مركز علم وعمران للدراسات والأبحاث وإحياء التراث الصحراويتراث

الحمولات التربوية في الثقافة الحسانية

 إن الحديث عن الحمولات التربوية في الثقافة الحسانية يستدعي استحضار مجموعة من المكونات المتداخلة التي تؤدي مجتمعة وظائف تكرس وتوطد الجوانب التربوية، ويمكن ان نستحضر في هذا الباب المجتمع القبلي بشتى أطيافه وبمختلف مكوناته سواء منها الذكورية أو الأنثوية، دون أن نغيب المجال الذي يعيش فيه المجتمع القبلي والذي يخلف أثره البالغ في صنع وابتكار هذه الحمولات الثقافية مستحضرين في هذا الباب المقولة المعروفة التي تؤكد على أن " التربية هي وظيفة اجتماعية بالأساس"(1). وفي هذا الإطار، وبارتباط مع الحمولات الثقافية ، لا يمكن أن نغيب عنصرا مهما اعتبر تاريخيا حلقة قوية باعتباره خزانا لهذه الحمولات الثقافية، ويتعلق الأمر بالناشئة ( الأطفال) ، بحيث لا يمكن الحديث عن عملية الحمل الثقافي بين الأجيال في غياب هذه الفئة التي تعتبر محورية في هكذا مشاريع. وهكذا فإن عمليات الحمل الثقافي بين الأجيال هي التي تكرس هذه الحمولات التربوية وتعمل على ضمان استمراريتها وديمومتها من خلال القنوات المختلفة للثقافة سواء منها الثقافة الشعبية أو الثقافة العالمة .

 

1-  حوامل المقومات  التربوية في الثقافة الحسانية :

حضيت المرأة بمكانة متميزة في الثقافة الحسانية كحامل لمقومات التربية بارتباط مع المهمات الصعبة والمصيرية التي كانت موكولة لهاوالتي سطرت الملامح العامة للمجتمع القبلي في الصحراء. وقد تعددت هذه المهام بارتباط مع الوضعيات المختلفة التي كانت تعيشها. فقد كانت حاضرة في التقسيم الاجتماعي للعمل مع شقيقها وعضدها الرجل، حيث كانت تتحمل أعباء البيت أو الخيمة وتوابعهما الخارجية. لكن تبقى تربية الأبناء وتنشئتهم المهمة الرئيسية التي تتحملها المرأة بامتياز. بل كانت نساء معلومات تمتهن تربية النشءوالعلم. وتحضر المرأة بقوة  في تكريس  القيم وتمتينها لأنها كانت المرشحة الأولىفي الأسرة من خلال توظيف عملية تنشئة الأطفال وهو ما يشهد عليه التاريخ الاجتماعي للمنطقة منذ فترات طويلة ، لدرجة أن الرجال كانوا ينسبون إلى أمهاتهم بدل آبائهم  بفعل تأثيرهن البالغ في عمليات التربية والتكوين ، ناهيك عن دورهن الكبير في بناء الأسر " لخيام لكبارات" ، وبناء الرجال بدليل أن إسم من أسماء النساء هو " أم رجال" كما ساهمت في بناء القيم وإشاعتها، ونشر العلم(2)، متجاوزة بذلك دور المرأة في الغرب التي كانت ترمي بالرضع في الشارع ، حيث أشار جون لوك إلى أن الاتجاه السائد في فرنسا حتى حدود نهاية القرن 17 أن الرجل وزوجته لم يكونا قادرين على أن يتحملا تربية أكثر من ولد واحد (3).هذا في الحالات الدنيا، أما في الحالات القصوى فكانت النساء تقتل أبناءها مباشرة بعد عملية الوضع من خلال إحصاءات وردت  في فرنسا وبريطانيا وألمانيا ودول أوربية أخرى.

 وتستوقفنا في هذا الباب جملة من الملاحظات التي لا يمكن بأي حال من الأحوال المرور دون الإشارة إليها ،وأول هذه الملاحظات أن المرأة ،عبر التاريخ العام للمغرب عموما والصحراء خصوصا، لعبت،إلى جانب دورها المركب الذي يجمع بين التنشئة والنقل الثقافي ،لعبت أدوارا طلائعية في جانب حساس ومصيري بالنسبة لأجيال المغاربة الذين كتب لهم نهل المعرفة بجميع مراتبها سواء منها الدينية أو الدنيوية . ويتبين من خلال ما ورد أن جدة الشيخ إعزى ويهدى كانت على قدر من المعرفة والعلم ما خولها أن   تتابع السير التربوي والتكويني للشيخ .                                                           

من خلال هذه النتف اليسيرة عن ولادته ولقبه يظهر جليا مدى التأثير الذي سيحدثه جذع الخؤولة في تكوينه الشخصي والتربوي، ولعل الذي يشفع لنا في هذا التخريج الأولي ما ورد في المذكرات إذ يقول ما نصه : "  ثم ألقتني إلى المكتب وأنا ابن خمسة سنين ولازمته ولم أهرب منه يوما ولا عجزت عن حفظ الوحي ، فتعلمني الطهارة والصلاة ، وتدلني على تقوى الله سبحانه وتعالى ، وتلقنني ذكر سهل بن عبد الله : الله معي ، الله حافظي ، الله شاهدي ، الله ناظر إلي " (4) .

وتستوقفنا في هذا الباب جملة من الملاحظات التي لا يمكن بأي حال من الأحوال المرور دون الإشارة إليها ،وأول هذه الملاحظات أن المرأة ،عبر التاريخ العام للمغرب عموما والصحراء خصوصا، لعبت ، إلى جانب دورها المركب الذي يجمع بين التنشئة والنقل الثقافي ، لعبت أدوارا طلائعية في جانب حساس ومصيري بالنسبة لأجيال المغاربة الذين كتب لهم نهل المعرفة بجميع مراتبها سواء منها الدينية أو الدنيوية. وقد برز في هذا الباب نساء القبائل الزاوية التي برعت في المهمة من خلال مكابداتها اليومية مع تربية الأطفال.ولا يفوتنا أن نستحضر في هذا الباب إحدى النساء الزاويات ويتعلق الأمر بالسيدة خديجتو منت الهادي الباركية ( نسبة إلى أهل بارك الله) التي يشهد لها تاريخ وادي نون بمواقفها البارعة في باب التربية والتكوين للأطفال ( إناث وذكور)، بل وحتى النساء في مضارب البدو بأحواز وادي نون .

وقد كانت هذه العالمة تجوب مضارب البدو متبعة نفس النهج الموجود في كل مضارب البدو في الصحراء المبني على منهجية تدريس واحدة تتمثل في توفر كل فريك على معلم للتلميذات و التلاميذ يطلق عليه إسم  " الطالب" يتكلف يتعليمهم ،وفق طريقة تسلسلية ، الحروف والقراءة إما عن طريق التلقي الشفهي أو الكتابة في الألواح المصنوعة من الخشب. وقد كانت هذه العالمة ، (حسب الرواية الشفوية المأخوذة من أفواه النساء العجائز اللاتي استفدن من العملية) تتبع منهجية في التلقين والتعليم تتوزع بين الفترة الصباحية المخصصة للأطفال ذكورا وإناثا، ثم الفترة المسائية المخصصة للفتيات الصغيرات والنساء من مختلف الأعمار مما أعطى للعنصر النسوي قيمة مضافة في التعلم.

يتبين أيضا من خلال المشهد الذي يتميز به المجال موضوع الدراسة أن المجتمع القبلي الذكوري كان في حركة دائمة ومستمرة أكسبت الناس سلوكات غاية في الفراسة والفطنة والتعقل، وهي السلوكات الرائجة في الغرب حاليا وإن بمظاهر أخرى، وكانت تنتقل بطرق سليمة بين الأجيال في إطار عمليات النقل الثقافي، فكان الأطفال يدربون على مواجهة المجال بحمولاته من خلال عمليات : التدريب ، التحمل ، إدارة الوضعيات ، التمييز ، إتخاذالقرارات التي يمررها الرجال إلى الأطفال وخاصة الذكور منهم .هنا تظهر اهمية الموروث الثقافي واستحضاره وتعريف الأسر بخصائصه المميزة التي أصبحنا نفتقدها، في حين يتشبث بها الغرب حاليا، بل ومطبقا إحدى المقولات المحلية لدينا المبنية على حب العمل ونبد التكاسل من خلال مقولة  " خدم تيدم ركد تندم "، بحيث يمرر الغربيون حمولة هذه المقولة بمقولة أخرى شائعة لديهم مفادها أن " القيام باكرا يكسب المرء الصحة والغنى والحكمة" ، وهي حمولات  كان الآباء في المجتمع القبلي يثابرون من أجل تكريسها لدى الأبناء، إضافة إلى حمولات أخرى تهم التكوين العضلي والذهني.

 

2-  طبيعة الحمولات التربوية في الثقافة الحسانية :

ساهمت الصحراء بحمولاتها الطبيعية من مناخ وغطاء نباتي في رسم ملامح الحياة العامة للمجتمع القبلي التي بنيت على خاصية الندرة في المأكل والملبس والمسكن ، وهي إحدى مظاهر المميزة لجبرية الجغرافيا، لكن المجتمع القبلي عبر قناة شخوصه الذكورية والأنثوية الذين برعوا في خلق كارزمية حددت أهم ملامحها في اختراق هذه الجبرية الطبيعية ، من خلال خلق آليات التأقلم وإدارة الوضعيات المختلفة.

وقد أثبت التاريخ الطويل(5) للمجال الصحراوي أن المجتمع القبلي اكتسب خاصية الفراسة وقوة الذاكرة عبر قوة التخزين الكبير للمعلومة والحفظ الكبير ، وقد انعكس ذلك بصفة إيجابية على الحمولات التربوية التي كان يلقنها الكبار  للناشئة عبر عمليات النقل الثقافية اليومية التي تكون مصاحبة لعملية التنشئة التي تمرر فيها القيم والمبادئ الاجتماعية والثقافية والدينية، أو تمرر عبر عمليات النقل المبنية على التعلم واكتساب المعرفة في المؤسسات المخولة لذلك ويتعلق الأمر بالمسيد. فكانت ظاهرة الحفظ هي القناة التي تمر منها عملية اكتساب المعرفة الدينية والدنيوية. وقد كانت الأسرة والمسيد شريكان متكاملان في تأدية المهمة لصالح الأطفال ذكورا وإناثا، حيث كانت ظاهرة التمكن من اللغة تمر عبر مجموعة من المحطات أولها تصحيح النطق بالحروف وهي عملية تتم مراقبتها على مدار الساعة في المداشر والفركان من طرف الآباء والأمهات الذين يراقبون نطق الأطفال أثناء اللعب أو أثناء الحديث العائلي من خلال الجلسات التي تتم في البيت أو في الخيمة . وقد كانت هذه العملية تؤدي إلى عملية أخرى ممثلة في اكتساب الطلاقة في اللسان والخطابة عبر المحفوظات من أشعار وحكم ومقولات مأثورة من منطلق أن مجتمع الصحراء هو مجتمع شفهي حيث تشكل الرواية الشفوية القناة التي تمرر الأفكار والقيم  . من هنا نصل إلى محصلة مهمة مفادها أن ليست هناك حدود فاصلة بين التربية والتعليم فكانت الناشئة تتلقى المخزونين في سلة واحدة ، وهذا لعمري عكس ما هو حاصل في أيامنا هذه حيث أصبح التعليم حرفة يتقاضى عليها المدرس أجره الشهري في مقابل عمل محدود قلبا وقالبا. وكانت الأسرة تؤدي مهمة كبرى في الترويض التربوي للناشئة من إناث وذكور تمكن هذه الأخيرة من الحصول على آليات اكتساب المعرفة من جهة، والتكوين الشخصي الخاص ببناء الجسد والروح، وصقل المواهب العقلية وتنمية ملكة الذكاء  والفراسة التي يعتبرها جيل الكبار من أهم مدخلات التفوق ليس في مجال التحصيل الدراسي فحسب، بل في كافة أمور الحياة العامة التي ستقبل عليها الناشئة فيما سيستقبل من عمرها في بناء ذاتها ثم بناء علاقاتها مع الآخر. ونستحضر في هذا الباب أن نفس التجربة كانت تراعى بشكل كبير من طرف الجيش الروماني في عهد الامبراطورية الرومانية، حيث كانت عملية اختيار القادة العسكريين تتم وفق شروط منها ما هو مرتبط بالخدمة العسكرية، لكن الشرط الأساسي لاختيار القائد هو درجة الفراسة التي يتوفر عليها وأبان عنها من خلال خدمته وهي من الشروط المرتبطة بتكوينه الذاتي الذي تلقاه عبر قناة الأسرة(6).

وقد اعتبرت مرحلة الطفولة الممتدة من سن الرابعة إلى سن الرابعة عشر من أهم المراحل المحورية التي يتلقى فيها الطفل الحمولات الكمينة بتكوينه سواء من طرف الأسرة أو المؤسسات التربوية، ويتعلق الأمر بالمسيد أو المحضرة. ( تجربة أطفال الصحراء مع القرآن والكتب الأخرى). وتنفرد الأسرة بمجموعة من الحمولات التربوية التي تمررها هي عوض المدرسة ويتعلق الأمر بالأخلاق والفضيلة والمروءة وبعد النظر وغيرها، وهو ما توصل إليه الفيلسوف اليوناني أفلاطون(7).

وقد لعب تفايؤ الطيف القبلي في الصحراء دورا بارزا في تفاوت المزاوجة بين القيم المنقولة عبر التنشئة الاجتماعية التي تحمل لوائها الأسرة أو تلك المنقولة عبر قناة العلم والمعرفة التي تحمل لواءها الكتاتيب القرآنية والمحضرات. فقد حدد التقسيم الاجتماعي القبلي وظائف المجموعات القبلية بحيث ساهمت المتغيرات التاريخية التي شهدها غرب الصحراء منذ دخول قبائل معقل حيث تخصصت قبائل في حمل السلاح وتركت العلم جانبا، في حين تخصصت القبائل الزاوية، وهي في غالبيتها من أصول صنهاجية، في العلم والمعرفة وتوابعهما،ويأتي في أسفل السلم القبلي آزناكة التي تخصصت في العمل اليدوي، فكان لذلك انعكاس كبير على الناشئة في عملية التنشئة بحيث تلتقي المجموعات الثلاث في آليات التكوين اليومي في المداشر والفركان، لكنها تتمايز في اتجاه آخر بارتباط مع صفتها الوظيفية:

 

– القبائل الزاوية :كان الامتياز واضحا للقبائل الزاوية التي تكرس ملكة اكتساب العلم والمعرفة لدى الناشئة منذ السنوات الأولى حيث كانت منهجية التلقين تتم وفق مرحلتين: المرحلة الأولى تمتد من سن الرابعة إلى سن السابعة يتمكن فيها الطفل من حفظ القرآن الكريم، أما المرحلة الثانية فتمتد من سن السابعة إلى سن الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة، يتمكن فيها الطفل من دراسة كتاب الأخضري ورسالة أبي زيد القيرواني ومختصر خليل في الفقه المالكي وملحة الإعراب ولامية الأفعال وألفية ابن مالك في النحو وتفسير الجلالين والمعلقات ومقامات الحريري في الأدب والسلم المنورق في المنطق(8). بل كان الغلام منهم يحفظ المدونة قبل بلوغه فضلا عن المتون التي تدرس قبلها عادة (9).وكانت ميزة هذا التعليم أن التلميذ يتقن ما يتعلمه لأنه يتعلمه بلغته(10). وقد كانت قبائل الزوايا في غرب الصحراء والسودان الغربي ناهيك عن التربية، تتخصص في  تقنيات العمل العضلي الذي  يكون موازيا للتحصيل العلمي، حيث اشتهر مجتمع الزوايا بتقنية حفر الآبار التي كانت تستثمر في العمل الفلاحي من جهة، وتوفير المياه للماشية والقوافل التجارية التيكانت تجوب غرب الصحراء قادمة من جنوب المغرب أو من السودان الغربي.   

كما أن هذه الآبار كانت تستثمر في الميدان الزراعي وتربية الماشية. وكانت الناشئة تتشبع بحمولات هذا المنهج التربوي المعتمد على تلقي العلم والمعرفة والعمل العضلي وهو ما يؤدي إلى نتائج تكون ذات وقع كبير على تكوين رجالات القبيلة الذين يصح في غالبيتهم قول القائل " كان شعبي الحفظ أياسي الفطن قسي اللفظ، يحفظ القصيدة بمجرد أن يسمعها مرة واحدة، جيد الفهم، ثاقب الذهن، قارئا كثير التلاوة والعبادة"(11).

 

 القبائل المحاربة:   كانت طبيعة التخصص قد فرضت على المربين أن يخلقوا للناشئة ظروفا خاصة تميزت بالترويض الجسدي والنفسي من خلال مجموعة من التمارين اليومية التي تطور القدرات الذهنية لدى الأطفال والموصلة إلى اكتساب الفطنة والفراسة والذكاء، وهي أسلحة ضرورية للتعامل مع معطيات المجال ، والمحددة لطبيعة العلاقة بين أفراد القبيلة من جهة والقبائل الأخرى من جهة ثانية، باعتبارها مؤشرات تقوي مكانة أفراد المجتمع القبلي المادية والرمزية .

ويعتبر الترويض البدني من أهم التمرينات الحاضرة بحدة في البرنامج اليومي الذي يمرره الكبار للناشئة، ويتمثل ذلك في عمليات الرعي اليومية لقطعان الماشية التي يكتسب الأطفال من خلالها ثقافة غنية تهم قطيع الماشية سواء فيما يتعلق بأوقات الرعي وتقسيماتها، أو طبيعة المراعي ومكوناتها ومدى انعكاسها على الماشية، أو الأمراض التي تصيب الماشية سواء منها قطعان الإبل أو الأغنام. إنها بالجملة ثقافة البادية. وفي اتجاه آخر وسعيا وراء تقوية البنية الداخلية للقبيلة من منطلق أنها قبيلة محاربة، تتم عملية ترويض الناشئة على تعلم ركوب الخيل والإبل في مرحلة أولى تبتدئ من السنوات الاولى من عمر الطفل، لتصل مرحلة التخصص والتمكن من ثقافة المحارب الذي يتعين عليه في البداية التمكن من ركوب الإبل والخيل لكي يصل في النهاية إلى الحصول على لقب فارس من خلال التمرينات التي تقام في المناسبات المختلفة سواء على ظهور الإبل " لز لبل" أو على ظهور الخيل "صاكات  الخيل". وتبقى تربية الفتيات حاضرة من خلال التدريب والتكوين في مجال خياطة الخيام والحصائر والأفرشة وغيرها.

 

– قبائل آزناكة :هي قبائل تأتي في أسفل السلم الإجتماعي من خلال أصولها ووظيفتها التي تقوم بها في إطار التقسيم القبلي للعمل. ولكن هذه الفئة تميزت عبر تاريخها بخاصية متميزة لا تتوفر عليها القبائل السالفة الذكر ويتعلق الأمر بطبيعة المهام التي تقوم بها سواء منها النشاط الحرفي وتوابعه  أو النشاط الفني.

فعلى مستوى الصنائع والحرف تخصصت هذه الشريحة القبلية في كافة أصناف الحرف اليدوية المتعلقة بالحديد والنحاس والفضة. وقد كانت عملية الحمل الثقافي بين الأجيال حاضرة بشكل كبير، ذلك أن الصغار يكتسبون المهارات الحرفية من الكبار وفق تسلسل منهجي دقيق ينطلق من الأسهل نحو الأعقد. وكانت  هذه الشريحة  قد أسست تاريخيا لما تقوم به مؤسسات اليوم المتكلفة بالتكوين المهني والتي تستفيد منها شرائح التلاميذ الذين عرفوا تعثرا في مشوارهم الدراسي.

وقد كانت فئة الصناع بارعة في صنع الأسلحة لخدمة متطلبات القبائل المحاربة،كما كانت تصنع جميع مكونات المطبخ والمسكن الحديدية من أواني المأكل والمشرب وأعمدة حديد وخشب خاصة بالخيام ناهيك عن متطلبات التجميل عند النساء والرجال من حلي ولباس وغيرها. وتبقى هذه الشريحة إلى جانب شريحة إيكاون من الفاعلين المحوريين في تسطير ملامح الطرب الحساني التقليدي " الهول " من خلال الأدوات الموسيقية التي يتم التفنن في إنتاجها واستعمالها في قالب غنائي متميز.

ومن المفيد الإشارة إلى أن كل الطيف القبلي الذي تطرقنا إليه كان يتميز بخاصية مشتركة تمثلت في العمل اليدوي وإن بدرجات مختلفة، لكن تبقى القبائل الزاوية ذات ميزة خاصة ميزتها عن القبائل الأخرى وهو انفرادها بالعلم والمعرفة. فكان أبناء القبائل المحاربة يتباهون بسلاح السيف والرمح لكن أبناء القبائل الزاوية كانوا في المقابل يتباهون بسلاح العلم والبركة وسلاح آخر أكثر تأثيرا هو سلاح " التزبو" .

 

     خاتمـــــة:

 

مع بروز التحولات المجتمعية المعاصرة كان لزاما استثمار هذا الموروث التربوي المتعدد ذو المنافع المتداخلة الرامية إلى تكوين أجيال مقتدرة وجدير بتحمل كل المسؤوليات الشخصية والجماعية عبر بوابة الحمل الثقافي بين الأجيال التي أصبحنا نعاني من تلاشي مقوماتها البشرية، خصوصا ونحن نستفيد من الطفرة المعرفية والعلمية المعاصرة والتي يمكن من خلالها أن نستثمر هذا التراث التربوي وإعادة إنتاجه بطرق وأوجه مختلفة داخل المؤسسات التربوية بدءا من التعليم الأولي ووصولا إلى التعليم الثانوي بضلعيه الإعدادي والتأهيلي. ولن يتأتى ذلك إلا من خلال وضع اللبنات الأولى لمنهاج جهوي محلي يعرف الناشئة في المؤسسات التعليمية بمكونات هذا التراث وحوامله من لسان حساني وتوابعه من طقوس مادية ورمزية .

 

 ناجيه عمر  

 



(1 )Kenneth burke , Attitude toward History, Hermes publication, Los Altos, California,1959, p 331.

(2)عمر ناجيه ، نساء عالمات من الصحراء، مقال قيد النشر

(3) Hugh Cunningham, Children and Childhood In Western Society Since 1500, Longman London and New York , 1995 , p 112 .

)4)علماء الصحراء من الإشعاع الديني إلى الاستنفار الجهادي، مقال قيد النشر

(5) التاريخ الطويل بالمفهوم الذي تحدث عنه فرناند بروديل وهو من أعمدة مدرسة الحوليات

(6 ) Eduard N . Lutwak, The grand strategy of the Roman Empire from the first century A.D to the third,p 12.

(7 )Platon , Ménon , traduction inédite, introduction et notes, Canto – sperber, G F F La marion, 2eme édition, 1993,pp 46,47 

(8 خديم محمد سعيد امباكي، التصوف والطرق الصوفية في السنغال، سلسلة بحوث ودراسات منشورات معهد الدراسات الإفريقية، 2002، ص ص 119-120 .

9(المختار بن حامد، حياة موريتانيا، الجزء الثالث عشر،المدلش، إشراف محمدو محمدن أمين وألريش ريبشتوك، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2013، ص 15.

(10خديم محمد سعيد امباكي ، م س، ص 119-120

(11 )المختار بن حامد، حياة موريتانيا، الجزء الثالث عشر،المدلش، إشراف محمدو محمدن أمين وألريش ريبشتوك، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2013، ص 95.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق