مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةأعلام

الحلة السيراء فيمن حل بمراكش من القراء -28- محمدُ بن أحمدَ بن عبد الملِك إشبِيليّ، أبو مَرْوانَ الباجِي

(من كتاب الذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي ت703ه‍)

-28- محمدُ بن أحمدَ بن عبد الملِك إشبِيليّ، أبو مَرْوانَ الباجِي(1)

محمد بن أحمد بن عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الملِك ابن أحمدَ بن عبد الله بن محمد بن عليّ بن شَريعةَ بن رِفَاعةَ بن صَخْر بن سَمَاعةَ الداخِل إلى الأندَلُس، إشبيلي، أبو مروان الباجي.

تَلا بالسَّبع وغيرها على أبي عَمْرٍو عَيّاش بن عَظِيمة، وسَمِعَ الحديثَ على الحافظَيْنِ أبوَيْ بكر: ابن الجَدّ، وأكثَرَ عنه، وابن عليّ، وبقراءةِ أبيه على أبي عبد الله بن أحمدَ بن المُجاهِد. وأخَذَ العربيّةَ واللُّغةَ والآدابَ على أبي إسحاقَ بن مُلْكون، وأبي بكر بن طَلْحةَ، وأجازوا له إلّا أبا إسحاقَ بن مُلكون.

وأجاز له أبوه، وأبو حَفْص بن عُمرَ، وأبو زيد السُّهَيْليّ وأبو عبد الله ابن الفَخّار، وأبو العبّاس بن مِقْدام، وأبو القاسم ابن بَشْكُوال، وأبو محمد بنُ عُبَيد الله. ورَحَلَ إلى المشرِق حاجًّا، وسَمِعَ بدمشقَ على نزيلِها المحدِّث الشهيرِ أبي عَمْرو عثمانَ ابن الصلاح تأليفَه في علوم الحديث.

وهذا الأصلُ الَّذي سَمِعَ فيه قد صارَ إليّ والحمدُ لله، وفيه خطُّ ابن الصَّلاح بتصحيح التّسميع، وقد تضَمَّن إذْنَه في روايتِه عنه لكلِّ من حَصَّلَ منه نُسخة، فانتسَخَ منه جماعةٌ من جِلّة أهل العلم ونُبَلائهم، منهم: أبو الحَسَن الشارِّيُّ، وأبو عَمْرٍو عثمانُ ابنُ الحاجِّ، وأبو القاسم أحمدُ بن نَبيل وغيرُهم، ونَسَختُ منه نُسخةً لبعضِ الأصحابِ لأمرٍ اقتَضَى ذلك لم يَسَعْ خلافُه.

وأخَذَ بدمشقَ أيضًا قراءةً منه عن أبي نَصْر محمد بن هِبة الله بن مُمِيل الشِّيرازيّ.

رَوى عنه حفيدُ أخيه أبي محمد، وآباءُ عبد الله: أبو بكر بنُ أحمدَ بن سيِّد الناس وابن أحمدَ الرُّنْديّ وابنُ أبي بكرٍ ابن المَوّاق وابن الخَضّار نَزيلُ سَبْتةَ، وصحِبَه في وِجهتِه المَشْرِقيّة وحَجَّ معَه ولزِمَه إلى أن فَرَّقَ الموتُ بينَهما، وأبو عَمْرٍو عثمانُ بن أحمدَ بن العوّام، وأبو القاسم عبدُ الكريم بن عِمرانُ وأبو محمد ابن قاسم الحَرّار، ورَوى عنه بدمشقَ جماعةٌ، منهم: أبو عبد الله البِرْزَاليُّ وأبو الحسن القَسطار وابنُ يَريم الإشبِيليُّونَ؛ وأبو محمد بنُ محمد بن أحمدَ ابن الحَجّام.

وكان من ساداتِ بيته الأفاضل ببلدِهم، ذا خَلْقٍ وَسيم وخُلُق عظيم، دُرِّيَّ اللّون أسيلَ الوَجْه حسَنَ الضَّربِ والقَدّ إلى الطُّول، قد علا بأَخَرةٍ إحدى كريمتَيْه بَياضٌ لم يَشِنْها؛ وكان كريمَ النفس حَسَنَ اللِّقاءِ بَرًّا بأصحابِه ومُنتابِيه، متواضعًا جميلَ السَّعي في حَوائج الناسِ عمومًا وخصُوصًا، مُبَخَّتًا في تيسيرِ قضائها، متواضعًا صَوّامًا قَوّامًا سَرِيَّ الهِمّة كاملَ أدواتِ الفَضْل، خطيبَ زمانِه، مُثابِرًا على تلاوة القرآن، حافظًا للحديث، من أحسنِ الناس صَوْتًا بهما وأطيَبِهم نغمةً في إيرادِهما، جيِّدَ الخَطّ والضَّبْط ذاكرًا للفقه، استُقضيَ ببلدِه أيامَ إمارةِ أبي العلاءِ إدريسَ ابن المنصُور من آل عبد المُؤمن وبعدَها، فعُرِف بالعَدْل والنَّزاهة ووَطْأةِ الأكناف ولِين الجانبِ حتّى يقالُ: إنه ما سَجَنَ مُدّةَ قضائه أحدًا. وخَطَبَ بجامع بلدِه دهرًا طويلًا، وترَدَّد على حضرةِ مَرّاكُشَ مِرارًا، موفَدًا مبرورًا خَطيبًا عندَ الأمراءِ بها مَقْضيَّ المآرِب.

وبعدَ الطارئ على أبي مَرْوانَ أحمدَ ابن شقيقِه أبي عُمرَ محمد -حَسْبَما تقَدَّمتِ الإشارةُ آنفًا إليه- عَزَم على الحجِّ، فباع جُلَّ أملاكِه بداخِل إشبيلِيَةَ وخارجَها، وفَعَلَ في سائرِها ما اقتضاهُ نَظره من تصييرٍ وتحبيس وصَدَقة وغيرِ ذلك من الوجوه، محُصِّنًا ذلك كلَّه بالإشهادِ عليه، وفَصَلَ من إشبيلِيَةَ يومَ .. لثمانٍ خَلَوْنَ من ربيعٍ الآخِر سنةَ ثلاثٍ وثلاثينَ وست مئة قاصدًا سَبْتةَ من بَرِّ العُدوة، وأقلَعَ منها في مَرْكَب رُوميٍّ يوم الأربعاء، لسَبْع خَلَوْنَ من محرَّم أربع وثلاثينَ وست مئةٍ سائرًا معَ العوالي من بَرِّ الأندَلُس إلى مالَقةَ إلى المُنَكَّب إلى المَرِيّة إلى قَرْطاجَنَّةَ إلى لَقَنْتَ، وفارَقَ بَرَّ الأندَلُس إلى جزيرةِ يابِسةَ إلى جَزيرةِ مَيُورْقَةَ، فدَخَلَ مَرْساها ليلةَ الخميس الثالثةِ والعشرينَ من محرَّمٍ المذكور، وأقلَعَ منه ليلةَ الخميس التالي لها إلى جزيرةِ قَبْرَيْرةَ، فباتَ بها ليلةَ الجُمُعة، وأقلَعَ منها صُبحَ يوم الجُمُعة إلى مَرْسَى سَرْدانِيَةَ، فدَخَلَه يومَ الثلاثاءِ لأربعٍ خَلَوْن من صَفَر، وأقلَعَ منه يومَ الخميس لستٍّ خَلَوْنَ من صَفَر إلى صِقِلِّيَةَ، فجاوَزَها، ثم رَدَّته الرِّيحُ إلى مَرْسَى سرقُوسةَ: إحدى مُدُنِ الجزيرة، فدَخَلَه ليلةَ الأربعاءِ الثانيةَ عشْرةَ من صَفَر، وأقام به إلى عَشِيّة يوم السّبت لسبعٍ خَلَوْنَ من ربيعٍ الأوّل، ونَزلَ إلى سرقُوسةَ وأقام بها من ليلة الأحدِ الثامنةِ من ربيع الأوّل إلى يوم الاثنينِ لاثنتَيْ عشْرةَ ليلةً بقِيَتْ من جُمادى الآخِرة، وانتَقلَ إلى المركَب وأقام به رَيْثما تُساعدُه الريحُ على سَيْرِه، فأقلَعَ منها يومَ الأربعاءِ إلى جزيرةِ إقرِيطِشَ في ثمانيةِ أيام، ثُم إلى جَزيرةِ قُبْرُصَ في خمسةِ أيام، ثُم إلى عَكّا في ثلاثة أيام، وكان المَرْكَبُ يَسيرُ كلَّ يوم من سَرقُوسةَ إلى عَكّا مئةَ ميل، فدَخَلَ عَكّا يومَ الأربعاءِ لأربعَ عشْرةَ ليلةً بقِيَت من رجَب، وقَدِمَ دمشقَ غُدوةَ يوم .. لسبع خَلَوْنَ من رَمَضان، وأقام بها إلى مُنتصَفِ شوّال، فخَرَجَ منها معَ الرَّكْبِ الشاميِّ، وكان له سبعةُ أعوام لم يتَوجَّهْ إلى مكّةَ شرَّفها اللهُ، فصار إلى بُصْرَى في أربعةِ أيام إلى الأزرق إلى تَيْماءَ إلى خَيْبَرَ إلى مدينة النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – كرَّمَها اللهُ، وزارَ قبرَ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، وأقام بها يومَيْنِ، وانفصَلَ على طريقِ الرَّكب إلى وادي العَقِيق وبئرِ عليّ وذي الحُلَيْفة ومنها أحرَمَ إلى شِعب عليّ إلى بَدْرٍ إلى رابِغَ إلى الجُحْفة إلى بطنِ مرّ إلى مكّة، شرَّفَها اللهُ، فقَدِمَها لأرَبعٍ خَلَوْنَ من ذي الحِجّة فنزَلَ بالأبطَح.

ولمّا قضَى فريضةَ الحجّ نَزلَ بدارِ إمام المالكيّة عندَ باب العُمرة، وكان من أمَلِه التوجُّهُ إلى العراق، فإذا الرَّكْبُ العراقيّ لم يَصِلْ إلى مكةَ تلك السَّنةَ خوفًا من عاديةِ الكافِر التُّركي، ثُم خَرَجَ من مكّةَ، زادَها اللهُ شَرَفًا، في محرَّمِ خمسٍ وثلاثينَ متوجِّهًا إلى مِصرَ، فسَرَى مُدلِجًا لشدّةِ الحَرِّ بالنّهار إلى حَدّةَ ومن حَدّةَ إلى جُدّةَ، ومنها رَكِبَ البحرَ، فمالت به الرِّيحُ إلى سُلَق في يوم وليلة، فسار منها مُصعِدًا إلى دبادبَ وخَرَجَ في البَرّ وسار منها ثمانيةَ أيام إلى عيذابَ في سَحْراءِ البُجَاة، وهم نصارى سُودٌ، وأقام بها نحوَ ثمانيةٍ وعشرينَ يومًا، وقَطَعَ سَحْراءَها في عشرينَ يومًا إلى قَنَا، وكان بهذه الرُّفقةِ في نحو سبعينَ رجُلًا، فلقِيَهم في تلك الصَّحراءِ قومٌ من النُّوبة دَخَلوها للغارة، فسَلَبوا الرُّفْقةَ، وسار من قَنَا إلى قُوصَ في يوم.

وكان الملِكُ الكاملُ قد توَجَّه إلى دمشقَ وجِهاتِها ذلك العام يُحاولُ رَدَّ البلاد التي كانت لأخيه الأشرفِ إلى طاعتِه، فوافاهُ وهُو بالورادةِ من طريق دمشقَ الخَبَرُ بأنهُ وَصَلَ إلى الحجِّ وإلى دمشقَ رجُل مغرِبيٌّ فاضلٌ يُعرَفُ بالباجِيّ، وأثْنَوْا عليه خَيْرًا عندَه، وقد كان صاحبَ المدارس بمِصرَ أبو الخَطّاب عُمرُ بن حَسَن ابن دِحْيَّةَ المذكورُ قبلُ بموضعِه من هذا المجموع، توفِّي سنةَ ثلاثٍ وثلاثينَ وست مئة، حسْبَما ذُكِر هنالك، فتَولَّى النظَرَ فيها مَنْ لا يَصلُحُ لها. ولمّا أُثني على أبي مَرْوان الباجِيِّ عندَ الملِك الكامل أراد صَرْفَ النظَرِ في المدارِس المِصْريّة إليه، فسأل عنهُ فأُخبِرَ أنه قد نَهَضَ إلى الحَجّ، فأمَرَ بالبحثِ عنه في جميع بلادِه وتلقِّي الرُّكْبانِ في شأنه والإحسانِ إليه وإفادِهِ عليه، فطُيِّرتِ الحَمامُ من بلدٍ إلى بلدٍ في الوَصَاة به.

فبَيْنا أبو مَرْوان قد قَدِمَ على قُوص، كما ذُكِرَ آنفًا، خَرَجَ إلى الرَّكْب قومٌ من قِبَلِ والي المدينة يسألونَ عنه حسْبَما أُمِروا به، فأُخبِروا بأنهُ في تلك القافلة، فاجتمَعوا به وساروا معَه إلى والي قُوص، وكان يُدعَى بابن زَغْبُوش، فألقَى إليه أمرَ الملِك الكامل في حقِّه وبالَغَ في إكرامِه والحِفايةِ به، ودَفَعَ له خمسينَ دينارًا مِصريّةً وأثوابًا من لِباس أهل تلك البلادِ فيها حرير، فأبَى أبو مَرْوانَ قَبُولَ شيءٍ من ذلك، وبعدَ لَأْيٍ ومُراجعةٍ طويلة قَبِلَ الدَّنانير على كراهة، ورَدَّ الأثوابَ وقَبَضَ تلك الدنانيرَ بعضُ خَدَمتِه وكان يُدعَى بابن مَذْكور؛ وسَمِعَه حينَئذٍ بعضُ خواصِّه، وهُو أبو الحَجّاج الأُبَّدِيُّ، وكان ممّن حَجَّ معَه، يدعو بدُعاءٍ قال فيه: اللهُمَّ اقبِضْني إليك قبلَ الاجتماع به.

ثم سار من قُوصَ في النِّيل إلى إخمِيمَ إلى مُنْيَةِ ابن خَصِيب، ولها مسجدٌ جامعٌ حسَنٌ على شاطئ النّيل، فقال أبو مَرْوان: قد كنت سَمِعتُ بهذا الجامع، وأُريدُ الصّلاةَ به، فصار إليه، فإذا فيه جماعةٌ اجتَمَعوا لقراءةِ العلم، فصَلَّى به الظّهرَ والعصرَ والمغرِب، ولمّا هَمَّ بالانصرافِ تعرَّضَه بعضُ أولئك الحاضِرينَ وقد سألوا عنه فأُخبِروا به فأقبَلوا إليه مُسلِّمينَ عليه وراغبينَ منهُ في مَبِيتِه عندَهم، فباتَ معَهم وانصَرَفَ من الغَدِ إلى السَّفينةِ وبه شَكَاةٌ، وسُئل عن غذائه عندَ أولئك الذين أضافوهُ فقال: ما كان إلا يسيرَ تمرٍ وعَسَل.

وأقلَعَ من مُنْيَة ابن خَصِيب إلى مِصرَ، وقَطَعَ تلك المسافةَ في سبعة أيامٍ والشَّكاةُ متزيِّدة؛ ولمّا وَرَدَ مِصرَ أراد دُخولهَا في خُفْيةٍ حتّى لا يَشعُرَ به أحَد، فدَخَلَها وقتَ العشاء ونزَلَ منها بخانِ المَلّاحِين، ويعرَفُ بخان ابن الرَّصّاص، ولم يَعلَمْ أحدٌ بوصُولِه، فأقام به ليلتَه تلك ويومَها، وتوفِّي في ثُلُثِ اللّيلة القابلة، وهَوَّنَ اللهُ عليه الموتَ وَيسَّرَه تيسيرًا عجيبًا؛ ولمّا أصبحَ ميِّتًا أقبَلَ جماعةٌ من الصُّلَحاءِ والزُّهّاد في طائفة كبيرةٍ من لفيفِ الناس مغَلِّسينَ يقرَعُونَ بابَ الخان ويقولونَ لقيِّمِه: افتَحْ لنا نُصَلِّ على الفقيه أبي مَرْوانَ الباجِيِّ المتوفَّى الليلةَ هنا؛ وكان ممّن حضَرَ ذلك الجَمْعَ رجُلٌ صالحٌ فاضلٌ من أهل العلم والدِّين يُدعَى بعِزِّ القُضاة ويُعرَفُ بابن الجَبَّاب، من بيتِ جَلالةٍ وعِلم بمِصرَ، فتوَجَّه معَ حفيدِ أخي أبي مَرْوانَ وبعضِ خَواصِّه إلى العادل ابن الملِك الكامل الذي استنابَهُ أبوه على مِصرَ، فوافَوْه بقَصْرِه من القَلْعة بالجَبَل المُقَطَّم المُطِلِّ على القاهرةِ ومصرَ، فأعلَمَه بوصُول الفقيه أبي مَرْوانَ، فسُرَّ به وسأل عنه فقيل: وَصَلَ بارحةَ أمس وتوفِّي اللّيلة، فتأسَّفَ لذلك، وأمَرَ بتجهيزِه، فقال له حفيدُ أخيه وأصحابُه: عنده جِهَازُه، فشُرِعَ في غُسْلِه وتكفينِه، وأُلقِيَ في النَّعْش، ورُمِيَ عليه كساءٌ أخضر، ولُفَّ بشَريطَتيْ غمّ طويلتَيْنٍ لَفًّا مُحكَمًا متقارِبًا حتّى كان بينَ الشَّريطَتيْنِ غِلَظُ إصبَع، وصلّى عليه جُمهورُ الناسِ بالخان. ولمّا فَرَغَ الغاسلُ منه وخَرَجَ بالرِّداءِ الذي غَسَّلَه فيه تعَلَّق الناسُ بذلك الرِّداء وغَلَبُوهُ عليه حتّى لم يَبْقَ بيدِه منه إلّا قَدْرُ ما أمسَكَ بأناملِه، والسَّعيدُ منهم مَن صار إليه منه قَدْرُ فَتِيلٍ لكثرةِ تَرامي الناسِ عليه، وكان منهم مَن رَغِبَ من الغاسِل في بَيْع ما بقِيَ عندَه من الرِّداء، فباعَهُ منه ولم يكنْ بَقِيَ عندَه منهُ إلّا يسير. وحُمِلَ الفقيهُ على تلك الحالة وقتَ صَلاة العصرِ إلى المُصَلَّى بالشَّريعة، وسِيرَ به سَيْرًا حَثيثًا، فاستَبَقَ الناسُ إليه، فمنهم مَن يَرمي إليه عِمامتَه فإذا وصَلتْ إلى النَّعش وجَذَبَها اشتَركَ ناسٌ معه فيها فلا يبقَى لهُ منها إلّا قَدْرُ ما يُمسِكُ بيدِه، ومنهم من يُرسِلُ رداءَه فيَجري الحالُ فيه على ذلك، وصُلِّي عليه هنالك مرّة ثانيةً في جَمعْ عظيم، ثُم سِير به كذلك إلى مَدفِنةٍ بالقَرافةِ حيث قُبورُ الصّالحينَ والفُضَلاء، وإذا جماعةٌ كبيرةٌ من كُبَراءِ الناس وأعلامِهم ينتظرونَه هنالك، لم يكونوا صَلَّوْا عليه، فقالوا: لا بدَّ أن نُصلِّي عليه قبلَ دَفنِه، فصَلَّوْا عليه وهُو بشَفيرِ القَبْر مرّةً ثالثة، ووُريَ في قبرِه بمقبُرة الشُّهداءِ المنسوبة إلى سارِيَةَ، واختَطفَ الناسُ ترابَ قبرِه مرّةً ثم ثانيةً ثم ثالثة، وأقبَلَ عليهمُ اللَّيلُ وانفَصَلوا عنه، فلمّا كان من الغَدِ أصبح قبرُه مَبْنيًّا كأحسنِ ما يُبنَى من القبور، فتساءل الناسُ عمّن بناه، فلم يَجِدوا عنه مُخبِرًا، وجعَلَ حفيدُ أخيه وأصحابُه عندَ رأسِه تاريخًا. وكانت وفاتُه ليلةَ الجُمُعة الثامنةِ والعشرينَ من جُمادى الأولى من عام خمسةٍ وثلاثينَ وست مئة، ومولدُه بإشبيلِيَةَ سنةَ أربع وستينَ وخمس مئة.

  • الذيل والتكملة 3/ 581-587.

ذ.سمير بلعشية

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق