مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةأعلام

الحلة السيراء فيمن حل بمراكش من القراء -18- عليُّ بن محمد بن عليّ بن محمد بن خَرُوفٍ الحَضْرَميُّ، إشبِيليٌّ، أبو الحَسَن، الدُّريدنه

(من كتاب الذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي ت703ه‍)

-18- عليُّ بن محمد بن عليّ بن محمد بن خَرُوفٍ الحَضْرَميُّ، إشبِيليٌّ، أبو الحَسَن، الدُّريدنه(1)

تَلا بالسَّبع على أبي بكر بن صَافٍ، وأبي محمد قاسم ابن الزَّقّاق. ورَوى الحديثَ عن أبي بكر بن خَير، وابن زَرْقُون، وأبوَيْ عبد الله: ابن الرَّمّامة وابن المُجاهِدِ وتفَقَّه بهما، وأبي القاسم ابن بَشكُوال، وأبي محمد بن عُبَيد الله، وأبي مَرْوانَ بن قُزْمان. وأخَذ علمَ الكلام وأصُولَ الفقه عن العارِف أبي عبد الله الرُّعَيْنيِّ رُكْنِ الدِّين، وأبي الوليد بن رُشْد الأصغَر، والعربيّةَ والآدابَ عن أبي إسحاق بن مُلْكُون وأبي بكر بن طاهر ولزِمَه، وعليه أتقَنَ «الكتابَ» وعنُه لَقِنَ أغراضَه، وأبي سُليمانَ السَّعْديِّ، وأبي محمدٍ القاسم بن دَحْمان.

رَوى عنهُ آباءُ بكر: ابنُ عبد النُّور وابن فَحْلُونَ والقُرطُبيُّ، وآباءُ الحَسَن: الدَّبّاجُ والشارِّي وابنُ القَطّان، وأبو الحُسَين عُبَيدُ الله بن عاصم الدائريُّ، وأبو الخَطّاب بن خَليل، وأبو عبد الله الرُّنْديُّ المسلهم، وأبو العبّاس بن هارونَ، وأبو القاسم عبدُ الرّحمن بن محمد بن عبد الرّحمن المَصموديُّ ابنُ رَحْمُون، وأبو محمد بن قاسم الحَرّار، وحدَّثنا عنه من شيوخِنا أبو الحَسَن وأخوهُ أبو محمدٍ الرُّعَيْنِيّان، وأبو زكريّا ابن عَتِيق وأبو عليٍّ الماقريّ.

وكان مُقرِئًا مجوِّدًا حافظًا للقراءات، نَحْويًّا ماهرًا، عَدَديًّا فَرَضيًّا، عارِفًا بالكلام وأصُولِ الفقه، وقد صَنَّفَ في كلِّ ما يَنتحلُه من العلوم مصنَّفاتٍ مُفيدةً شرَّقَت وغرَّبَت، وتداوَلَ الناسُ انتساخَها رغبةً فيها وشهادةً بجَوْدتِها.

وكان كثيرَ العناية بالرّدِّ على الناس، فرَدَّ على إمام الحَرَمَيْنِ أبي المعالي النَّيْسابوُريِّ في كتابِه: «الإرشادِ والبُرهان»، وعلى أبي الحُسَين ابن الطَّراوة في مقدِّماتِه على أبوابِ الكتاب، وعلى الأعلَم في «رسالتِه الرَّشِيدّية» وغيرِها، وعلى أبي محمد بن حَزْم في بعض مقالاتِه، وعلى أبي إسحاقَ بن مُلْكُونَ وأبي الوليد بن رُشْد وأبي القاسم السُّهَيْليّ في مسائلَ كثيرة، وعلى أبي جعفر بن مَضَاء، وعلى غيرِهم من أهل عصرِه.

وشَرَحَ «كتابَ سِيبَويْه» وسَمَّاه: «تنقيحَ الألباب في شَرْح غوامضِ الكتاب» و«جُمَلَ الزَّجّاجي»، وله مُصنَّفاتٌ في القراءاتِ مستجادة، وكان وقتَ طلبِ العلم مختصًّا بخدمةِ شيخِه رئيس النُّحاة أبي بكر بن طاهر، فيذكرُ أنه غاب على بعضِ كُتُبِه وهما حينَئذٍ بفاسَ فسُجِنَ من أجل ذلك، ولم يزلِ القاضي أبو محمد بن عُمر أبو القاضي أبي حَفْص يتَلطَّفُ في أمرِه حتّى سُرِّح، وأزال ما حَدَثَ بسببِ ذلك من الوَحْشة بينَه وبينَ شيخِه أبي بكر بن طاهر، وعاد إلى خدمتهِ والقراءةِ عليه كما كان.

وكان أبو الحَسَن، رحمه اللهُ، صَرورةً لم يتزوَّجْ قَطُّ إلى أن توفِّي، وكان يقول: والله ما حلَلْتُ مِئْزَري قطُّ على حَلالٍ ولا حَرام، وكان مشهورًا بالصِّدق وطهارةِ الثَّوب والصِّيانة والعَفاف، متجوِّلًا عُمُرَه على البُلْدان، يُديرُ بضاعةً له كانت في تجارةٍ أكثرُها في إقامة أواني الخَشَب المخروطة، وأكثرَ ما كان يترَدَّدُ بينَ رُنْدةَ وإشبيلِيةَ وسبْتةَ وفاسَ ومرَّاكُشَ؛ فمتى حَلَّ ببلدٍ شَرَعَ في إقامة ما يُقيمُ من ذلك إن كان بلدَ إقامة، أو بيعِه إن كان بلدَ بَيع ما أقامه بغيِره، وانتَصَبَ لتدريسِ ما كان لدَيْه من المعارفِ رَيْثَما يتمُّ غَرَضُه في البيع والإقامة، ويَستوفي الجُعْلَ على الإقراءِ من الطّلبة، ولا يُسامحُ أحدًا في القراءةِ عليه إلا بجُعْل يُرتِّبُه عليه، ثم يرحَلُ، هكذا كان دَأْبُه.

وكان وَقُورَ المجلس مَهيبًا. ورَفَعَ إلى الناصِر من بني عبد المُؤمن نُسخةً من «شَرْح كتابِ سيبوَيْه» بخطِّه في أربع مجلَّدات، فأثابَهُ عليه بأربعةِ آلاف درهم من دراهمِهم، وقد رأيتُ هذه النُّسخةَ وأخرى بخطِّه أيضًا.

وذَكَرَ لي بعضُ الرَّحّالِينَ أنه رأى بمدرسةِ الفاضل البَيْسانيِّ من القاهرة نُسخةً بخطِّ المصنِّف في مجلَّدٍ واحد، وقد انتَسخَ كثيرًا لنفسِه ولرؤساءِ عصرِه.

وقال شيخُنا أبو الحَسَن الرُّعَيْني: كان جامدًا على ما لَقِنَ عن ابن طاهر، قليلَ التصرُّف بكيءَ العبارة، متسرِّعًا لإنكارِ ما لا يَعرِف. قال: وكانت بينَه وبينَ شيخِنا أبي عليّ الرُّنْديِّ رحمَهما الله مُناقَضاتٌ في مسائلَ من العربيّة أنشَقَه أبو عليٍّ فيها الخَرْدَل، فما قام معَه ولا قَعَد.

وقال لي شيخُنا أبو زكريّا بنُ عَتِيق: كان شديدَ الضَّجَر عند تتبُّع البحثِ معَه والمساءلةِ له، فعَهْدي به مرّاتٍ إذا ضويقَ في المجلس يأخُذُ قُرْقَيْهِ ويقومُ من مجلسِه دونَ سَلام ولا كلام، ويتَخطَّى ما يقابلُه من الحلقة، ثم يُردُّ وجهَه إلى الطّلبة ويقولُ لهم: ما أراكم عَزَمتُم على إكمال قراءةِ «الكتاب» ما أخَذتُم أنفُسَكم بهذه المآخِذ، أو نحوَ هذا من القول، ثم ينصرف.

وأصابَه قبْلَ موتِه خَدَرٌ واختلاطُ عقل، أدَّى ذلك إلى أن ثَقِفَ القاضي بإشبيلِيَةَ حينَئذٍ أبو محمد بنُ حَوْطِ الله أو أبو حَفْص بن عُمر -وقيل: أبو محمد عبدُ الحق، ولا يصحُّ- مالَه وحَجَرَ عليه، فقَصَدَه معترِضًا له ومتظاهِرًا بالسّلامة من الاختلال، واستطالَ عليه بلسانِه وأغلَظَ له في القول، فلم يسَعِ القاضيَ إلّا صَرْفه مبرورًا، والاحتياط عليه رَعْيًا لشاختِه، ورحمةً له؛ وشُهرةِ مكانِه قبلُ من العلم والدِّين، قال أبو العبّاس بنُ هارون: رأيتُه في تلك الحال ماشيًا في أزِقّة إشبيلِيَةَ ذاهلًا حافيًا لا يَشعرُ بما هو فيه.

وتوفِّي بإشبيلِيَةَ في العَشْر الوُسَط من جُمادى الآخِرة، وقال ابنُ الأبّار: في صَفَرِ تسع وست مئة ابنَ ثمانينَ سنةً أو نحوِها.

  • الذيل والتكملة 3/269-272.

ذ.سمير بلعشية

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق