وحدة الإحياءأعلام

الحسن البصري إماما وفقيها ومتصوفا

سنتحدث في هذا الموضوع عن بعض جوانب شخصية الإمام الحسن البصري هذه الشخصية الفضفاضة التي لا يمكننا الوفاء بأبعادها المتعددة في عجالة كهذه، ولكن مالا يدرك كله لا يترك جله أو بعضه، ولهذا أجدني متحيزا إلى الاكتفاء ببعض رؤوس الأقلام وانتقاء بعض المظاهر لشخصية الحسن البصري، آملا أن تتاح الفرصة لي لتحليل المظاهر الأخرى لهذه الشخصية واكتشاف خباياها المتعددة ومناجمها الدفينة.

وقد ارتأيت أن يكون تصميم هذا العرض متضمنا لحياة الحسن البصري الشخصية، وحياته العلمية، كما يتضمن الحديث عن مواعظه وحكمه.

القسم الأول: من هو الحسن البصري؟

للإجابة عن هذا السؤال العريض أراني مضطرا للحديث عن الفروع التالية:

الفرع الأول: نسبه وصفاته الخلقية والخلقية

إنه الحسن ابن أبي الحسن البصري الأنصاري ويكنى بأبي سعيد ونعت بالبصري لأنه عاش بمدينة البصرة وتوفي بها ونعت بالأنصاري لأنه كان مولى الأنصار – وقد اختلف في من هو مولى والده يسار أهو زيد بن ثابت رضي الله عنه – أم جميل بن قطبة أم جابر بن عبد الله، وعلى كل حال فأبو الحسن البصري سبي بميسان من دولة العراق حين فتحها زمن خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه على يد عتبة بن غزوان وكان يدعى قبل إسلامه بفيروز.

أما أم الحسن البصري فاسمها خيرة وكانت مولاة أيضا لأم سلمة، رضي الله عنها، على الراجح وقد تزوجها يسار وهو في الرق وعلى هذا فقد ولد الحسن مملوكا، وقيل إن اسمها صفية بنت الحارث من أهل اليمن، ويقال بأنها وزوجها كانا يختلفان إلى المسجد لتعليم القرآن للنساء والرجال هو في مقدمته وهي في مؤخرته.

وكان شغل والد الحسن البصري شبيها بما يشتغل به المماليك عادة، حيث كان موزعا بين الخدمة والزراعة، أما أمه خيرة، فقد اشتغلت في خدمة أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حيث كانت تصحب ولدها لبيوت أمهات المومنين حتى إذا غابت عن ولدها ذات مرة رعته أم سلمة وعللته بثديها إذا بكى إلى حين رجوع أمه، كما كانت خيرة تخرج ولدها إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيدعون له وهو صغير ومن ذلك دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه له بقوله: “اللهم فقهه في الدين وحببه إلى الناس”.

وهكذا كان للبيئة التي تربى فيها الحسن البصري والمجال الذي احتضن طفولته وشبابه أكبر الأثر في تربيته وسلوكه مسلك الزهاد والعلماء. ويروى أنه كان له يوم مقتل عثمان، أربعة عشر عاما، ولذلك من السهل معرفة ميلاده بمعرفة تاريخ وفاة عثمان رضي الله عنه. وبالإضافة إلى ذلك فقد عاش الحسن البصري سنين من عمره في أحضان مكة خارج مسقط رأسه، حيث كان أبوه ينتقل إليها قبل أن يستقر بهما المقام بالبصرة في نهاية المطاف.

ولم يفت الحسن البصري أن ينجز أسرة مثالية تتكون من زوجين وثلاثة أبناء، أحدهم سعيد وكان يكنى به، وثانيهم عبد الله، ويروى الكثير من الفضائل عن السلوك المثالي للحسن البصري وهو يرعى أسرته حيث كانت تهيمن عليه مبادئ التقوى والعفة والورع وإيثار الحلال على الحرام وترك الشبهات مهما يكن حجمها صغيرا أم كبيرا، والحب والوفاء لأعضاء أسرته عند السراء والضراء. وتدل على ذلك أبلغ دلالة، كلمته وهو يفارق أعز إخوته سعيد “الحمد لله الذي لم يجعل الحزن عارا على يعقوب ضيفا “بئست الدار المفرقة”.

وقد اجتمعت للحسن البصري كمالات الجسم ومحاسن الأخلاق. ففيما يخص الشق الأول، كان جميل الصورة مشهورا بالجمال ومن أجمل أهل البصرة صورة، معروفا بذلك مقبولا عند الناس. ونجد شهادات معاصريه في هذا الباب كثيرة متواترة، نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر شهادة موسى بن إسماعيل بن عاصم بن يسار الرقاش إذ يقول: أخبرتني أمة الحكم قالت: “كان الحسن يجيء إلى حطان بن عبد الله الرقاش، فما رأيت شابا قط كان أحسن وجها منه”.

وكان يصفر لحيته كل جمعة ويلبس الطيسان ويلبس عمامة سوداء ويصلي في نعليه على السنة ويتختم بيده اليسرى خاتما من الفضة عليه خطوط، وكان ذا شعر طويل يتركه ويحلقه يوم النحر ويحمل عصا في يده. وباختصار، كان الحسن البصري نموذجا حيا في عظمة البنية وقوة العضلات وكمال التكوين.

وفيما يخص الشق الثاني المتمثل في سجاياه الأخلاقية، فقد كان رجلا حزينا يغلب عليه الأسى أكثر مما يستسلم للفرح والضحك. وإلى جانب ذلك كان صاحب هيبة ووقار ومروءة وكرم وسخاء ورفق بالفقراء والأصحاب. ويروى عنه كان يبكي ويقول: “ولقد رأيت أقواما يمسي أحدهم ولا يجد عنده إلا قوتا فيقول: لا أجعل هذا كله في بطني لأجعل بعضه لله عز وجل”، وجعل المال وسيلة لا غاية إذ قال في هذا الموضوع: “والله ما أعز أحد الدرهم إلا ذل”ونتيجة لهذا الموقف من المال ومتاع الدنيا، عاش الحسن البصري عفيفا قانعا مستغنيا عن استجداء الناس. وتطبيقا كذلك لموقفه هذا من المال، كان لا يأخذ أجرا على امتهان القضاء، وإنما يقضي بين الناس حسبة لله تعالى، وكان يسكن في أحد الأحياء المتواضعة للبصرة حيث يسكن الفقراء والزهاد – إلا أنه لم يكن يحرم نفسه مع ذلك من طيبات الطعام مما أحله الله فيطعم نفسه بجيده كما يطعم معه أصدقاءه ومحبيه مما يطعم به نفسه. ولم يكن الحسن البصري يبخل بإجابة الدعوات للولائم ولا من طرف العلماء والحكام، وكان يدعو آخر الوليمة بهذا الدعاء”مد الله لكم في العافية وأوسع عليكم في الرزق واستعملكم بالشكر”.

وعن شجاعته، كان الحسن فارسا مغوارا وقد برهن على ذلك في الغزوات الكثيرة التي شارك فيها، ومن بينها ذهابه مع الربيع بن زياد إلى خرسان سنة 51 للمحرم.

وأضاف الحسن البصري إلى شجاعته الحربية، فصاحة اللسان وعلو كعبه في اللغة العربية رغم أنه من الموالي، وتعلل فصاحته هذه برضاعته من أم سلمة رضي الله عنها حتى أصبح من أجود الخطباء ويشهد له الجاحظ بقوله: “فأما الخطب فأنا لا أعلم أحدا يتقدم الحسن البصري فيها: “وكان له حس لغوي ونفور من اللحن إلى درجة أنه كان يستغفر الله إذا عثر بشيء من اللحن ويعده خطيئة. وقد استطاع بموهبته هذه أن يجعل الخطابة وسيلة لبسط آرائه ومبادئه بطريقة جذابة ينجذب الناس لمضامينها وينسحرون لروعتها وأسلوبها، كما يستميلهم إخلاص صاحبها وصدقه في القول والفعل وكان يستعين في أسلوبه بالقسم فيضمن خطبه بهذه العبارة” والذي نفس الحسن بيده” ومخاطبة مستمعيه بقوله: “يا ابن آدم” بقدر ما يستعين بالوسائل البلاغية من إطناب وإرسال وتفصيل وغيرها، كلما كانت الحاجة ماسة إلى ذلك.

وعن عبادة الحسن البصري وتدينه، فقد حاز القدح المعلى. وكانت حياته كلها حياة دعوة، إذ كان عابدا في علمه، عابدا في معاملته وعابدا في جهاده، كما كانت حياته موزعة بين المسجد وبيته، فهو يعقد مجلسا علميا في جامع الأمير، ويضيف إليه مجلسا آخر في بيته. وكان يوثر الورع في حديثه قائلا في هذا الصدد: “لولا الميثاق الذي أخذه الله على أهل العلم ما حدثتكم بكثير ما تسألون عنه” وقد حج في حياته مرتين فسئل عن الحج المبرور؟ قال إن ترجع زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة. كما كان يداوم على تلاوة القرآن والتأثر لمعانيه ومواعظه إلى درجة البكاء.

وقد ارتقى الحسن البصري بعبادته إلى درجة الزهد الإيجابي، حيث عد من كبار الزهاد ونموذجا للزهد في عهده الأول قبل أن تدخل عليه مظاهر خادعة ونسك عجمي، وقبل أن يصبح أسلوب معيشة. وهكذا كان الحسن زاهدا بالمعنى الدقيق لكلمة الزهد، متمثلا بشخصيته الزاهدة الأنبياء والصديقين والصحابة، وقد كثرت معاني الزهد في حياة الحسن أقوالا وخطابة وتطبيقا وممارسة، وفيه يقول صاحب الحلية: ومنهم – أعني من الصوفية – حليف الخوف والحزن، أليف الهم والشجن عديم العزم والوشي أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن، الفقيه الزاهد المتشمر العابد. كان لفضول الدنيا وزينتها نابذا ولشهرة النفس وتحدثها واقدا”، وفي نفس هذا المعنى توالت الشهادات تَتْرى لكل من ترجم للحسن البصري، ويعزى زهده هذا لعدة أسباب:

أولا: نفسية الحسن البصري المتميزة، فهي نفسية متوازنة صادقة، يوافق عمله علمه ويوافق منهجه حكمته، فهو يعايش الدنيا ويقف منها على ضوء فهمه للآخرة، كما وكانت نفسيته نفسية المرشد الشغوف والواعظ الرقيق المربي الحكيم.

وثانيا: تربية الحسن الدينية والعلمية، إذ نشأ في أحضان بيوت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأمهات المومنين رضي الله عنهن. ويتذكر جيدا ما شاهده من أعمالهم وما سمعه من أقوالهم ويقول عنهم في حديث له: ” والله لقد كانت الدنيا أهون عليهم من التراب الذي يمشون عليه ما يبالون أشرقت الدنيا أم غربت ذهبت إلى ذا أو ذهبت إلى ذا”. كما يتعجب ممن لا تطابق أعمالهم أقوالهم قائلا: ” ﻟﻘﺪ ﺃﺩﺭﻛﺖ ﺃﻗﻮﺍﻣﺎ ﻛﺎﻧﻮﺍ ﺁﻣﺮ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺑﺎﻟﻤﻌﺮﻭﻑ ﻭﺁﺧﺬﻫﻢ ﺑﻪ، ﻭﺃﻧﻬﻰ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻋﻦ ﺍﻟﻤﻨﻜﺮ ﻭﺃﺗﺮﻛﻬﻢ ﻟﻪ، ﻭﻟﻘﺪ ﺑﻘﻴﻨﺎ ﻓﻲ ﺃﻗﻮﺍﻡ ﺁﻣﺮ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺑﺎﻟﻤﻌﺮﻭﻑ ﻭﺃﺑﻌﺪﻫﻢ ﻋﻨﻪ، ﻭﺃﻧﻬﻰ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻋﻦ ﺍﻟﻤﻨﻜﺮ ﻭﺃﻭﻗﻌﻬﻢ ﻓﻴﻪ. ﻓﻜﻴﻒ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﻣﻊ ﻫﺆﻻﺀ؟ “شاجبا لهذا النفاق مستهجنا لأصحابه، ويقول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن اتخذهم مثله الأعلى وقدوته الحسنة: “ظهرت منهم علامات الخير في السماء والسمت والهدى والصدق وخشونة ملابسهم وممشاهم بالتواضع ومنطقهم بالعمل، ومطعمهم ومشربهم الطيب من الرزق وخضوعهم بالطاعة لربهم تعالى إلى أن يقول حسنت أخلاقهم وهانت مؤونتهم وكفاهم اليسير من دنياهم إلى آخرتهم”. إذن فتربية الحسن الدينية المبنية على الكتاب والسنة واقتفاء أثر الصحابة الصالحين، أدت به إلى الزهد منهجا لحياته والقناعة باليسير من الرزق واعتبار الدنيا مطية للآخرة . وبهذا جعله الصوفية واحدا من أقطابهم، والواقع أن مصطلح الصوفية لم يكن معروفا زمن الحسن البصري، كما أن الصوفية المختلطة معناها بكثير من أفكار الشيعة لا تمت بصلة إلى مذهب الحسن البصري الملتزم بالكتاب والسنة واعتمادهما منبعا للأخلاق والزهد والإحسان وفقه العبادات والمعاملات، فزهد الحسن يختلف كليا عن الزهد الصوفي في معناه ومبناه كما أكد ذلك الدكتور عمر عبد العزيز…

الفرع الثاني: وظائف الحسن وكتبه

يذكر في كتب التراجم للتابعين أن الحسن عمل في القضاء فعن سليمان بن حرب قال: “حدثنا حماد بن سلمة عن يزيد الرشك قال: كان الحسن على القضاء ولم يحمد فيه: وكان لا يأخذ على قضائه أجرا وإنما يعمل ذلك احتسابا حتى استعفي من القضاء – وتفرغ بعد ذلك للعلم والوعظ ومال إلى ذلك بما يرويه الحسن نفسه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عبد الرحمن بن سمرة يستعجله فقال يا رسول الله خير لي، فقال: “اقعد في بيتك”، كما عمل الحسن كاتبا للربيع بن زياد إبان غزوة في عهد معاوية.

ولا تذكر كتب التراجم مصدر دخل الحسن المالي، وإنما تكتفي بوصفه بالسخاء والزهد، ويبدو أن دخله كان من العطاء من الحكومة، وسئل ذات مرة أيأخذ عطاء من الدولة أم يدعه ليتقاضاه من حسنات بني أمية يوم القيامة فقال له: قم ويحك خذ عطاءك فإن القوم مفاليس في الحسنات يوم القيامة.

وعن هشام بن حسان قال: بعث سلمة بن عبد الملك إلى الحسن جبة وخميصة، فقبلهما، فربما رأيته في المسجد وقد سدل الخميصة على الجبة وكان يقول: “كسب الدرهم الحلال أشد من لقاء الزحف”.

والخلاصة أن الحسن كان ورعا في كسب المال، سخيا في إنفاقه عفيف اليد والضمير، تجلله التقوى في كل ما يتعلق بالمال.

الفرع الثالث: مواقف الحسن السياسية

لقد كان الحسن البصري ابن الجيل الأول فكرا ومنهجا وعملا، واتسم موقفه السياسي بالاحتراز وطلب السلامة والنجاة وبراءة الذمة كارها الفتن والخروج على طاعة الإمام من غير الإخلال بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ كان ناصحا أمينا لولاة الأمر لهم بالآخرة. وإذا ما قبل عطاياهم، فكان لا يخشى في الله لومة لائم. ونتيجة لذلك كان صادقا بالحق شجاعا رغم عنف وقساوة الحكام والولاة وأخذهم بالشبهة، وسرعة تهورهم في القضاء على الخصوم.

وتبدو مواقف الحسن السياسي واضحة وجلية في علاقاته مع ولاة عصره، وفي مقدمتهم أمير المومنين معاوية مؤسس الدولة الأموية، إلا أن المصادر لم تتحدث عن هذه العلاقة إلا لماما، ومن ذلك رسالة الحسن إلى معاوية التي يقول فيها: “أما بعد فإن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين وكافة للناس أجمعين ينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين” ولعل انشغال الحسن بالغزو خلال هذه الفترة ولمدة ثلاث سنوات هو السبب في ضحالة علاقته بمعاوية.

وبعكس ذلك، فقد كانت علاقة الحسن البصري بمعاصره والي العراق الحجاج بن يوسف الثقفي، علاقة تتسم بالزخم والتوتر المستمر لسنوات ذوات العدد، إذ كانا يمثلان الصراع بين الحق والباطل، بين الموالي وبين الدين والدنيا، بين الكلمة الطيبة الزاهدة وحدة السيف وغضبه، فالحجاج أعمته الدنيا وزخرفها وأغواه الملك والغطرسة، بينما الحسن رغب في الآخرة وزهد في الدنيا ووعظ بالحكمة والتزم بها.

وكان الرجلان على جانب كبير من التشابه وخاصة في الفصاحة وذلاقة اللسان، إلا أن الحسن كان أفصح، سيما في الخطب الدينية التي تخاطب العاطفة وتلهب الوجدان، بينما كان الحجاج خطيبا سياسيا مؤثرا. وكانا يتبادلان الود والإعجاب، فكان الحسن يداري الحجاج وينصحه برفق، بينما كان الحجاج يجامل الحسن ويعجب به وينصح الناس بمجالسته، ويقول فيه حين سئل عن أخطب الناس: “إنه ذو العمامة السوداء بين أخصاص البصرة إذا شاء خطب وإذا شاء سكت”. وبالرغم من هذا التساكن الحذر بينهما، فقد كاد الحجاج أن يطيح برأس الحسن كما أطاح برؤوس أخرى لولا لطف الله وقدره – ذلك أن الحسن سئل من طرف الحجاج في شأن علي وعثمان، فأجابه أقول قول من هو خير مني عن من هو شر منك: قال فرعون لموسى ما بال القرون الأولى؟ قال: “علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى” وأضاف علم علي وعثمان رضي الله عنهما عند الله – وكان الحسن يردد كلمات بين شفتيه مستجيرا بربه فحفظه الله من شر الحجاج – وقد قال الحسن عندما بلغه موت الحجاج: “وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين”.

وأيام الحجاج خرج ابن الأشعث على الدولة الأموية وخاصة على ظلم الحجاج، فطلب من الحسن البصري أن يخرج مع عامة سكان البصرة حتى يكون سندا لهم بعلمه وشجاعته وسمعته الدينية فاتخذ موقفا مستقلا من هذه الثورة وهو عدم مساندتها وعدم الخروج مع أنصارها مرتئيا أن يترك أمر الولاة وشأنهم لله تعالى يحاسبهم متمثلا بقول الله تعالى ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون”. والثورات بنظره لا تجلب إلا الغبن والانشقاق كما يرى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أولى من أعمال السيف والثورة وهو من طبيعته وسجيته كره الفتن وعدم الوقوع في متاهاتها.

ونجد علاقة الحسن بالخليفة عمر بن عبد العزيز علاقة متميزة، علاقة حاكم عادل بإمام عادل، علاقة محبة ونصيحة، فالحسن يكتب رسائل مطولة لتذكير عمر وإرشاده، وعمر يستأنس برأي الحسن ويستشيره غير ما مرة، وحري أن يقال فيهما “وافق شن طبقة” إذن فمواقف الحسن السياسية مبنية كما نرى على شجب الظلم ونصرة العدل وإحقاق الحق وإزهاق الباطل.

وبعد وفاة الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه خرجت ثورة جديدة من البصرة يرأسها يزيد بن المهلب بعد أن فر من السجن الذي وضعه فيه عمر لمال مستحق عليه، وهنا توسط الحسن البصري لإقناع المهالبة بالعدول عن الثورة بما عهد فيه من فصاحة وقوة إقناع واللجوء إلى الصبر مع الحكام،  بدل من الاحتكام إلى السيف والتحريض على الفتنة مستدلا بقول الله تعالى: (وتمت كلمة ربك بالحسنى على بني إسرائيل بما صبروا) وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إنها ستكون عليكم أئمة تعرفون منهم وتنكرون، فمن أنكر بلسانه فقد برئ ومن كره بقلبه فقد سلم يا رسول الله: أفلا تقاتلهم؟ قال لا ما صلوا”.

الفرع الرابع: في وفاة الحسن البصري

كما كان الحسن البصري رضي الله عنه محببا إلى الناس في حياته الصاخبة والتي تطرقنا للحديث عن بعض جوانبها بعد مماته، ولعل دعوة عمر بن الخطاب أصابته حين قال بشأنه “اللهم حببه إلى الناس”، إضافة إلى أن دعوة الحسن كانت دعوة محبة طيلة حياته مع جرأة على الحق وزهد بما في أيدي الناس والحكام ناصحا لأمة المسلمين رحيما بها.

ورغم الضعف والإرهاق الذي أصاب الحسن من جراء الشيخوخة وتقدم السن، قفد ظلت نفسيته قوية جريئة في الحق حتى آخر رمق في حياته.

ثم تقدم به المرض والشيخوخة حتى أصبح لا يطيق الكلام، وأصبح عواده يعودونه فرادى ومجتمعين ملتمسين الأجر والثواب والموعظة من رجل محل النصيحة ومكانها فقال مرة لعواده: “إني مزودكم بثلاث كلمات ثم قوموا عني ودعوني وما توجهت له، ما نهيتم من أمر فكونوا من أترك الناس له، وما أمرتم به من معروف فكونوا من أعمل الناس به، واعلموا أن خطاكم خطوتان خطوة لكم وخطوة عليكم فانظروا أين تغذون وأين تروحون”.

وفي مرض موته أغمي على الحسن وأفاق من إغمائه، فالتفت إلى من حوله قائلا: “نبهتموني من جنات وعيون ومقام كريم” واشتد به النزع حتى عجز عن الكلام فصعدت روحه إلى بارئها ليلة الجمعة سنة 110ﻫ موافق 728م عن عمر يناهز الثامنة والثمانين، وقد صلى عليه عقيب الجمعة النضر بن عمر المقري – وتبع الناس كلهم جنازته واشتغلوا بها حتى أن صلاة العصر لم تقم بالمسجد هذا اليوم، مع أنها لم تترك منذ أن كان الإسلام إلا يومئذ – فرحم الله الحسن البصري حيا وميتا. وبهذا ينتهي القسم الأول من العرض حاولت أن أكون فيه وجيزا أكثر ما يمكن غير مطنب في التحليل، اعتبارا للوقت الممدد وتبنيا للحكمة القائلة يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.

القسم الثاني: حياة الحسن العلمية 

لقد كان الحسن بحق موسوعة علمية ذا ثقافة عالية متنوعة والإحاطة بهذا الجانب من حياة الحسن تتطلب أناة وصبرا كبيرا ذلك أن الحسن مقل في التأليف وعلمه منشور في أمهات الكتب يحتاج تجميعه إلى بصيرة وجهد ولكني أجتزئ بتناول بعض المحطات من حياة الحسن العلمية وفقا للتعميم الآتي ملتزما بالمجازة متحيزا للاقتضاب.

الفرع الأول: شيوخ الحسن وتلامذته

أولا: شيوخه

 لا ريب أن الحسن عاصر كثيرا من الصحابة إذ رأى عليا رضي الله عنه وطلحة رضي الله عنه وعائشة رضي الله عنها وروى عن أبي كعب وسعد بن عبادة وعمر بن الخطاب رضي الله عنه ولم يدركهم وروى عن ثوبان وعمار بن ياسر وأبي هريرة رضي الله عنهما وعثمان بن أبي العاص ومعقل بن سنان ولم يسمع منهم في قول، وروى عن عثمان وعلي رضي الله عنهما وأبي موسى وأبي بكر وعمران بن حصين وجندب البجلي وابن عمر رضي الله عنهما وابن عباس رضي الله عنه وابن عمر ومعاوية رضي الله عنهما ومعقل بن يسار وأنس وجابر وخلف كثير من الصحابة والتابعين – إذن فالحسن تلميذ الصحابة النجيب وخريج المدينة البار. وأهم الشيوخ الذين تتلمذ عليهم الحسن في شبابه هم كالتالي:

  1. أنس بن مالك الأنصاري رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت سماع الحسن من أنس وكان أنس معجبا بالحسن حتى قال فيه: “إني لأغبط أهل البصرة بهذين الشيخين الحسن وابن سيرين” وكان الحسن يتابع أنس في أقواله وأفعاله، فقد قال بعدم الجمع في عرفة ومزدلفة استشهادا بفعل أنس، ومن جملة ما روى الحسن عن أنس قول أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن السرف أن تأكل ما اشتهيت”.
  2. عبد الله بن عباس.
  3. عبد الله بن مغفل بن عبد نهم بن عقيق المزنى، أحد العشرة الذين بعثهم عمر ليفقهوا الناس في البصرة.
  4. معقل بن يسار المدني ممن بايع تحت الشجرة، روى عن عمر أن بن حصين ومعاوية بن قرة وهو الذي ينسب إليه نهر معقل بالبصرة، ومما رواه الحسن عنه: “أفطر الحاجم والمحجوم”.
  5. الأحنف بن قيس شيخ البصرة الكبير، وقد روى الحسن عن الأحنف الكثير – وقائمة شيوخ الحسن ما تزال طويلة، وقد أوردت نماذج منها كالدلالة على المستوى الرفيع الذي تمثله في العلم والحديث والقرب من جيل الإسلام الأول، وممن روى عنهم الحسن عبد الرحمن بن حجر وعبد الله بن عمر بن لخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه كما روى عن عثمان بن عفان بن أبي العاص القرشي رضي الله عنهم وعمر بن تغلب النمري ونفيع بن الحارث الثقفي.

ثانيا: تلامذته

 لقد اشتغل الحسن البصري أكثر من سبعين عاما طالبا للعلم وناشرا له، يدرس في حلقات المسجد ويخطب فيه ويحدث – وكما أسلفنا فقد كان له مجلسان مجلس في المسجد الجامع ومجلس خاص في بيته. وكان طلاب العلم يتحلقون حوله – وقد انتقل علم الحسن – الرواية من هؤلاء التلاميذ – وكان مجلسه متنوعا في الحديث والتفسير والفقه، وفيما يلي عرض موجز لنخبة من تلاميذه:

  1. أيوب السختياني بن أبي تيمية الذي قال عنه ابن سعد: “كان أيوب ثقة كثير الحديث جامعا عدلا ورعا كثير العلم، حجة، ولد سنة 86ﻫ وعاش في البصرة والتقى بالإمام الحسن وجلس في حلقته وقال عنه الحسن: سيد شباب أهل البصرة.
  2. حماد بن سلمة بن دينار البصري ويكنى أبا سلمة – وكان ثقة كثير الحديث ورعا حدث بالمناكير، وكان مواظبا على الأعمال الصالحة وقراءة القرآن.
  3. عبد الله بن عوف بن أرطبان المربى – التقى بالحسن وأخذ عنه العلم وأكثر أسانيده عنه، وكان يصوم يوما ويفطر يوما، وجمع الكثير من الإسناد.
  4. عمرو بن عبيد بن باب التميمي البصري، توفي سنة 142ﻫ. وقد جالس الحسن وحفظ واعتزل الحسن مع واصل بن عطاء، وقال بالقدر – وقال الحسن في وصفه بعدما سئل عنه: سألتني عن رجل كان الملائكة أدبته وكان الأنبياء ربته… وكان له سمت الزهاد.
  5. فرقد السجني أبو أيوب البصري وكان نصرانيا وأسلم من كبار زهاد المسلمين في عهد الحسن، جالس الحسن وسمع منه واشتهر بفكرة الجوع وكان يقول: “ويل لذي بطن من بطنه إن أضاعه ضعف وإن أشبعه ثقل”. وكان يلبس الصوف وينصحه الحسن قائلا: “دع عنك نصرانيتك هذه”.
  6. قتادة بن دعامة بن عزيز بن عمرو بن ربيعة السدوسي البصري، توفي سنة 117ﻫ اشتهر بالتفسير، وجالس الحسن طويلا أكثر من اثني عشرة سنة، وكان يقول ما جالست فقيها إلا رأيت فضل الحسن عليه، وقد عرف قتادة هذا بالحفظ الشديد حتى قال عنه الإمام أحمد: قلما تجد من يتقدمه.
  7. واصل بن عطاء المعروف بالغزال المعتزلي الألثغ ولد سنة 80 ﻫ وكان أحد الأئمة البلغاء المتكلمين – وخرج على الحسن في قوله بالمنزلة بين المنزلتين، وانقطعت علاقته بالحسن بعد أن كان تلميذه.

ولا ريب أنه كان للحسن البصري تلامذة كثير غير هؤلاء ورواة للحديث عددهم ليس بالقليل، اهتمت بالتعريف بهم كتب التراجم ولمن يريد التفصيل الرجوع إليها واستشارتها.

الفرع الثاني: الإمام الحسن فقيها

برز الحسن فيما برز فيه بالفقه، وكانت له نظرة خاصة للفقه ويبدو ذلك من جوابه لرجل سأله عن الفقهاء إذ قال: “هل رأيت فقيها قط، إنما الفقيه الزاهد في الدنيا البصير بدينه المداوم على عبادة ربه”.

والفقه يمثل الطابع الحقيقي للتفكير الإسلامي، ويعرف بالعلم بالأحكام الشرعية العلمية المكتسبة من أدلتها التفصيلية، وقد مر بأطوار متعددة. ففي الطور الأول كان يطلق على التشريع بمعناه الواسع وكانت السلطة التشريعية في هذه الفترة تعود للرسول صلى الله عليه وسلم وحده. فالأحكام كانت تنزل متدرجة، والرسول يفتي المسلمين في مسائلهم إفتاء حاضرا طريا وكان هذا طور النشوء.

وفي الطور الثاني، أعني عهد الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، امتد الإسلام وانتشر في بقاع شاسعة مما اضطر الخليفة عمر رضي الله عنه أن يرسل الصحابة ليعلموا الناس ويفقهوهم، وعلى إثر هذا  التوسع واشتعال الفتن واختلاف الآراء، تطور الفقه وظهر الاجتهاد والمجتهدون، وانبثقت عن ذلك المدارس الفقهية التي أظلت عالمنا الإسلامي منذ العهد الأول إلى يوم الناس هذا.

وكان الناس يرجعون في عهد الصحابة للقرآن الكريم وسنة الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم، ثم الاستشارة وجمع أهل الرأي والقضاء بما أجمعوا عليه. وامتازت هذه الفترة بالوقوف عند ظواهر النصوص دون بحث عن علة التشريع أو حكمته، وفي غياب النص يجب العمل بالرأي المبني على روح النصوص وفهمها، ومن هنا نشا النظر في علل الأحكام وحكمة تشريعها، وفي عهد التابعين كان الناس لا يتعدون فتاوى الصحابة المقيمين بين ظهرانيهم إلا اليسير مما كان يبلغهم عن غيرهم. وهكذا اتبع أهل المدينة فتاوى عبد الله بن عمر رضي الله عنه، واتبع أهل الكوفة في الأكثر فتاوى عبد الله بن عباس رضي الله عنه، واتبع أهل مصر فتاوى عبد الله بن عمر رضي الله عنه، واتبع أهل البصرة فتاوى أبي موسى الأشعري وعمران بن الحصين رضي الله عنه.

ومن هنا نشأت الرحلة في طلب الحديث وتتبعه وجمعه وندب أقوام أنفسهم لذلك، فوصلت أحاديث رسول الله إلى البلاد النائية، وكانت فتاوى العلماء مستمدة من الحديث إلى أن استقر العمل على مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل.

وفي هذا المناخ المليء بالنشاط العلمي والحديثي إن صح القول، كان الحسن البصري أحد الأعمدة التي بني عليها الفقه الإسلامي – وكان منهجه في الفقه الميل للحديث والوقوف بشدة على ما صح عنده من عمل الصحابة، وأضاف إلى هذا الميل للحديث القول بالقياس والعرف والاستحسان، وهو يصرح بذلك حينما سأله أبو سلمة بن عبد الرحمان: “أرأيت ما تفتي الناس شيئا سمعته أم برأيك فقال الحسن: لا والله ما كل ما نفتي به سمعناه، ولكن رأينا لهم خيرا من رأيهم لأنفسهم” علاوة على أن المنهج الفقهي للحسن البصري كان متأثرا بشخصيته الزهدية المبنية على العاطفة وأعذار الناس، فنراه يلتزم حكما لنفسه ويفتي غيره بخلافه، مثلا كان لا يأخذ أجرا على التعليم وفي نفس الوقت يدفع أجرا للمعلم الذي يعلم ابن أخيه.

وربما استمد بعض جزئيات فقهه من المجتمع والبيئة وعالجها على أسلوب التكريه لا التحريم، فكان يوسع باب الكراهة ولا يقول بالحرام إلا بما نص عليه، وبذلك كان الحسن يتقمص شخصية المربي الذي يتدرج في تفهيمه الشرع للناس، الحريص على تربيتهم لا على محاسبتهم – وبقدر ما كان رحيما بالناس بقدر ما كان يلتزم الحذر والخوف على نفسه.

وهذه النظرة الشمولية والسعة في فقه الحسن جعلته في مصاف الفقهاء أصحاب المدارس، وهو نموذج لفقه الدليل وفقه أهل الحديث. فيمكنك أن تعده شافعيا مرة ومالكيا مرة وحنفيا مرة أخرى وحنبليا حينا آخر، وقد يأتي بفقه لم يسر على مذهب هؤلاء الأعلام متميزا في بعض مسائله، وقد جمع فقه الحسن ميزات الطور الأول وسعة أهل المذاهب في الأطوار المختلفة، وكان يعتمد التمسك بالدليل مع فهم لتفتح الحياة. وفيما يلي نماذج لمواقف الحسن الفقهية بإيجاز:

  1. ففي مجال مسائل الطهارة، كان يرى ماء البحر طهورا كأكثر الفقهاء، واستدل بقوله سبحانه: (فإن لم تجدوا ماءا فتيمموا صعيدا طيبا) وماء البحر يدخل في عموم كلمة ماء.
  2. وفي مجال أحكام الاستنجاء وآداب التخلي، يرى أن الاستجمار المجزئ يكون بثلاثة أحجار، ويرى أن الاستنجاء بالماء ليس حسنا وقال بكراهة البول قائما.
  3. وفي مجال الوضوء، يرى أن التسمية واجبة مثل الغسل، وأن غسل الكفين قبل إدخالهما في الإناء واجب على كل من قام من النوم، وأن اللحية لا يجب تخليلها بل يكفي غسل ظاهرها، وأن الاقتصار على مسح بعض الرأس كاف كما يجوز المسح على العمامة، وأن الأذنين تعتبران من الرأس. كما قال بجواز المسح على الرجلين، وقرأ بجر الأرجل في الآية: (وأرجلكم إلى الكعبين) واعتبر أن الترتيب في الوضوء ليس بواجب، وللمصلي الصلاة كلها بوضوء واحد ما لم يحدث وكذلك الأمر بالنسبة للتيمم.

وفيما يخص نواقض الوضوء، يرى الحسن أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقا – وأن النوم ناقض للوضوء، كان قليلا أم كثيرا، وأن القهقهة في الصلاة توجب الوضوء، وأن مصافحة المشرك توجب الوضوء كذلك.

  1. وفي مجال الآذان والإقامة، كان يبعدهما عن النساء ويكره الآذان بغير طهارة، ويجوز الكلام للحاجة أثناء الآذان، ويجوز الآذان على الراحلة – أي المركب – وكان يرى كراهة أخذ الأجرة على الآذان.
  2. وفي مجال أعمال الصلاة: قال الحسن بأن تكبيرة الإحرام سنة وليست واجبة وعلى المصلي إسدال يديه أثناء القيام ورفع يديه عند الركوع والرفع منه، ويرى أن الاستعاذة قبل قراءة الفاتحة في الصلاة سنة – و الأمر كذلك في كل ركعة قبل القراءة وأن التسمية مشروعة في أول الفاتحة، وللحسن روايات فيما يتعلق بالقراءة من المصحف في الصلاة. فرواية تقول لا تجوز وتبطل الصلاة وفي ذلك تشبه بأهل الكتاب، وأخرى تقول بكراهة القراءة، وأخرى تقول بجوازها للإمام، ورواية أخيرة تجيز القراءة في النفل دون الفرض.

وفيما يخص أحكام السهو، يرى الحسن أن الإمام إذا زاد في عدد الركعات ولم يعلم إلا بعد فراغه، يسجد للسهو وصلاته صحيحة، وأنه يسجد للسهو إذا نسي التشهد الأوسط، ويتحمل الإمام السهو وليس على من سها خلف الإمام سجود – ولا سجود على المأموم إذا لم يسجد الإمام، ويسجد المأموم مع الإمام إذا سها الإمام قبله وكان مسبوقا سواء كان السجود قبليا أم بعديا- ولا سجود للسهو في سنة خفيفة كالجهر أو السر في غير موضعه.

وفي أحكام الإمامة، يرى الحسن أن المصلين إذا كانوا ثلاثة فأكثر، يقف الإمام أمامهم ويقف المأموم المنفرد على يسار الإمام، وأن إمامة الصبي صحيحة مطلقا في الفرض أو غيرها وكذلك الأمر بالنسبة لإمامة العبد بالأحرار. وفي إمامة النساء للنساء روايتان له بالجواز وعدمه، كما يرى جواز قتل الحية والعقرب في الصلاة والفتح على الإمام ورده من طرف المأموم.

وفيما يتعلق بالجمعة، يرى الحسن أن خطبة الجمعة سنة تجوز الصلاة بغيرها، وأن تحية المسجد مستحبة والإمام يخطب، وأن تشميت العاطس جائز أثناء الخطبة ولا بأس بالكلام بين الخطبتين، وقال بعدم وجوب الجمعة على النساء والعبيد وبجواز تخطي رقاب المصلين بقصد الوصول إلى فراغ، كما قال بكفر تارك الصلاة، وأن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر.

  1. وفي مجال الزكاة وصدقة الفطر، ارتأى الحسن أن لا زكاة في مال الصبي والمجنون، وفي رواية، خصص عدم الزكاة في الذهب والفضة.

وحدد الزكاة في الزرع والثمار في أربعة أصناف: الحنطة والشعير والتمر والزيت، ورأى إخراج الزكاة في الطرق والجسور ومشاريع الخير استدلالا بالآية: (في سبيل الله)، كما قال بوجوب الزكاة فيما يخرج من البحر كاللؤلؤ والمرجان- وبوجوب الزكاة على الميت وتؤخذ من ماله لأنها دين عليه- وفيما يخص صدقة الفطر قال بوجوبها كما عند الجمهور ولا تجب إلا على المخاطب بالصوم، إذن فلا تجب على صغير بينما تجب على العبد المكاتب أيضا.

  1. وفي مجال الصيام أجتزئ بذكر بعض آرائه، فقد كان يرى الحسن إتباع الإمام في الصيام والإفطار إن عم حائل دون الرؤية، وعدم وجوب الصوم على من رأى الهلال وحده – وأن الرؤية لا تثبت إلا بشهادة رجلين – وأن صيام التطوع صحيح سواء بيت الصائم النية أم لا – وأجاز للشيخ الكبير الإفطار وإطعام مسكين عن كل يوم، بقدر ما أجاز ذلك للحامل والمرضع مع القضاء – كما للمسافر الحق في أن يفطر وهو في بيته إذا نوى السفر والخروج، وكان يرى أن الصبي يؤمر بالصيام إذا أطاقه وأن الكافر لا يلزمه قضاء ما فاته قبل إسلامه.
  2. وفي مجال الحج والعمرة: ذهب الإمام الحسن إلى أن العمرة واجبة، وأنه يكره للمسلم أن يعتمر أكثر من مرة في العام- وأشهر الحج عنده شوال، ذو القعدة وعشرة ذي الحجة، وذهب إلى أن التمتع أفضل مناسك الحج، وأن الإنابة جائزة للحي إن لم يحج عن نفسه – ومن مات وعليه حج وهو قادر يجب أن تؤدى عنه من ميراثه – ويرى أن الجماع قبل طواف الإفاضة يبطل الحج وعليه حج قابل – ولا بأس بشم الريحان والنرجس وجواز الإدهان بدون طيب، ويرى أن مبيت منى أيام التشريق سنة وليس واجب.
  3. وفي ميدان البيوع قال الحسن بأن الشرط المنافي لمقتضى البيع فاسد والبيع صحيح، ورخص في بيع المصاحف، وأجاز بيع المرابحة، وهو البيع برأس المال مع نسبة معينة من الربح للبائع. وقال بعدم جواز بيع الكلاب سواء للصيد أو حراسة أو غيرها، ولم ير بأسا في الهر. كما أجاز بيع اللبن في الضرع والثمار في شجرها إذا نضجت، ورأى أن الخيار في المجلس في البيوع وقال بعدم جواز بيع الحب بدقيقه، وعدم جواز بيع اللحم بالحيوان.

وفي مجال ما انفرد به الحسن البصري من آرائه نعرض لبعضها كما يلي:

ـ من صافح مشركا فليتوضأ.

ـ غسل الكفين ثلاثا قبل إدخالهما في الإناء وإلا ينجس الماء.

ـ من جامع زوجته وهي حائض وجبت عليه كفارة من جامع أهله في رمضان.

ـ جواز تغميض العينين في الصلاة ولا كراهة في ذلك.

ـ جواز استمرار قصر المسافر للصلاة ما دام لم يجد مصرا يقيم فيه ولو طال به الأمد.

ـ جواز إعطاء الجزار جلد الهدي.

وبصفة عامة نرى مما سبق أن فتاوى الإمام الحسن موافقة ومطابقة لفتاوى المذاهب الأربعة إلا فيما ندر، ونراها شاملة لمختلف فنون العلم، وتصلح أن تكون مؤلفا مستقلا سهل التناول – ومع أخذه بظاهر النصوص وأحوال الصحابة، فهو يميل في بعض الفتاوى إلى الرأي، وقد يكون غريبا متأثرا بأحوال الناس وحالته النفسية الزهدية كما ألمحنا إلى ذلك سابقا. والحق أن الحسن كان ثقة في فتاويه، حريصا عليها جاهرا بها مما أكسبته سمعة متميزة إضافة إلى ثناء العلماء عليه.

الفرع الثالث: الحسن مفسرا

لقد تصدى الحسن البصري لعلم التفسير وكان من رجاله، فقد كان مالكا لشروطه ومؤهلاته، عالما بلغات العرب وبالنحو والتصريف وعلوم البلاغة والقراءات، كما كان عالما بأصول الفقه وناسخ القرآن ومنسوخه ومدركا لأسباب النزول – كل هذه المؤهلات جعلت من الحسن أحد رواد المفسرين الأوائل لكتاب الله.

وقد كانت مصادر التفسير في العهد الأول: القرآن الكريم ثم السنة النبوية، ثم الاجتهاد والاستنباط ثم علم أهل الكتاب من اليهود والنصارى – وكان الصحابة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم يأخذون التفسير من الرسول الكريم، يفسر لهم القرآن بالقرآن والقرآن بالسنة، وبعد وفاته اعتمدوا على المنقول فيما بينهم وعلى ما تيسر لهم من اجتهاد، وقد برز عدد منهم في التفسير وتخصص فيه ومن أشهرهم: الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم.

وبعد كثرة الفتوحات وشساعة البلاد المفتوحة وتوزع علماء المسلمين فيها، انبثقت عن ذلك مدارس تفسيرية وكان من بينها:

  1. مدرسة مكة وقامت على تفسير عبد الله بن عباس رضي الله عنه، ومن أشهر تلاميذه سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وطاووس وغيرهم كثير.
  2. مدرسة أهل المدينة، وقامت على تفسير أبي بن كعب ومن أشهر رجالها زيد بن أسلم وأبو العالية رفيع بن مهران الرياصي.
  3. مدرسة البصرة حيث بدأ علم التفسير بها مبكرا، إذ أرسل إليها عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبا موسى الأشعري، وهو من كبار الصحابة، ليعلم أهلها القرآن والقراءات. فكان أن تلقى عنه عدد غفير من الطلبة والعلماء وفي مقدمتهم الحسن البصري، موضوع حديثنا، وابن سيرين وقتادة وجابر بن زيد وغيرهم. وهكذا كان للحسن باع طويل في علم التفسير، مثلما كان متضلعا في الفقه والحديث. وقد قال فيه صاحب كتاب “التفسير والمفسرون” “هذا وإن الحسن البصري ليجمع إلى صلاحه وورعه وبراعته في الوعظ غزارة العلم بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم – وأحكام الحلال والحرام وقد شهد له بالعلم خلق كثير”.

ومن الجدير بالذكر، أن الحسن البصري يعتبر بحق مدرسة تفسيرية أخذ عنه قتادة الشيء الكثير المنشور في كتب التفسير، وكان يميل في تفسيره إلى الوعظ وسرد القصص بأسلوب فني جميل، ومن ذلك مثلا تفسيره لقول الله تعالى: (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين) يقول الحسن: هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله هذا خليفة الله، أحب الخلق إلى الله، أجاب الله في دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب الله منه من دعوته، وعمل صالحا في إجابته وقال إنني من المسلمين، فهذا خليفة الله.

ومن نماذج تفسير الحسن تفسيره للآية: (إنا أنشأنهن إنشاء فجعلناهن أبكارا) حيث قال أتت عجوز فقالت يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز، قال فولت تبكي، فقال أخبروها أنها لن تدخلها وهي عجوز وقرأ الآية…

ومن هذه النماذج أيضا تفسيره لقول الله تعالى: (وشاورهم في الأمر) قال الحسن ما أمر الله تعالى نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم، وإنما أراد أن يعلمهم ما في المشاورة من فضل ولتقتدي به أمته من بعده.

الفرع الرابع: الحسن داعية

كانت حياة الحسن مركزة بشكل أساسي على الدعوة إلى الله وتوجيه العباد إلى طاعته، وكانت نفسه تتمثل الورع والزهد والعفة وتعظيم الآخرة، وكانت الدعوة بنظره أن يطلب من الناس الإيمان بالله وبكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مع العمل بذلك والالتزام به امتثالا للآية الكريمة: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) – والدعوة إلى الله تدور بنظره لذلك على إنقاذ الناس من الضلالة وتحذيرهم من الأمور المؤدية لهلاكهم وضياعهم، وقد تكون الدعوة بالسيف إن دعت الضرورة لذلك وهذا بابه الجهاد وقد تكون بالعلم وهذا سبيله العلماء وقد تكون بالوعظ والإرشاد وهذا شأن الوعاظ المرشدين والدعاة مصداقا لقوله تعالى: (ولتكن منكم امة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وألئك هم المفلحون) ( آل عمران: 104). ولقوله صلى الله عليه وسلم: “الدين النصيحة قالها ثلاثا قلنا لمن يا رسول الله؟ قال لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم”.

الفرع الخامس: مؤلفات الحسن البصري

إن من يدرس حياة الحسن البصري ويتفهم جوانب حياته لا يعجب أن لا يرى للحسن مؤلفات بالمعنى المصطلح عليه، فالتأليف عنده كان بطريقة خاصة فبدل أن يدون علومه في الكتب أودعها في قلوب الرجال وخرجت مدرسته آلاف العلماء الذين نفع الله بهم الأمة – فقد توجه الحسن إلى العلم والتعليم مشافهة، وكان في ذلك منسجما مع عصره فلم تكن المؤلفات بشكلها الحاضر موجودة إلا في النادر إذ لم يظهر التأليف والتدوين، إلا بعد عصر الحسن، وليس هذا عيبا للحسن فهو ابن عصره وتربيته تربية زهد وبعد عن الشهرة – وهناك بعض الإشارات تقول إنه كان للحسن بعض المؤلفات ولكنه أحرقها، ومهما يكن أمر هذه الإشارات ومدى صحتها أو عدم صحتها، فقد روي عن الحسن قوله “ما قيد العلم بمثل الكتاب” وعن تمام بن نجيح عن الحسن: “أنه كان يكتب للناس العلم ويعرضه عليهم” – وإن دل كلامه هذا على شيء فإنما يدل على أن الحسن كان يوحي بنجاعة الكتابة للعلوم مما يضمن استمراريتها وانتقالها للأجيال المتلاحقة عبر العصور والأحقاب المتتالية، وعلى كل حال فقد خلصت للحسن بعض المؤلفات نص عليها أصحاب الاختصاص ومن بينها:

  1. فضائل مكة والسكن فيها – طبع في الكويت 1980.
  2. كتاب العدد؛ (أي وأي عدد أي القرآن الكريم) وكتاب التفسير.
  3. كتابه إلى عبد الملك بن مروان في الرد على القدرية.
  4. رسالة في التكاليف.
  5. نزول القرآن.
  6. أربع وخمسون فريضة.
  7. شروط الإمامة.
  8. رسالة إلى عمر بن عبد العزيز.

هذه نظرة موجزة عن مؤلفات الحسن البصري، وهي كما نرى، لا تعكس علوم الحسن الموسوعي تلك العلوم المبثوثة في أمهات كتب الحديث والتفسير.

وإذا كان المطلوب من الداعية أن يكون متوفرا على العلم وتوصيله للناس بالحكمة والموعظة الحسنة بقدر توفره على الزهد والحلم وسع الصدر والفصاحة والتواضع، وأن يكون قدوة حسنة في دعوته، فقد أحسن الإمام البصري في كل ذلك وأجاد أيما إجادة، وكان حكيما ينطق بالكلمة في موضعها، مركزا على علوم الآخرة التي هي أول ما نقصت في حياة الناس، وكان يخاطب كل إنسان حسب منزلته فيصبر على الجاهل والغافل والساهي وإن خاطب العلماء والقراء شدد عليهم، وقد أكثر الحسن من العفة والاستغناء عن الناس، وفي هذا الصدد روي أن أعرابيا سأل أهل البصرة من سيدكم؟ قالوا الحسن. قال بما سادكم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه واستغنى هو عن دينارهم. قال الأعرابي: ما أحسن هذا.

وكان موقفه من الحكام حذرا متجنبا الفتن، فبقدر ما يعظمهم ويرشدهم، يفعل نفس الشيء مع الرعية، محافظا على توازن المجتمع وكارها إراقة الدماء – وهكذا تعهد الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بنصائح ودرر ومواعظ لها فعل السحر، ورسم له خطة للحكم بما ينفع الناس وصفها أحد الكتاب بقوله: “لو أن فيلسوفا أخلاقيا تخير حاكما لمدينة فاضلة ما اختار إلا ما وصفه الحسن حاكما يصلح حياته ويجعلها نعيما”.

الفرع السادس: مكانة الحسن العلمية وآراء العلماء فيه

نظرا لشخصية الحسن الفذة ومكانته العلمية المتميزة، كما ألمحنا إلى بعض معالمها، فقد نال منزلة خاصة عند الأمة، كما نال نفس التقدير والإعجاب من العلماء، بل ملئت كتب التراجم والطبقات بالتعريف به، ومن العجيب أن كل مذهب ظهر بعد الحسن، تعلق بشيء من علمه. فالقدرية تعلقوا ببعض كلامه وعدوه منهم، وأهل الرأي حسبوه من مدرستهم، وأهل الحديث نسبوه لمدرستهم، والشيعة نقلوا كلامه واستشهدوا به، والصوفية أدعته وبنت عليه طبقاتها. والحق أن الحسن يمثل طورين من أطوار التاريخ الإسلامي، عصر الصحابة وعصر التابعين وكان يتقمص شخصية الصحابي بقدر ما يتقمص شخصية التابعي بكل ما تمتاز به الشخصيتان من سمو في العلم والأخلاق والورع.

وفيما يلي نورد بعض الشهادات التي أوردها الدكتور عمر عبد العزيز الجغبير دليلا على استقامة الحسن وصدقه وعلمه وفضله.

  1. نقل ابن سعد في طبقاته: “كان الحسن جامعا عالما رفيعا فقيها، ثقة مامونا عابدا ناسكا – كبير العلم فصيحا وسيما إلى أن قال وما أرسل من الحديث فليس حجة قدم مكة فأجلسوه على سرير واجتمع الناس إليه فحدثهم”.
  2. قال أبو إسحاق الهمداني: “كان الحسن يشبه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
  3. وعن حميد ويونس بن عبيد أنهما قالا: “لقد رأينا الفقهاء فما رأينا منهم أجمع من الحسن”.
  4. وعن قتادة قال: “كان الحسن من أعلم الناس بالحلال والحرام”.
  5. وعن الحجاج الأسود: “تمنى رجل فقال ليتني بزهد الحسن وورع ابن سيرين وعبادة عامر بن قيس وفقه سعيد بن المسيب فنظروا ذلك فوجدوه كاملا في الحسن”.
  6. وعن سليمان بن حرب عن غالب القطان قال: “وكان فضل الحسن عليهم – أعني علماء زمانه – كفضل الباز على العصافير”.
  7. وعن بكر المزني: “من سره أن ينظر إلى أعلم عالم أدركناه في زمانه فلينظر إلى الحسن فما أدركنا الذي هو أعلم منه.
  8. وقال الأعمش: مازال الحسن يعي الحكمة حتى نطق بها وكان إذا ذكر عند أبي جعفر – يعني الباقر، قال ذاك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء.
  9. وقال ابن حبان في الثقات: “وكان الحسن من أفصح أهل البصرة وأجملهم وأعبدهم”.
  10. وفي مرآة الجنان: “أن الحسن من سادات التابعين كبرائهم.
  11. وقال النووي في تهذيب الأسماء واللغات: “هو الإمام المشهور المجمع على جلالته في كل من أبو سعيد الحسني. هذه نماذج ضحلة وقليلة من شهادات العلماء الذين عاصروه أو أتوا بعده من عارفي قدره ومحبي علومه، ولا يمكنني استيعابها كلها في هذا العرض الوجيز – هذا ولا يخفى أن علوم الحسن البصري كانت موضوع رسائل جامعية كثيرة ومن بينها رسالة الدكتور عمر بن عبد العزيز الجغبير التي اعتمدتها من بين مراجع هذا العرض الوجيز. وقد شهد العلماء المحدثون والباحثون المعاصرون بالمكانة العلمية والحديثية والزهدية لشخصية الحسن البصري، واكتفي بإيراد شهادة واحدة من المحدثين هو الدكتور مصلح سيد بيومي في رسالته: ” الحسن البصري من عمالقة الفكر والزهد والدعوة في الإسلام” إذ قال: “فقد جمع بين الكتاب والسنة وآثار السلف الصالح رضي الله عنه، وكان صاحب خبرات بعصره الذي عاش فيه. وكان لخطره وقدره في مجتمعه أن حاولت كل جماعة وفرقة أن يكون سيدا وإماما لها، ولا تكاد تجد كتابا أو بحثا في الدراسات الإسلامية الأصيلة إلا وفيه جانب من علم هذا الإمام العظيم، وأضاف “إن الحسن كان دائرة للمعارف في عصره، وكان دائما يميل إلى إصلاح الفرد والمجتمع كما كان يشارك في الحفاظ على كيان هذا المجتمع الذي عاش فيه.

الفرع السابع: الحسن البصري محدثا

كما ألمحنا إلى ذلك في بداية العرض المتعلق بالحياة العلمية للحسن البصري إذ يعتبر أحد حفاظ الأعلام ورأس الطبقة الثالثة، كما أكد ذلك مختار الصحاح وقد ترجم له كل من عني بالرجال، وهو شيخ أهل البصرة، اتصل بالصحابة في البصرة وخلال غزواته معهم – فقد جمع عنهم أحاديث كثيرة – ولم يكن الإسناد ظاهرا في تلك الفترة – وكان جل اهتمامه يدور حول معنى الحديث وما فيه من حث على الخير، وقد تخصص بجوانب من الأحاديث ذات طابع يتصل بنفسيته وأكثرها يميل إلى الزهد والعزوف عن الإمارة وتذكر الموت.

ولما ظهر السند، تتبع العلماء أحاديث الحسن فوجدوه يرسل كثيرا وربما يدلس فترجموا له بكثير الإرسال – وقد أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة وغيرهم. وكان عمدته في الحديث أنس بن مالك رضي الله عنه وسمرة بن جندب.

وقبل الحديث عن نماذج من مراسل الحسن البصري، أرى من المناسب الإشارة إلى تعريف المرسل في الحديث على خلاف الذي وقع فيه على النحو التالي:

  1. هناك من وسع معنى الإرسال، وهو قول الواحد من أهل الأمصار تابعي أو تابع تابعي ومن بعدهم ولو بعد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وينسب هذا القول لغلاة الحنفية.
  2. وهناك من ضيق معنى الإرسال إذ اختص به كبار التابعين من الذين أدركوا كثيرا من الصحابة كسعيد بن المسيب.
  3. ومن المحدثين من قال ما سقط في سنده رجل وانقطع على أي وجه كان انقطاعه سواء كان المرسل له تابعيا أو من بعده.
  4. ومنهم من قال – أن المرسل ما قال فيه التابعي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كان من كبار التابعين أو صغارهم.

وحسبما قاله الذهبي في الموقظة، فالمرسل علم على ما سقط ذكر الصحابي في إسناده، فيقول التابعي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى عكس ذلك عمم الفقهاء والأصوليون معنى المرسل إلى كل من ينقطع سواء كان تابعيا أو بعده. إذن يبقى رأي الذهبي هو رأي المحدثين وكل من يشتغل بعلم الحديث.

وفيما يلي أستعرض نماذج من مراسيل الحسن البصري كما أخرجتها كتب السنة الصحيحة تقريبا لعمل الحسن في مجال الحديث وأعطاه أمثلة من أحاديثه في مختلف الموضوعات، سواء كان الأمر يتعلق بالعبادات أو المعاملات، وأسوق هذه الأحاديث على سبيل المثال لا الحصر لأن الوقت لا يسمح باستيعابها كلها في عجالة كهذه، وكما ألمحت إليه في بداية العرض فما لا يدرك كله لا يترك جله أو بعضه، وعليه فالنماذج المختارة هي كالتالي:

  1. حديث عن الحسن قال: “لما جاء بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه – يعني الصلوات، خلى عنهن حتى إذا زالت الشمس عن بطن السماء نودي فيهم الصلاة جامعة، ففزعوا لذلك فاجتمعوا فصلوا “أخرجه ابن داوود في المراسيل، كتاب الصلاة عن محمد بن المثنى عن عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن الحسن به.
  2. حديث الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى أحدكم بالقوم فليقدر الصلاة بأضعفهم، فإن وراءه الكبير والضعيف وذا الحاجة والمريض والبعيد” أخرجه أبو داوود في المراسيل كتاب الصلاة عن وهب بن بقية عن خالد بن عبد الله الو اسطي عن يونس عن الحسن به، كما أخرجه مسلم في صحيحه بمعناه عن أبي هريرة وعن أبي مسعود النصاري وكربى داوود وأحمد والبيهقي في كتاب الصلاة.
  3. حديث الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “حصنوا أحوالكم بالزكاة وداووا مرضاكم بالصدقة، واستقبلوا أمواج البلاء بالدعاء والتضرع”. أخرجه أبو داوود في المراسيل كتاب الزكاة – عن محمد بن سليمان النباري عن كثير بن هشام عن عمر بن سليم الباهلي عن الحسن به.
  4. حديث عن الحسن قال: “نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشاب لبن البيع” أخرجه أبو داوود في المراسيل في كتاب التجارة عن وهب بن بقية عن خالد بن عبد الله الواسطي عن يونس عن الحسن به. كما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه باب اللبن يغش بالماء.
  5. حديث الحسن أن رجلا قال: يا رسول الله، إن عندي يتيمة أفأتزوجها، قال: أرأيت لو كانت قبيحة لا مال لها، أكنت تتزوجها؟ قال: لا، قال: فخل لها، أخرجه أبو داوود في المراسيل في كتاب النكاح عن موسى بن إسماعيل عن حماد عن حميد الطويل عن الحسن به كما رواه البيهقي في كتاب الزكاة.
  6. حديث الحسن قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقاتل العرب على الإسلام ولا يقبل منهم غيره وأمر أن يقاتل أهل الكتاب على الإسلام فإن أبوا فالجزية” أخرجه أبو داوود في المراسيل كتاب الجزية عن زياد بن أيوب عن هيثم عن يونس عن الحسن.
  7. حديث الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بر الوالدين يجزي من الجهاد” أخرجه أبو داوود في المراسيل كتاب بر الوالدين عن أبي بكر بن أبي شيبة، وكلاهما عن حفص بن غياث عن أشعث عن الحسن به.
  8. حديث الحسن “ورث رسول الله صلى الله عليه وسلم الجدة السدس” أخرجه أبو داوود في المراسيل عن عبيد الله بن معاذ عن أبيه عن أشعث عن الحسن به، كما أخرجه الإمام أحمد في مسنده بمعناه…
  9. حديث الحسن قال: “إن شاء الرجل صلى صلاة التطوع قائما وجالسا ومضطجعا ” أخرجه الترمذي في الصلاة عن محمد بن بشار عن ابن أبي عدي عن أشعث عن عبد الملك عن الحسن.
  10. حديث الحسن:”يجلد السكران من النبيذ” أخرجه مسلم في المقدمة عن حجاج ابن الشاعر عن سليمان بن حرب عن حماد بن يزيد قال: قيل لأيوب إن عمرو بن عبيد روى عن الحسن قال: لا يجلد السكران من النبيذ” أنا سمعت الحسن يقول: “يجلد السكران من النبيذ”.

هذه ثلة وجيزة من مراسيل الحسن البصري ومن أراد الإطلاع عليها بتفصيل وتعمق فليرجع إليها في الصحيحين وكتب السنة الأخرى، ففيها ما يشفي الغليل ويروي الظمآن مما رآه الحسن البصري من مراسيل وغيرها.

القسم الثالث: مواعظ الحسن البصري وحكمه

بما أن مواعظ الحسن البصري وحكمه كثيرة وغزيرة، كان علي أن أنتقي البعض منها كنماذج للأفكار والمبادئ التي اعتمد عليها البصري في تهذيب النفوس وتقويم الأخلاق وتشذيب السلوك وبصفة عامة في تربية المجتمع الإسلامي في فترة تعتبر ذهبية، فترة الصحابة والتابعين رضي الله عنهم وأرضاهم.

وعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن هذه المواعظ والحكم لم تكن سوى جزء يسير من شخصية الحسن، إذ كان في سلوكه وعلمه وحديثه رضي الله عنه قدوة حسنة ومثلا صالحا متميزا. وقد علمنا من سيرته الطيبة أنه كان يؤثر التربية بالمثال على التربية بالمقال. وعلى كل حال لا بد لنا من ذكر بعض هذه المواعظ علنا نستنير بمضامينها ونستضيء باقتباسها ونتحلى بجمالها فمن ذلك قوله: “يا ابن آدم، بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعا، يا ابن آدم إذا رأيت الناس في الخير فنافسهم فيه وإذا رأيتهم في الشر فلا تغبطهم فيه الخ…

وقال: “عدل والله من جعلك حسيب نفسك – خذوا صفاء الدنيا وذروا كدرها، فليس الصفو ما عد كدرا ولا الكدر ما عد صفوا، دعوا ما يريبكم، إلى مالا يريبكم ظهر الجفاء وقلت العلماء وعفت السن وشاعت البدعة – لقد صحبت أقواما ما كانت صحبتهم إلا قرة عين وجلاء الصدور… كانوا فيما أحل الله لهم من الدنيا أزهد منكم فيما حرم الله عليكم منها…” وقال: “الناس ما داموا في عافية مستورون فإذا نزل بلاء صاروا إلى حقائقهم فصار المومن إلى إيمانه والمنافق إلى نفاقه، أي قوم، إن نعمة الله عليكم أفضل من أعمالكم، فسارعوا إلى ربكم فإنه ليس لمومن راحة دون الجنة ولا يزال العبد بخير ما كان له واعظ من نفسه وكانت المحاسبة من همه”.

وقال: “من أيقن بالخلف جاد بالعطية، وما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل ومن خاف الله أخاف منه كل شيء ومن خاف الناس أخافه الله من كل شيء”.

وقال أيضا: “إنكم لا تنالوا ما تحبون إلا بترك ما تشتهون ولا تدركون ما تؤملون إلا بالصبر على ما تكرهون”.

وقال: “كان من قبلكم أرق قلوبا وأصفق ثيابا وأنتم أرق منهم ثيابا وأصفق قلوبا”.

ومن حكمه قوله: “لو كان العقل يشترى لتغالى الناس في ثمنه “وقال رجل للحسن: “إن لي ابنة فمن ترى أن أزوجها له؟ قال زوجها ممن يتقي الله عز وجل فإن أحبها أكرمها وأن أبغضها لم يظلمها”.

وقال في الآخرة: “إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا لأن أهلنا يذكروننا بالدنيا وإخواننا يذكروننا بالآخرة” “وكم من أخ لك لم تلده أمك”. “وانتقوا الإخوان والأصحاب والمجالس”.

وقال في العقل: “لسان العاقل من وراء قلبه فإذا أراد أن يتكلم فكر فإن كان له قال، وإن كان عليه سكت، وقلب الجاهل من وراء لسانه”. وفي التعلم: “التعلم في الصغر كالنقش على الحجر”.

وقال في الأخلاق: “لا تستقيم أمانة رجل حتى يستقيم لسانه ولا يستقيم لسانه حتى يستقيم قلبه”. وأضاف أربع من كن فيه كان كاملا ومن تعلق بواحدة منهن كان من صالح قومه: دين يرشده وعقل يسدده وحسب يصونه” وفي الأخلاق يوثر عن الحسن أيضا: “مكارم الأخلاق للمومن قوة في حسن، وحزم في دين وإيمان في يقين وحرص على العلم واقتصاد في النفقة وبذل في السعة، وقناعة في الفاقة ورحمة للمجهود وإعطاء في حق وبر في استقامة كما أثر عنه “أصول الشر ثلاثة الحرص والحسد والكبر، فالكبر منع إبليس من السجود لآدم والحرص أخرج آدم من الجنة والحسد حمل ابن آدم على قتل أخيه”.

وأختم هذه الباقة من حكم ومواعظ الحسن البصري بديباجة رسالته إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كما رواها ابن الجوزي: “أما بعد اعلم يا أمير المومنين أن الدنيا دار ظعن وليست دار إقامة وإنما أهبط إليها آدم من الجنة عقوبة، وقد يحسب من لا يدري ما ثواب الله أنها ثواب، ومن لم يدر ما عقاب الله أنها عقاب ولها في كل حين صرعة وليست صرعة كصرعة، هي تهين من أكرمها وتذل من أعزها وتصرع من آثرها ولها في كل حين قتلى كالسم يأكله من لا يعرفه وفيه حتفه فالزاد فيها تركها والغنى فيها فقرها فكن يا أمير المومنين كمداوي جرحه يصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء…

وفي مطلع رسالة أخرى إلى عمر بن عبد العزيز يذكر الحسن خليفة المسلمين بأهمية العدل في بناء  الملك بقوله – وأجتزئ بديباجتها أيضا” تجنبا للإطالة – يقول الحسن رضي الله عنه: اعلم يا أمير المومنين أن الله جعل الإمام العادل قوام كل مظلوم ومفزع كل ملهوف.. إلى آخر الرسالة الطويلة التي تسير في تحليل العدل، متدرجة من صورة لأخرى ومستنتجة أن العدل بقدر ماهو ضروري للملك بقدر ما هو ضروري لبناء مجتمع سليم تسوده المساواة ويعمه الرخاء، ويشمله الأمن بقدر ما تشمله الطمأنينة.

على أصداء هذه المواعظ والحكم المحببة للنفوس، الموقظة للضمائر والمنعشة للأرواح والمعطرة للمجالس من لدن تابعي جليل، مؤسس مدرسة فقهية تفسير لكتاب الله ومحدث كبير، أجدني متحيزا إلى صياغة خاتمة لهذا العرض الوجيز في سطوره العميق في محتواه ومضمونه قائلا: ” إن شخصية الحسن البصري ذات أبعاد متعددة وقد ارتأيت الاقتصار على تحليل بعضها باقتضاب كبير، كما ألمحت إلى ذلك في بداية العرض، فتدرجت من دراسة شخصية الحسن الخلقية والخلقية إلى شخصيته كمتصوف ورائد كبير للمواعظ والحكم. وكما رأينا في هذه العجالة فشخصية الحسن البصري قد أغنت عصرها بقدر ما أثرت العصور اللاحقة لها، حيث لا يزال إشعاع معارفها وعلومها ممتدا حتى عصرنا هذا ينهل منه العلماء والباحثون فيجدون فيه ما يشفي الغليل وما يكون موضوعات غنية للدراسة والتحليل، وعسى أن أكون قد وفقت فيما أملت تبليغه إليكم عن شخصية الحسن البصري في الحدود التي رسمتها للعرض، تاركا المجال لبقية الإخوان الباحثين كي يدلوا بدلوهم في معالجة الجوانب الأخرى لهذه الشخصية الفذة. والله الموفق للصواب والهادي إلى سواء السبيل.

انظر العدد 12 من مجلة الإحياء

الحسن البصري إماما وفقيها ومتصوفا

الوسوم

د. محمد حمود

رئيس اللجنة الثقافية والاجتماعية

بالجمعية المغربية للتضامن الإسلامي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق