وحدة الإحياءشذور

الخصائص الجمالية في الحديث النبوي الشريف

إن الحديث عن الخصائص الجمالية في الحديث النبوي الشريف؛ معناه البحث في بلاغة الحديث النبوي والكشف عن خصائصه وصفاته البلاغية، وسماته الأسلوبية، وذلك لأن الجمال من أبرز صفات البلاغة، ومن أظهر مميزاتها، فهي تقدم الكلمة والكلام بأسلوب جمالي جامع للفكر ومثير للمشاعر. والبلاغة كعلم اهتمت منذ نشأتها بالبحث عن الخصائص الجمالية والأسلوبية التي تميزت بها النصوص الأدبية بصفة عامة والقرآن الكريم بصفة خاصة. والحديث النبوي نص أدبي بلغ الذروة من البيان والجمال، ولا يرتفع فوقه في مجال الأدب الرفيع إلا كتاب الله. فليس من العجيب أن يوليه العلماء منذ القديم أهمية بالغة، للكشف عن المعالم الجمالية في لفظه ومعناه وصوره وتراكيبه.

وقد حوت أحاديث الرسول، صلى الله عليه وسلم، صنوف البلاغة، وألوان الجمال والفصاحة، وكانت من أبرز مظاهر عظمته، وأبرز دلائل نبوته، وعبرت أدق تعبير عن سمو نفسه، صلى الله عليه وسلم، وأبانت عن المنبع العذب الذي نهلت منه. وقد تبارى العلماء والبلغاء في وصف فصاحته، وما امتاز به كلامه، صلى الله عليه وسلم، من جمال وبلاغة جعلته يتربع على قمة الأساليب البشرية. ومن أفضل ما قيل في ذلك ما سجله الجاحظ رائد البلاغة العربية حيث يقول: “وهو الكلام الذي قل عدد حروفه، وكثر عدد معانيه وجل عن الصنعة ونزه عن التكلف… واستعمل المبسوط في موضع البسط، والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي. فلم ينطق إلا عن ميراث حكمته، ولم يتكلم إلا بكلام قد حف بالعصمة، وشيد بالتأييد، ويسر بالتوفيق… ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعا، ولا أصدق لفظا، ولا أعدل وزنا، ولا أجمل مذهبا، ولا أكرم مطلبا، ولا أحسن موقعا، ولا أسهل مخرجا، ولا أفصح عن معناه، ولا أبين في فحواه من كلامه، صلى الله عليه وسلم، كثيرا[1].”

وسيكون حديثنا منصبا على جملة من الأسس الجمالية والفنية، تحققت في أحاديثه، صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن نحددها في العناصر الآتية:

أ. جمالية في الألفاظ: وتبرز هذه الجمالية في عبقريته، صلى الله عليه وسلم، وبراعته الفائقة في اختيار ألفاظه ومراعاته الفروق الدقيقة بين معاني الكلمات.

ب. جمالية في المعنى: وتبرز هذه الجمالية في قدرته، صلى الله عليه وسلم، على التعبير عن المعاني الكثيرة بعبارات تتسم بالإيجاز الشديد والكثافة الدلالية والسمو في المعاني.

ج. جمالية في التصوير: وتتجلى هذه الجمالية في قدرته، صلى الله عليه وسلم، على التعبير والتصوير والتشبيه، مما يدل على موهبة فذة، تشعر القارئ والسامع على السواء كأنه أمام لوحات فنية ممتعة.

1. جمالية الألفاظ

اهتمت الدراسات البلاغية العربية القديمة بجمالية اللفظ اهتماما بالغا؛ إذ اعتبرت جمال اللفظ وإعجازه، وجمال الأدب (شعره ونثره) في بلاغة اللفظ وعذوبته. وقد أرجع علماء البلاغة جمال اللفظ المفرد وفصاحته إلى أمور عدة عرضها ابن سنان في كتابه: (سر الفصاحة) نذكر منها:

ـ أن تكون حروف الكلمة متباعدة المخارج..

ـ أن لا تكون الكلمة غريبة متوعرة أو وحشية لا يمكن استيعابها وفهمها..

ـ ألا تكون الكلمة عامية مبتذلة تنفر منها الأسماع والأذواق..

ـ أن تكون الكلمة معتدلة في عدد حروفها[2].

هذه بعض الشروط التي وضعها البلاغيون لتجميل اللفظ وتزيينه وتنقيحه وتهذيبه. وهي كلها شروط تخدم الجمال الفني والصياغة الأدبية؛ إذ تركز كلها على اختيار الألفاظ، وسلامة النطق، وتحقيق النغم والانسجام الصوتي، إلا أن عبد القاهر الجرجاني رفض أن يكون للكلمة المفردة أية مزية أو فضيلة إلا إذا استخدمت في سياق ما، وانسجمت مع ما قبلها وما بعدها؛ فالكلمة المفردة مجرد علامة اصطلاحية للإشارة إلى الشيء، وإنما تكتسب الكلمة جمالها ودلالتها من علاقاتها بالكلمات السابقة لها أو اللاحقة بها، بحيث يصبح لها وظيفة نحوية وأخرى بلاغية ترتبط بالإمتاع والفائدة. يقول عبد القاهر الجرجاني: “لا نظم في الكلم ولا ترتيب، حتى يعلق بعضها ببعض، ويبنى بعضها على بعض، وتجعل هذه بسبب من تلك. هذا ما لا يجهله عاقل، و لا يخفى على أحد من الناس[3].”

ولتوضيح فكرته والاستدلال على صحتها يقول في موضع آخر: “وجملة الأمر أنا لا نوجب الفصاحة للفظة مقطوعة مرفوعة من الكلام الذي هي فيه، ولكنا نوجبها لها موصولة بغيرها، ومعلقا معناها بمعنى ما يليها. فإذا قلنا في لفظة (اشتعل) من قوله تعالى: ﴿واشتعل الرأس شيبا﴾ (مريم: 3)  أنها في أعلى مرتبة من الفصاحة، لم توجب تلك الفصاحة لها وحدها، ولكن موصولا بها (الرأس) معرفا بالألف واللام، ومقرونا إليهما (الشيب) منكرا منصوبا[4].”

ونعتقد أن المنهج العلمي الموضوعي هو الذي يسعى إلى استخلاص الجمال البلاغي في اللفظ المفرد، ويبحث عنه أيضا في التأليف والنظم، حيث ترتبط الألفاظ بعضها ببعض بعلاقات نحوية وبلاغية؛ فجمال الألفاظ له أثر كبير في إمتاع النفوس وإطرابها، وتهيئتها لقبول تأثير المعاني التي تتضمنها. ولا تبلغ الألفاظ مداها في الجمال والإبلاغ والتأثير إلا إذا وضعت في تركيب معين ونظمت في سياق خاص، وارتبط بعضها ببعض داخل العبارة أو الجملة. يقول حسين جمعة: “فالكلمة في العربية ذات ظلال وإيحاءات كثيرة، وهي، أيضا، ذات طبيعة علمية؛ إذ تعبر عن الحقائق كيفما كانت، وفي أي اتجاه اتجهت. فكيفما قلبتها لبت لك ما تبتغي وكأنها لا تنفذ، بل كأن كلام الله تعالى الذي لا ينفذ يصدق عليها في قوله سبحانه: ﴿قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفدَ البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا﴾ (الكهف: 104). فالكلمة في العربية تقوم على معان نحوية وصيغ بلاغية لا نظير لها في اللغات الأخرى. وكلما تأمل فيها الباحث العارف والعالم بأسرارها، وأدرك إشاراتها وغاياتها البعيدة والقريبة تأكد له ذلك[5].”

وقبل أن نشرع في الحديث عن جمالية الألفاظ في الحديث النبوي الشريف، نشير إلى أنه، صلى الله عليه وسلم، كان يمتلك معجما لغويا كبيرا، ساعده على انتقاء الألفاظ المناسبة لأحاديثه. فهو من قريش، ونشأ في بني سعد بن بكر. فجمع بذلك بين فصاحة مكة مهد الصبا، وفصاحة بني سعد البدوية المتينة.

وقد تميزت مفرداته، صلى الله عليه وسلم، بالفصاحة والجزالة والفخامة، والوضوح في الدلالة والخلوص من كل بشاعة أو عيب. فقد جمع في كلامه بين جزالة البداوة وفصاحتها، ورقة الحضارة وعذوبتها، لذلك جاء كلامه جزلا في رقة، متينا في عذوبة. أما تلك الألفاظ الغريبة التي يوردها أهل الغريب، والتي صح نسبتها إلى النبي الكريم، فكان مردها إلى اختلاف المخاطبين الذين خاطبهم الرسول، صلى الله عليه وسلم، فقد كان منهم أعراب موغلون في البداوة، وأصحاب منغمسون في رقة الحضارة، فخاطب كل طائفة بما يوافق أحوالهم. يقول محمد الخطابي مبينا سبب ورود الغريب في حديثه، صلى الله عليه وسلم: “إنه، صلى الله عليه وسلم، بعث مبلغا ومعلما، فهو لا يزال في كل مقام يقومه وموطن يشهده يأمر بمعروف وينهى عن منكر، ويشرع في حادثة ويفتي في نازلة، والأسماع إليه مصغية والقلوب لما يرد عليها من قوله واعية… وقد يتكلم، صلى الله عليه وسلم، في بعض النوازل بحضرته أخلاط من الناس قبائلهم شتى ولغتهم مختلفة، ومراتبهم في الحفظ والإتقان غير متساوية، وليس كلهم يتيسر لضبط اللفظ وحصره، أو يتعمد لحفظه ووعيه، وإنما يستدرك المراد بالفحوى ويتعلق منه بالمعنى ثم يؤديه بلغته، ويعبر عنه بلسان قبيلته[6].”

وإذا انتقلنا الآن للحديث عن جمالية ألفاظ الحديث النبوي الشريف، نقول إنه، صلى الله عليه وسلم، اتصف ببراعة فائقة في اختيار ألفاظه، ومراعاته الفروق اللغوية الدقيقة بين معاني الكلمات، فيضع كل نوع منها: “موضعه الأخص الأشكل به الذي إذا أبدل مكانه غيره، جاء منه إما تبدل المعنى الذي يكون منه فساد الكلام، وإما ذهاب الرونق الذي يكون معه سقوط البلاغة[7].” فقد يشترك لفظان في معنى واحد، ولكن أحدهما أدق من الآخر في الدلالة على المعنى، وأقدر على التعبير عنه من اللفظ الآخر؛ لأن لكل لفظة منهما “خاصية تتميز بها عن صاحبتها في بعض معانيها، وإن كانا قد يشتركان في بعضها[8].” ولأجل بيان ذلك نأتي بنماذج:

يقول الرسول، صلى الله عليه وسلم، في حديث طويل هذا طرف منه: “إن ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا، فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير[9].” فلفظ (الغيث) في الحديث مختار من بين ألفاظ كثيرة قريبة منها، كلفظ: (الطل والندى والرذاذ والودق والوابل) إلى غير ذلك من أسماء المطر، بحيث يؤدي المعنى المراد على أدق وجه وأوفاه بما لا تؤديه الألفاظ الأخرى. لقد قلنا سابقا إن لكل نوع من المعنى نوع من اللفظ هو به أولى وأنسب، وكان إلى الفهم أقرب، وكان السمع له أدعى والنفس إليه أميل. فلفظة (الغيث) تفيد المطر الذي يأتي عند الحاجة إليه[10]. ويأتي دائما ملائما نافعا غير مؤذ ولو كثر. فكما أن الغيث يحيي الأرض الميتة فتظهر فيها الأشجار والأزهار، فكذلك علوم الدين تحيي القلب الميت. والرسول، صلى الله عليه وسلم، إنما استعمل هذه اللفظة ليدل على اضطرار الخلق إليه، وشدة الاحتياج إليه. فالله تعالى قد أرسل رسوله رحمة للعالمين، يقول تعالى: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ (الاَنبياء: 101)، وليدل كذلك على الخيرية العالية التي يحملها الإسلام المشبه بالغيث. يقول القرطبي:”ضرب النبي، صلى الله عليه وسلم، لما جاء به من الدين مثلا بالغيث العام الذي يأتي في حال حاجتهم إليه، وكذا كان الناس قبل بعثته، صلى الله عليه وسلم، فكما أن الغيث يحيي البلد الميت، فكذا علوم الدين تحيي القلب الميت[11].”

ومن براعته، صلى الله عليه وسلم، في تنزيل اللفظ منزلته الأخص به، استعمال لفظ (جعل) بدل لفظ (أحس) في قوله: “من كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له[12].” فقد كان بإمكانه، صلى الله عليه وسلم، أن يقول (أحس بالفقر) بدلا من قوله (جعل الله فقره بين عينيه)، ولكن شتان بين العبارتين، وذلك لأن لفظة (جعل) أفادت من المعاني الدقيقة واللطيفة ما لا تفيده كلمة (أحس)؛ فالرسول، صلى الله عليه وسلم، عبر عنه بقوله: “جعل الله فقره بين عينيه” عن الإحساس الدائم المتجدد بالفقر على الرغم من الغنى، وعن الشعور بالاحتياج الدائم على الرغم من الاستغناء، وجعل هذه المشاعر حاضرة على نحو دائم؛ لأنها معلقة بين عيني صاحبها لا تحيد. يقول الشريف الرضي: “وهذا الكلام مجاز، والمراد به أن من جعل الدنيا همه، وقر عليها باله، وأعرض عن الآخرة بوجهه، وأخرج ذكرها من قلبه، وأقبل على تثمير الأموال، واستضخام الأحوال، عاقبه الله على ذلك بأن يزيده فقر نفس وضرع خد[13] فلا تسد مفاقره[14] كثيرة ما جمع وعدد، وعظيم ما أثل[15] وثمر. فكأنه يرى الفقر بين عينيه، فهو أبدا خائف من الوقوع فيه والانتهاء إليه، فلا يزال آكلا لا يشبع وشاربا لا ينقع[16]. فمعه حرص الفقراء، وله مال الأغنياء[17].”

وتتجسد لنا أيضا جمالية ألفاظ الحديث النبوي الشريف وبراعة الرسول، صلى الله عليه وسلم، في اختيار ألفاظه، وتمكنه الرفيع في التصرف بمفرداته مع مراعاة المقام وملاءمة السياق، قوله، صلى الله عليه وسلم، عندما اشتدت المعركة بين المسلمين والكافرين يوم حنين: “الآن حمى الوطيس[18]“؛ ومعنى الحديث (اشتدت الحرب). والوطيس: التنور أو هو حفرة تحفر فتملأ بالحطب فتوقد فيها النار للاشتواء. وكلمة (وطيس) مستعملة استعمالا مجازيا، ولو جئنا بلفظ آخر في معناه واستعملناه استعمالا مجازيا كذلك فقلنا (استعرت الحرب) أو (اشتعلت الحرب) لما أفاد من المعاني الدقيقة ما أفادته عبارة (حمى الوطيس). فقد شبه الرسول، صلى الله عليه وسلم، اشتداد المعركة في ساحة القتال باستعار النار في الوطيس. والحرب لا نار لها على الحقيقة، وإنما شبهت بالنار؛ لأنها تأكل أهلها كما تأكل النار حطبها. فالحديث يخيل للسامع أن صورة اشتداد المعركة في ساحة القتال شبيهة بصورة النار في التنور في حميمها وتوقدها، وهذا لا يوجد في عبارة (استعرت الحرب) وما جرى مجراها. فهذه العبارة من أجمل العبارات وأوقع الاستعارات، وتنم عن بصيرة فذة كامنة وراء هذا التعبير المجازي الجميل. يقول الشريف الرضي: “فقوله، عليه الصلاة والسلام، (الآن حمى الوطيس) وهو يعني حَمَس الحرب وعظم الخطب، مجاز؛ لأن الوطيس في كلامهم حفيرة تحتفر فيوقد فيها النار للاشتواء، وتجمع على وُطَس… ولا وطيس هناك على الحقيقة، وإنما المراد ما ذكرنا حر القراع وشدة المِصاع[19]، والتفاف الأبطال، واختلاط الرجال. ومن هنا قالت العرب أوقدت نار الحرب بين آل فلان وآل فلان. وقال الله سبحانه مخرجا الكلام على مطارح لسانهم ومعارف أوضاعهم: ﴿كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله﴾ (المائدة: 66). وتشبيه الحرب بالنار يكون من وجهين: أحدهما لحر مواقع السيوف، وكرب ملابس الدروع[20]، وحمي المعترك لشدة العراك وكثرة الحركات. والوجه الآخر أن يكون إنما شبهت بالنار؛ لأنها تأكل رجالها، وتفني أبطالها، كما تأكل النار شعلها وتحرق حطبها[21].”

2. جمالية المعاني

ويتجلى هذا الجمال في عمق معانيه، صلى الله عليه وسلم، وغناها بالدلالات البلاغية، وورودها في صور متعددة، كالتشبيه والاستعارة والنهي والأمر، وتكثيف المعنى في عبارات قليلة. وهو ما وصف الرسول، صلى الله عليه وسلم، به نفسه بقوله: “بعثت بجوامع الكلم[22]“؛ والمقصود بجوامع الكلم: الإيجاز. والإيجاز عند البلاغيين من شروط جمال الكلام وبلاغته. ومعناه: “تقليل الكلام من غير إخلال بالمعنى[23]“؛ فلا يكون في الكلام إيجاز حتى تأتي الألفاظ على قدر المعاني لا تزيد عنها ولا تنقص، وإنما الشرط أن يتم ذلك من غير إخلال بالمعنى، وإلا كان الكلام تقصيرا. فالإيجاز بلاغة وجمال لأنه لا يظهر فيه إخلال بالمعنى المدلول.

وإذا تأملنا كلام الرسول، صلى الله عليه وسلم، نجد أن أحاديثه، وإن نظمت بألفاظ قليلة، لكنها اشتملت على كثير من المعاني والحقائق والأسرار الجمالية. وقد سلم كلامه عليه السلام بهذا الإيجاز من الإطناب المؤدي بالسامع إلى السآمة والملل، ومن الوقوع في العيب والخطأ. يقول محمد الخطابي: “وقد أمد الله رسوله جوامع الكلم التي جعلها ردئا لنبوته، وعلما لرسالته، لينتظم في القليل منها علم الكثير، فيسهل على السامعين حفظه ولا يؤودهم حمله[24].” ونقدم نماذج من أحاديث الرسول، صلى الله عليه وسلم، بلغت السقف في جمال المعنى وسموه، واعتبرها البلاغيون، من منظور بلاغي بياني، أمثالا نبوية سائرة، لأنها ذاعت وشاعت وطبقت شهرتها الآفاق.

ـ فمن جوامع كلامه، صلى الله عليه وسلم، قوله: “حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات[25]. لقد جمع هذا الحديث من المعاني الجميلة ما تتقاصر دونه ملكات البيان، فهو يوحي بصورة بلاغية جميلة أطلق عليها علماء البيان الاستعارة المكنية. وقد ورد الحديث في مجال الحث على ترك الشهوات والمعاصي، وإن مالت إليها النفوس، والحرص على الطاعات وإن كرهتها النفوس. ففي الحديث يوضح لنا النبي الكريم أن الطرق المفضية إلى الجنة كلها شاقة، ومسالكها صعبة ووعرة. فهي قد حفت بالمكاره والأشواك، والمراد أن جميع الأفعال التي توصل إلى الجنة يتطلب فعلها مشقة وجهدا وصبرا. وفي هذا توجيه بليغ إلى أن كل من يريد الجنة عليه أن يتزود في رحلته الشاقة المحفوفة بالأشواك والمخاطر، وخير زاد يتزود به الإنسان تقوى الله ومقاومة شهوات النفس وهواها. ثم يبين لنا سهولة طريق النار؛ لأن الأفعال المفضية إليها ملائمة لطباع الناس، لما فيها من لذائذ وشهوات وإغراءات. يقول بكري شيخ أمين مبينا الأسرار الجمالية في هذا الحديث: “حفت: أحيطت، من حفيف الأشجار، وهو صوت أوراقها عندما تهزها الرياح، واللفظ خفيف الوقع على السمع، وله عذوبته الموسيقية، وجرسه الجميل، وكذلك المعنى الذي يعبر عنه به. ولكن بمقدار هذه النعومة يكون التغلغل الخطر العميق والبعيد، فالرياح لا نراها، ولكن بها تتساقط أوراق الخريف، وتتلف الزروع، وتقتلع الأشجار إذا تمادت ريحا صرصرا عاتية. ولذلك جاءت بصيغة الفاعل المجهول الذي يفعل كل شيء، ولكن من وراء ستار، ويترك لسواه يظهر بما ليس فيه، نافعا أو ضارا، جميلا وغير جميل، ومن ذلك الشهوات تدب دبيب النمل، وتسري مسرى الدم، وترتدي الثوب الجميل، وفي باطنها السم الزعاف والمكاره… وهي معركة الخير والشر دائمة لا تنتهي أبدا[26].”

ـ ومن جوامع كلمه، صلى الله عليه وسلم: “كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل[27].” الحديث قبس من قبسات النبوة، وهو يوحي بصورة جميلة هي التي أطلق عليها علماء البيان التشبيه البليغ. حيث يشبه، عليه السلام، مقام المؤمن في الدنيا بحال رجل مقيم في بلاد غربة. فكما لا نجد في الغريب ركونا إلى الأرض التي حل فيها أو أنسا بأهلها، ولكنه مستوحش في مقامه مهما طالت إقامته لا يشغل نفسه بدنيا الناس، بل يكتفي باليسير منها. فكذلك حال المؤمن مع الدنيا، فلا ينبغي له أن يتخذها وطنا أو مسكنا فيطمئن فيها، وإنما ينبغي أن يكون فيها كالغريب مهما طالت إقامته في البلد الذي اغترب فيه، فإنه ليس من أهله وسيعود يوما ما إلى بلده، فهو دائما على جناح سفر يهيئ جهازه للرحيل: “ومن كان في الدنيا كذلك، فلا هم له إلا التزود بما ينفعه عند عوده إلى وطنه، فلا ينافس أهل البلد الذي هو غريب بينهم، في عزهم، ولا يزعج من الذل عندهم[28]“؛ فالحديث احتوى معاني عظيمة، وحكما بالغة. فهو يشير إلى قصر الأمل في الدنيا التي أغرت الناس وألهتهم عن آخرتهم، فاتخذوها وطنا ومحلا لإقامتهم.

  ـ ومن جوامع كلمه، صلى الله عليه وسلم: “المؤمن مرآة المؤمن[29].” هذا الحديث يقوم على ركيزتين جماليتين: الأولى: التشبيه، والثانية: الإيجاز. فقد تألف الحديث من ثلاث كلمات فقط، ولكنه حوى كثيرا من المعاني. فالنبي الكريم بهذه العبارة الموجزة يشبه المؤمن في علاقته بأخيه المؤمن بالمرآة التي تكشف العيوب والمحاسن، وكذلك المؤمن يكشف لأخيه ما به من عيوب ومحاسن، ويصدق أخاه النصيحة ويريه: “مواقع رشده ويطلعه على خفايا عيبه، فيكون كالمرآة له ينظر فيها محاسنه فيستحسنها ويزداد منها، ويرى مساوئه فيستقبحها وينصرف عنها[30].” والحديث بلغ الغاية في التصوير وفي تحقيق الدلالات الكثيفة والمعاني الجميلة. فالمسلم يعمل عمل المرآة لصاحبها، فالمرآة تري الناظر الحسنات والسيئات بلطف، وكذا المسلم يبين لأخيه المسلم عيوبه ويبصره بأعماله بأسلوب حسن وكلام لطيف. والمرآة لا تكشف العيوب والمحاسن إلا لحاملها، وكذلك المسلم لا يفضح أخاه، بل يناصحه في السر. وكلما كانت المرآة أكثر صفاء وأكثر نقاء، كان عكسها للصورة أكثر وضوحا. ولذلك فالمؤمن لا يظهر لأخيه المؤمن عيوبه، ويخفي المحاسن أو العكس، وإنما هو كالمرآة يعكس الصورة الصحيحة من غير غش ولا خداع.

هذا غيض من فيض مما يزخر به البيان النبوي من جماليات لا حصر لها في المعاني والأفكار. وتبرز هذه الجمالية في استخدام الألفاظ القليلة للتعبير عن المعاني الكثيرة، مع وضوح في الألفاظ ودقة في التعبير، وتكثيف في الصورة. وبهذه الأمور وغيرها كان الحديث النبوي حاجة جمالية لعلماء البلاغة يبحثون في ألفاظه ومعانيه وأساليبه عن أسراره الجمالية مما أفاد وأثرى البلاغة العربية.

3. جمالية التصوير

سلك الرسول، صلى الله عليه وسلم، طرقا فنية متعددة، توخى منها في المقام الأول، توجيه الإنسان المسلم توجيها عقديا وتربويا وأخلاقيا، ومن بين هذه الطرق: التعبير بالصورة؛ ونقصد بالصورة ذلك التركيب اللغوي الذي تمتزج فيه الألفاظ بالمعاني في سياق بياني خاص وموح بمعان ودلالات، تحمل التأثير والتوصيل لتخلق انفعالا لدى المتلقي ومشاركة معه. إن وظيفة الصورة لا تنحصر في توضيح المعنى أو تحققه؛ لأن المعنى يمكن أن يتحقق بدونها أو بغيرها، وإنما تتجاوز ذلك إلى خلق معان خاصة غنية بالإيحاءات، التي لا يمكن أن يفي بها التعبير الحقيقي أو المباشر، لتحدث أثرا واستجابة في نفوس متلقيها.

وقد اهتمت الدراسات البلاغية القديمة بموضوع الصورة الفنية، وبتحديد ماهيتها ووظيفتها في العمل الأدبي بشكل عام، واهتمت كل الاهتمام بالتحليل البلاغي للصورة القرآنية وتمييز أنواعها وأنماطها المجازية بشكل خاص، باعتبار أن القرآن كان وسيظل المثل الأعلى للبلاغة العربية. وقد وجه كثير من العلماء عنايتهم إلى الآثار النفسية والجمالية التي تحدثها الصورة في نفوس متلقيها، ومدى قدرتها على تبليغ المعاني وتمثلها. ويعد عبد القاهر الجرجاني من أبرز النقاد والبلغاء العرب الذين اعتنوا بالصورة الفنية وأثرها في النص الأدبي، وبين النواحي الفنية والجمالية فيها، ووقف عند ماهيتها ومكوناتها، وعلاقتها بنفسية وذوق المبدع والمتلقي. يقول عبد القاهر الجرجاني: “واعلم أن مما اتفق العقلاء عليه أن التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني، أو برزت هي باختصار في معرضه، ونقلت عن صورها الأصلية إلى صورته، كساها أبهة، وكسبها منقبة، ورفع من أقدارها، وشب من نارها، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها، ودعا القلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفا، وقسر الطباع على أن تعطيها محبة وشغفا[31].”

فعبد القاهر الجرجاني في هذا النص يربط الصورة بدوافع نفسية، بالإضافة إلى الخصائص الذوقية، حيث تتضافر هذه الخصائص فيما بينها في نسج متين السبك، لتعطي الصورة شكلا ورونقا وعمقا مؤثرا. وحتى لا نوغل في الحديث عن مفهوم الصورة الفنية ووظيفتها الجمالية، نتيجة توسع الدراسات البلاغية في بحثها، ننتقل الآن للحديث عن الصورة الفنية في الحديث النبوي الشريف. فقد حفلت الكثير من أحاديثه، صلى الله عليه وسلم، بالتصوير، واتكأ عليه، صلى الله عليه وسلم، كفعالية فنية ترمي إلى التأثير في السامعين، واستثارة انفعالاتهم، فاكتسب بذلك الحديث الشريف قيمة فنية جمالية.

وقد استخدم عليه السلام وسائل التصوير المختلفة من كناية وتشبيه، واستعارة ومجاز، وغيرها من الأساليب. وهي كلها أساليب تعتمد على إبراز المعاني في هيئة مجسمة وصور حية متماسكة ومتحركة في آن واحد معا، وكأننا أمام لوحة فنية ممتعة. ولابد من تأكيد حقيقة هامة وهي أن الصورة الفنية في الحديث الشريف كما في القرآن الكريم تعتمد الوضوح، وتسعى إليه مهما كانت احتمالات تعدد المعنى. وقد كان لعلماء البلاغة قديما دور كبير في إبراز الشكل الفني للحديث الشريف، ونخص بالذكر الشريف الرضي في كتابه “المجازات النبوية”؛ حيث كشف عن جوانب كثيرة من معالم التصوير الفني في الحديث الشريف. ونقدم الآن بعض تطبيقات الصورة الفنية في حديثه،عليه الصلاة والسلام:

ـ من الصور الفنية في الحديث الشريف ما ذكره الرسول، عليه السلام، لأصحابه وهم يتهيأون لخوض معركة بدر الكبرى حين قال: “هذه مكة قد رمتكم بأفلاذ[32] كبدها[33].” ومناسبة هذا الحديث أنه، صلى الله عليه وسلم، عندما علم بخروج قريش لمحاربته في معركة بدر الكبرى، سأل رجلين كانا يسقيان الماء لقريش عن أشراف مكة المشاركين في المعركة، فأخبراه بخروج نخبة من الأشراف من بينهم: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف وغيرهم كثير من أشراف قريش[34].

فقال الرسول، صلى الله عليه وسلم، قولته هذه: “هذه مكة قد رمتكم بأفلاذ كبدها” وفي رواية أخرى: “قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها”. والحديث في معناه الحقيقي والمباشر يفيد أن مكة دفعت إلى قتال المسلمين نخبة من أبنائها، وساداتها، وفرسانها، وممن يعول عليهم في الرأي والحرب. وهذا التعبير لا يثير أي انفعال أو تأثير عكس التعبير المجازي الاستعاري؛ فالاستعارة في الحديث كشفت عن إيحائية جديدة واستحدثت معنى جديدا في اللفظ، وجعلت العبارة ذات إيحاءات ودلالات عاطفية وإنسانية لم يكشف عنها المعنى الحقيقي. يقول عبد القاهر الجرجاني مبينا القيمة الفنية للاستعارة وما تحدثه من تأثير: “فإنك لترى بها الجماد حيا ناطقا، والأعجم فصيحا، والأجسام الخرس مبينة، والمعاني الخفية بادية جلية… إن شئت أرتك المعاني اللطيفة التي هي من خبايا العقل كأنها قد جسمت حتى رأتها العيون، وإن شئت لطفت الأوصاف الجسمانية حتى تعود روحانية لا تنالها إلا الظنون[35].”

والحديث يوحي بصورة فنية جميلة أطلق عليها علماء البلاغة “الاستعارة المكنية”؛ فهو يوحي بصورة الأم التي تلم بها النكبات، وتعصف بها الأهوال فتضطر مكرهة لدفع أبنائها إلى موقف قد تفقدهم فيه، فتفقد نفسها. فمكة تتبوأ في هذا التعبير مكانة الأم الحنون، والضلوع الحانية، والأفلاذ يمثلون الأبناء البررة الذين قذفت بهم الأم لحمايتها والذود عنها، وهم مستعدون لبذل الأرواح والتضحية بالأنفس من أجلها. يقول الشريف الرضي: “فكأنه، صلى الله عليه وسلم، أقام مكة مكان الحشا[36]، التي تجمع هذه الأعضاء الشريفة، كالقلب والنياط[37]، والكبد والفؤاد، وجعل رجال قريش كشعب الكبد التي تحنو عليها الأضالع، وتجتمع عليها الجوانح، وقاية لها، ورفرفة عليها[38].”

فهذه الصورة الجميلة، وهذه الانفعالات المختلفة التي توحي بها العبارة المجازية، هي التي دفعت بالشريف الرضي إلى القول بأنها “من أنصع العبارات وأروع الاستعارات[39].” ولكنها لم تستمد نصاعتها وجمالها من كونها تشبيها حذف أحد طرفيه، وإنما اكتسبتها بما أثارته من قيم جمالية ومشاعر نفسية.

ـ ومن الصور الفنية في الحديث الشريف قوله، صلى الله عليه وسلم: “الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية، خيارهم في الإسلام إذا فقهوا[40].” فمتأمل هذا الحديث لا يخفى عليه ما يشير إليه المعنى المباشر أو المعتاد للحديث. فكلمة الناس التي وردت في الحديث تشمل الناس جميعا: العربي والفارسي والهندي والرومي، وغيرهم. وقد جرت في حياة الناس وأعراف الشعوب مقاييس يتم من خلالها تقسيم الناس إلى طبقات، وهذه المقاييس منها ما يعود إلى الحسب، ومنها ما يعود إلى النسب، أو الحياة أو المال. والمجتمع العربي قبل الإسلام لم يكن بعيدا عن تلك التصنيفات، فكانوا كذلك يصنفون الناس إلى سادة وعبيد. وقد حرص الإسلام على تأصيل قواعد وأسس يتم من خلالها التفاضل بين الناس، فأمر أن يكون المقياس الأول هو الدين والأخلاق والعلم.

وحين نتدبر الملامح الفنية التي ارتفعت بهذا الحديث من حيث الصورة، وحددت خطوطها وألوانها، سنجد أن النبي، صلى الله عليه وسلم، استعمل أسلوب التشبيه. ومعلوم أن الوظيفة البلاغية للتشبيه تقوم على تصوير المعنى، وتقديمه تقديما محسوسا، وذلك عن طريق ربط الصور الحسية، بأخرى أشد منها تمكنا في الصفات الحسية، وهذا ما يجعله قريبا من مجال الإدراك الإنساني، ويجعله أكثر قدرة على التأثير والتأثر[41]؛ والصورة الفنية في الحديث طرفها الأول هو الناس (المشبه) والطرف الآخر هو المعادن (المشبه به) والأداة والصفة المشتركة لم ينص عليهما، ولذلك فهو تشبيه بليغ، فحذفهما يوحي بالالتحام والارتباط بين طرفي الصورة. وإذا أمعنا النظر وجدنا أن هذا الربط بين الناس والمعادن يتم من جوانب متعددة بواسطة التصوير ليبين تمايزهما حسيا من جهة اللون: لون الذهب والفضة، ومن خلالهما تتضح ألوان وطبيعة المعادن الأخرى التي لم يذكرها الحديث.

وهذا الاختلاف بين لون وطبيعة المعادن تدفع المتلقي ليقارن بينها وبين المشبه أي أنواع الناس. فالناس كالمعادن بعضهم نادر ونفيس كالذهب والفضة، وكثير منهم كالصفيح. فإذا كان الإنسان معدنه كالذهب، فإن ذلك يعني أن الروح التي تملكت ذلك الجسد طاهرة ونقية ومتسامية كالذهب. وإذا كان معدنه كالصفيح، فإن ذلك يعني أن الروح التي تملكت ذلك الجسد قد هبطت وتدنت حتى علاها الصدأ. يقول الشريف الرضي: “إنه عليه الصلاة والسلام شبه الناس بالمعادن التي تكون في قرارات الأرض، فلا يحكم على ظواهرها حتى يستخرج دفائنها، ويستنبط كوامنها، فيكون منها اللجين[42] والنضار[43] ويكون منها النفط والقار[44]. فكذلك الناس لا يجب أن يحكم على مجاليهم، ولا يقطع على بواديهم حتى يخبروا ويعرفوا، ويثاروا ويجثوا فيخرج البحث جواهرهم، ويمحص الامتحان مخابرهم، فيتبين حينئذ كرم النحائز[45]، وطيب الغرائز، وتكشف منهم الطرائق، ولئيم الخلائق[46].”

فالناس، إذن، معادن بعضهم نادر نفيس، كالذهب والفضة، وكثير منهم كالصفيح. ومعادن الناس تختلف حسب تربيتهم وأخلاقهم، فكلما صلحت التربية زادت قيمة معدنهم. ومعادن الناس ليس لها علاقة بالجنس أو اللون، أو الحسب، أو النسب، أو الغنى، أو الفقر. إن المقياس الحقيقي للتفاضل بين الناس نابع من قيمة المعدن؛ أي من ذات الإنسان وقيمه: من مثل الإيمان، والتقوى، والعلم.

إن هذه الإيحاءات الجميلة التي يوحي بها الحديث، والانفعالات المختلفة والمتفاوتة التي يوشي بها، تنم عن بيان رائع وإحساس كبير بالجمال، وقدرة فائقة على تشكيل الصور الفنية المؤثرة في السامعين. فهو، صلى الله عليه وسلم، خبير بالمشاعر والأحاسيس التي تثيرها كل لفظة وكل معنى وكل تصوير.

وننهي دراستنا عن الخصائص الجمالية في الحديث الشريف، والدراسة في حقيقتها طويلة وممتعة، وقد حرصنا خلالها على كشف الكثير من الأسرار الجمالية التي تضمنها حديثه، صلى الله عليه وسلم؛ ونقصد بالجمال الأدبي تلك الخصائص الأسلوبية والبلاغية التي تعطي النص ماهيته الفنية والجمالية. وقد مكنتنا هذه الدراسة من الوقوف على خصوصية الفصاحة والبيان التي أوتيها النبي الكريم، وما كان من سلاسة ألفاظه وبداعة صوره مع الغاية في إيجاز اللفظ ووضوح المعنى.

الهوامش


[1]. الجاحظ، البيان والتبيين: تحقيق فوزي عطوي. بيروت: دار صعب، 2/221.

[2]. ابن سنان الخفجي، سر الفصاحة، وما بعدها. بيروت: دار الكتب العلمية، لبنان. ط1:(1402ﻫ/1982م)، ص64.

[3]. عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، تحقيق محمود ومحمد شاكر. مكتبة الخانجي القاهرة. ط2، (1410ﻫ/1989م). ص 55.

[4]. دلائل الإعجاز، م، س، ص402، 403.

[5]. حسين جمعة، في جمالية الكلمة: دراسة جمالية بلاغية نقدية نقدية، دمشق: منشورات اتحاد الكتاب العرب. 2002م. ص55.

[6]. محمد الخطابي، غريب الحديث، نقلا عن كتاب غريب الحديث: أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي. مقدمة الكتاب. ص: ب. ج1. لبنان: دار الكتاب العربي، ط1 ( 1384ﻫ/1964م)، ص7.

[7]. محمد الخطابي، بيان إعجاز القرآن، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن.تحقيق محمد خلف الله و محمد زغلول سلام. مصر: دار المعارف، ط4، ص29.

[8] . المصدر نفسه.

[9] . نص الحديث: “إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجاذب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا. وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم. ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به.” رواه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب: بيان مثل ما بعث النبي، صلى الله عليه وسلم، من الهدى والعلم، برقم: 2282. والبخاري في كتاب العلم، باب فضل من علم وعلم، برقم: 79.

[10] . نذكر بعض أسماء المطر والفروق اللغوية الدقيقة بينها: (الطل: أخف المطر وأضعفه)، (الرش والطش: أول   المطر)، (الديمة: المطر الذي يدوم أياما في سكون بلا رعد ولا برق)، (الغيث: المطر الذي يأتي عند الحاجة إليه)، (الحيا: المطر الذي يحيي الأرض بعد موتها)، (العباب: المطر الكثير)، (الوابل: المطر الضخم القطر الشديد الوقع)، (الودق: المطر المستمر)، (الحميم: المطر الصيفي العظيم القطر والشديد الوقع)، (الولي: المطر بعد المطر).

[11] . ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، تحقيق عبد العزيز بن عبد الله بن باز ومحب الدين الخطيب. دار الفكر، 1/176.

[12] . رواه الترمذي في السنن. في أبواب صفة القيامة، برقم: 2583. ونص الحديث: “من كانت الآخرة همه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة. ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له”.

[13] . يقال ضرع فلان إلى فلان: إذا ذل واستكان وخضع. ونسبة الضرع إلى الخد أجود وأبلغ؛ لأن الخد هو موضع تكريم في الوجه. فإذا كان ذليلا كان الجسم كله ذليلا، وكانت النفس خاضعة مستكينة.

[14] . المفاقر: وجود الفقر. يقال: سد الله مفاقره؛ أي أغناه.

[15] . أثل؛ أي كثر ماله وأوفره ليستثمره.

[16] . لا ينقع: لا يرتوي، يقال نقع الماء غلة العطشان؛ أي رواه.

[17] . الشريف الرضي، المجازات النبوية: تحقيق مروان العطية ومحمد رضوان الداية، (1408ﻫ/1987م). ص111، 112.

[18] . أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الجهاد والسير، باب: في غزوة حنين، من حديث ابن عباس بن عبد المطلب، رقم الحديث: 1775.

[19] . المصاع: المضاربة بالسيف.

[20] . الكرب: تضييق القيد على المقيد. والمعنى ضيق الدروع على لابسها مما يسبب الحرارة في أجسادهم كالنار.

[21] . المجازات النبوية، م، س، ص39، 40.

[22] . صحيح البخاري، كتاب التعبير، باب: المفاتيح في اليد. ونص الحديث: “بُعِثتُ بجوامعِ الكَلِم، ونُصِرتُ بالرُّعب، وبينا أنا نائمٌ أُتِيتُ بمفاتيحِ خزائنِ الأرض؛ فوُضِعَت في يدي”. رقم الحديث:6611.

[23] . النكت: في إعجاز القرآن. ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن. تحقيق محمد زغلول سلام ومحمد خلف الله. مصر: دار المعارف، ط4، ص76.

[24] . محمد الخطابي، غريب الحديث، نقلا عن كتاب أبو الفرج عبد الرحمن شهاب الدين، جامع العلوم والحكم، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وإبراهيم باجس، مؤسسة الرسالة، ط3، (1412ﻫ/1991م)، ص76.

[25] . رواه مسلم في صحيحه، في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم الحديث: 2822. والترمذي، في أبواب صفة الجنة، رقم الحديث: 2684.

[26] . بكري شيخ أمين، أدب الحديث النبوي، بيروت: دار الشروق، ط4، ( 1399ﻫ/1979م)، ص169، 170.

[27] . رواه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب: قول النبي، صلى الله عليه وسلم: “كن في الدنيا غريب أو عابر سبيل”، برقم: 6053.

[28] . جامع العلوم والحكم، 2/378، 379.

[29] . رواه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب: في النصيحة والحياطة للمسلم، عن أبي هريرة. برقم: 4918. وأخرجه البيهقي في سننه أيضا في كتاب قتال أهل البغي، باب: ما في الشفاعة والذب عن عرض أخيه المسلم من الأجر.

[30] . المجازات النبوية، م، س، ص71.

[31] . عبد القاهر الجرجاني،  أسرار البلاغة، تحقيق محمد رشيد رضا، دار المطبوعات العربية. ص 92، 93.

[32] . الأفلاذ: جمع فلذة؛ أي القطعة.

[33] . المجازات النبوية، م، س، ص8. انظر كذلك: ابن هشام، السيرة النبوية، 3/164.

[34] . ابن هشام، سيرة النبي، تحقيق طه عبد الرءوف سعد، بيروت: دار الجيل، 1989، 3/164.

[35] . أسرار البلاغة، م، س، ص33.

[36] . الحشا: مفرد الأحشاء وهو ما دون الحجاب مما في البطن كله.

[37] . النياط: عرق متصل بالقلب من الوتين إذا قطع مات صاحبه. والنياط أيضا القلب.

[38] . المجازات النبوية، م، س ص9.

[39] . المصدر نفسه، ص8.

[40] . رواه البخاري في صحيحه، في كتاب الأنبياء، باب: قوله تعالى: ﴿لقد كان في يوسف وإخوته ءايات للسائلين﴾ (يوسف: 7). رقم الحديث: 3203. ورواه مسلم في صحيحه أيضا في كتاب: فضائل الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، باب: خيار الناس، برقم: 2526

[41] . جابر عصفور، الصورة الفنية، بيروت: المركز الثقافي العربي، ط3، 1992م، ص261، 262.

[42] . اللجين: الفضة.

[43] . النضار: الذهب.

[44] . القار: القطران.

[45] . النحائز: جمع نحيزة وهي الغريزة والطبيعة.

[46] . المجازات النحوية، م، س، ص127.

دة. مليكة حفان

أستاذة البلاغة القرآنية والمناهج النقدية في تحليل الخطاب
كلية الآداب-جامعة السلطان مولاي سليمان، بني ملال

مقالات ذات صلة

‫5 تعليقات

  1. إنه لمن الشرف العظيم أن يدرس الطالب مقالات في البلاغة خصوصا إذا صدرت من أستاذ أو أستاذة من طراز الدكتورة مليكة حفان

  2. رووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووعة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق