مركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلامدراسات وأبحاثدراسات عامةنصوص مترجمة

الحركة النسائية الإسلامية: نهج جديد ومنظور جديد…

ترجمة: بشرى لغزالي

مقدمة:

تناضل النساء في مشارق الأرض ومغاربها من أجل محاربة جميع أنواع القمع والظلم. وتختلف ألوان الهيمنة التي تُمارس على النساء خصوصا في دول الجنوب حيث تخضعن بشكل كبير لنظام السلطة الأبوية الذي تختزله أحيانا تلك الصورة التقليدية الضاربة في القدم، بيد أن هذا النظام يظهر في دول الشمال على شكل نيوليبرالية عمياء وتقنقراطية جوفاء تكرسان معا بشكل مستتر للاًمساواة بين الجنسين[1].

لقد سعت النساء في وقت من التاريخ- من خلال حركة مجتمعية مستقلة ظهرت في المجتمعات الإنسانية على اختلاف تاريخها أو سياقها السوسيوثقافي- إلى التصدي للتمييز الجنسي والمطالبة بالحقوق والوسائل الكفيلة بتغيير وضعهن الاجتماعي، وذلك عبر “حركات اجتماعية نسائية” أو “حركات نسائية” توجد في دول الشمال ودول الجنوب على حد سواء تتقاسم بشكل أو بآخر نفس المبادئ التي تميز مطالبها، مُنتهجة مختلف الاستراتيجيات النضالية بغية تحقيق العدالة لصالح النساء اللواتي يتعرضن للقمع.

وفي إطار هذه الحركة النسائية العالمية والجماعية، يمكننا أن نميز بين مجموعة من الحركات النسائية التي تضم نساء مسلمات يناضلن داخل مجتمعاتهن سعيا لتحقيق المساواة في الحقوق.

الحركة النسائية الإسلامية: منظور آخر

يمكننا باختصار جرد تيارين أساسيين يوجدان حاليا في الحقل الاجتماعي والسياسي لأغلبية المجتمعات الإسلامية. نجد النساء المسلمات اللائي يمثلن حركة نسائية ذات نموذج علماني وتيار راديكالي نشيط جدا في الساحة السياسية رغم أنه يمثل الأقلية. فهذه الحركة النسائية تستمد مراجعها من نموذج تحرري مستوحى أساسا من الغرب حيث تروم تحرير النساء المسلمات من الإسلام، ولاسيما من النصوص التشريعية. أما التيار الآخر وهو الأكثر أهمية، فنجده يجمع فئة من النساء اللائي يرفضن مصطلح “الحركة النسائية” لما يختزله من دلالة ذات حمولة غربية ويفضلن الاكتفاء بقراءة تقليدية أو بالأحرى قراءة حرفية للإسلام. وعلى غرار هاتين المجموعتين، نجد تيارا ثالثا ظهر حديثا في الساحة يمثل أقلية بدوره، إلا أنه يصنف نفسه في إطار يمزج بين الإخلاص لمبادئ الإسلام والانفتاح على القيم العالمية التي يجب تشاركها.

تختلف هذه الحركة النسائية، التي تطالب بأن تحمل اسم الحركة النسائية إلى جانب الصفة الإسلامية، عن التوجه العلماني الراديكالي وعن التوجه الإسلامي التقليدي، فهي ترفض النموذج الأول لأنها ترى فيه نموذجا مستوردا من ثقافة مختلفة وبالتالي فإنه لا يلائم الواقع الإسلامي، ولا تقبل النموذج الثاني لعدم نجاعة المقترحات التي يُقدمها في مجال إشكالية المرأة في الإسلام وبسبب رفضه كل محاولة من أجل الإصلاح يعتبرها مؤيدو هذا التيار ليس فقط خيانة للرسالة الروحية التي جاء بها الإسلام، وإنما تغريبا خطيرا.

تأتي إذن هذه الحركة النسائية الإسلامية كبديل لخيار ديني تقليدي متشدد وآخر يُعتبر تقليدا أعمى للنموذج الغربي الذي وُضع كالطريق الوحيد الممكن والمُتخيل من أجل التحرر. فتعين بذلك إيجاد طريق ثالث قادر على أن يجمع بين مميزات ومكتسبات التيارين المذكورين. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هذه الحركة النسائية الإسلامية، التي سلكت نهجا ثالثا واعتبرت نفسها تيارا فكريا مستمدا من روح الإسلام، تندرج في إطار فكر إصلاحي يدعو إلى فتح المجال لتفسير النصوص ومقاربتها مقاربة متجددة وذكية تحترم القيم الروحية للإسلام.

ستنهل نساء مسلمات مثقفات ومتدينات في نفس الوقت بشكل مباشر من المصادر الدينية للتحقق بأنفسهن من المعاني الحقيقية التي تحملها تلك النصوص الشرعية قصد استعادة ما احتكره الرجال المسلمون لفترة طويلة من علوم دينية. وقد تبين بفضل إعادة قراءة النصوص الدينية قراءة عميقة أن حقوق المرأة قد اغتصبت على مر تاريخ الحضارة الإسلامية من خلال الإنتاج الفقهي الذي بقي إلى يومنا هذا تحت رحمة النظام الأبوي والأعراف. وقد سمحت “إعادة القراءة” هذه بكشف الكثير من الحقائق ذات الطبيعة العنصرية التي نُسبت للنص القرآني، حيث اتضح في الواقع أنها مجرد اجتهادات إنسانية ترسخت في الأذهان بفعل الزمن نتيجة لقراءة حرفية كرًست منذ القدم لخضوع المرأة.

في المقابل، نجد النص القرآني يقدم نماذج نسائية كثيرة بقصد الاحتذاء من خلال عرضه مشاركتهن الاجتماعية والسياسية، بل إن النص القرآني يُقر باصطفائهن في الوقت الذي نجد فيه التفاسير التراثية والفقه الإسلامي التقليدي لا يغض الطرف وحسب عن هذه الحقائق وإنما يحصر دور المرأة في معاني الخضوع والطاعة.

لقد جعل القرآن الكريم طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة باعتباره الوسيلة الأساسية التي تفتح المجال لمعرفة الكون، إلا أن أمية النساء المسلمات بقيت مؤشرا قويا يعكس واقع عدد كبير من الأقطار الإسلامية التي وظفت التشريعات الإسلامية على مر العقود لمنع النساء من دخول المساجد وولوج المدارس باعتبارها مراكز لتلقي العلم والمعرفة. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تعداه إلى حجب كثير من القيم التي جاء بها القرآن الكريم على غرار التعاون والتفاهم والحب بين الأزواج. فقد كرس الفقه الإسلامي في مقابل هذه القيم سلوكات أخرى مثل الخضوع المطلق للزوج والسلطة الذكورية والزواج تحت الولاية بالإجبار ومبدأ العقوبة “المخففة” – والتي تبقى عقوبة في كل الأحوال- بيد الزوج في حالة المرأة “الناشز”!

ونستطيع الجزم هنا أن بعض الآيات القرآنية التي تمت مقاربتها بطريقة جزئية دون الأخذ بعين الاعتبار الرؤية الشمولية التي جاء بها القرآن يمكنها أن تعكس تمييزا حقيقيا في حق المرأة. ونذكر في هذا السياق قضية تعدد الزوجات والإرث والشهادة والطلاق، وهي مفاهيم تُجسد لا محالة، حين تُفصل عن سياقها وتُعزل عن النص القرآني الذي وردت فيه، وبقراءتها قراءة لا تتجاوز ظاهر الآية، أشكالا من التمييز ضد المرأة. بيد أن التوجه الإصلاحي يتطلب، من حيث المبدأ، تتبع منهج شامل يُعنى بمقاصد النصوص (المقاصدية) بحيث يكون وحده قادرا على إنتاج قراءة تكشف المعاني الحقيقية للنصوص، وتختلف عن القراءة بالقياس التي تعالج الحاضر على ضوء الماضي[2].

لقد سمحت إعادة قراءة هذه الآيات وتحليل الخطاب المعادي للنساء برد عدة أقوال نُسبت لمدة طويلة وبشكل خاطئ للإسلام من قبيل الزواج بالإكراه وختان الإناث والعنف الزوجي والظهار والخضوع للزوج ووضع القاصر الذي يدوم مدى الحياة وتعدد الزوجات الذي اعتبر حقا مفترضا للرجل… وهكذا سمحت هذه القراءة، باسم المرجعية الإسلامية، بالمطالبة بحرية تعبير المرأة واحترامها ليس فقط كأُم أو زوجة أو أخت بل أيضا باعتبارها امرأة بالدرجة الأولى. كما كشفت عن حق النساء في التعليم والعمل والمساواة في الأجر والاستقلال المادي وذكًرت بأن الحجاب في الإسلام خيار روحي وشخصي لا يجب في أي حال من الأحوال أن يُفرض على المرأة وأن اختيار الشريك هو حق غير قابل للتصرف وأن الطلاق حق مشترك وأن منع الحمل كان مسموحا به على الدوام، كما أن الإجهاض حظي بقدر كبير من المرونة –بحسب النوازل والحالات- وذلك حتى في القراءة التقليدية التي قام بها السلف من الفقهاء المسلمين.

ورغم تعدد المطالب التي نتجت عن هذه القراءة الجديدة، فإنها لن تسمح لأحد ولا لشيء أن يوقف حِراكها. وهنا تجدر الإشارة إلى أن التقدم يتم بشكل بطيء وتحت مقاومة كبيرة ولاسيما من طرف النساء اللائي اعتدن على لزوم الصمت وتقبل الظلم لمدة طويلة أمام ما يصدر باسم الدين على وجه الخصوص.

تعتبر القراءة الإصلاحية، التي تهم المرأة على وجه التحديد، أولا وقبل كل شيء عملية تغيير جزئي يمكن أن تؤدي عبر مراحل إلى إعادة الاعتبار لهوية المرأة المسلمة التي هُمشت لفترة طويلة وإلى رسم صورة إيجابية جديدة لها. ومن المهم أن نشير هنا إلى أن هذا العمل يصعب إنجازه دون احترام هذه الحركية الداخلية التي تمر بها المجتمعات الإسلامية المعاصرة والتي يكتسي الدين الإسلامي فيها بعدا محوريا. فجميع محاولات الإصلاح، التي همت وضع المرأة المسلمة في عدة دول إسلامية إلى اليوم، لم تفلح في تفعيل حقيقي للمساواة في الحقوق ذلك أنها –في عمومها-لم تتطرق إلى جميع الجوانب التي تستدعي معالجة حقيقية من حيث العمق، أي إصلاحا جذريا للفقه الإسلامي. ومن المؤكد أيضا أن هذه الإصلاحات لن تلق نجاحا حقيقيا إلا إذا رافقتها من الجانب الغربي رغبة حقيقية لفهم مدى تعقيد إشكالية المرأة المسلمة واستيعابها.

ولا بد من جهتنا أن نملك القدرة على وضع حد للرؤية التي يُنظر بها للإسلام وكذا للخطاب الأبوي لما ينتج عنهما من إدانة لجميع المسلمين دون استثناء ودون تسامح، وهي الرؤية التي تعتبر المسلمين وبشكل مبالغ فيه “ضحايا لاختيار الإسلام”.

خلفيات الغرب عن الإسلام

في واقع الأمر، يتعرض موضوع “المرأة المسلمة” لاستغلال حقيقي مبالغ فيه من قبل الأنظمة الإسلامية القائمة وكذا من طرف بعض النظريات السياسية الغربية حيث يُستعمل في الغالب كرمز سياسي. ففي الوقت الذي تقترح فيه بعض البلدان الإسلامية إصلاحات تهم المرأة بغية إظهار “مساعيها” نحو الديمقراطية دون إرادة سياسية حقيقية، تستغل بعض التوجهات السياسية الغربية قضية المرأة بمكر لتبرر جميع الأطروحات التي تتحدث عن غياب الانسجام بين الإسلام والقيم التي يُفترض أن تكون “غربية” محضة لتجد المرأة المسلمة بذلك نفسها في نهاية المطاف رهينة نظامين سياسيين يستغلانها ويستخدمانها ككبش فداء لتحقيق مساعيهما. وهذا يُعقد مهمة النساء اللائي يدافعن عن حقوقهن انطلاقا من مرجعيتهن الإسلامية ويُعيقهن عن إسماع أصواتهن وتبرير موقفهن الفكري الذي لا يبعث على الارتياح في رأي من استحوذت عليهم “الأفكار المسبقة” عن الإسلام.

وبذلك سنلاحظ غياب اهتمام بعض التيارات النسائية في الغرب وأيضا بعض المسلمات المتأثرات بالغرب، بل أحيانا احتقارها للمسلمات اللائي يرفضن كل خطاب مناهض للإسلام، واعتبار اللامساواة صفة لصيقة بالرسالة الروحية للإسلام. كل هذا وذاك يحدث كما لو أن النساء اللواتي يطالبن باحترام التزامهن الديني الكامل “ستُصبحن مطالبات” بالابتعاد عن الإسلام ليتم التحاور معهن مستقبلا أو للتمكن من ولوج مرتبة المرأة المتحررة !

لقد أصبح من المفضل الاستماع إلى نساء دول الجنوب اللائي تكون لديهن “الجرأة” للتجرد من المظاهر الدينية واللائي “يدافعن” عن نفس المبادئ “العالمية” للحركة النسائية المتعارف عليها. أما حين يتعلق الأمر “بجرأة” نساء دول الجنوب اللواتي تناضلن انطلاقا من مرجعيتهن الإسلامية من داخل الإسلام، فتُفرض عليهن ضريبة “القمع الذاتي”، وهو المفهوم المناسب من حيث العمق لكونه يسمح بالتضليل والتملص من النقاش الحقيقي فيما يتعلق بالمعايير الموضوعية التي يجب أن تتوفر لتحقيق استقلالية المرأة وتحررها. ومن البديهي أن ظهور حركة نسائية “إسلامية” هو في حد ذاته أمر متناقض في نظر مُناصري ومناصرات هذه الحركة النسائية العالمية الحصرية والمتطرفة.

في واقع الأمر، تُعتبر الحركة النسائية في نسختها الرسمية المعروفة تيارا إيديولوجيا غربيا بالدرجة الأولى، يهدف بالأساس إلى تحرير المرأة من الوصاية الأبوية التي يفرضها الدين، حيث تعتبر هذه الرؤية، التي يطبعها الاستعلاء العرقي، أن المطالبة بتأسيس حركة نسائية باسم الإسلام، الذي يُعتبر دينا يتميز بقمعه المرأة، سيكون شيئا مهينا وأمرا مشينا.

يمكن لهذه الأقوال أن تشكل موضوع نقاش على عدة مستويات بالنسبة لمن يسعى إلى محو أفكاره المسبقة المتراكمة من أجل رؤية حجم هذه الحركة الجماعية المتمثلة في الحركة النسائية الحالية. فرغم أن مناصري الحركة النسائية يعتبرون عموما الديانات حاجزا يُعيق تحرير النساء، إلا أن ذلك لا يمنع اعترافهم بوجود تيار ديني في كل ديانة يعمل من أجل تحرير المرأة. ونعطي مثالا على ذلك مناصري الحركات النسائية الهندوسية والبوذية واليهودية وكذا المسيحية على غرار “الكلمة الأخرى” (L’autre Parole ) الناشطة بكيبيك منذ سنة 1976، ومناصري الحركة النسائية الدينية المسيحية لتحرير النساء بأمريكا اللاتينية.

وترفض هذه الحركات النسائية الدينية، التي تستمد أفكارها بشكل متواصل من عملية إعادة التفسير، المبدأ الذي تستند إليه جميع الديانات لقمع المرأة.

انطلاقا من هذا القول وبغض النظر عن الفكرة القائمة أو المحتملة عن الدين الإسلامي وعن قمعه المُفترض للنساء، لماذا لا نفتح المجال “لإعادة دراسته” من الداخل كما هو الشأن بالنسبة للديانات الأخرى وليكون قابلا لإعطائه مجموعة من القراءات؟

مناصرات الحركة النسائية: مسلمات ومحجبات ؟

من المهم بمكان أن نشير إلى الشك وغياب الثقة اللذين يلوحان بمجرد أن نعرف عن أنفسنا باعتبارنا مسلمات نمارس الشعائر الدينية وبأننا فاعلات في الحركة النسائية! تصبح هذه المسألة أكثر حساسية عندما تُظهر بعض هته النساء التزامهن الديني ” بشكل علني” أي بارتدائهن الحجاب المسمى بالحجاب الإسلامي الذي أصبح محل شد وجذب نتيجة ” للأفكار الإيديولوجية” المتداولة، ذلك أنه يثير عند الغرب مجموعة من ردود الفعل من بينها ردود عاطفية لكونه يرمز في نظرهم، من الناحية التاريخية، لعبودية النساء.

وبعيدا عن أي نقاش ديني يتحدث عن الأسباب الكامنة وراء الحجاب الذي يخلو من أي معنى دون ربطه بالبُعد العقائدي الذي يرتبط ارتباطا وثيقا بحرية الاختيار، أضحى من الغريب أن نرى كيف أصبح هذا الرمز الديني المكون الوحيد لنقاش نظري ومجرد سهًل بطريقة أو بأخرى، بل وسمح بإرساء جو عام تطبعه العنصرية المناهضة للمسلمين.[3]

لقد أصبح ارتداء الحجاب يعكس جميع أنواع المخاوف بفعل الطريقة الخاصة والمتكررة في تعامل الصحافة مع الموضوع: الخوف من الآخر والخوف من المهاجر والخوف من الثقافة الأجنبية الغريبة ومن الفكر المتطرف الإسلامي. فبفعل الترويج لهذه “الرؤية” عن الإسلام، أصبحت المسلمات المحجبات الهدف الأنسب لكل الأيديولوجيات العنصرية لكونهن يجسدن “الغيرية” بكل ما تعكسه من أبعاد قاسية.

لكن وبعيدا عن المعاني المتعددة التي يعكسها الحجاب وعن الحق الذي تملكه من اختارت ارتداءه قبل أي شخص آخر لكي تحدد ذلك المعنى، أليس من المؤسف أن يرمز الحجاب، الذي تم ارتداؤه بناء على اختيار حر، إلى الخضوع والإقصاء كما نراه اليوم في التصور العام المتداول عكس ما يحيل عليه في الواقع ؟

لا يمكن أن ننكر حقيقة أن عددا من هذه الخطابات التي تُدين المرأة المسلمة، ولاسيما تلك الخطابات التي تتطرق لقضية الحجاب، هي خطابات غالبا ما تكون ناتجة عن واقع يعكس قمع نفس تلك النساء، بيد أنه من المهم احترام اختياراتهن وقراراتهن المتخذة والحق في الاختلاف الذي يعبرن عنه، مع استيعاب أنه في مسألة الحق في الاختلاف ليس الاختلاف هو المقدس وإنما الحق في ذلك. إنه الحق في الاختيار بكل حرية…

إن الأمر يتعلق إذن بالحرية… عندما تقرر نساء مسلمات سواء كن محجبات أو غير محجبات إعادة النظر في الخطاب المتعلق بالإسلام وفي الثقافة الأبوية التي تقمعهن والتعبير عن موقفهن، فهذا يعني أنهن في خضم عملية التحرير.

إن هذه الحركية نحو التحرير هي ما يهم لأن المرأة سواء كانت محجبة أو غير محجبة قد حصلت على حريتها منذ الوهلة التي خاضت فيها هذا الموقف الفكري الذي سمح لها بالتعبير عن نفسها واتخاذ قراراتها بنفسها. بيد أن هناك من يريد أن يوهمنا بأن خلع الحجاب أمر ضروري لتبلغ المرأة حريتها وأن رفضها ارتداءه سيكون مؤشرا دالا على التحرر الحقيقي الوحيد للنساء!! وكأن حرية المرأة تُقاس بمجرد تغيير لباسها الخارجي !

مناصرات الحركة النسائية: نساء غربيات ومسلمات حتى النخاع

إن “الرؤية” التي يكونها الغرب حاليا عن المسلمين إنما تتم على وجه الخصوص عبر الحضور النسوي. إذ يزداد عدد النساء المسلمات، والمهاجرات منهن عموما، اللائي اخترن “انتماءهن الإسلامي” وطالبن به كما تتم المطالبة بالحق في العيش وسط مجتمعات تزيد فيها التعددية الثقافية بقدر ما يزيد فيها تهميش الأقلية. وفضلا عن ذلك، تقوم المسلمات الغربيات بإعادة صياغة طريقة جديدة يعبرن بها عن إسلامهن بإظهار “تدينهن” الذي يعتبر مصدر إزعاج، كما أنهن يحملن وبشكل يُظهر تناقضا خطابا جديدا عن الاستقلالية والهوية.

تتعثر محاولات الفهم والتعايش والتفاهم بين المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية في الغرب أمام مجموعة من القضايا من بينها قضية المرأة المسلمة – محجبة كانت أو غير محجبة- مع ما يُرافقها من الصور النمطية. ونرى في نفس هذا السياق الغربي كيف تُوضع حواجز بين ثقافتين، إحداهما إسلامية والأخرى غربية لدرجة صرنا نظن معها أنهما متعاديتان في الأصل حتى بدأنا نلمس جدار الصمت الذي وُضع باسم اختلاف الثقافة أو الاعتقاد الديني يفصل بين الرجال والنساء الذين يتشاركون جنبا إلى جنب نفس الأماكن العامة.

لقد غابت الثقة وحل الصمت والخوف محل ما كان من المفترض أن يسود من مظاهر حسن المعاملة والعلاقات الإنسانية الغنية بالتبادل والتجارب الإنسانية. إلا أنه من المقبول أيضا أن نخاف من أولئك الذين نجهل ماضيهم وتاريخهم وغناهم الثقافي لأنه لا يُمكن الوصول إلى قلب الآخر إلا عبر إفصاحه عن تاريخه وكذا محنه وآماله ونقاط ضعفه…

وعلى هذا النحو ستتمكن المسلمات-والمسلمون- الذين يعيشون في بلاد الغرب من قلب موازين هذه العلاقة التي تمثل مصدر قوة عبر نقل حياتهم المعيشة ونضالهم وقيمهم للآخر، حيث إن لهذا التقرَب أهمية بالغة في بناء جسر للتفاهم من الجانبين لأنه كفيل بمحو مجموعة من الأفكار المسبقة التي تراكمت مع مرور الزمن بخصوص عدد كبير من المواضيع التي تتعلق بالإسلام.

يمكن للنساء المسلمات اللائي يعشن في الغرب أن يساهمن باسم هذه الحركة النسائية الإسلامية في التقليص بشكل ملحوظ من حالة الاستياء التي يمر بها الجانبان عبر الانخراط في نضال النساء الغربيات غير المسلمات اللائي يتقاسمن نفس الأهداف ونفس القيم الأخلاقية. يمكن لهن أن ينخرطن في مجتمعهن المضيف باعتبارهن مسلمات غربيات وأن يتقاسمن مجموعة من القيم المشتركة انطلاقا من قناعاتهن الروحية.

ويجب أن تسمح هذه الحركة النسائية الإسلامية على المدى الطويل للمسلمات المتصالحات مع هويتهن الدينية والسعيدات بذلك، والواثقات من أنفسهن، بالمشاركة بشجاعة في مختلف المشاريع السياسية لكي يصبحن مواطنات فاعلات وواعيات تمام الوعي بالتحديات المجتمعية الراهنة، لأن الأمر لم يعُد يتعلق بالنسبة للمسلمين بالبقاء في هذا الموقف الجامد المتسم بالانسحاب من المحيط الاجتماعي والانعزال داخل مجتمعات منغلقة ترهقها فكرة الضياع أمام هوية الآخر.

إن الإسلام باعتباره مرجعا روحيا عالميا ليس هوية ثقافية وجب حمايتها بكل قوة من عالم غربي متآلف يُنظر إليه في الغالب وبشكل خاطئ على أنه مصدر للتفكك الأخلاقي، ولا بد من جهة أخرى أن يتعلم النساء والرجال بمختلف الثقافات تشارك قيمهم من جديد في جو من الامتنان والتواضع. ولا شك أن هذا السعي نحو تقارب الطرفين سيتطلب منهما بذل كل الجهود. وفي هذا السياق، يتعين على بعض مناصرات الحركة النسائية الغربية أن يتخلصن من رؤيتهن الجامدة نحو الإسلام التي تطغى عليها الصور النمطية، كما يجب عليهن أن يأخذن بعين الاعتبار عمليات التغيير التي يعرفها هذا الدين حاليا بفضل حركات احتجاجية داخلية مثل الحركة النسائية الإسلامية التي تحاول أن تُخرج الفكر الإسلامي من أزمته الحالية.

ستكون المسلمات المناصرات للحركة النسائية، بعد أن يتخذن لأنفسهن هوية إسلامية عصرية وغربية في آن واحد، “شاهدات” على انتمائهن الروحي والعملي لحداثة تكون متصالحة مع قيمهن الأخلاقية[4].

لقد حان الوقت إذن لتنخرط النساء المسلمات في هذا المشروع الذي يحمل بعدين: يتمثل البعد الأول في إعادة العمل على مصادرهن المعيارية من الداخل، ويتمثل الثاني في تحقيق قوة تحول إيجابية في مجتمعاتهن. وتحصل هؤلاء النساء في الغرب بشكل نسبي على قدر أكبر من الحرية وعلى فرصة لإحداث تحول حقيقي وللنضال من أجل إحداث تغيير ملموس وكذا للتطلع نحو إسلام عالمي يتم تعزيزه بشكل فعلي حتى يبقى منفتحا ومتحررا من كل هذه المخاوف.

[1]  أنظر الآراء المشابهة في “الاستشراق والاستغراب والسيطرة على النساء”، لورا نادر؛  القضايا النسائية الجديدة؛ المجلة الدولية الفرنسية ؛ النقائض، الجزء 25 رقم 1- 2006.

قراءة المقاصد تُسمى أيضا “المقاصدية” لارتباطها بأهداف أو مقاصد الشريعة.[2]

[3] أنظر في هذا الشأن كتاب “الحجاب الإعلامي: نقاش غير صائب: “قضية الحجاب الإسلامي”، أسباب الحراك” لبيير تيفانيان، شتنبر 2005.

[4] “الشهادة” هي أمر إلهي (الآية 143 من سورة البقرة) يحث المؤمنين على أن يكونوا “شهداء” من أجل تحمل الرسالة الإلهية أمام الخلائق والتي تضم أولا وقبل كل شيء العدالة التي تتجسد في التصرفات الأخلاقية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق