولا تزال قضية الاعتراف بالهوية الدينية من خلال بناء المساجد وتكوين الإطارات الدينية وتجربة التعليم الديني تخرق عموما حد الانتماء القومي، رغم إصرار المحللين والسياسيين على تقسيم مساجد المسلمين تقسيما قوميا. وهو ما يخدم مصالح الجهات العربية الرسمية وجهات الضغط اليمينية المتطرفة التي تلتقي مصلحتها في عدم اعتبار الطرف العربي والإسلامي شريكا في المواطنة بل تابع لبلده الأصلي وأجندته.

2. المحدد الديني: يتصدر المحدد الديني اليوم المشهد الإعلامي والسياسي في تناول مشكلات الإسلام في الغرب، رغم الصعوبات المستمرة في ضبط ماهية الخطاب الديني من حيث قواعده ومدرسيته واستراتيجياته. فنحن نرجح أن المحدد الديني داخل هوية المسلمين في الغرب عموما وفي أوروبا وفرنسا خصوصا كان وسيظل يتبع العامل الحقوقي. فلئن كان بناء المساجد منذ السبعينيات في فرنسا سابق للمعركة الحقوقية التي انطلقت بشكل منظم في الثمانينيات، غير أن دور تلك المساجد في الدعوة والتعليم لم يبرز في المشهد العام إلا تقريبا منذ التسعينيات[1].

كما كان البناء بحد ذاته ولا يزال يمثل معركة حقوقية من أجل انتزاع الترخيص بالبناء والاعتراف بالجهات التي تقوم عليه. ولا شك أن مشكلة الحجاب وما أثارته من شكوك في قدرة المسلمين على المواطنة الكاملة والاندماج الإيجابي في دورة الحياة العامة، دعم الصبغة الحقوقية للانتماء الديني، بل وغلبها أحيانا بحيث صور الحجاب على أنه رمز للحركية السياسية فحسب، ولا تزال المحاولات جارية لنزع وإهمال أي معنى روحي في ارتداء الحجاب[2].

إن المعركة غير المعلنة بين التدين التقليدي والتدين الحركي من حيث ضعف عناصر الالتقاء بينهما، بل وتصادم منهجي الوجود داخلهما يؤثر في تحديد الخصوصيات الثقافية الإسلامية في الغرب. فلئن كان موضوع التدين التقليدي هو الذات في قطيعة مع الالتزام الاجتماعي، فإن التدين الحركي يجعل الجماعة الوكيل الرئيسي على الفرد في إعداد مقومات استقامته وتأهيله لمهمة التغيير الرئيسية داخل المجتمع. ويقف في الجهة التقليدية المدافعون عن “الإسلام الرسمي”، وبعض الطرق الصوفية ذات التوجه غير الاجتماعي، واتجاهات التشدد والتكفير النافية للآخر بكل تنوعه رغم ادعائها المنهج الإصلاحي السلفي. وتتصدر حركات الإصلاح الإسلامي المعاصرة السياسية والاجتماعية والفكرية، وكذا شبكات المثقفين والحقوقيين منهج التدين الحركي. وهو وإن كان لا يزال قادرا على الاستقطاب إلا أن قابلية التجديد داخله تنزع إلى الفتور. فكثيرا ما يلتقي صمت بل وصمم حركات إصلاحية تاريخية أمام مآسي المسلمين في فلسطين والبوسنة أو مأساة الحجاب في فرنسا بمثل ما اعتدنا عليه لدى أنساق التدين التقليدي، ولكن ليس للأغراض ذاتها بل لحسابات سياسية داخلية تفرض على الذات سقفا محدودا للفعل ومنطقا نكدا في الرقابة الداخلية. لذا فُسِّر غياب حركة الإخوان مثلا عن مسيرات الاحتجاج ضد إصدار قانون حضر الحجاب سنتي 2003 و2004 كمثل غيابها عن باقي المسيرات المناهضة للانتهاكات التي تفتك بهوية المسلمين وكرامتهم في أرجاء العالم وأطرافه، على أنه تراجع عن منهج الإصلاح. وبالرغم من ذلك يظل مستوى الالتزام الاجتماعي داخل التدين الإسلامي معيارا أساسيا مؤثرا في الاعتراف بشرعية الخصوصية الإسلامية داخل الفضاء العام.

وبقطع النظر عن منهج الاعتراف بالهوية الدينية إن كان حقوقيا احتجاجيا أو سياسيا تفاوضيا، فإن الطابع الديني يغلب على صورة التجربة الإسلامية في الغرب. وقد تساعد هواجس الحداثة اللادينية حول عودة الديني إلى الفضاء العام، من تضخم صورة الديني على الحضور الإسلامي في الغرب، فيرافق ذلك نزوات الرقابة الأبوية الاستعمارية التي تبرز بين الحين والآخر في الخطاب السياسي الغربي يمينا ويسارا. غير أن مظهر العودة إلى التدين بشكل عام ومكثف وتنامي حركة اعتناق الإسلام، يسفه في الغالب التشخيصات السياسية البسيطة للمحدد الديني، الذي قد يكون مرجعه بالأساس استجابة إلى نداء الروح والضمير أمام تداعيات الحياة المادية التي يفرضها النسق الغربي بديلا وحيدا للتقدم والنهوض.

3. المحدد الطائفي: نقصد بالطائفي الانتساب إلى مجموعة أيديولوجية معينة. ولا تحمل هذه التسمية أية صفة سلبية خلافا للمعهود في الخطاب العام. وليست هذه المرجعية خصوصية ثقافية بحد ذاتها، ولكنها إطار منظم ومحدد لمعالم خصوصية ما، قادر على استيعاب الخلفية الدينية والقومية على حد السواء. وهي تبدو آخر الحصون المنقذة من أزمة الهوية، والبديل المثالي تجاه أزمة المعيارية الخلقية وتحلل القيم في المجتمع الغربي. وهو ما يدعم كذلك عودة التدين الفرقي والعصبية للأيديولوجيات اليسارية البالية من داخل الأحياء الفقيرة التي تعاني هامشية كاملة عن “ثوابت” تساوي الحقوق والفرص، وهي ما تكفلها دولة “القانون” والمؤسسات” حسب نصوص الدساتير الغربية. وقد يبدو من الغريب أن العقل الديكارتي الناقد والشكاك الذي يؤسس لتنشئة الطفل في فرنسا لا يؤثر في العودة إلى التدين من أروقة الاختيار الذاتي الحر ورحاب العلم، بل تزخر المكتبة الإسلامية الشبابية باللغة الفرنسية بترجمات حرفية مخلة للمعنى والسياق التاريخي لكتب الرقية وعالم الجن وأساطير الإسرائيليات، ويتخللها تحريض على التزام الفرقة الناجية شرطا في الخلاص في الدنيا والآخرة.

لذا يغلب على مواصفات القيادة الدينية الطابع المشيخي والنجومي سواء كان عن علم واستحقاق وهو ما ندر أم لا. والعديد من المجموعات المهزومة اجتماعيا في أوطانها الأصلية تلجأ للبيئة الغربية لتستعيد فيها عذرية وطهرية جديدة، داخل جمهور يفتقد في الغالب إلى إمكانات التمحيص بين الغث والسمين. ونحسب أن في صمت بل وسكون أجهزة الدولة الغربية أمام تصاعد الانتساب الطائفي للشخصية الثقافية الإسلامية رغبة في الإبقاء على حالة اللافاعلية لنوعية الفرد المسلم في المجتمع. فقد يساعد الانتماء الفرقي الديني على التناسل والتكاثر العددي الكمي، ولكنه لا يهدد مصلحة قيادة المجتمع أو المنافسة عليها لأنها تظل من خصوصية النخبة المتميزة. ولا شك أن الطائفية موِّلد مسرع للتعصب وثقافة نفي الآخر تكفيرا أو تخوينا، وهو ما يفاقم في الغالب من مشكلات العنف “الأهلي” ويحيل من جديد على أزمة الهوية، فتنتقل من أزمة في الاعتراف بالحقوق إلى أزمة في الذات في تضخمها وتصلبها وتمردها على الاجتماع البشري.

من ثم يشكو الإطار الطائفي من قدرة على التجدد ومن ثم على التطور سواء في أجندته أو في كوادره، وهو ما يصبغ أعماله بالجمود وعلى مواقفه بالتخلف. وعلى خلاف التخمينات الأمنية الغربية التي تقدم على سجلات أكاديمية للدراسات الاستشرافية، فإن هذه المرجعية التنظمية تفتقد إلى أصول فلسفية منتجة للرؤى ومحررة للطاقات، ولا تملك بالتالي مقومات البناء المستقبلي والتغيير والاستمرارية، والمناعة من الذوبان أو التآكل أمام الهزات الداخلية والمؤامرات الخارجية.

وضمن هذه المحددات الثلاثة للخصوصية الثقافية الإسلامية في الغرب تتوزع أصناف اجتماعية أساسية ثلاثة من الشخصية الإسلامية، وهي صنف المهاجرين والناشئين أو من يطلق عليهم بالجيل الثاني وأخيرا معتنقي الإسلام الجدد. فلئن تعبر هذه الأصناف من الشخصية الاجتماعية عن اشتراك في الانتماء الديني والمعنوي فإنها تفترق من حيث المرجعية الاجتماعية وبيئة التنشئة الثقافية. وهي من المنظور النظري للمصلحة العامة يمكن أن تمثل عنصر ثراء كبير داخل تجربة التعدد الثقافي الإسلامي، ولكنها في مستوى طبيعة نضج ثقافة التعاون بين المسلمين لا تزال تدعم معضلة التفرقة وأحيانا التصادم. ولقد بدأت تبرز ملامح الاجتماع المؤسسي على هذه الخلفية، باعتبارها تسهل من عملية التواصل، وتساعد على بلورة تصور مشترك عن الإسلام والتغيير والتحديات الكبرى المواجهة. ومن المعلوم أن عنصر اللغة يضاف إلى عنصر الثقافة المحلية الأصلية ليدفع إلى تشكل الاجتماع على أساس هذه الخلفيات بحثا عن رخاء في الانتماء للهوية الإسلامية. فالتجربة التعددية من داخل العمل المؤسسي أكثر تعقدا وأضخم مسؤولية في توفير آليات مثمرة للتواصل بين لغات وأجناس وثقافات مختلفة.

وقد يميل الدارسون والمراقبون المتعجلون إلى اختصار المشهد الاجتماعي والثقافي الإسلامي على صنف المهاجرين. وفي الغالب لا ينتبه إلى أن داخل هذا الصنف ذاته يبرز خياران، التوطين أو الإبقاء على موقع الهجرة. واستتباعات الخيارين سياسيا واستراتيجيا مختلفة. فالخيار التوطيني يدفع نحو المشاركة الكاملة في التغيير، أما خيار الهجرة فسيظل اقتصاديا أو علميا محدودا، يتصل بمصلحة قوت أو شهادة أو تجربة معينة تعود بالنفع بالأساس على البلدان الأصلية. وليس من المجدي استراتيجيا الزج بعموم الهجرة نحو تجربة المواطنة الغربية لأن ذلك قد يهدد مستقبل التواصل مع العالم الإسلامي، وتتحول الهجرة إلى نزيف حقيقي وخطير للعقول والطاقات. وسنحتاج في المراحل المستقبلية القريبة إلى تجديد الإيمان بقيمة التعددية داخل الوجود الإسلامي، ليس من منطلق أخلاقي فحسب، بل كذلك بدافع استراتيجي، حتى نتجنب عناصر طائفية جديدة ونستفيد من ثراء الخلفية والتجربة.

ولن يتحقق ذلك إلا إذا وفرت هذه المجموعات الاجتماعية تقاليد انفتاح على بعضها البعض، وعالجت شعورها بالتعالي من أوجه كثيرة. حينئذ يمكن أن تتجاوز المؤسسات ذات الغالبية المهاجرة عقدة التفوق “العربي” أو “الثقافي الإسلامي” باعتبارها نشأت في بيئة ثقافية إسلامية. وقد يعي البعض ممن اعتنق الإسلام وهو محتفظ بخلفيته الغربية الاستعمارية نفسيا أو معرفيا بأن التحضر ليست صفة ملازمة للتجربة الغربية فحسب، إنما هي مشتركة بين جميع الثقافات. وقد تقلع بعض اتجاهات الغلو في الاجتماع على أساس التنشئة في الغرب من أبناء الجيل الثاني والثالث وغيرها من المسميات السريعة، عن القناعة بعنصر الشباب وباللغات الأوروأمريكية وبذاكرة الوجود في الغرب، لصياغة هوية إسلامية مستقلة. فلا غنى عن لغة القرآن وعن تجارب السابقين من المسلمين وعن العمل داخل ديناميات الهجرة، فهي أصل الوجود الإسلامي في الغرب وتاريخه. وسيظل تحديد المصلحة العامة للمسلمين يمثل تحديا كبيرا أمام مستقبل التعاون بين الاختلاف الإسلامي. إذ المصلحة العامة فهما وتوظيفا لا زال حبيسة محددات طائفية وقومية بل وتتماهى معها، وهو ما يعيق النظر إلى المشترك الإسلامي وتفعيل ثقافة التعاون على أساسه.

خصوصيات المشترك التوطيني: الثقافة المحلية

كثيرا ما يُنظر إلى الخصوصية الثقافية بصفة مجردة ومبعدة عن أي مشترك إنساني، على خلفية الفصل المنهجي المدرسي بين المجال الخاص والمجال العام. غير أن الخصوصية الثقافية التي نعنيها باعتبارها صفة مميزة للذات الجماعية لا تتقيد أو تنضبط بالعام والخاص، بل يمكن أن تشمل إحدى المجموعات داخلها. من هنا كانت البيئة القانونية والاجتماعية والتاريخية التي تحتضن الخصوصية الثقافية في الغرب، الإطار التوطيني المشترك مع باقي مجموعات الخصوصية المغايرة. فعرف الوطن الجديد وثوابته هيأ لثقافة مشتركة في احترام التعايش السلمي والذاكرة التاريخية والمصير الواحد. والصدام أو الصراع المستمر هو الحالة المهيمنة في علاقة الثقافة التوطينية بالثقافة الأصلية. فينسب المرابطون على ثقافة الأجداد صفة الغصب على ثقافة التوطين، باعتبارها فرضت عليهم ولم تكن من أصل جلدتهم، تحت سياسات الاندماج/الذوبان. وحين تُنصَف الثقافة الغربية تُنعَت بثقافة التبني، في منزلة ثانية عن ثقافة الروح والذاكرة. وحينها تسود خطابات الموافقات، مثلا بين أصول الحكم في الإسلام والعلمانية، والاستخلاف أو المسؤولية الذاتية في الإسلام ومنظومة الليبرالية. ويعسر على الخطاب المحافظ لدى المسلمين تصور علاقة بين الأنساق الثقافية. فالثقافة الإسلامية مهيمنة نصا، قياسا على هيمنة الله والقرآن. ومسؤولية الهيمنة تقتضي الشهود فقط بمعنى حمل الرسالة والتأثير دون التأثر، وليس بمعنى التفاعل المشترك مع بيئة التغيير. ومن ثم لا تنسب الثقافة إلا للذات، أما ما سواها فهو دخيل وأجنبي.

أما من جهة الثقافة الغربية المهيمنة، فالثقافة هي تجلي العلوم والفنون والآداب في اللحظة المعاصرة، وما لف حواشيها فهو في منزلة الأقلية التابعة أو الخاضعة للذوق أو الرأي العام الغالب. كما حدث في حضر الحجاب في فرنسا، إذ كانت الحجية تستند إلى ثقافة العلمانية المشجعة على تحرير المرأة من قيود التقاليد وعسف الثقافات الشرقية الذكورية وليس إلى نص قانون العلمانية ولا إلى روحه الذي يكفل حرية المعتقد وتساوي حقوقه للجميع[3].

فلا يزال الغربيون عموما يطالبون المسلمين وغيرهم من ذوي الخصوصيات الثقافية بالاندماج، ولا يقبلون إلا نادرا الاعتراف الكامل بذاتيتهم، فيما عدى نسبيا نموذج كندا أو النمسا الذي شرع بالاعتراف بحقوق التعليم وإقامة الشرائع الدينية وغيرها. على أن عقد الخوف واستراتيجيات التخويف من الإسلام لا تزال تلازم تركيبة المجتمع الغربي بكامله، وتشكل خطرا حقيقيا على مستقبل الاعتراف بالمواطنة الكاملة للمسلمين، وكذلك على مستقبل حوار الإسلام والغرب وحوار الحضارات بكامله. إن عقدة التفوق في الثقافة الغربية تعيقه عن الاستفادة من الموارد البشرية الهائلة التي تستوطن في دياره بتصاعد كبير، وتدفعه إلى فرض نموذجه الثقافي الواحد مسفها بذلك قيمة التعددية وما يستتبعها من آليات حقوق الإنسان والمجتمع المدني ودولة المؤسسات وما إلى ذلك. فنمطية النموذج الثقافي الغربي الذي انكشفت أساسا مع احتدام المواجهة مع الثقافات المستوطنة الجديدة شرعت تشكك في مصداقية الحرية الخاضعة لأجهزة المراقبة بشتى أصنافها، ولقوانين التضييق على الاختلاف الثقافي والحضاري، ولاستراتيجيات الشيطنة والتخويف.

وحين تنتفض الثقافات الإسلامية والمغايرة عموما على غطرسة هذه النمطية، كثيرا ما تسود العدمية في رؤيتها النقدية للثقافة الغربية، فيُنسب إليها التحلل من القيمية والمعيارية الخلقية ومن الفضيلة واحترام كرامة الإنسان. فينزلق الخطاب الإسلامي على هذه الخلفية في متاهات التبشيرية بالمشروع المجتمعي الطهري والملائكي، الذي يسوده القسط وتصل عراه الأخوة وترعاه الرحمة الإلهية. وتختلط الصورة عندها بين الجانب الخاص المهيمن داخل الثقافة الغربية وما يصلح لأن يكون مشتركا داخل فضاء المواطنة واحتراما للقانون الذي يتساوى أمامه الجميع. ولا يمثل حَمَلة التصور التكاملي للمعرفة وبين الحضارات والثقافات داخل الصف الإسلامي إلا قلة محدودة التأثير على الرأي العام الإسلامي والغربي. فالإيمان بأن “الحقيقة ضالة المؤمن” وبروح “قل سيروا في الأرض فانظروا” أساسي للتمحيص بين النمطية والتعددية داخل الذاتية الثقافية الغربية، وبين استراتيجيات الحوار الصادقة ومناورات الاستقطاب والاحتواء المزيفة. ويظل مشروع الاستفادة من التجربة الفكرية والحضارية الغربية من داخل الفكر الإسلامي تعوزه الإمكانات البشرية، والقدرة على التخطيط المستقبلي.

فنحن نميل إلى القول بأن هناك مشتركا وطنيا في الغرب يقوم على المرجعية الدستورية التي تكفل الكرامة وتساوي فرص الحياة والنجاح لجميع الخصوصيات الثقافية. وتستمد هذه المرجعية روحها من معركة فلسفة الأنوار وتحرير سلطة الرجل الأبيض من قهر الكنيسة عبر علمنة أنظمة الحكم والتعليم أساسا، وقيم المسؤولية الشخصية وآليات الديموقراطية وحقوق الإنسان وغيرها. وتواجه هذه النصوص باستمرار محاولات التنميط والقرصنة من القائمين على تطبيقها أو من يملكون إرادة تأثير في تأويلها أو توجيهها لخدمة جماعة معينة كالشبكة الصهيونية أو اليمينية المتطرفة أو اليسارية الاستعمارية. وقد يكون من الأيسر القناعة بأن لا مستقبل للوجود الإسلامي في الغرب خاصة أمام تصاعد سياسات الاستعمار الجديد في العالم الإسلامي أو موجات العداء للإسلام مثل ما يحدث يوميا في أمريكا بالخصوص، ولكننا نؤمن بأن هذا الوجود هو خيط وصل أساسي بالعالم الغربي، بتجربته المتحضرة والمتخلفة على حد السواء، يسمح للمثقفين والكوادر الاقتراب من النموذج الغربي دراسة وتمحيصا ومعايشة، فينقل إلى العالم الإسلامي معارف وتجارب جديدة، ثم ينقل ثقافات المسلمين وينضجها، ويرفع اللبس عن الشبهات التي تحوم بالإسلام وأهله.

الخصوصية والمشترك الإنساني “الغربي”

ليس من المفارقات أن تصبح قضية القيم المشتركة أو الكونية مدخلا لجميع المشاريع الاستعمارية والحوارية سواء بسواء. فباسمها وعلى نخبها تحبك الحروب الفتاكة داخل العالم الإسلامي من أجل دمقرطته أو تحريره من الدكتاتورية أو الأصولية وما إلى ذلك. وكلما انتهكت حرمات شعائر وأموال وأسر إسلامية إلا وسل سيف الإنسانية حاسما ومعللا ومتذرعا. وترافق سياسات الرقابة والتضييق على مؤسسات المجتمع المدني الإسلامية الناقدة بمحاولات تمييع مهماتها وأصواتها على خلفية “الأخوة” الإنسانية. فمنابر الحوار بين الأديان والثقافات تمتلئ تآمرا وأحقادا تستهدف التطويع والتذليل لا الإنسانية البتة.

ولئن كانت كل شخصية جماعية ثقافية حمالة واعدة بالقيم المشتركة universel حين تستهدف إصلاح الإنسانية من وجودها، فتتجاوز حدود عصبيتها نحو البشرية قاطبة. غير أن لحظة بروز هذا الدور مؤقتة بلحظة العطاء الحضاري بكامله، ونضج النموذج الثقافي الكوني. من ثم فإن البشرية اليوم تستهلك نموذجا نمطيا واحدا، مهيمنا على وجهة المشترك الإنساني، وهو نموذج العولمة الليبرالية، خاصة منذ تهاوي الكتلة الشرقية. إن نمطية النموذج العولمي وهي تتهدد في تصاعد كبير بإرث ومصداقية قيمة التعددية في الفكر الغربي الحديث، تتهدد كذلك بالخصوصيات الثقافية من حوله. إذ صفة الاشتراك في القيم الإنسانية تقتضي تعاقدا واحتراما للتعدد بين الخصوصيات الثقافية، وإلا تتحول إلى خصوصية قاهرة ومتسلطة، تحاول الانفراد بمنزلة التحضر واحتكار المصدر القيمي الإنساني. فلا يمكن توحيد رؤية البشرية على اختلاف ثقافاتها حول المشترك القيمي، ولكن يمكن التعاقد على عناوينه واتجاهاته خدمة للمصلحة العامة التي تقتضي التعايش السلمي بين مختلف الشعوب. إذ لا أحد ينكر قيمة حفظ الكرامة الإنسانية، أولوية في الإيمان بالمشترك الإنساني، والذي على أساسها يُنَظَّر في قيم الحرية والعدل والشورى والتعاون. إن تأهيل الخصوصية الإسلامية وباقي الخصوصيات الهامشية، للإسهام في وضع التصور المتكامل عن قيم “المشترك الإنساني” سيحدث انقلابا حقيقيا على نمطية القيم الغربية ويدخل فضاء من التعدد والاختلاف، يكون هو المولِّد لحراكية التعاقد. فلقد غاب حس التعاقد اليوم عن منطق الهيمنة الغربية، وانحصر داخل كتلته أي نمطيته. وكلما أعلنت حرب جديدة “إنسانية” باسم المشترك إلا وانطلقت من موقع التحضر ضد أعدائه. إذ كثر الحديث منذ حرب الخليج الأولى عن معركة الأمم المتحضرة ضد الهمجية والوحشية والتخلف. والعدو النظري هو جميع تلكم الخصوصيات الثقافية من خارج دائرة “نادي” التحضر الغربي. وهي نمط جديد من العنصرية لا يقوم على التمييز في العرق واللون واللغة فحسب، بل على نكران ولفظ أي مجال للاعتراف بأنساق ثقافية وحضارية مغايرة، ومن ثم قطع الأمل في إمكانية التعاقد مع الخصوصية الثقافية غير الغربية أو المتغربة.

ولا شك أن مسالك تقنين الوجود الإسلامي في الغرب مشحونة بعقدة التفوق الغربي. ففي جميع مراحل ومساعي الاعتراف بالمسلمين شريكا في المواطنة، تبرز الرغبة الجامحة في فرض تصور في الليبرالية الأخلاقية، ليس على المسلمين فحسب بل حتى على الإسلام ذاته. من ثم تتنزل خطة ترويج ما يطلق عليه الغرب بالإسلام الليبرالي دعما لسياساته في إذابة الخصوصيات الدينية الأساسية باسم الاندماج في دورة التحضر والرقي. وبحجة أن الطرف الإسلامي في الغرب لا يمتلك الشروط الكاملة المادية والقيادية للاستقلالية في قراراته وبناء مؤسساته، لا تزال الدولة في العالم الغربي بشكل عام وفي فرنسا بشكل خاص تصر على فرض وصايتها السياسية ورقابتها الأمنية. فرغم أن العلمانية الفرنسية لا تسمح بأي تدخل للدولة في الشأن الديني، إلا أنها تستمر في فرض منطق الاستثناء على المسلمين تحت ذريعة حاجة المسلمين إلى مرافقة الدولة. وهو سلوك يتسق مع عقدة انفراد الغرب بالمشترك الإنساني، ويقوي مشاعر عدم الثقة تجاه سلطة الدولة من جهة المسلمين، وهو ليس بغريب عليهم بالنظر إلى نموذج الدولة العربية والإسلامية الحديثة الذي لا يكتفي في الغالب بالوصاية بل يتعداها إلى احتكار جميع السلطات والصلاحيات وابتلاع ما يسمى بـ”المواطن”.

إن انحصار الموقف الإسلامي تجاه غطرسة نموذج المشترك الإنساني الغربي في المستوى الاحتجاجي لا يمكن أن يؤسس لمرحلة تفعيل حقيقية لفكرة المشترك الإسلامي. وقد يحافظ المنطلق الحقوقي في إثبات الذات على موقع دوني وهامشي يطلق عليه الأقلية، ولكنه يظل عديم القابلية للارتقاء نحو مستوى الشريك الكامل في المواطنة. كما أن خيار صياغة البديل بشكل مخبري بمعزل عن المواجهة وضمن نسق موازي لأنساق المجتمع الحيوية، لا ينتج تصورا قابلا للتنزيل، إنما حسبه أن يراكم الحنين والأماني. إن خيار الانسحاب من المواجهة الفكرية للغرب بذريعة البناء الداخلي وأولوية الأمة هو تقمص مقابل لدور منقذ البشرية الذي يلعبه الغرب اليوم، واستبطان مماثل لعقدة تفوق “إسلامية”. إذ منهج التعارف بين الأمم والشعوب الذي نص عليه القرآن يفرض البناء داخل دورة التغيير وليس خارجها، وتفاعلا مع تحدياتها وإحراجاتها وليس هروبا وتخفيا منها. فضلا عن أن جماعات المسلمين ورابطة أمتهم تنتمي إلى الزمن المعاصر الذي يشهد تسلطا غربيا لا مفر من مواجهته. فتبدو من الأولويات مراجعة المنهج الاستقالي السلبي في مواجهة إكراهات الحداثة، نحو تفعيل الطاقات الأكاديمية في سبيل الدراسة العميقة النقدية للتجربة الغربية، وكذلك إعادة صياغة استراتيجيات فعلية في البناء تقوم على مواجهة علل الذات والآخر دون انفصام موضوعي لعلاقتهما الخيارية أو القسرية بمصير واحد تحت مظلة “المشترك الإنساني”.

التعددية الغربية والخصوصية: من الذاتية إلى الجماعية

إن تطور المغايرة في المجتمعات الحديثة من الصبغة الفردية الذاتية إلى الصبغة الجماعية، يمثل إحراجا لقيمة التعددية الغربية التي صيغت لتنظم الخلاف داخل نمط ثقافي أحادي وتحت سقف أيديولوجية تحررية، تتنازع أطرافها قوى اليمين واليسار تحت مسميات كثيرة. فلقد فارقت التعددية فضاءها النظري وخاضت تجربة البناء الحضاري الغربي، فواجهت النازية والفاشية والعنصرية والشيوعية، وأدركت أن لها أعداء. وحين أطلق هانتنغتون مقولة صراع الحضارات ومن قبله نظيره المغربي المهدي المنجرة مقولة حرب الحضارات[4]، ليُستبدل الخطر الشيوعي على التعددية الغربية بالخطر الآسيوي أو الإسلامي، كان ذلك تصورا متسقا مع فرضية الأعداء الأساسيين للتعددية، بالرغم من أن الغرب كان عدو قيمه التعددية حين خاض تجربة الاستعمار تحت ذريعة نقل التحضر، وهو في الآن نفسه يبشر بعالمه التعددي المتحرر. ولكن الغرب المعاصر ظل دائما يبحث له عن أعداء خارجيين ليغذوا فيه خلفية الصراع التي هي المحرك الأساسي لتجربته الحضارية.

ولا تملك التعددية الغربية بآلياتها في الديموقراطية والعلمانية وغيرها قابلية كاملة للتصدير والاستنبات على أرضية ثقافية مغايرة. بل تحتاج إلى مثاقفة وإعادة تبيئة حتى تخضع لنظم وأعراف الثقافة الجديدة. ولكن يبدو أن مراحل التهيئة اللازمة لا تزال تخفى على العقل الاستراتيجي الغربي، وهو يمضي بغروره وعقد تفوقه في فرض أنماط من المؤامرات وإحداث موازنات قسرية جديدة على العالم الإسلامي باسم “نقل الديموقراطية” و”ثقافة التعددية”[5]. فقيمة التعددية الغربية نجحت داخل ديارها في تهيئة مناخ للديموقراطية والتداول على السلطة، ودفعت نحو إجلاء أنماط التمييز الموروث بين الرجال والنساء وفرض التساوي في الفرص بينهم على الأقل في مستوى القانون؛ إذ الواقع لا يزال يشير إلى دونية في الأجور لدى النساء[6]، وقضايا كبيرة في التحرش الجنسي داخل العمل وغيرها. لقد حقق الغرب نموا نوعيا في الإيمان بالشخصية الفردية، وضمان عوامل الإبداع لها، والاعتراف بالاختلاف والتعدد. فالفرد هو أس التجربة المؤسسية ومن ثم الحضارية. ولكن تظل التعددية غير متعدية لتشمل الاعتراف بالمجموعات المغايرة. فالعنصر الأسود أو الآسيوي، كما الثقافات الإسلامية داخل الغرب، تجهد للحفاظ على الذات. ولعل من عوامل تأخر عطاء الهجرة الإسلامية هو موقعها الدفاعي المرابط ضد خطر الذوبان الذي تحاك له كل الاستراتيجيات الرسمية واللوبية. وهو الذي يقود في الغالب إلى مفاقمة غضب الشارع في الأحياء المعدمة. فالهوية المصادرة ولو توفرت لها مرافق العيش المادية تظل على قابليتها للانتفاض واسترجاع الكرامة.

إن تنامي الهويات الجماعية داخل فضاءات النمطية وأجواء الإقصاء تحت مظلة احترام الثقافة المهيمنة يهدد مستقبل التعددية ومصداقية مؤسساتها. وليس ثمة أية إشارة عن حالة استفاقة ووعي جديد لدى النخبة الفكرية أو السياسية أو لدى الوعي العام الغربيين فيما عدى بعض الكتابات أو المؤتمرات النادرة التي تستغيث داخل صمم شديد. لقد جربت بعض المناطق الأنجلوسكسونية مثل أمريكا وبريطانيا وخاصة كندا تجربة الاعتراف بحقوق الأقليات الكاملة ولكن من داخل تصور الجيتو. مما أدى إلى مضاعفة هامشية الأقليات باعتبارها تعيش تجربة حياة موازية مع النسق الغالب الرسمي، ولا تملك إمكانيات تبادل التجارب مع باقي الثقافات، وبالتالي تظل غير قادرة على التطور، حبيسة سجنها المذهب. إنه نموذج تعدد الثقافات Multiculturalisme الذي يفتقر إلى ثقافة وآلية لتبادل الثقافات ولا يسمح نظامه الموازي الارتقاء إلى نموذج بديل نطلق عليه Interculturalisme. فنموذج التبادل في تصورنا هو قطيعة مع نموذج التوازي. ويعسر على أوروبا “اللاتينية” اليوم قبول إحدى النموذجين، لأن عنصر الثقافة المحلية لديها كامن في الذاكرة الوطنية وجزء أساسي من هويتها التاريخية. ولم تكن وحدة أوروبا التي تستهدف الرؤية الاستراتيجية الاقتصادية والسياسية بالأساس ترمي إلى توحيد الثقافة، بل حافظت وأصرت على تعددها رغم تاريخها وأصولها الدينية والفلسفية المشتركة. ومع ذلك فمن المفارقة أن تكون هذه الوحدة اللاثقافية قد دعمت مشاعر الانتماء إلى أصول ثقافة مشتركة تتغنى بفولتير كما بهيغل، وتذكر المسيح دون محمد.

إن معركة بناء الشخصية الجماعية الإسلامية في الغرب، تفرض مرافقة المنطق الاحتجاجي المحدود، بوضع المؤسسات المتخصصة وتأهيلها للاستقلالية في الإطار البشري والمورد المالي. وهي معركة استراتيجية كذلك لفرض التغيير داخل الخلفية الثقافية الغربية النمطية. فلم تستطع أوروبا اليوم التخلص من ذاتية ثقافتها نحو النظر إلى جوهر الثقافات التي قبلت احتضانها على أنها عامل ثراء. بل أصرت ولا تزال على منهج التطويع عبر سياسات الاندماج والإذابة والتحجيم من خلال التعامل الفولكلوري والديكوري مع الثقافات المغايرة. ولا سبيل في تصورنا لنقلة نوعية تتجاوز أحادية الثقافة المهيمنة إلا من خارجها. ولعل الثقافات الإسلامية بحيوية مخزونها وطاقاتها البشرية يمكن أن تمثل عاملا أساسيا للتغيير، شريطة أن تلتزم قيمة التعددية داخلها، وأن تحيي روح التعاون “على البر والتقوى” بين تشكلاتها المختلفة.

الخصوصية والإبداع والفاعلية

تسود العقل البشري اليوم مقابلة مغلوطة بين الخصوصية والحيوية. فلقد ساهمت الدعاوى المضادة للهويات الإسلامية وخصوصياتها باسم الغائية الوقائية من التطرف في إضفاء معنى السلبية والانغلاق على صورتها. بل وكثيرا ما تتماهى الهوية الإسلامية مع العنف والبطالة والإخفاق الدراسي ومجمل نفايات فشل السياسات الاجتماعية والاقتصادية القائمة. ونسي الغرب أو تناسى أن أول الإبداع خصوصية. فكلما تميزت الذات إلا وتأهلت لتعدي ذاتها نحو الآخرين وهو معنى الإبداع. فالثقافة الغربية العامة والمعممة من حيث قدرتها على الانتشار والاستهلاك كانت ولا تزال تحمل جوهرا فلسفيا وتاريخيا يحفظ خصوصيات مفهومها للإنسان والقيمة والمجتمع والتاريخ. ومهما اتسعت قطبية الثقافة الغربية فإن قدرتها على التأثير أشد من قدرتها على التأثر بالأنساق المغايرة التي تتصل بها. وهو يحمل دلالة التصلب داخل مكونات الخصوصية الغربية. فلقد ظل الاستعمار الفرنسي أكثر من قرن في الجزائر دون أن ينمي معارفه في اللغة العربية أو التراث الإسلامي.

إن أزمة الهوية مولد دائم للضياع والفساد والإفساد. وليس من مصلحة الوجود الإسلامي في الغرب ولا السياسات التي ترعاه الإبقاء على هذه الأزمة أو مفاقمتها. ففي التمسك بالخصوصيات الثقافية الدينية والتاريخية والذوقية والحسية توطين للشخصية على الثقة والأمان وباعث لمسؤولية الفعل. إن الذاكرة الإسلامية بالخصوص تتفجر روائع في الإبداع والبذل والاجتهاد، فهي مصدر إلهام دائم. ونصوص الإسلام حافلة بمعاني الاستخلاف والأمانة والعمل الصالح والحسنات، وبقصص الأنبياء وعبر الأولين. والقدرة على تحويل المخزون النفسي إلى طاقة فعلية للفاعلية مشروطة بالوعي بالمسؤولية الحضارية للمسلم فردا وأمة. فهو الذي سيحول الإيمان بالذات إلى مكونات حيوية تختص بها الذات في اللحظة المشهودة، فتنبعث فكرة وتجربة فحراكية ثقافية. والمسؤولية على التغيير تفرض قدرا كافيا للفعل الحر، المتحرر من كوابح التسلط والتعصب. والكثير من مؤسسات الإصلاح الإسلامي تشكو من شح في الأفكار الجديدة والمبادرات القوية والذهنية المستبصرة، وهي في الآن نفسه تلقي بظلال هيكلها التنظيمي على جميع مجالات الإبداع الفردي، فتحبس أنفاسه باسم الجماعة والمصلحة المشتركة.

والإيمان بالحاجة الداخلية إلى التعددية الإسلامية وليس بقبولها على مضض من حيث هي بلاء واختبار، شرط في توفير أسباب الإبداع للأفراد وداخل المؤسسات. إذ العمل الإبداعي هو عمل تواصلي مع الآخر غير منقطع الصلة بالعالم، وإن بدا نرجسيا في تعبيراته وانفعالاته. من ثم كان التعدد الإطار الأمثل للإبداع. وقد تضاعفت المحن والأزمات من الحاجة إلى أوكسيجين جديد وبالتالي إلى مخيال إبداعي، يعيد توجيه المسير نحو خلاص أو نجاح أفضل، ولكن شرط التعددية حتى داخل الأجسام المرتهنة يظل ثابتا وأساسيا للنهوض بها. فلا يولد الإبداع من رحم القمع ولو باسم القيم العليا السماوية أو الأرضية. لذا تحرص الجهات الحاقدة والمتآمرة على الوجود الإسلامي في الغرب على تمزيق صفوفه وإثارة الفتن داخله، كي تعيق قدرته على الإنتاج المبدع وعلى تجديد فاعليته.

والقدرة على التجدد الداخلي هي الفاعلية اللازمة للخصوصية الثقافية الحية، وإلا أمست إرثا تجميليا لا روح فيه. فالخصوصية ليست ساكنة سكون الماضي أو رابضة كالتمثال في أروقة المتاحف، بل هي باعث مستمر على الحياة، ومنطلق متجدد للتغيير. فهي متجددة تجدد مسارات التغيير وأولوياته. وإنما الثوابت العقدية والتاريخية داخل الخصوصية تصطبغ على الدوام بالتغيرات في تقدير المصلحة وتأويل النصوص تباعا. وكثيرا ما تلتبس الخصوصية الثقافية التي هي وجهة عطاء بشري معين بالعلاقة مع باقي المجموعات الاجتماعية، مع المخزون النفسي والإيماني المقدس. فتتحول الخصوصية إلى مقدس بحد ذاته يرعاه ربه ولا يحتاج لأي منطق تطوري ولا إلى مسؤولية شخصية. وهو الخلط الذي يقود دائما إلى المدارس الحرفية والعدمية، لتدعم في الأخير فرضيات المتآمرين من الغربيين بكون الهوية الثقافية الإسلامية عامل عنف وتخلف.

من التسامح إلى الاعتراف فالمشاركة

لا يترجم المفرد الأصلي tolerance عن المدلول الحقيقي فيما اصطلح عليه في اللغة العربية بـ”تسامح”. إذ في التسامح محبة وجميل خلق ومصالحة واعتراف. بينما يأتي المعنى الأصلي في محاولة للانفلات من كل هذه الضوابط، ليحدد له سقفا أدنى يجدر تأويله بغض الطرف عن الجهات أو الأفكار أو الظواهر أو الأشخاص التي تقف على هامش صناعة القرار. فهو تساهل محدود يمنحه الأقوياء للضعفاء. وهو مشروط بالتزام قواعد التعايش التي يفرضها الطرف الغالب. وهو كذلك غض طرف مؤقت ولا يحمل في ذلك أية صفة تعاقدية زمنية، بل على الغالب تحديد فترته بالقدر الذي يسمح به هامش تمكينه ولا يخل بممارسة سلطته. ففي التسامح الكثير من الإهمال والتجاهل وانعدام الرغبة والإرادة لمعرفة الآخر، واعتباره شريكا كاملا في الوجود. لذلك نشأ المفهوم ضمن تاريخ صراع دموي بين الكنيسة الكاثولوكية وأتباع لوثر البروتستنت، ليكون منهجا في تهدئة الأجواء من أجل القبول بوجود الأقلية البروتستنت دون الاعتراف بحقوقها الكاملة. ويستمر الغرب في التعامل مع الاختلاف على خلفية التسامح. وهو ما يعيق إلى حد كبير أفق الحوار بين الثقافات والأديان ومستقبل توطين الخصوصيات الإسلامية بشكل متساو بين الجميع.

من ثم فإن من الخطأ محاولة أسلمة مفهوم Tolerance أو تحسينه وتجميله لكي يكون البديل عن الاعتراف الكامل بالحقوق ضمن احترام القانون. فكثيرا ما تستدرج المجموعات الإسلامية إلى التسابق في إظهار الطاقة الأوسع والأشمل في تجاهل المغايرة باسم التسامح وحق الاستمتاع بالحرية الشخصية. وهو ما من شأنه أن يدفع إلى مزايدات قد تخرق ثوابت المنظومة الخلقية الإسلامية، من مثل ما تتعرض له الأسرة في الغرب من تشوهات ناتجة عن ظاهرة المثلية وما يستتبعها من قضايا تبني الأطفال وتنشئتهم، وما يطالب به المسلمون من تسامح تجاه هذه الظواهر. وكثيرا ما يطالب المسلمون في فرنسا على خلفية التسامح نفسها بالقبول بالصهيونية لأنها جزء من هوية الجماعات اليهودية على اختلاف تياراتها. وباسم مكيال التسامح وحدوده تقابل محاولات المسلمين في الغرب في الاستقلالية وانتزاع الاعتراف بمؤسسات تعليمهم الخاصة بالصدود لأنها تتجاوز مقادير التسامح وسقفه. فالتسامح هو الفيتو الذي يكمم به الصوت الإسلامي حين تحدثه نفسه بفك قيود الأقلية نحو المواطنة الكاملة. فهو لا يصلح لأن يكون قاعدة في الاحتكام والاحتجاج والنضال من أجل المكاسب فضلا عن البناء والمشاركة في ثقافة التعدد.

إن الواقع الاجتماعي التعددي في الغرب بألوانه وألسنته وأذواقه وأنماط تدينه يسفه كل يوم أفق التسامح الضيق، بل ويضيق بالتعدد الموازي نحو تجارب الاختلاط في النسب  Métissageوتبادل الاهتمامات في شتى المجالات. فالمجتمع يظهر تمردا مستديما على الأيديولوجية الساكنة، ويفرض دينامية في تطبيع الاحترام المتبادل والعيش المشترك لا التعايش القهري. فلن تصمد المناهج المتصلبة التي تسعى لأن تفرض  نمطية ثقافية على الجميع وتعزل الأقليات ذات الخصوصيات المتميزة عن إمكانية أن تساهم في المشترك العام. غير أن إلزامات الواقع وضغوطه تفتقر إلى الفكرة والنموذج البديل. ولعل سيادة الإطار العرقي والفرقي والأيديولوجي على طبيعة الخصوصيات عامة والإسلامية خاصة، يعيق هذه الخصوصيات عن الوعي بسيرورة المجتمع والتأثير فيها. فالخصوصية الإسلامية تحتاج لأن تفارق استهلاكها الذاتي وهمومها الداخلية نحو أن تتحول إلى ثقافة تخاطب العالم المعاصر بلغته وعلى خلفية أفهامه. فكلما أدركت الخصوصية الثقافية الإسلامية المشكلات الإنسانية المركبة كلما اتسعت قدرتها على التأثير فيها، وكذا قابلية المجتمعات الغربية على فهمها.

إن فلسفة الأخلاق في الإسلام القائمة على غائية الصلاح في الأرض وأس الإحسان والتراحم بين الناس ومنهج القسط في حسم الخلاف، كل ذلك تحت خيمة حمل الأمانة والاستخلاف، رمز مسؤولية الإنسان الكونية، لا بد أن يكون لها الأثر في وجهة الخصوصية الإسلامية، نحو تفعيل الذهنية المقاصدية في وضع الخطط والبرامج. فالثقافة المقاصدية إنما تستمد حيويتها من هذه الفلسفة، وهي بدورها التي تتحول إلى منهج في فهم الذات والتعبير عنها داخل فضاءات التعدد. ومن شأن المحرك الفلسفي والمنهج المقاصدي أن يسهما في تفعيل ثقافة التخطيط الاستراتيجي والاستبصاري، القائم على الدراسة التطورية لطاقات الذات وإمكاناتها ولمجالات شهودها الإسلامي والإنساني، وللمخاطر والتحديات التي تواجهها، ولسلم الأولويات الذي تنضبط به.

إن تجربة الوجود الإسلامي في الغرب متفردة بما تزخر به من تعدد داخلي عرقي وثقافي، وما تواجهه من تحديات قادرة على إنضاجها. وبعيدا عن الخطاب الإنذاري القائم على التخوفات من مخاطر الذوبان والتفرقة التي تحدق بهذه التجربة من كل جانب، فإن خوض تجربة المواطنة الغربية بحد ذاته يعتبر مكسبا كبيرا. فلقد سمح للمجموعات العربية والإسلامية المهاجرة إلى الغرب بالتمرس على تقاليد التعددية والديمقراطية، الغريبة عن عرف أوطانهم الأصلية. ولا شك أن ضعف أو استحالة التداول السلمي على السلطة في العالم الإسلامي لم يسمح بتربية الفرد على المشاركة السياسية، وعلى الشعور بدوره في المواطنة. وهو من شأنه أن يؤخر تأهيل المجموعات الإسلامية في الغرب باتجاه الانخراط في حركة المجتمع والعمل السياسي. وستظل مجموعات كثيرة تعاني من عاهات موروث التسلط والقمع وعدم الشفافية التي استقدمتها من أنماط أوطانها الأصلية، ما لم تمارس على ذاتها بصرامة النقد الذاتي، وتبرهن عن إرادة في التجاوز.

وليس المستفيد من مشاركة المسلمين في المواطنة الغربية في شتى مجالاتها الحيوية، الاجتماعية والعلمية والاقتصادية وبخاصة السياسية، جماعات المسلمين أو أوطانهم الأصلية فحسب، بل جملة الأقليات الثقافية التي تعبر عن خصوصية حضارية وتاريخية ما. فالمشاركة الكاملة لأية خصوصية ثقافية وبالأساس الخصوصية الإسلامية باعتبارها تمثل وزنا حضاريا واستراتيجيا كبيرا، تمثل مضخا لفاعلية الاعتراف بالحقوق الكاملة للأقليات حتى ترتقي من موقعها “الاستثنائي” نحو موقع الندية والتساوي في المواطنة مع من يمثلون الغالبية في المجتمع. فلا بد أن يكف الغرب عن إشهار سيف “الاستثناء” على الأقليات، وأن ينظر إلى حقيقة آلية موازين القوى في مجتمعاته التي لا تراعي على أرض الواقع معادلة الأقلية والأغلبية العددية البتة، حين يكون المعني بها جهة صهيونية أو مثلية متنفذة رغم قلة عددها. وقبول الخصوصيات الثقافية بأن تعامل على اعتبارها أقلية يعطي مشروعية لهذا النفاق السياسي والمؤسسي الذي يمايز بين صنفين من الأقليات العددية. فالوزن الحقيقي للخصوصيات الثقافية يقاس بقدرتها على التأثير بنموذجها على خلايا المجتمع الحيوية ورأيه العام ولو كانت محدودة عدديا. وهو يستوجب أن يتجاوز الفكر الإسلامي مجاراة الفكر الغربي بفكرة “فقه الأقليات” الذي لا مشروعية له اليوم كما فصلنا. ففقه المواطنة هو الأولى بالدراسة والتجربة سواء في الأوطان الإسلامية الأصلية أو في الأوطان الغربية الجديدة. إذ تربية الشخصية المسئولة نفسيا وفكريا وعمليا على دور المواطنة الكاملة وتهيئة المؤسسات اللازمة لها هو مجال موحد من الاهتمام سواء كنا داخل حدود العالم الإسلامي أو خارجه. وهو أولوية مستقبلية كبرى لتفعيل الدور المدني والسياسي للخصوصية الثقافية الإسلامية.

الهوامش

—————————————————————————–

1. Mohamed Mestiri & Moussa khédimellah: Pensée la modernité et l’islam: regards croisés, IIIT France, 2005.

2. Dounia Bouzar &  Saïda Kada: L’une voilée, l’autre pas, Albin Michel, 2003.

3. انظر إلى تقرير لجنة ستازي الصادر بتاريخ 11 ديسمبر 2003، والتي ناقشت موضوع الحجاب وانتهت بتوصية إصدار قانون في منعه، صحيفة لوموند 12/12/2003.

4. مهدي المنجرة: الحرب الحضارية الأولى: مستقبل الماضي وماضي المستقبل، المغرب، 1991

5. لا يزال البيت الأبيض الأمريكي يضاعف الموازنات لتفعيل دبلوماسيته ودعم قوى الضغط والتأثير على سياسات العالم الإسلامي من أجل انتهاج النموذج اللبرالي الأمريكي الموالي لإسرائيل باسم نقل التجربة الديمقراطية.

6. لا تزال التقارير الرسمية الفرنسية الصادرة من وزارة الشغل تصرح بأن كوادر النساء تتقاضى أجورا تقل 30 بالمائة عن أجور زملائهم من كوادر الرجال الذين يتساوون معهن في الشهائد والخبرات.

د. محمد المستيري

المعهد العالمي للفكر الإسلامي، باريس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق