مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةأخبار متنوعة

الحضور الكلامي في بواكير الفكر المغربي المعاصر

نوقشت برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في الآداب، من إعداد الباحث أحمد بوقجيج بعنوان: الحضور الكلامي في بواكير الفكر المغربي المعاصر، وذلك بتاريخ: 02 أبريل 2022، وتكونت لجنة المناقشة من الأساتذة: أ.د. عبد العزيز شهبر (رئيسا)، وأ. د. جمال علال البختي (مشرفا)، وأ.د. فؤاد بن أحمد عضوا، ود. نظيرة فدواش (عضوا)، ود. يوسف العماري (عضوا)، وبعد المناقشة والمداولات حصل الطالب على الشهادة المذكورة بميزة مشرف جدا. وفيما يلي التقرير الذي تقدم به الطالب بين يدي لجنة المناقشة:

33

                      ******************************************

يمكن تقديم تقرير عن الأطروحة من خلال المحاور التالية:

1 – الإطار العام للأطروحة وإشكاليتها وأسئلتها

يندرج هذا البحث ضمن الدراسات التي تقرأ التراث من زاوية معينة، والزاوية المختارة هنا، هي الفكر الكلامي؛ ذلك أن الدراسات المنشغلة بقراءة التراث، لم تنشغل بعلم الكلام، ولا بالنظر في حضوره أو غيابه، لأنها اشتغلت بالتراث عامة، دون تفصيل لقطاعاته، إلا ما كان من بعض الدراسات.

وقد كان اختيار تلك الثلة لمساءلة الحضور الكلامي في مشاريعها من داخل الحقل الفلسفي بالأصل، كما هو الشأن مع الحبابي والعروي، أو بالعرَض كما هو الشأن مع علال الفاسي، متناغما مع لحاظ منهجي يبغي الوقوف على ألوان مختلفة من تلك القراءات، تعقبها أنماط من الحضور، على أساس اختلاف الأجوبة المقدمة عن سؤال التخلف، بالرغم من تعدد المسارات المتبعة والسياقات الفكرية والاجتماعية الناظمة لتلك الأجوبة.

كان الهاجس الداعي وراء هذا الاختيار إذن، متمثلا في معرفة طبيعة الحضور الكلامي، في فكر علال الفاسي، وفي شخصانية الحبابي، وفي تاريخانية وحداثة العروي، على أساس أن هؤلاء جميعا قد تعاملوا مع التراث عامة ومع التراث الكلامي خاصة؛ ولكن من منطلقات ورؤى مختلفة، سيعمل البحث على تجليتها وتشريح مفرداتها وعرض نتائجها وتطبيقاتها وملاحقة علائقها بما قبلها وما بعدها، طالما أن الحضور الكلامي في فكر هؤلاء، يستبطن حضور تيارات ومذاهب أخرى؛ فإنسية ومثالية علال الفاسي تحيل على الإنسية والمثالية أو الإلهية الإسلامية، وشخصانية الحبابي تحيل على ما سماه الإسلام الأصيل، وتاريخانية وحداثة وعقلانية العروي تحيل على الموقف الاعتزالي والعقل قبل تقييده، مع استدعاء الجميع للتراث الكلامي بمقولاته ومضامينه، قصد إغنائها وتوسيع دلالاتها كما عند علال الفاسي، أو لإدخالها إلى الحداثة وتوطينها وإعادة الروح إليها كما عند الحبابي، أو لتجاوزها واستدعاء مقولات الحداثة لاستبدالها كما عند العروي.

وهكذا يمكن تجلية الهاجس الدافع للموضوع في جملة أسئلة ناظمة لمسار البحث وغاياته:

كيف يمكن أن يلتقي علم الكلام، المعروف مجاله ونطاقه، مع متخصصين في حقول معرفية، اعتبرت أبعد من أن يكون لها مع علم الكلام صلة؟

وكيف يُبحث عن صلات بين الدين والفلسفة عند الحبابي أو العروي المحسوبَين على الفلسفة، أو عند علال الفاسي المحسوب على العلوم الدينية؟

وإذا كان علم الكلام يحضر عند علال الفاسي، فلمَ علال الفاسي بالذات وليس غيره؟

وإذا كان علال الفاسي قد مارس الكلام، فهو كغيره ممن هم على شاكلته، فكيف يخصص دون غيره لبحث الكلام في فكره؟

كأن سؤال الحضور الكلامي عند الحبابي والعروي، من قبيل البحث عن المستحيل؛ ذلك أن الرجلين، إنما عُرفا بمجالات هي أبعد ما تكون عن العلوم الدينية، ومنها علم الكلام.

فكيف يحضر علم الكلام عند الحبابي والعروي؟

وهل قراءة التراث تعني ضمنيا قراءة الفكر الكلامي؟

وما طبيعة هذا الحضور في حالة وجوده؟

هل يأتي على شكل تبنّ أو تقويض أو تعديل، لمقولات كلامية أو لاتجاه كلامي أو فرقة كلامية، طالما أن الحضور يستبطن الغياب؟

ثم، على سبيل المفارقة:

ألا يشكل الرجوع إلى الإسلام الأول أو الأصلي عند كل من الحبابي والعروي نزوعا كلاميا؟

ألم يجتهد الاثنان تباعا في بلورة تصور للدين، يروم تطويعه ضمن تيار الشخصانية عند الحبابي، وتيار الحداثة عند العروي؟

ألم يكن كلاهما مسكونا ببحث سبيل للخروج من التأخر والتخلف، بإعادة قراءة الإسلام من منظور مختلف؟

ألا يكون هذا المنظور المختلف سوى نوع من الاجتهاد الكلامي بعدة مفهومية لا قبل للعلماء التقليديين بها؟

ما التصور المختلف الذي بلوره كل منهما في النظر إلى الدين وقضاياه، كمدخل لصياغة منظور معين للخروج من التخلف؟

تلك كانت أسئلة البحث وهواجسه التي حركته على طول صفحاته.

ونظرا للعلاقة غير المستقرة بين علم الكلام والفلسفة، ولكون شخصيات البحث تنتمي إلى الحقل الفلسفي في معظمها، فسيكون البحث مشغولا ببحث هذه العلاقة وتتبع مساراتها قديما وحديثا؛ لأن معظم المواقف المتخذة من علم الكلام، تستقي مبرراتها من الفلسفة، ومن المواقف المتخذة تجاه التفلسف عامة، وتبعا لذلك، من كل المفاهيم الأخرى المرادفة أو المتفرعة عن الفلسفة وعلم الكلام كالميتافيزيقا وفلسفة الدين.

2 – الدراسات السابقة:

الدراسات المهتمة بمشاريع قراءة التراث تملأ الساحة الفكرية كقراءات لقراءات؛ فقُرّاء العروي وعلال الفاسي كثيرون، وبدرجة أقل قراء الحبابي، وبدرجة أكثر قراء الجابري، وغيرهم من المشتغلين بقراءة التراث؛ بيد أن هذه القراءات تتوجه إلى التراث ككل ولا تختص بقطاع منه، مع أن جوهر التراث الذي حظي بالقراءة والنقد هو القطاع الكلامي، وكما سيتضح مثلا عند العروي؛ إلا أن هذا الجزء الجوهري لم يحظ بدراسات مستقلة تنصرف خاصة إلى القطاع الكلامي من التراث؛ كأن تقارب مثلا موقف العروي، من جهة الكلام أو العقل الكلامي، أو تقارب فلسفة الحبابي بالبحث عن أصولها الدينية والكلامية، بالرغم من توكيد نقاده على هذا المنحى، أو تقارب فكر علال الفاسي في جانبه الكلامي، بالرغم من شيوع دراسات كثيرة تقارب فكره من منطلق مقاصدي لا كلامي؛ إلا ما كان من فقرات مجتزأة في مقالات أو كتب تأتي عرَضا لا أصلا مقصودا، مع استبعاد الكتابات التي تعمد إلى لغة الهجاء والافتراء كشكل من أشكال النقد، بالرغم من شيوع مفاهيم النقد في عناوينها.

3 – المنهج المعتمد في البحث:

 طبيعة البحث تحدد نوع المنهج أو المناهج المتبعة، وهي لا تخرج عن المنهج التاريخي والاستقرائي؛ فالأول لملاحقة مسار الفكر الكلامي، من علال الفاسي إلى العروي، مرورا بالحبابي، ولتتبع مصطلحاته وتلك الشبيهة أو المرادفة له، في التداول العربي الإسلامي والتداول الغربي. أما الثاني، فلتتبع مفرداته ومقولاته في طروحات الشخصيات الثلاثة، مع ما يتبع ذلك من وصف ومقارنة وتحليل مشوب بقليل من النقد، طالما أن توصيفَ الحضور الكلامي، وعرضَه بأمانة، مع توصيل مفرداته ببعضها البعض، أو بمفردات شبيهة، يجعل النقد عارضا في البحث لا أصيلا. وذلك النقد العارض يأتي مبررا من داخل تلك القراءات لا من خارجها؛ إذ ليس من أهداف هذا البحث الاحتفاء بهذا المفكر وإسقاط ذاك، ولا بيان صوابية أحدها وتهافت الآخر.

4 – صعوبات البحث:

لا يخلو بحث يُنشأ إنشاء من صعوبات وعوائق، بعضها ألصق بطبيعة الباحث، ولا تنفك عنه؛ ذلك أن البحث، هو في الأصل مغامرة شاقة، بزاد غير معلوم، في قفر غير مأهول، حيث تتولد العقبات فُجاءة، وتتجدد العوائق تباعا.

لكن بعض تلك الصعوبات والعوائق، ألصق بطبيعة البحث، وهي أغرب من الأولى. فإن هما اجتمعا على باحث أهلكاه في الغالب. ولا يقوى على النجاة منهما إلا بتحدّ أو انسحاب.

وقد تمثلت أهم صعوبات البحث، في أن معظم مراجعه بغير العربية، خاصة عند الحبابي والعروي، إضافة إلى الغموض الذي يكتنف مؤلفات العروي بشهادة الكثيرين، والصعوبة التي تطرحها اللغة الفلسفية لجل مراجع البحث ومصادره، مع ما يتطلبه كل ذلك من جهد فكري ونفسي مضاعف، كما أن خلفيات هذه المراجع تطرح صعوبة أخرى في التعامل معها، نظرا لجمعها بين أكثر من حقل معرفي، كالفلسفة وعلم الكلام وعلم الاجتماع والتاريخ، وانتظام جلها ضمن تيارات ومذاهب فلسفية، يجمل بمن يريد فهم تلك المراجع، أن يلمّ بتلك المذاهب والتيارات، مثل التاريخانية والشخصانية والوجودية والبرغسونية وغيرها، مما يلقي بالباحث في غياهب مدلهمة، ومسارات شائكة، لا قبل له بها من قبل.

5 – تحليل خطة البحث

جاء البحث في أربعة فصول، إضافة إلى مقدمة وتمهيد، وخاتمة لكل فصل وخاتمة عامة.

جاء التمهيد كمدخل مفاهيمي للتعريف بمفردات العنوان، وهي: الحضور، وعلم الكلام، والفكر المغربي، والمعاصر، والبواكير؛ فالحضور مثلا يستبطن الغياب، وعلم الكلام يعني شخوصه ورموزه ومقولاته، كما يعني نزوعه المعرفي والفلسفي في رؤيته إلى العالم والكون والإنسان، لا نزوعه الدفاعي الذي ارتهن لتعريف ابن خلدون، والفكر المغربي المعاصر، ينصرف إلى الفكر الفلسفي في بواكيره، مع تبرير هذا الاختيار، ليستقر عند علال الفاسي، الذي برر البحث اندراجه ضمن الفكر الفلسفي، وعند الحبابي مدشن القول الفلسفي، والعروي الذي يصنفه الكثير من الدارسين تاليا للحبابي، بالرغم من وجود مفكرين آخرين في مقامه.

أما الفصل الأول، فجاء بعنوان: علم الكلام في السياقين العربي الإسلامي والغربي، موزعا على محورين رئيسين: المحور الأول: علم الكلام في التداول الغربي والعربي، حيث ناقش أولا العلاقة بين علم الكلام وعلم اللاهوت، من خلال تعريف هذا اللفظ في مظانه، والبحث عن أصوله، وأنواعه، وكيفية وروده في الكتابات الغربية، وكيفية انتقاله إلى الكتابات العربية، وطبيعة تنقله وترحاله بين الثقافة الغربية والثقافة العربية والإسلامية، ثم بحث الفوارق والاختلافات بينه وبين علم الكلام.

وثانيا: العلاقة بين علم الكلام والفلسفة في التداول اليوناني والغربي عموما، أو الحكمة في التداول العربي الإسلامي، ليسائل البحث سر هذا الترادف، وعوامل هيمنة لفظي الحكمة والحكماء على لفظي الفلسفة والفلاسفة في الثقافة العربية والإسلامية، لينتهي إلى أن المواقف المعارضة للفلسفة كانت أحد العوامل في شيوع لفظ الحكمة والحكماء.

وثالثا: العلاقة بين علم الكلام والميتافيزيقا، لمشاركتها علم الكلام في المكانة، وفي الإطلاق من أحد جوانبه، وفي القضايا المشتركة، حيث بحث تعريفها، وموقعها في الفكر الفلسفي، والمواقف المتخذة تجاهها منذ برمنيد حتى هيدغر، مرورا بأفلاطون وأرسطو، والفلسفة الوسيطية، والفلسفة التحليلية الرافضة لها، منتهيا إلى أن علم الكلام يمثل جزءا من الميتافيزيقا أو هو الميتافيزيقا ذاتها، في بعض تجلياتها.

ورابعا العلاقة بين علم الكلام وفلسفة الدين، لاشتراكها مع علم الكلام على الأقل في موضوع البحث، ملاحقا تعاريفها، وموضوعاتها، ورموزها، ثم ما يجمعها ويفرقها عن علم الكلام.

أما المحور الثاني: علم الكلام في الفكر العربي المعاصر، فقد بحث التفكير الفلسفي والمعجزة اليونانية، وعلاقة كل ذلك بعلم الكلام.

ونظرا لأن المواقف المتخذة من علم الكلام قديما وحديثا، تستقي مبرراتها في الغالب من المواقف المتخذة تجاه التفلسف، فقد ناقش البحث ما سمي بالمعجزة اليونانية، متتبعا مظانها سواء في الكتابات الغربية أو في الكتابات العربية التي انتقلت إليها بفعل الترجمة، في النظر إلى التفلسف. وهكذا ناقش البحث موقع الكلام في الفكر العربي المعاصر، بتتبع مساره بعد إحيائه ضمن الفلسفة الإسلامية مع مدرسة مصطفى عبد الرازق، وما تثوي من أفكار وطروحات، خلف هذا الرأي الرافض للمعجزة اليونانية التي تربط التفلسف بشعب واحد هو الشعب اليوناني، وبلغة واحدة هي اليونانية ثم الألمانية، وبعرق واحد هو العرق الآري، وما ترتب عن ذلك من مواقف ترفض الاعتراف بعلم الكلام كمنجز فكري عقلاني.

وقد تتبع الفصل آثار تلك المعجزة وانعكاساتها على كتابات الكثير من مؤرخي الفكر الفلسفي في السياقين الغربي والعربي، وهو ما جعل علم الكلام، محل تنازع، من حيث موقعُه ومآلُه، ومن حيث طبيعتُه ومجالُه، حيث انقسم المفكرون والفلاسفة حوله إلى فريقين أو ثلاثة، تبعا لطبيعة التأثر بالمعجزة اليونانية، فمن يرفض أن ينسُب التفلسف إلى غير شعب اليونان، لا يرى في غيره من الشعوب قدرة على الإبداع العقلي، لذلك جعل علم الكلام خارج دائرة الإبداع العقلي، ومن يرفض تلك المعجزة، يرى أن علم الكلام فلسفة ولو بمعنى من المعاني، وتلك كانت أطروحةَ مدرسة مصطفى عبد الرازق، وتلامذتَها في المغرب، مع علي سامي النشار، وعلال الفاسي وعبد المجيد الصغيّر.

كان الفصل الأول تأسيسيا، لتأتي الفصول الثلاثة اللاحقة تفصيلا لنماذج في التعامل مع علم الكلام، حضورا وغيابا، احتفاء ونقدا، وكأنه انتقال من العام إلى الخاص؛ إذ لا يمكن النظر إلى علم الكلام في الفكر المغربي، دون النظر إلى موقعه في الفكر العربي، لارتباطهما. وقبل النظر الأول والنظر الثاني، لا يمكن مجاوزة الفكر الغربي، الذي واصل السير في مساءلة ما تراكم لديه من فلسفة ولاهوت؛ إذ استمر عنده التفلسف جنبا إلى جنب مع اللاهوت؛ تحالفا واتفاقا، أو تخاصما وافتراقا، أو اقتتالا واحترابا. وفي كل لحظة من تلك اللحظات الفكرية، منذ العصر اليوناني والروماني، والعصر الوسيط، مرورا بالنهضة، ثم العصر الحديث والمعاصر، تولّدت أنظار، وتكوّنت فهوم، تراكمت حول الفلسفة واللاهوت، لتطبع الفكر الفلسفي الغربي بذلك النـزوع اللاهوتي الذي أثر في كل تياراته ومذاهبه حتى العدمية منها، مما يعني أن معرفة تجليات هذا التراكم هي آلية ضمن آليات أخرى لفهم أنظار الحبابي والعروي، الموصولة بالفكر الفلسفي الغربي، ولم لا أيضا فهم أنظار علال الفاسي، المتمكن من الثقافة الفرنسية خاصة. لذلك جاء الفصل الثاني مبتدئا بعلال الفاسي.

       لقد اتخذ البحث من علم الكلام أو علم اللاهوت منظور الدين في رؤية العالم والكون والإنسان، لا دفاعا وتشييدا لمقولاته ومفاهيمه فحسب، ولا نصرة لمذهب عقدي أو ديني، أو مدرسة أو طائفة. ولعل هذا النـزوع اللاهوتي هو الذي سمح بقراءة تاريخ الفكر الفلسفي باعتباره فكرا مشدودا إلى الأسطورة أو الدين، منذ اليونان، وحتى الفترة المعاصرة؛ فما انفك معظم فلاسفة الغرب يستدعون الدين أو اللاهوت بأشكال مختلفة، في بناء أنساقهم النظرية، ومقاربة قضاياهم الفلسفية، تصل أحيانا إلى القضايا والنظريات العلمية كما هو الشأن مثلا مع نيوتن الذي أبانت مخطوطاته المنشورة حديثا عن نزوعه اللاهوتي البين، مما يعني أن أنظار الحبابي والعروي، هي الأخرى موصولة بنوع من الكلام اجتهد الاثنان في بلورة رؤية مختلفة لمقاربة إشكالية التأخر، استنادا إلى تأويل معين، كان مداره تباعا على الدين الأصلي، أو الإسلام قبل أن يصير سنّة حاكمة.

أما الفصل الثاني: الحضور الكلامي لدى علال الفاسي، فجاء في محاور، أولها: علال الفاسي والفكر الفلسفي، وثانيها: الفلسفة الإسلامية في فكر علال الفاسي، وثالثها: علم الكلام في فكر علال الفاسي، رابعها: قضايا كلامية في فكر علال الفاسي، توزعت حول العقل، والدين، والقضاء والقدر أو مشكلة الحرية، والإنسان، وآخرها: نقد وجدل ودفاع، في مجالات منها الدفاع عن الإسلام، والإنصاف، ومقاومة الغزو الفكري.

وهكذا خصص الفصل الثاني لأول شخصية في البحث، أي شخصية علال الفاسي، حيث سعى الفصل إلى بيان أهمية هذه الشخصية والألقاب التي حفلت بها، والشهرة التي عرفت بها مما غطى على بعدها الكلامي،كما سعى هذا الفصل إلى تبرير اندراج فكره ضمن الحقل الفلسفي، اعتمادا على كتاباته أولا، والتي تنبئ، عن نزوعه الفلسفي، وعن اهتمام وتعمق في الفلسفة وقضاياها، واعتمادا أيضا على دارسي فكره ثانيا، حيث قارب فكرَه كثيرون من منظور فلسفي، وأدرجه بعض من أرخوا للتفكير الفلسفي المغربي ضمن تياراته.

 كما سعى الفصل إلى توكيد صلة علال الفاسي بمدرسة مصطفى عبد الرازق، التي تدرج علم الكلام ضمن الفلسفة الإسلامية، خاصة عبر أحد تلامذتها بالمغرب، علي سامي النشار، الذي كانت له معه صلات فكرية، ومن خلال تأصيله للعلاقة بين الفلسفة والدين، باعتبارهما صنوين متلازمين في إشباع نهم الإنسان المعرفي والوجداني.

وقد كان لافتا، احتفاء علال الفاسي، بقضايا ومقولات، هي من قبيل مفردات العصر الحديث، وتضمينها في رحاب فكره، موصولة بأصول الإسلام ومقاصده، بالنظر إلى سبق الإسلام إليها، وإلى ممارستها، خلال تاريخه الغابر.

 كما كان لافتا أيضا، عمل علال الفاسي، على توطين مقولات كلامية قديمة ضمن الفكر الحديث، من خلال فتح آفاقها، وتوسيع مداليلها، والاجتهاد في تضييق مواطن الخلاف، مقارنة بمثيلاتها في الثقافة الغربية.

ثمثلت تلك القضايا التي جدّد فيها علال الفاسي، وأعاد النظر فيها، مثلا في قضية العقل الذي احتفى به من خلال مؤلفه الرئيس «النقد الذاتي»، وبلوازمه من نقد وتفكير وتأمل، مستدعيا ما راكمه الفكر الإنساني حول العقل، ليعطي للعلم في الثقافة العربية بعدا آخرا، ولينتقل من دائرة العلماء بالمعنى التقليدي، إلى رحاب الفكر والمفكرين؛ لذلك، جاءت مقاربته لقضايا الدين والإيمان، والعقل والحرية، واللغة والتواصل، والنقد والتجديد، والإنسانية وحقوق الإنسان، والمثالية والديموقراطية، موصولة بجذورها الكلامية، ولكن بمداليل جديدة، تمتح من عمقه الفكري، واجتهاده النظري، مما جعل تلك القضايا تتبوأ مكانا معتبرا ضمن خارطة الأفكار في الساحة الفكرية المغربية، جعل فكر علال الفاسي أكثر من غيره، محل دراسات وأبحاث، نظرا لتلك العدّة المفهومية، وذلك العمق المنهجي، الذي نقله من مصاف العلماء في تناولهم التقليدي لتلك القضايا، إلى مصاف المفكرين بالمعنى المعاصر.

جاء الفصل الثالث: الحضور الكلامي في فلسفة محمد عزيز الحبابي، منقسما هو الآخر إلى محاور: الأول: محمد عزيز الحبابي: النشأة والمسار، بالبحث في مساره التكويني، انطلاقا من بيئة الأسرة الصغيرة والكبيرة، التي زودته بالمشاعل الأولى، وفي علاقاته المتكثرة مع رموز السلفية، وعلماء القرويين، الذين احتفى بهم في بيته الذي صار قبلة لتكريم أهل المعرفة والعلم.

المحور الثاني: محمد عزيز الحبابي وعلاقته بالتراث، تمثل في دفاعه عن التراث والسلفية ورموزها، والكتابة والمحاضرة في مجلاتها ومحافلها مبرزا الهاجس الكلامي الذي حركه في أول إنتاج له.

أما المحور الثالث: فلسفة الحبابي وعلم الكلام، فقد بحث الصلة بين فلسفته الشخصانية وعلم الكلام، وكيف أن الكثير من الدارسين قاربوا فلسفته مقاربة كلامية، ونقم بعضهم عليها بسبب نزوعها الكلامي. وختم الفصل بالمحور الرابع: قضايا كلامية في فلسفة الحبابي، موزعة على الدين والإيمان، وعلم الكلام ذاته، والعقل، واللغة، والإنسان.

هكذا إذن، جاء محمد عزيز الحبابي، ليصل ما انقطع من تفلسف منذ ابن رشد، وليكمل سبيل علال الفاسي، ولكن بنظر أعمق وأشمل، حيث بحث هذا الفصل حضور الكلام في فلسفته، ابتداء من مساره وتكوينه، وشخصانيته، وانتهاء ببحث قضايا كلامية من منظور فلسفي.

لقد انخرط الحبابي بعد دراسته بفرنسا، وعودته إلى المغرب، في قضايا بلده في التفكير في سبيل لإخراجه من التخلف، حاملا شخصانيته التي كان يراها أحد أوجه النجاة، مما جعله في تشابك مستمر مع مفكرين مغاربة وعرب، في قضايا حضر فيها البعد الكلامي حضورا طاغيا، إلى درجة خوف اتهامه بذلك، حين أصر في إحدى محاضراته، على أنه يقارب موضوعاته من منطلق إيماني، لا كلامي.

أما الفصل الرابع والأخير، فقد خُصص لعبد الله العروي، حيث شمل عدة محاور: الأول عن حياته ومساره، والثاني عن سؤال التخلف التاريخي والثقافي، حيث بحث مساره، وموقعه في الفكر المغربي، والرؤية الإصلاحية التي عرف بها، مركزا على قضية المنهج في فكره، والثالث عن المنهج متتبعا التاريخانية والمنهج التاريخاني الذي وسم فكره، والفكر الفلسفي الذي نفر منه، والقطيعة مع التراث التي تحفل بها كتاباته، من خلال التركيز على هذه القطيعة عن طريق رفع لواء الحداثة، ممثلة في العقلانية، وكلام الأنوار، والدين الطبيعي، في مواجهة الذهنية الكلامية مجسدة في التقليد وعلم الكلام، ودين السنّة.

أما المحور الرابع فجاء عن الحداثة في مواجهة التقليدانية، حيث قارب العقلانية في مواجهة العقل الكلامي، وكلام الأنوار في مواجهة الكلام الإسلامي، والدين الطبيعي في مواجهة دين السنّة، لينتهي المحور الرابع، بوقوع حداثة العروي وتاريخانيته في مرمى النقد والنقاد.

وهكذا ابتدأ الفصل بوصف بدايات العروي، الذي انشغل بقضية التأخر التاريخي، باحثا لها عن أجوبة لا تكرر السائد مما قُدم ضمن الإيديولوجيات العربية التي انتقدها بشدة، ممثلة في داعية الكلام والسلفية، وداعية التقنية، وداعية السياسة، بعد جمعها في وسم واحد هو التقليد والتقليدانية، على أساس أن هؤلاء جميعا، يمتحون من ذهنية واحدة، هي الذهنية الكلامية التي تطبع التراث بكل ألوانه.

كان التوقف طويلا، عند مسألة المنهج، التي تعني عند العروي، ضرورة القطع مع المنهج القديم الذي تعكسه السنّة، والذهنية الكلامية، والعقل الكلامي، باعتباره صفحة ينبغي طيها، في اتجاه أفق الحداثة ومنطقها الحديث، ومنهجها التاريخاني، كبديل تجسده العقلانية الغربية، وكلام الأنوار، ودين الفطرة، أو الدين العقلي أو الطبيعي، لا كما تمثل في عصر الأنوار الذي اتخذ من المسيحية منطلقا ومستندا، وإن تأسس عليه، ولكن كما تمثل في الإسلام، في بدايات انطلاقه، قبل أن يدون في سنّة متبعة.

لقد توقف الفصل الرابع عند هذه القضايا التي تشكل مفردات مشروع العروي، وهي الحداثة، والتاريخانية، والماركسية الموضوعية، وما تفرع عن هذه المفاهيم من مفردات أخرى، كالعقلانية، والدين الطبيعي، والكلام المستحدث أو الحداثي، دون أن ينسى ما يقابل هذه المفاهيم والمفردات التي سعى العروي إلى نقدها، والدعوة إلى طي صفحتها، وهي التقليد والتقليدانية، والتراث والسنّة، والعقل الكلامي، والذهنية الكلامية.

6 – أهم نتائج البحث:

لقد اتضح خلال مسيرة البحث في النماذج التي شكلت بواكير الفكر الفلسفي المغربي المعاصر، أن علم الكلام كان حاضرا في أنساقها الفكرية وطروحاتها النظرية، من خلال تأويل معين للدين، وقراءة لامتداداته الكلامية، من أجل الإجابة عن إشكالية التخلف كما جسدها علال الفاسي في النقد الذاتي، والحبابي في الشخصانية الإسلامية، والعروي فيالإيديولوجيا العربية المعاصرة. وبالرغم من اختلاف تلك الإجابات وتنوعها وتضادها أحيانا؛ فإنها بقيت موصولة برؤية معينة للدين، تؤسس لاجتهاد كلامي يروم إعادة النظر في طروحاته وقضاياه، مع استحضار التجربة الغربية في تعاملها مع الدين، وإسقاطها على المجتمعات العربية والإسلامية بنسب متفاوتة، تضيق مع علال الفاسي، وتزداد اتساعا مع عبد الله العروي.

وقد خلص البحث بعد ملاحقة هذا الحضور المختلف للنـزوع الكلامي في طروحات الشخصيات الثلاثة إلى ما يلي:

أ–بالرغم من تفاعل علال الفاسي مع الفكر الغربي استيعابا ودراسة ونقدا وتضمينا، فإنه بقي في منظور معظم الدارسين المنشغلين بهمّ الإصلاح رجل علم ومقاصد، منغرسا في التراث دون أي وصل واع بما يطبع منجزه الفكري من نزوع إنساني عام يتجاوز مفردات التراث إلى مقولات الآخر التي بقيت في منظور هؤلاء الدارسين كهوامش غير ذي أهمية، خاصة في كتابه الرئيس «النقد الذاتي»، مما فوّت على تلك الدراسات قراءة علال الفاسي في تفاعله مع الآخر. وهي القراءة التي بقيت حبيسة فكره، ولم تستمر لدى أولئك الدارسين، نظرا للرؤية الأحادية التي لم تستحضر مقولات الآخر ومفرداته، الحاضرة بقوة في فكره، بل اقتصرت على الحضور التراثي من خلال المقاصد خاصة، مع العلم أن تلك الدراسات لم تكن معنية بقراءة تلك المقولات التي تراها غريبة عن طبيعة التراث؛ لذلك لم ينظر إليه كمجتهد يسعى إلى موضعة الإسلام ضمن الاتجاهات الفكرية التي تنتظم عالم اليوم، من خلال بحث حواراته ونقوده، وجدالاته ومراجعاته،حول مقولات وقضايا هي من صميم الدين، من أجل إعادة طرحها بمنهج مختلف، وفي اتجاه آفاق أخرى، لتزاحم مقولات الآخر ذات الحضور القوي، وإنما نظر إليه  كاستمرار  لوظيفة العالم في الثقافة التقليدية  من خلال استدعاء رموزها، في استبعاد للواقع الفكري والإنساني الذي تحرك فيه الرجل، وسعى عبره إلى رسم معالم مشروعه الفكري.

ب-وإذا كان علال الفاسي الذي أخطأه معظم الدارسين في رؤية نزوعه الكلامي المختلف، أمرا يبعث على السؤال؛ فإن أمر محمد عزيز الحبابي أشد غرابة وسؤالا، نظرا لنـزوعه الفلسفي الذي غطى على أي منظور يمكن أن يقرأ في فكره رؤية إصلاحية ذات نزوع كلامي، بالرغم من مسار الرجل القريب من أقطاب السلفية، وانشغاله كغيره من المفكرين الذي عايشوا فترة من الاستعمار، بسؤال التخلف والتبعية، والبحث عن طريق للاستقلال الفكري والحضاري. لكن اندراج فكره ضمن الحقل الفلسفي كان عائقا أمام قراءته، نظرا لأن المنشغلين بالإصلاح لا يرون في دارسي الفلسفة أي نزوع إصلاحي،كما أن اطلاعهم على الفكر الغربي لا يتعدى معرفة العناوين والأسماء في الغالب.  ولعل هذا ما يفسر خلو الساحة الفكرية المغربية والعربية من دراسات معمقة ترصد اجتهاد الرجل في وصل الإسلام بالعصر، ووصل مقولات الغرب بما يؤصلها في التراث. وما يزيد الأمر غرابة أن الرجل لم ينظر إليه عند دارسي الفلسفة إلا بكونهم دشن القول الفلسفي. أما ما قدمه من إسهام نظري لبلورة رؤية إصلاحية تروم مقاربة إشكالات العالم الثالث بمنظور مختلف، فلم يكن يشغل معظم الدارسين المغاربة الذين رأوا في منجزه الفلسفي نقلا وهامشية وخروجا عن المألوف في عرف الفلسفة والفلاسفة.

ج- وإذا كان العنوان البارز لمشروع العروي هو الحداثة وما ارتبط بها من مقولات العقلانية، والفردانية، والدين العقلي،كما تمثلها عصر الأنوار؛ فإن العنوان الآخر المقابل لمشروعه هو التقليدانية ممثلة في العقل الكلامي، والدين كما جسده أهل السنّة والجماعة؛ لذلك كان جهدها لأكبر، ليس في إبراز الحداثة، والتأصيل لها، وتقريبها كما فعل كثيرون (محمد سبيلا مثلا)، وإنما انصب جهده في نقد التقليدانية وتقويض أركانها وأسسها، وصياغة بديل عقلي وديني يستدعي العقل كما مثلها الموقف الاعتزالي، باعتباره موقفا إنسانيا، والدين كما مثله الإسلام أول مرة، قبل تدوينه في سنّة متبعة. ومع ذلك لم يكن لينظر إلى منجز عبد الله العروي بعين الرضا، نظرا لتصنيفه من قبل كثيرين ضمن التيارات الماركسية، وللقطيعة التي عرف بها الرجل، مع أن فكره لم يكن محل رضى بين الماركسيين أنفسهم؛ لذلك بقي إسهامه الفكري غائبا لدى المهتمين بالإصلاح، فلا يحضر عندهم إلا في مقام المؤرخ احتفاء واحتفالا، أو في معرض النقد لعناوين فكره، وليس لدقائقه وتفصيلاته. وكأن هناك عوائق نفسية حالت دون دراسة رؤية الرجل الإصلاحية، قبل أن تكون عوائق فكرية. وبالرغم من الدراسات الكثيرة التي تناولت منجر الرجل الفكري، إلا أنها بقيت في حدود المنظور الأحادي الذي يذهب إلى حد التبجيل والتعظيم كما هو شأن معظم الدارسين من تلامذته ورفقائه وأصدقائه، أو التهوين والتهافت كما هو شأن القليلين من معاصريه. وفي كلا المنظورين بقي إسهام الرجل الإصلاحي غير واضح، ويكتنفه غموض كبير؛ فلم يحاور بعمق وروية، ولم يخضع متنه الفكري إلى منظورات مختلفة، ترسم رؤيته للدين، وتستبين معالمها، مع ما يعني ذلك من إعادة النظر في الكثير من الثنائيات مثل الدين والسياسة، أو الدين والدولة، أو الدين والمجتمع، أو الدين والفن، أو الدين والإبداع عموما، أو الدين والحرية، وغيرها من الثنائيات التي ما تزال راهنيتها حاضرة بقوة، وإن برؤى قارة غير متجددة، نظرا لغياب الانفتاح على منظورات أخرى مختلفة، لعل فكر العروي أحد هذه المنظورات المختلفة التي تتطلب الفهم والاستيعاب والاحتضان قبل التطوير والنقد والتصويب. ولن يتم ذلك إلا بدراسة تاريخ الفكر الغربي، والغوص في لحظاته الفكرية والحضارية، ليمكن بعد ذلك التحاور معه ونقده، باعتبار أن أنظار العروي وغيره، تمر عبر هذا المسار، ولا يمكن دراسته بعيدا عن هذا المسار. وهذه إحدى العوائق التي نبه إليها الحبابي، في دعوته إلى إعادة التكامل إلى المعرفة؛ إذ يغرق معظم المشتغلين بالفلسفة في تخصصاتهم، دون أن يكون لهم إلمام كبير بقضايا التراث إلا من باب النقد والتأويل، في مقابل متخصصين في العلوم الشرعية، ليس لهم من مفردات الفكر الغربي غير العناوين والأسماء، مما يجعل مقاربة هؤلاء أو أولئك لفكر العروي أحادية وغير مكتملة.

33

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق