مركز علم وعمران للدراسات والأبحاث وإحياء التراث الصحراويقراءة في كتاب

الحركة اللغوية بالصحراء المغربية: مجالاتها وأساطينها

 

الحركة اللغوية بالصحراء المغربية: مجالاتها وأساطينها

 

الحمد لله الذي أوجد الخلق فأحصاهم عددا، وخلق الموت والحياة ليبلوهم أيهم أحسن عملا، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

نضع بين يدي القارئ الكريم ملخص رسالة الدكتوراه التي نال بها الباحث سويدي تمكليت درجة مشرف جدا مع التوصية بالطبع، من مركز الدراسات في الدكتوراه: الآداب، العلوم الإنسانية والفنون. تكوين الدكتوراه: أدب اللغة العربية وعلومها: مفاهيم وقضايا، ضمن مختبر: الأدب والبناء الحضاري التابع لجامعة محمد الأول كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة، تحت إشراف الدكتور إدريس بوكراع، وذلك خلال الموسم الدراسي: 2015ـ2016، وعنوانها: «الحركة اللغوية بالصحراء المغربية: مجالاتها وأساطينها»، جمع الباحث في هذا الملخص أبرز القضايا التي تعرضت لها الأطروحة والتي استغرقت منه جهدا كبيرا وعملا جادا.

فلا شك أن ارتياد الأحواز الجنوبية الغربية للبلاد بحثاً في امتدادات أطرافها الجغرافية والحضارية والعلمية واللغوية عن مواضع للانتجاع الدراسي، ونقط للارتواء المعرفي يقصدها الباحث أو يُيَمِّمُ وجههُ إليها في طراب تنقُّلِه، وتجاذبات ترحاله المسكون بهواجس الظفر بالموضع الغاوي الأنسب لبلوغ رُبَى تَأْسِرُهُ وتشجِّعهُ على الاستقرار وإلقاء عصا التسيار للنزول بها والنجعة فيها، أو ابتغاء العثور على ضَوَالِ أفكاره في شعاب مفاوزها الموحشة، ومجاهل أسرارها الماحقة،- ليس أمراً هَيِّناً يسيراً، أو طَّريقاً مُعبَّداً قصيرا. خصوصاً إذا ما كان هذا الارتياد والسّفر محكوماً، في أساسه، بمقاصد علمية/موضوعية يبتغيها هذا الباحث في اختياراته الاستكشافية/ الاستطلاعية؛ تلك التي يراها ما زالت مغمورة، عصيَّة على الافتراع والاختراق، بالنظر إلى ما يَحُفُّهَا من وعورة في المسالك، ويَلُفُّهَا من محاذرَ ومهالك، بفعل طبيعة فضاءها الواسع، وامتدادها الشاسع، وتموضعها في النائي من أقصى البلاد، وغياب الأدلاء فيها وأهل الإنجاد، وتعذُّر الاهتداء إلى نقط الماء، للسقاية منها والارتواء، فضلاً عن حجم الضَّنَى والمشاق التي تعتور السفر في بعض موضوعات/مباحثها المختلفة أو الرحلة فيها، أو لطبيعة التخصص الذي تستدعيه، أو لشح وندرة المنجز الدراسي فيها وإحجام الباحثين من أهل الريادة والمعرفة العالية بشعابها عن طَرقِهِ وتناوُلِهِ بما يستوفي قدره، ويسد خصاصه إلخ…

ولئن كان مسوِّغ المغامرة في شقِّ واكتشاف هذه الجغرافيا -من خلال أحد موضوعاتها المعرفية- التي وقع عليها الاختيار والقصد، وانصرف إليها الاهتمام والجِدُّ، لبلوغ الخصيب من مرابعها النائية، والانتجاع في رياض دوحة مواضعها العلمية، وما تَحْبَلُ به من أزاهير وثمار لغوية قد دفعت بنا –أمام إحجام وهجر أقراننا الباحثين لها- إلى ارتيادها والخوض في مناكبها طولاً وعرضاً لاستكشاف ما ننشدُه فيها من مطلوب دراسي يؤرقنا، أو لرصد وتتبع وبيان ما نراه لا يزال خافيّاً على غيرنا، أو مهمولاً ومهجوراً لديه.

ولذلك، كان الارتياد والبحث في موضوع الحركة اللغوية وأعلامها وأساطينها ومجالاتها بالصحراء المغربية من أهم تلك المباحث المغمورة التي شدّنا إليها فضول الاستكشاف، وقادنا إليها هاجس الاعتكاف، فآثرنا الانزواء فيه، والتنقيب والانكباب عليه.

ومن ثمة، استقر حال الدراسة لدينا متوسِّماً أو موسوماً بالعنوان التالي للأطروحة: «الحركة اللغوية بالصحراء المغربية: مجالاتها وأساطينها».

ولم يكن اختيار هذا العنوان، ولا الانخراط في خوض غمار موضوعه ومباحثه المركبة، من صنيع فعل الصدفة أو العبث أو الترف العلمي. وإنما كانت تقف وراءه بواعث ومسوّغات عديدة، ودواعٍ واعتبارات مفيدة، يمكن إبرازها وحشر بيانها في جانبين أساسيين:

ـ أولا: دواعٍ ومسوغات ذاتية: وتتجلى في كون الباحث ينتمي إلى هذا المجال المدروس الذي له غيرة كبيرة على تراثه اللغوي المخطوط الذي طاله التهميش والإهمال، وقصرت عنه العناية والاهتمام، فلحقه بعض الضرر والعبث، خاصة بعد تمكّنه من الاطلاع –عن كثب- على جانب مهم منه في عدد من الزوايا والخزانات الخاصة المنتشرة في أحواز الصحراء المغربية بحاضرتها وباديتها. ورغبته الجامحة في استثمار ما راكمه من محصلة معرفية وتكوين وتجربة علمية طوال سنوات تحصيله الدراسية بالجامعة فيما قد ينفع هذه المنطقة ويصون ذاكرتها العلمية/اللغوية ويغني شح خزانة المكتبة الوطنية التي تعانيه في هذا الموضوع.

ـ ثانيّا: دواعٍ ومسوغات موضوعية: وتتمثل في غياب الدراسات الأكاديمية المتخصصة التي تتناول موضوع الحركة اللغوية وأساطينها في الصحراء المغربية بشكل وافٍ، والحاجة الملحة والماسة في الحفاظ على ما تبقى من جهود وآثار ومصنفات علماء المنطقة التي ما زالت عرضة للتلف والضياع بفعل الإهمال وعدم الوعي بأهميتها لدى القائمين عليها في كشف الوجه الحضاري للمجال المدروس، ووضعها في سياقها المعرفي ضمن الحركة العلمية عامة، واللغوية على وجه التحديد التي شهدتها هذه الأحواز الجنوبية من البلاد. وكذا تصحيح بعض الفهوم والأحكام الأدبية والسياسية والقبلية -الخاطئة والمجحفة- حول تقييم حجم وأهمية ذلك النشاط اللغوي ودينامية حركته بالمنطقة، اعتباراً من كونه نشاطاً ساهمت فيه ـ على حدِّ السَّواء ـ كل محاظر وزوايا الصحراء المغربية، وأعلام قبائلها المختلفة دون أي اختزالٍ أو تحيُّزٍ أو تَحامُلٍ.

ومن هذا المنطلق، يبدو لي أن منطقة الصحراء المغربية، بطبيعتها الجغرافية النائية عن المركز ـ التموقع في أقاصي أطراف البلاد الجنوبية أو الغرب الإسلامي ـ ومنذ انفتاحها على إشعاع فجر الأسلمة والعروبة، المنتظمة والمتقطعة، كان لها من الأثر والتأثر بما كان يجري حولها ـ وحينها ـ ما حفظ لها ماء الوجه، وأخرجها من ربقة عهود الظلام والعزلة، ودفعها إلى المساهمة في الثقافة العربية الإسلامية.

إذ، إنه عقب امتداد الفتح الإسلامي إليها، وما صاحبه من تدفُّقٍ للموجات العربية زرافات وآحادى، قامت حركة تعريب مهمة كان من حسناتها المعتبرة انتشار اللغة العربية، وظهور المحاظر البدوية، وذيوع التعليم وتلقين العلوم الشرعية واللغوية، التي انتصب لها أئمة ودعاة ومشايخ، وما كادت تتقدم مع توالي القرون اللاحقة حتى صار لأهل المنطقة فيها شأنٌ عظيمٌ.

ولم يكن ليحدث ذلك كلّه، لولا تضافر مجموعة من العوامل التي جعلت الدرس العلمي عموماً، واللغوي على وجه التحديد، يستنبت حضوره وجذوره في معارف القوم، كفعالية الرحلات العلمية والحجية ومسالك التجارة الصحراوية في هذا الاتجاه، التي مكّنت أهل المنطقة من بلوغ المعارف والتكوين على أيدي بعض المشايخ في مجموعة من الحواضر ومراكز الإشعاع بالمشرق والمغرب، واستجلاب المكتبات التي وفّرت مقروءاً ساهم في إغناء الدرس اللغوي، وإمداده بأمهات المصادر (المتون والتصانيف) في عدد من المجالات المعرفية، إلى جانب اكتساب الخبرة والإجازات المتعددة.

وقد تدرج هذا التطور في الدرس اللغوي بالمنطقة عبر عدة مراحل أساسية وكبرى، شكلت "مرحلة التّعرّف والاطلاع" أولى هذه المراحل، حيث كان الالتقاء الأول بين اللغة العربية وسكان المنطقة الذين كانت لهم أصول صنهاجية أو أمازيغية على غرار سكان شمال إفريقيا، وفي المرحلة الثانية التي أسميناها بـ«مرحلة الاستيعاب والكمون» شرعوا في هضم واستيعاب بعض المتون اللغوية التي شغلت حيزاً زمنيّاً كبيراً، تُوِّجتْ –لاحقاً بعد تمكّنهم منها– بالدخول في «مرحلة النهوض والتنامي»، حيث نهض الدرس اللغوي، وتنامت حركته ونشاطه فيها على مجموعة من الأصعدة، فكان ذلك باعثاً على انتقاله إلى "مرحلة العطاء والإنتاجية"، من خلال انبراء مجموعة من الأعلام والمشايخ للتأليف والانخراط والإسهام فيه. فتمخض عن ذلك تراث لغوي أصيل، متنوع وغني، عَمَّ مختلف مجالات علوم العربية من شروح وتعقيبات، وحواش وتعليقات، ونقد (نقود) واستدراكات إلخ… أبانت عن باع كبير، ويد طولى، لا تقصر شأناً أو حظوةً عمّا كانت عليه جهود اللغويين في باقي أقطار ومناحي البلاد. فقد انخرطوا في جميع القضايا والإشكالات والأسئلة التي تطرحها طبيعة الظاهرة اللغوية بالمنطقة؛ كمسألة الجيم مثلا من جهة، ومن جهة أخرى القضايا التي تطرحها اللغة العربية عموماً، وأثارت اهتمام اللغويين بصفة خاصة.

ومن ثمة، فإن هذا الموضوع الذي انبرت إليه هذه الأطروحة يستمد أهميته من كونه:

ـ أولاً: يتسم بالجدة في الطرح والتناول، فهو موضوع بكر، لا نجد فيه –على حدّ علمنا- دراسات أكاديمية متخصّصة ومستقصية، وكل ما يعثر عليه الباحث بشأنه -أو في هذا الإطار- لا يتجاوز بضع مقالات مجتزأة، وإشارات متفرقة تتناول عَلَماً أو مُؤَلَّفاً مُفرَداً، أو تحقيق مصنّفٍ مخطوطٍ، دون أن تُعنَى بتناول الظاهرة اللغوية في شموليتها وحركيتها التاريخية والاجتماعية. كما أن هذه الإشارات يطغى عليها التناول الأدبي الصرف والمختَزَل، أو الطابع السياسي أو الإثني والجغرافي الذي يفوّت عليها المنهجية العلمية وثابت الموضوعية.

ـ ثانيا: يكتسي الموضوع بعداً مهمًّا بالنظر إلى طبيعة المنطقة المدروسة (الساقية الحمراء ووادي الذهب)، فهي منطقة ذات بعد استراتيجي لكونها تشكل حلقة وصل تربط بين شمال البلاد (المغرب) والأندلس، وبين إفريقيا جنوب الصحراء من جهة أولى، وبلدان الشرق الإفريقي (الجزائر، تونس، ليبيا) من جهة أخرى. ومن شأن هذا أن يجعل الدرس اللغوي بالمنطقة، متعددَ المشارب، متنوعَ المصادر، فيه ما يشجع الباحث على طرقه، واستكشاف خباياه.

ـ ثالثا: يجمع الموضوع بين الدراسة التاريخية من جهة، والدراسة اللغوية من جهة أخرى، وهو بذلك، يسعى جاهداً إلى سدّ الخصاص المهول في تاريخ الحركة اللغوية ومسار نشاطها الدراسي بالمنطقة، ومَلئه.

ولئن كانت هذه القضايا، أو بالأحرى العناصر المختزلة، تستمد منها الأطروحة مشروعيتها وأهميتها الدراسية والعلمية. فإنها لا تخفي بالمقابل طبيعة الانتظارات والأهداف التي تنتصب أمام عينيها أو تتطلع إلى تحقيقها، والتي يمكن اختصارها فيما يلي:

ـ أولا: التأثيل والتأصيل لتاريخ النشاط اللغوي وحركته بالمنطقة، وبيان مراحله ومدارجه ومستوياته، وأهم مصادره والسياقات العلمية والثقافية التي أطرته وأثرت فيه بمختلف مناحي المجال المدروس، وتقديم لمع تسلط الضوء على مناطق العتمة فيه.

ـ ثانيّا: إبراز مساهمة علماء الصحراء المغربية في إغناء الدرس اللغوي العربي عموماً، والدرس اللغوي في شمال إفريقيا وبلاد الغرب الإسلامي على وجه التحديد. وذلك من خلال استعراض جهودهم وتكشيف آثارهم والتعريف بها، بما من شأنه أن يلفت النظر إلى بعض مقومات خصائصها التصنيفية والمباحث اللغوية التي عنوا بها أو انصرفوا إلى الاهتمام بها؛ تدريساً ومدارسة، شرحاً ونظماً، تحقيقا وتأليفاً، اختصاراً واستدراكاً…

ـ ثالثا: بيان أشكال التأثير والتأثر ووجوه التثاقف والتواصل العلمي/اللغوي بين علماء المنطقة وأقرانهم من علماء العربية الجهابذة في شمال البلاد (المغرب) وبلاد المشرق العربي.

ـ رابعا: توثيق الذاكرة اللغوية المخطوطة بالمجال المدروس لحثّ وتشجيع الباحثين والدارسين على الانصراف إليها والعناية بها، لتعميق البحث بشأنها، وتوسيع دائرة الاستقصاء والتحري فيها، من أجل بناء صرح دراسي شامل يُلِمُّ بجوانب وسياقات الحركة اللغوية ونشاطها العلمي بالمنطقة كافّة.

ـ خامسا: تخطّي الفراغ الدراسي والنقص الحاد المسجل بشأن البحث حول هذا الموضوع الذي ما يزال كثيرٌ من الباحثين يتحاشى الخوض فيه لما ينطوي عليه من صعوبات جمة، ولما يحتاجه من جهد مضنٍ ومضاعفٍ، ويستدعيه من تخصصٍ وسعة اطلاع كبيرين…  

بيد أن بلوغ هذه المرامي والأهداف العلمية الخمسة التي آثرت الأطروحة السعي إليها جاهدة بما تنسى لصاحبها من معرفة متواضعة، كانت توقد وهج التوجُّس والانشغال بها، ومن ثمة الانخراط فيِ خوض غمارها مجموعة من الإشكالات والأسئلة التي أرّقت الباحث طوال سنوات غير يسيرة من التأمل والتفكير، فوجهته إلى النبش في ذاكرة الحركة اللغوية للمجال المدروس وتراثها المخطوط؛ فليس معقولًا أن لا تكون لهذه المنطقة التي كانت طريقا رئيساً، وجسراً مهمّاً للتواصل بين شمال أفريقيا والأندلس من جهة، وبين البلاد وأفريقيا جنوب الصحراء من جهة أخرى، ولا يكون لها ولرجالاتها إسهامًا حقيقيًّا ومحمودًا في إرساء دعائم اللغة العربية وعلومها هناك.

وعليه، كانت من بين تلك الإشكاليات المعرفية المركبة التي تجاذبت عناصرها فضولنا المعرفي إزاء الموضوع، نسوقها اختزالا في الأسئلة التالية:

ـ كيف امتدت اللغة العربية إلى هذه الرقعة الجغرافية النائية من جنوب البلاد؟ وما هي العوامل المساهمة في ذيوعها وانتشارها؟ وما مستويات ومدارج التعرب الذي شهدته المنطقة في هذا الاتجاه؟

ـ ما هي أبرز معالم ومظاهر نشاط الحركة اللغوية في هذا المجال تدريساً وتأليفاً، نظماً ونثراً؟

ـ ما هي أهم المصادر والروافد التي تغذت عليها هذه الحركة؟ وكيف نمت وتطورت؟

ـ ما أشهر الأعلام والأساطين اللغوية المعروفة بمشاركتها في الدرس وحركة النشاط اللغوي بالمجال؟

ـ ما هي أبرز التصانيف والآثار والمؤلفات التي خلفها هؤلاء الأعلام؟ وفي أي مجال من المجالات اللغوية المختلفة التي تندرج فيها أو يمكن أن تصنف ضمنها؟

ـ ما هي مقومات وسمات وخصوصيات التأليف اللغوي عند علماء المنطقة، وأهم القضايا اللغوية التي استأثرت باهتمامهم؟

للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، اقتضت الضرورة المنهجية في معالجة هذا الموضوع وإشكالاته المعرفية المتعالقة أن نعمد فيه إلى تبني مقاربة تكاملية تشتمل على مجموعة من المناهج والاختيارات التي تَبدَّت لنا كفايتها الإجرائية في إعداد هذه الأطروحة، وأثبتت نجاعتها في الكشف عن الأهداف المنتظرة من ورائها، حيث استثمرنا في هذه الأطروحة معطيات المنهج التاريخي، وذلك في تتبع تاريخ وحركية النشاط اللغوي بالصحراء منذ بداية دخول الإسلام وانتشار العربية والتّعرّب إلى بروز الدّرس اللغوي، ونشوء حركة نشاطه.

ومن جانب آخر استرشدنا بالمنهجين الدياكروني (التعاقبي) والسانكروني (التزامني) كما هو مألوف في دراسة الظواهر اللغوية بصفة خاصة، علاوة على المنهجين الوصفي والاستقرائي لوصف واستقراء جميع مظاهر وملامح نشاط الحركة اللغوية سواءٌ من خلال استبيان مصادرها، وطرائق انتشارها (المحاظر، الرحلات)، والتعريف برجالاتها، وأساطينها، أو من خلال تكشيف أهم الإسهامات والجهود والآثار العلمية لأعلامها. ثم ربط ذلك كلّه بطبيعة المجتمع الصحراوي، وما تفرضه البيئة البدوية التي يستوطنها.

كما عمدنا إلى الركون للمنهج البنيوي التحليلي في وصف الظاهرة المدروسة وتحليل مكوناتها ومتعلقاتها من العناصر والبنى، وذلك من خلال إيثار بناء منتظم ومتدرج في عرض المادة المعرفية المقدمة، فضلاً عن الاستئناس بمجموعة من التقنيات كالخرائط والرسوم البيانية (الجداول والإحصاءات)، والإجراءات المساعدة كالاستمارات في اللقاءات والاستجوابات التي أجريناها –إبان التّحرّي– مع بعض المستجوبين حول موضوع الاشتغال.

أما من حيث الصعوبات التي اعترضتنا في هذا الموضوع، فإن ضرب أوتاد خيمة هذه الأطروحة في فيافي وشعاب هذا المجال الدراسي الذي ارتاده صاحبها أو آثر النُّزُلَ به، لم يكن بالسبيل المُدَلَّلِ المُتاح، ولا بالباعث على موفور الارتياح، خاصة وأن الطرف الذي قصده كان مجدبا –كما أشرنا آنفا- تنعدم فيه المرابع المغرية وفضاءات النجعة الآسرة الجاذبة التي قد تتغذى عليها قطعان فضوله المعرفي، وتندر فيه النقط الحابلة بالماء، ومحطات التزود والارتواء، التي قد تشجع باحثا مثله على المكوث أو الاستقرار بها ما لم يكن من أهل المغامرة والمتعودين على حال البادية والإصرار الشديد على الطّراب فيها.

ومن أشد ما كابدناه من تلك الصعوبات ـ التي لا يعلم حجمها إلا الله سبحانه وتعالى ـ وواجهناها بتحمل شديد وصبر كبير نذكر ما يلي:

ـ أولا: اتساع دائرة المجال المدروس، والجهات التي امتد إليها تحرّي البحث داخل المغرب وخارجه، إذ أنه لم يكن سهلاً القيام بدراسة ميدانية مسحية تغطي نفوذ المجال الصحراوي بمناطقه الثلاث (وادي نون، والساقية الحمراء، ووادي الذهب) والأحواز المصاقبة له من الجهة الشمالية بسوس ومراكش وغيرها… فضلا عن البلدان المجاورة له من جهتي الجنوب والشرق كموريتانيا والسينغال ومالي والجزائر التي عانى في تنقله وترحاله إليها الباحث  ـ شهوراً وأسابيع ـ عناءً كبيرا أثناء بحثه وتفتيشه في خزائن مكتباتها وخزاناتها العامة والخاصة.

ـ ثانيّا: طول الفترة الزمنية المشمولة بالدراسة (من الفتح الإسلامي إلى القرن 14هـ) الذي جعل الباحث مضطرّاً ـ في كل حين ـ إلى الانفتاح على مختلف الجهود والآثار ـ على تباين تخصصاتها ـ التي تهم المنطقة في جانبها الجغرافي والتاريخي والسوسيولوجي والأنثربولوجي والعلمي والسياسي إلخ… لاقتناص ما يراه مفيداً لموضوعه أو لمبحث من مباحثه المتعددة. ولم يكن -في الحقيقة- ضبط المجال وفصل القول فيه وإشكالاته على النحو الذي بسطناه في الحدّين العام والخاص تدقيقاً، ولا رصد تاريخ الفتح الإسلامي وانتشار العرب بالصحراء وتتبع كل ذلك بنوع من التفصيل كما بيّناه تحقيقاً، ولا الإحاطة بسياقات التعرُّب ومراحله وبيان روافد ومصادر اللغة العربية ومدارج حركة نشاطها وجرد أعلامها وذكر آثارهم ومقومات خصائصها التصنيفية (تتبُّعًا ورصدًا) لم يكن كُلُّ ذلك بالأمر اليسير السهل مطلقاً.

ـ ثالثا: إحجام بعض القيّمين على الخزانات عن التّعاون، وإنكارهم وحجبهم للذخائر المخطوطة التي يتحوّزونها أو تقعُ في ملكيتهم؛ إما بالامتناع كُلِّيّاً عن اطلاعنا عليها، أو بالتماطل والتسويف في الاستجابة لحاجتنا ومطلوبنا منها، أو بالتوجسُّ من ذلك لسبب من الأسباب غير المعلومة، أو تحت الوازع القبلي والحساسية المفرطة وما شاكل ذلك… إذ لم يكن سهلاً أن تفتح لك خزانة من تلك الخزانات الخاصة الفردية أو العائلية أو الأهلية/القبلية، مما اضطرني في أحايين كثيرة إلى إضاعة الكثير من الوقت في القيام باتصالات متعددة، ومعاودة الزيارات لمرات، والتّوسُّم ببعض أهل الفضل والمعونة والإرشاد من الوسطاء وأهل النفوذ والوجهاء إلخ…

ـ رابعا: تعذُّر تصفُّح الكثير من الآثار والمصنّفات الصحراوية المخطوطة نتيجة لما ألمَّ بها من ضرر وخرمٍ واهتراء وسقط فظيع يحول دون المعرفة بصاحبها وناسخها، وبما لا يمكن للباحث أن يستفيد منه في تعزيز صرح هذه الدراسة المستقصية في مجال من مجالاتها المعرفية/اللغوية المختلفة، علاوة على تلك الصعوبات الناشئة أحياناً من إكراهات القراءة وطبيعة الخط، وتباين النسخ المتعددة للمخطوط الواحد إلخ…

وفي المقابل من ذلك، فإن ثمة دراسات سابقة، تتمثّل في بعض النتفُ من المقالات والفقرات المتفرقة لأثر بعض العابرين ممن سبقونا المرور والنّزل بهذا الموضع الدراسي الذي قصدناه، إلا أنها لا تشي بأنهم كانوا من أهل النجعة (التخصص) أو الإقامة (النّزل) ممن ضربوا بالمكان/الموضوع مرابض خيام. وإنما الحال أنها التفاتات يسيرة لبعض الموريتانيين خاصة والمختزلة التي لا تنذر بأن هذا المبحث –في شموليته- قد استدرجهم معرفيا أو شكل لديهم اهتماماً خاصّاً من شأنه أن يعفينا من طرقه وتناوله على النحو الذي انصرفت إليه هذه الأطروحة المتواضعة.

فباستثناء بعض الشذور والقطوف المنتخبة في بعض الدراسات التي تهم الشعر والأدب ببلاد شنقيط أو البيظان ـ التي ظلت الصحراء جزءاً منها حتى ظهور التقطيع الترابي/الطباشيري للدول ـ التي لملمناها بصعوبة كبيرة جدا، لا نكاد نعثر من تلك الدراسات المتخصصة التي ألمعت النظر إلى الدرس اللغوي ونشاطه إلا جهداً للباحث يحيى ولد البراء معنونا بـ«ألفية ابن مالك وأثرها في الحياة العلمية والثقافية في موريتانيا» صدر سنة 2014م عن مطبعة المنار بنواكشوط، ومقال للباحث إسلَم بن السبتي معنون بـ«المصادر اللغوية للثقافة الشنقيطية»، صدر في العدد الأربعين من مجلة التعليم عام 2013م عن المركز التربوي الوطني بموريتانيا.

وإذا كانت هذه الندرة في الدراسات والأبحاث المتخصصة حول هذا الموضوع لها بعض ما يسوغها، فإننا قد عانينا بموجبها عناءً شديداً جعلنا نشقُّ -لسنوات غير قليلة- مساراً طويلاً من الاستقصاء والتقصّي والتحرّي وغير ذلك في النظر والاطلاع على مئات المظان الإخبارية (مصادرا ومراجعا) من الناحية النظرية، وفي خوض عشرات الرحلات والزيارات والاستجوابات المختلفة من الناحية الميدانية، أملاً في أن نرسي مشروعنا الدراسي لهذه الأطروحة على نحو نتغلب فيه –بوجه من الوجوه- على هذا الشح وقصوره بما من شأنه أن يمكننا من بلوغ مادتنا المعرفية لهذه الدراسة ومباحثها المتباينة وبما يجعلنا نستوفيها حق قدرها.

وقد بنيت خيمة أطروحتي هاته ـ كما هو مألوف عند أهل ناحيتي تجاوزا ـ على ثلاث ركائز أساسية (ثلاثة أبواب)، تتضمنها ستة فصول موزعة على اثنتي عشرة مبحثاً، يشدها«عصام» مقدمة تؤطر مداخلها المعرفية والمنهجية، و«اكفى» خاتمة تسوِّرُهَا بالدفء مجموعة من الخلاصات والنتائج التي تتناغم في محصّلتها مع البناء العام لصرحها الذي لم أبخل أو أتهاون ـ على طول الاشتغال ـ في جزّ وبره وغزله كما ينبغي، وحتى نسجه على الوجه الذي بين أيديكم، فإن صلح العمل فمن توفيق الله أولا، ومثابرة صاحبه ثانيّا، وبفضل إرشاد وتوجيه أستاذي المشرف ثالثا، وإن لم يصلح فحسبه أن ينتفع من تهذيبكم وإرشادكم وما قد تتفضلون به في هذه المناقشة العلمية المباركة من توجيهات وانتقادات.

فأولى هاته الركائز يمثلها الباب الأول الذي وسمت عنوانه بـ«مجال الصحراء المغربية: المقومات وبواكير الفتح والانتشار العربي»، وقد جعلته على فصلين؛ خصصت الأول لتحديد «الإطار الجغرافي والبشري لمنطقة الصحراء المغربية»، حيث تحدّثت في المبحث الأول منه عن «حدود الإطار الجغرافي للمجال المدروس»، وتوصيفه من خلال التوقّف المفصّل عند أهم التسميات والإطلاقات التي عرف بها خلال بعض القرون المختلفة في حدّيه الجغرافيين العام والخاص، فيما أوقفت المبحث الثاني على ذكر «الإطار الاجتماعي للمجال المدروس»، وذلك بتقديم لمحة عامة عن الخريطة البشرية لشعوبه وقبائله التي كانت تستوطنه قديماً وتنتشر فيه راهناً (السكان الأولون والسكان الحاليون).

وأما الفصل الثاني منه، فقد أفردته لموضوع «الفتح الإسلامي والمد العربي بالصحراء المغربية»، حيث وزعته على مبحثين اثنين، أولاهما «الفتوحات الإسلامية بالمجال المدروس»، والذي عرَّجتُ فيه على أهم الحملات التي شهدتها المنطقة ومراحلها ومساراتها منذ بواكير الفتح العقبي (التدفق الخارجي للدعوة) وحتى عهد المرابطين والموحدين (التدفق الداخلي للدعوة)، وثانيهما «الهجرات العربية بالمجال المدروس»، فتتبّعتُ فيه أهم الموجات وأصولها العرقية وأبرز منافذ تدفّقها وانطلاقها.

أما ثاني الركائز فيمثلها الباب الثاني المعنون بـ«العربية وانتشارها بالصحراء المغربية: من التَّعرُّبِ إلى الحركة اللغوية» والذي توزع على فصلين؛ حيث درجت في الأول منهما إلى بيان سياقات «انتشار اللغة العربية ومدارج نهضة الحركة اللغوية بالصحراء المغربية»، وذلك من خلال مبحثين اثنين، انصب الأول منهما على إبراز مراحل «التَّعَرُّبُ وانتشار اللغة العربية بالمجال المدروس»، وأهم العوامل التي ساهمت في تشجيع حركته وإذكائها. والثاني على استجلاء مسارب ومدارج «الحركة اللغوية بالمجال المدروس» منذ مرحلة التّعرف والاطلاع على اللغة العربية المعيار وحتى مرحلة نهضة الدرس ونشاط الحركة حولها (العطاء والإنتاجية).

فيما عمدت في الفصل الثاني إلى استكشاف «مصادر الحركة اللغوية بالصحراء المغربية»، واستشفافها من المظان الإخبارية، وذلك من خلال مبحثين رئيسيين: أوّلهما جرد «مصادر الدرس المعجمي والنحوي والصرفي بالمجال المدروس»، وثانيهما جرد «مصادر الدرس الصوتي وباقي علوم العربية الأخرى بالمجال المدروس».

أما تالي الركائز الثلاثة، فيجسدها الباب الثالث الموسوم بـ«الحركة اللغوية بالصحراء المغربية: أساطينها ومجالاتها»، والذي تدرج على فصلين؛ أفردت الأول منهما لـتراجم «أساطين الحركة اللغوية بالصحراء المغربية»، موزعاً إياه على مبحثين اثنين: الأول «أساطين اللغة المؤلفين»، حيث أوردت فيه تراجم الأعلام الصحراوية المؤلفة، فترجمت لنسبها وسيرتها العلمية وأهم الآثار اللغوية التي وقفت عليها لها، محدداً منها المخطوط (خ)، والمطبوع (ط)، والمرقون (ق)، والمفقود (ف). والثاني «أساطين اللغة غير المؤلفين»، حيث انتخبت فيه عدداً من الأعلام التي لم يعرف لها تأليف مذكور في اللغة ـ إما لأنها لم تؤلف أصلاً أو لأن آثارها ضاعت في ظروف غامضة ـ  غير أنها ساهمت في حركة النشاط اللغوي بشكل من الأشكال كتدريس اللغة، أو المشاركة في بعض علومها، أو المناظرة في مسائلها وقضاياها إلخ…

أما الفصل الثاني، فقد جعلته عبارة عن «كشاف مجالات التأليف اللغوي وخصوصياته ومميزاته بالصحراء المغربية»، حيث وزعته إجرائيّاً على مبحثين: قدمت في الأول منهما «كشافاً خاصّاً لمجالات التأليف اللغوي بالمجال المدروس»، حيث بيّنتُ فيه حاصل المنجز الدراسي المحلي المخطوط منظوماً ومنثوراً، مصنّفاً إياه بحسب مجالات علوم العربية (المؤلفات المعجمية، والمؤلفات الصوتية، والمؤلفات الصرفية، والمؤلفات النحوية إلخ… فيما أوقفت المبحث الثاني على بيان «خصوصيات التصنيف اللغوي ومميزاته بالمجال المدروس»، حيث حاولت فيه تقديم قراءة وتقييم عام لهاته الجهود أو الآثار، وذلك من خلال طبيعة التصنيف وأسلوبه، ومقوماته الخاصة وميزاته، ومن حيث موضوعاته ومباحثه، وطبيعة روافده ونوعية مصادره.

وفي الأخير سَوَّرت ركائز الخيمة/الثلاثة بـ«أَكْفَى» تَلُفُّهَا من الخلف، تمثلها خاتمة عامة، استجمعت فيها أهم النتائج والخلاصات التي توصلت إليها بشأن الموضوع، ثم ذيّلتها في النهاية بإثبات للائحة المصادر والمراجع التي اعتمدتها أو تزوّدت منها في بناء هذه الدراسة، معززاً إياها بسلسلة من الفهارس؛ أولاها فهرس الموضوعات (المحتويات)، فيما تهم الأخرى فهارس فنية تتعلق بكل من فهرس الأعلام، والمجموعات البشرية، والأماكن والمواضع الجغرافية، والأشعار، والأراجيز، واللهجات واللغات والألسنة، والأديان والمذاهب والفرق، والحروب والحوادث والمعارك، والمدارس والزوايا والمحاظر، والخزانات والمكتبات، والكتب والمصادر الواردة في البحث.

وهكذا، وعلى الرغم مما اكتنف بناء وإنجاز «كائن» هذه الأطروحة من وعورة في المسالك، ومشقَّة محفوفة بالمهالك، وما شغلته من عديدِ السَّنوات والجهد، وطِوال اللَّيالي والوُكد، فقد كان ارتياد موضوعها ارتياداً وبحثاً استثنائيّاً، لا يخلو من الطَّرافة ومتعة الاستطلاع، وفضول التحرّي والاستكشاف، ركبت فيه جناح المخاطرة، ومطيَّة المغامرة، سالكاً مجاهله الموحشة الطويلة، مُسوِّداً بياضاته الماحقة، مُتزوِّداً ـ على حال المألوفِ في عُرفِ الرّيَّادِين (الرّياديين)ـ بقناعة عقد التَّصميم والإصرار، وإرادة العزم والانتصار، مُتجلِّداً بالإيمان وخالصِ الصَّبر، متأبِّطاً بأمهات المصادر والمراجع في بابه.

وعليه، فقد قادني الارتياد في رياض هذه الأطروحة أو الدراسة ـ في النهاية ـ إلى تحصيل مجموعة من الخلاصات والنتائج التي يمكنني إبرازها في النقط التالية (ثلاثة وثلاثون نتيجة):

ـ أولا: امتازت الصحراء المغربية بالامتداد والانفتاح الدائم على الأطراف الشمالية للبلاد، والجنوبية للقطر الشنقيطي، مما جعل توصيفها العَلَمِي متغيّراً باستمرار، وفي حركية مستمرة تبعاً للواقع وللوقائع الحضارية والساسية والاجتماعية والثقافية وغيرها التي عاشتها أو شهدتها، سواء في حدِّها العام أو الخاص.

ـ ثانيّا: كانت منطقة الساقية الحمراء ووادي الذهب تسبح في فضاء جغرافي عام وكبير لا تعرف إلا من خلاله، عُرف بسلسلة من التوصيفات كالمجابة الكبرى وصحراء الملثمين، وبلاد شنقيط والبيظان والمغافرة وأنبية وقمنورية إلخ… ولما استقر شأن تعريفها في حدّه الخاص ـ عند الجغرافيين وأهل المنطقة والسياسة ـ صارت تعرف بمجموعة من التوصيفات كبلاد تيرس وزمور والصحراء الغربية والمغربية والإسبانية والأطلسية وموريتانيا العليا إلخ…

ـ ثالثا: إن جميع الاستعمالات التي تُدوولت علماً على المنطقة ليست إلا توصيفات ونعوتاً وإطلاقات ذات حمولة عرقية أو سياسية أو غيرها، أملتها بعض الوقائع والظروف الخاصة أو العامة التي أطرت شيوعها في المظان الإخبارية والمصادر التاريخية، خلافاً لاستعمال «الساقية الحمراء ووادي الذهب» الذي يبقى هو العلم والاسم الدال على المجال المدروس.

ـ رابعا: إن منطقة الساقية الحمراء كانت مجالا مفتوحاً على البلاد وجزءاً من القطر الشنقيطي وبلاد المغرب الإسلامي، ولم تكن أرضاً معزولة أو خالية (خلاء) خلافاً لما شاع عنها لدى الكثير من المحكومين إما بالخلفية العَدَميّة الإلحاقية أو الكولونيالية الاستعمارية.

ـ خامسا: احتضنت الصحراء المغربية الكثير من الشعوب والعناصر البشرية المتعددة في أعراقها، والقبائل المختلفة في أصولها، سواء في عهودها القديمة الغابرة، أو الوسيطة، أو الحالية الراهنة، مما يكشف عن ثراء ذاكرتها الحضارية والإثنية، وغنى فعل التلاقح والمثاقفة والتعايش الذي استتبَّ بها من هذه الناحية.

ـ سادسا: عرفت المنطقة المدروسة استيطاناً مهمًّا ومتعدّداً في عصورها القديمة تمثّل في مجموعة من العناصر البشرية، التي رصدنا منها: العناصر البيضاء، والأثيوبية، والبونيقية والرومانية والصنهاجية إلخ… قبل أن تنزاح إليها مجموعة من القبائل في العصور التالية وتنتشر فيها حتى عصرنا الحالي، كقبائل تكنة، والرقيبات، وأولاد دليم، وأبي السباع، وغيرها من العشائر كالمجلسيين، وأهل الشيخ ماء العينين، واليعقوبيين، والجكنيين إلخ…

ـ سابعا: التحق المجال المدروس بركب ديار الإسلام منذ وقت مُبكّرٍ، بفعل جهود حملات الفاتحين المستمرة، من قادة ودعاة وتجار، فضلاً عن ما قام به بعض ملوك وأمراء الدولة الإدريسية والمرابطية في هذا الاتجاه من اختيارات وتدابير جعلت المنطقة تُشكّل –لاحقاً– أحد أهم الرباطات الجهادية ومنطلقات الدعوة الإسلامية لنشر الدّين الإسلامي وتعاليم شريعته بها وفي باقي أطراف جهاتها الشمالية والجنوبية والشرقية.

ـ ثامنا: شهدت الصحراء المغربية تدفُّقاً مُهمًّا لموجات عربية حجازية ومشرقية وقيروانية وأندلسية متمايزة في أصولها (حضرية ومضرية)، وتعدادها (آحاد وزرافات) على امتداد بعض الحِقَب التاريخية، والتي كان أبرزها ثلاث موجات كبرى، أولاها ما قبل الفتح الإسلامي، وثانيتها إبّانه، وثالثتها فيما بعده. وقد أحدثت تحولات جذرية مسّت الخريطة البشرية للمجال، وكان لها بالغ الأثر في تعريبه وربطه بالأمصار العربية وثقافتها الإسلامية.

ـ تاسعا: عرفت الصحراء المغربية تَعَرُّباً وانتشاراً للغة العربية ساهمت مجموعة من العوامل المتضافرة في إذكائه ونجاحه رسميّاً وشعبيّاً، كان من أبرزها عامل اللغة الذاتي/الحضاري، والديني/الدعوي، والبشري/الاجتماعي، والاقتصادي/السياسي. وقد شغل عهوداً طويلة مما جعله يمرُّ بمجموعة من المراحل المتدرجة، وقع أولاها في بواكير ما قبل الفتح الإسلامي، ثم تدرّج مع الفاتحين والمرابطين قبل أن يمتد طولاً وعرضاً باسطاً سيطرته على مختلف مناحي ومظاهر الحياة الصحراويّة خلال المرحلة المعقلية مع مجيء قبائل بني حسان.

ـ عاشرا: شجعت مجموعة من المسارب المتعددة كالرّحلات العلمية والحجية على ظهور الحركة اللغوية بالمجال المدروس ونشأتها، فكان ذلك باعثاً على دخول هذه الحركة في مجموعة من المدارج التي أخذ فيها الدّرس اللغوي، والمعرفة بعلوم العربية ومعارفها، والنشاط حولهما يسير في اتجاه النهضة والازدهار. وهي على التوالي: مرحلة التّعرّف والاطلاع، ومرحلة الاستيعاب والكمون، ومرحلة النهوض والتنامي، وأخيراً مرحلة العطاء والإنتاجية.

ـ حادي عشر: أسهمت مجموعة من المصادر وأمهات المصنفات اللغوية التي راجت بالصحراء المغربية، واستجلبت إليها خلال بعض الفترات؛ سواء في المجال المعجمي أو النحوي أو الصرفي أو الصوتي إلخ… في إمداد الحركة اللغوية بأسباب النهوض والحياة، فكان ذلك من أبرز العوامل التي شجعت نشاط الدّرس اللغوي على الشيوع دراسةً في أوساط الناحية.

ـ ثاني عشر: شكلت النصوص الشعرية القديمة والرسائل اللغوية والمثلثات والمعاجم والقواميس ومتون المقامات والجهود الدائرة حول المقصور والممدود أهم المصادر التي مكّنت أهل المنطقة من المعرفة بكلام العرب، وامتلاك ناصية اللغة، وإنعاش الدرس المعجمي والدراسات التي قامت حوله بهذه الناحية.

ـ ثالث عشر: تُعَدُّ التواليف النحوية والصرفية، الأندلسية المغربية، والمشرقية الحجازية، التي جلبها رواد الرحلة العلمية والحجية من رجالات المنطقة وغيرهم من أهم المصادر التي ساهمت في إشاعة دائرة الدرس المحظري وتوسيعه في مجالي النحو والصرف، وتشجيع نشاط الحركة اللغوية حولهما بين علماء المجال المدروس.

ـ رابع عشر: اضطلعت مجموعة من المصنّفات بدور بالغ الأهمية في نشر وتوفير المادة المصدرية التي تهم عدداً من علوم العربية المختلفة كالأدب وعلم الصوت وعلوم البلاغة والعروض إلخ… التي ما كان للدرس والنشاط اللغوي والأدبي أن يشيع بالمنطقة لولا توافرها وحضورها.

ـ خامس عشر: أسهم في نشأة الحركة اللغوية ونشاطها بالمجال المدروس أعلام كثيرون، متمايزون عطاءً وإسهاماً، ومتباينون تكويناً وتخصُّصاً، منهم علماء لغة أصحاب بعض التواليف، وقد وقفنا على أربعة وثلاثين (34) علماً منهم، ومنهم علماء لغة من غير مؤلفين أصحاب التدريس والتعليم المحظري، وقد انتخبنا منهم في هذه الدراسة ثلاثة وعشرين (23) علماً، ومنهم أيضاً علماء لغة متخصصون، وآخرون مشاركون فيها إلى جانب علوم وفنون أخرى.

ـ سادس عشر: لأعلام الصحراء المغربية إسهام محمود ومعتبر في مختلف مجالات الدّرس اللغوي، حيث بلغ مجموع ما وقفت عليه الدّراسة لديهم حوالي مائتين وثلاثة (203) جهود محلّية بين المنثورة والمنظومة، أغلبها ما يزال مخطوطا، تهم منها قرابة ثمانية وستين (68) مؤلفاً في علم النحو، وخمسةُ وثلاثون (35) في علم الأدب، واثنان وثلاثون (32) في علم الصرف، واثنان وثلاثون (32) في علم اللغة والمعجم، وواحد وعشرون (21) في علم البلاغة والبيان، وأحد عشر (11) في علم الصوت، وأربع (4) مؤلفات في علم العروض والقافية. وقد كانت الآثار المنثورة فيها تحتل الصدارة بحوالي مائة وستة وعشرين (126) مؤلفاً في مقابل سبعة وستين (54) أثراً منظوماً.

ـ سابع عشر: شكل علم النحو صدارة اهتمامات كل تلك الجهود المنجزة نثراً (42) ونظماً (26) لدى أعلام المنطقة حول اللغة العربية، فيما كان علم العروض والقافية تالي تلك الاهتمامات عندهم، إذ لم نقف لهم فيه إلا على جهود محدودة (أربعة)، ثلاثة منها منثورة، وواحد منظوم.

ـ ثامن عشر: لم يكن نشاط الحركة اللغوية ومقررات الدرس المحظري لمادة اللغة وعلومها بالمجال المدروس شاذاً عمّا كان عليه واقع حاله في باقي مراكز وحواضر المغرب وأطراف بلاد شنقيط السفلية/الجنوبية. فالمتون هي نفسها الرائجة والمتداولة في التدريس والتصنيف لديهم، اللهم ما كان منها يتعلق بمدارسة بعض المتون المحلية لبعض أعلام هذه الجهة ومناحيها خاصة موريتانيا وسوس.

ـ تاسع عشر: امتاز التأليف اللغوي لدى علماء الصحراء المغربية ببعض السمات والمقومات:

أ ـ من حيث الأسلوب وجنس التصنيف: بالنزوع في مباحث اللغة والنحو تارة إلى التبسيط والتلخيص، وتارة أخرى إلى التعمق والتوسع، فضلاً عن إيثار الاشتغال بالمنثور أكثر من المنظوم، وهو في الحقيقة يضعنا أمام مفارقة وتناقض حيال ما يشاع من أمر حول أن النّظم لدى علماء المنطقة مقدّم على غيره، وأكثر شيوعاً وتداولاً في منجزهم الدراسي من التصنيف المنثور.

ب ـ من حيث طبيعة التصنيف ومقوماته: بالتراوح ما بين الآثار المتعالقة والمرتبطة مع بعض المصنفات الأصيلة المشرقية والأندلسية المغربية، والموريتانية من جهة، والآثار المستقلة عن غيرها في بناء معرفتها اللغوية العامة من جهة أخرى. وكذلك بالنزوع نثراً إما إلى الاختصار والتجميع والتعليق والمقابلة والشرح والتحشية، أو نظماً إلى بلوغ وتوخّي بعض المقاصد كالتلخيص والتسهيل والتبسيط والاستدراك والزيادة إلخ…

ج ـ من حيث مميزاته وخصوصياته: باعتماد مذاهب شتى في التصنيف والتأليف، كالتركيز على الضبط والتدقيق في بعض الظواهر اللغوية ومسائل اللغة، والاستقراء والتحقيق في بعض القضايا والآراء والاجتهادات حولها، والتعقيب عليها، واستعمال اللسان الشعبي العام (الحسانية) السائد في أوساط مختلف الفئات الصحراوية قصد تذليل وتبسيط بعض أبواب اللغة وعلومها المتعسرة فهماً أو استيعابا عند بعض الفئات غير المتعلمة.

د ـ من حيث طبيعة روافده ونوعية مصادره: بالتعلُّق –أولاً– ببعض المصنفات الذائعة الصيت لبعض الأعلام المشهورة؛ الأندلسية كأبي على القالي (ت 356هـ)، والمغربية كالإمام ابن مالك الطائي (ت672هـ)، وابن آجروم (ت723هـ)، والمجرادي (ت778هـ) إلخ… والموريتانية، كالمختار بن بونة الجكني (ت1220هـ)، ومحمد بابه بن اعبيد الديماني (ت1277هـ) إلخ… وثانيّاً ببعض المصنفات المشرقية الحجازية لعدد من المؤلفين اللغويين والنحاة؛ كابن هشام الأنصاري (ت761هـ)، ومجد الدين الفيروزآبادي (ت817هـ)، وخالد الأزهري المصري (ت905هـ) إلخ…

ـ عشرون: تتمايز آثار أعلام المنطقة ما بين البساطة والتعمق في تناول الظاهرة اللغوية، وبين التعالق والاستقلالية عن بعض المصادر في التصنيف والتأليف، فمنها ما ظل يدور في فلك بعض المصنّفات الأصيلة شرحاً ونظماً وتعليقاً وتحشية إلخ… وإن كانت لا تخلو من جدّة وطرافة في السبك والتناول، وقد مثّلت حصة كبيرة مما هو منجز دراسيّاً في هذا النشاط اللغوي العام، ومنها ما تخطّى ذلك في اتجاه الاستدراك عليها والزيادة فيها، أو الانغماس في التصنيف بمفهومه الحقيقي ذي الطابع المستقل، وهي جهود يسيرة ومعدودة لا تكاد تبلغ العشرة.

ـ حادي وعشرون: إن جميع القبائل الصحراويّة المغربية تقريباً قد ساهم أعلامها مساهمة محمودة ـ دون إقصاء، أو تحيّز ـ في نشاط الحركة اللغوية بالمجال المدروس، سواء أكانت تلك القبائل من «فئة الزوايا»، أو من «فئة حسان» و«اللحمة»، مما يبطل القول الشائع لدى بعض الباحثين الموريتانيين والصحراويين بأن العلم ورجالاته ظلوا منحصرين في فئة الزوايا دون غيرها، وأن باقي الفئات كانوا إما حملة سلاح (حسان)، أو أرباب صنائع (اللحمة).

ـ ثاني وعشرون: إن أعلام جهة وادي الذهب أكثر تعمّقاً في منجزهم الدراسي وفي أصالة الدرس اللغوي والبحث فيه مقارنة بغيرهم في جهتي الساقية الحمراء ووادي نون وتندوف، ولعل ذلك راجع إلى التراكم المعرفي والتخصص الذي انفردت به هذه الجهة ورجالاتها في هذا الباب.

ـ ثالث وعشرون: إن غياب دراسات ترجماتية تهم مشايخ العلوم اللغوية –لا التصوف والدّين والجهاد وغيرها– وندرة الأبحاث المتخصصة في التّعريف بهم وبمؤلفاتهم، وحجم جهودهم في مجال الثقافة العالمة عموماً، ونشاط الدرس اللغوي على وجه التحديد، قد حجب الأضواء عنهم، وألقى بسدول الظلال على وجه عطائهم وإسهامهم في النهضة العربية بهذه الجهات. ودفع –من جهة أخرى– إلى اختزال –كثير من الباحثين– لوجهها الحضاري في الثقافة الشعبية وآدابها الشفهية (الثقافة الحسانية غير العالمة)، أو حصره –في أحسن الأحوال– في مجال الشعر العربي الفصيح لا غير.

ـ رابع وعشرون: لاحظنا أن أعلام المنطقة تتنازعهم جهات المجال المدروس المصاقبة سواء من جهة موريتانيا أو سوس ومراكش، أو من جهة الجزائر ومالي، على الرغم من أنهم صحراويون مغاربة ينتسبون للمجال ولادة ومنشأً. فكثيراً ما نجد بعض مؤلفي التراجم والأعلام في هذه البلدان والمناطق ينسبون بعض أعلام الصحراء المغربية وعلمائها إلى بلدانهم بحجّة مرورهم أو استقرارهم بها فترة من الزمن، أو تحت ذريعة النسب والمجاورة المجالية، ومن أمثال ذلك امحمد بن الطلبة اليعقوبي (ت 1272هـ) الذي ولد وعاش ومات بمنطقة تيرس (جهة وادي الذهب)، وكذلك الحال بالنسبة للشيخ محمد المامي بن البخاري الباركلي (ت 1282هـ) وغيرهما…

ـ خامس وعشرون: ساد في أوساط الدّارسين والمهتمين بالحركة العلمية في المجال المدروس ارتباط النشاط العلمي عموماً واللغوي والأدبي خصوصاً ببعض القبائل والأسر المعروفة كأهل الشيخ ماء العينين مثلاً، وقد تبيّن لنا من خلال البحث والتحرّي أن جميع القبائل الصحراوية كان لها إسهام –قليل أو كثير– في نهضة الدّرس العلمي عامة واللغوي خاصة، إلا أن بعضها لم يكتب لتراثه المخطوط وجهود رجالاته أن تحفظ وتصان إلى اليوم. ومن ثمة لا يجوز اختزاله في قبيلة دون أخرى كما يفعل الكثير من الباحثين بدافع التعصب القبلي ونعرته المفرطة.

ـ سادس وعشرون: إن اغلب تلك الجهود المرصودة ما تزال حبيسة الخزانات الفردية (الخاصة)، ورفوف المكتبات العائلية، ولم تعرف طريقها –بَعْدُ- نحو التحقيق والتخريج –لحد الساعة– ما عدا بعض الدواوين الشعرية المحدودة، فجلُّ الدراسات والأبحاث المنجزة هي جهود أدبية انصرفت إلى الشعر أو إلى التصوف أو إلى الثقافة الشعبية مما فوّتَ فرصة الاطلاع والتّعرف على وجه المنطقة وإسهام رجالاتها في اللغة والثقافة العالمة بصفة عامة، التي لم نَرَ لها من الباحثين اليوم نصيراً.

ـ سابع وعشرون: كان الرافد المغربي الأندلسي الأكثر إسهاماً بالنسبة للحركة اللغوية، والأقوى حضوراً وقبولاً، والأحسن نباتاً وشيوعاً منذ زمن مبكر بالمجال المدروس، وقد متّنت جسوره الرحلة العلمية إلى جانب الانتماء، ثم غذته وعززته حركة هجرة العلماء من الشمال نحو الجنوب أو من الجنوب نحو الشمال.

ـ ثامن وعشرون: لم تكن الحركة اللغوية معزولة عن الرافد المشرقي الحجازي، فقد كان له أثره في نشاط التأليف، ومناهج مقررات التدريس، وقد غذت حضوره الرحلات العلمية والحجية وما جلبته من مظان مصدرية وتكوينات وإجازات بفعل ثابت التفاعل والتواصل الذي جمع هذه الجهة من البلاد وأعلامها بباقي الحواضر ومراكز الإشعاع بالمشرق وغيره.

ـ تاسع وعشرون: لم نستطع الظفر بصورة جلية ملموسة وواضحة عن أعلام المنطقة وآثارهم اللغوية خلال القرون الهجرية الأولى على الرغم مما بسطناه من حضور للعرب وانتشار للعربية، وذلك نتيجة وجود بعض المناطق العاتمة والبياضات الماحقة الناجمة عن الفراغ الوثائقي وصمت المظان والمصادر التاريخية والعلمية المتداولة بين أيدينا اليوم. فهذه القرون الأولى تشكل الحلقة المفقودة من التأريخ للنشاط اللغوي بالمنطقة، كما كان حال القرن الهجري الأول بالنسبة للتأريخ اللغوي بالمشرق.

ـ ثلاثون: يظهر لنا من استقرائنا العام للجهود المخطوطة، وللأعلام اللغوية المترجم لها، ولتوزيع المحاظر العلمية، أن الموضع الأكثر إيغالا ونشاطا كان هو منطقة تيرس جهة وادي الذهب، الذي استطعنا منذ القرن الخامس الهجري أن نتعرف على بعض أعلامه المدرّسين، وفي نهاية القرن الحادي عشر الهجري على بعض آثارهم المخطوطة، وهو الأمر الذي جعل الموريتانيين يتقصون النهضة العلمية واللغوية والأدبية منه في التقعيد لنشأة الظاهرة العلمية ببلاد شنقيط، والحال أن ذلك يهم بواكير نهوض الظاهرة بالصحراء الجنوبية للمغرب لا بموريتانيا، وهو استغلال نعتبره «غير موضوعي» مع وجود "النزعة الإقليمية" الناجمة عن التقطيع الترابي، والتي صار يأخذ بها باحثو ذلك القطر المجاور.

ـ حادي وثلاثون: عرف شمال الصحراء المغربية (وادي نون) ـ في بداية عهوده الأولى ـ تواصلاً وإشعاعاً علميّاً متعالقاً مع سوس، قبل أن ينصرف عنها في اتجاه قبلة الشرق الموريتاني (ولاتة) وأحواز مالي (تمبكتو) خلال القرون الموالية، ثم يعاود الاتصال والتعالق به ثانية مع موجة انتقال العلماء الصحراويين إلى قراه ومداشره بزعامة بعض الأسر الصحراوية النازحة كأهل ماء العينين، وأهل لبصير والسملاليين (الرقيبات)، وأهل إعزى ويهدى (آسا)، وأهل بلعمش (تجكانت) وأهل الصغير من أولاد أبي السباع وغيرهم….

ـ ثاني وثلاثون: لقد كانت الانطلاقة الفعلية لنشاط الحركة اللغوية من أقصى المجال المدروس الغربي (منطقة تيرس بجهة وادي الذهب) مع بعض الأعلام المجلسية (المدلشيين)، واليعقوبية (الموسويين)، والباركلية (أهل بارك الله) وغيرهم، وفي الظروف نفسها –رغم غياب الأثر المخطوط ووجود شيوخ علم– بالجزء الشمالي له (منطقة وادي نون) مع اليهدويين (أيت عزى ويهدى) واللمطيين (الأسريريين)، ثم انتقلت إلى أقصى الطرف الشرقي للمجال المدروس (منطقة تيندوف) مع الجكنيين (الموسانيين والرماظين)، وبعض الأعلام الصحراوية المغمورة، ومنها امتدت نحو قلب وسط المجال (منطقة الساقية الحمراء) بالسمارة مع أهل ماء العينين وأترابهم وتلاميذتهم، قبل أن ينزاح تمركزها إلى اتجاه سوس نحو قرى كردوس وتيزنيت وبعقيلة وعين الطلبة ووجّان إلخ…

ـ ثالث ثلاثون: هناك تهافت كبير لبعض الباحثين بشأن الالتفاف على نشاط وأعلام الحركة اللغوية بالمنطقة سواء من قبل باحثي المناطق المجاورة (موريتانيا، الجزائر، مالي) أو حتى الشمال (سوس ومراكش) أو من قبل قطب قبلي واحد (أهل الشيخ ماء العينين) الذي يبدو أنه حجب المعرفة ـ من الناحية العلمية ـ عن كل أعلام وعلماء باقي القبائل مجانباً ـ بوعي أو بغير وعي ـ الموضوعية العلمية، وقد تصاقبت كل جهود الباحثين ـ من ذوي الانتماء إلى هذه الأسرة العلمية ـ على تسويق وإشاعة ذلك في مجموع الأبحاث المتداولة اليوم بين أيدينا.

والله من وراء القصد وولي النعمة وإليه المآب.


 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق