مركز الأبحاث والدراسات في القيمدراسات عامة

الجماعات الافتراضية ومسألة الهوية (الجزء الأول)

بقلم: ذ. عبد الخالق بدري

من خلال تتبعنا لتحولات العالم الافتراضي، لاحظنا بروز العديد من الإشكالات والقضايا التي تستحق الرصد والتحليل، لما لها من أثر على ثقافة يكرسها الفضاء السبرنطيقي، ومن خلال دراستنا هذه، التي ستنشر على جزئين، سنتوقف على تيمة الجماعات الافتراضية ومسألة الهوية.

       على الرغم من انتشار الديمقراطية، والدعاية الواسعة لها في كثير من بقاع العالم، والإجماع على أنها آلية من الآليات، لإدماج الجميع في الممارسة السياسية، والعمل من داخل الإطارات السياسية التقليدية، لتحقيق تغيير اجتماعي. لم يمنع وجودها- أي الديمقراطية- من ظهور حركات وجماعات، اختارت المشاركة والعمل السياسي خارج الهياكل التقليدية.
     ومن المعروف اليوم أن الجماعات الافتراضية هي في مقدمة الآليات الجديدة وغير التقليدية، التي يستعان بها لتجميع أكبر عدد ممكن في وسط معين، يحمل ملفا مطلبيا محددا، يشرع في “حملة” دعائية وترافعية/ احتجاجية، يلهم بها “الجماهير” ويوجهها بالصوت والصورة و” التعليق”.
    لقد تعاظم دور وتأثير الجماعات الافتراضية بتراجع فعالية ممارسة العمل السياسي من داخل الإطارات التقليدية والرسمية، التي لم تعد تحقق مطامح الفاعلين في الهياكل الجديدة. كما أن للجماعات الافتراضية روابط تتعدى المحلي والإقليمي إلى ما هو أوسع تتوطد من خلاله روابطها، ويجعلها أكثر تمسكا بأهدافها، وأكثر تلاحما فيما بين الفاعلين فيها.
      يعد مفهوم الجماعة الافتراضية من أهم المفاهيم التي فرضت جاهزيتها المعرفية، ذلك أن البحث في الفضاء العمومي الافتراضي يقتضي قاموسا مفهوميا جديدا، مثل مفهوم الرأي العام والحكومة الالكترونية…، وبروز مفهوم جديد للمتفاعل المعلق ومفهوم الجماعات أو الحركات الافتراضية. هذا الأخير سنحاول التوقف عنده في هذا المبحث من خلال محورين أساسين؛ محور نظري ومحور تطبيقي.
   ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن الخلفية المعرفية؛ التي جعلتني قبل التوقف عند حدود الإجابة عن إشكال البحث، هو أن نتوقف عند كيفية تشكل الجماعات الافتراضية التي هي المحور الأساس الذي يؤثر بشكل مباشر في الرأي العام- الذي تعتبر الجماعات الافتراضية جزءا منه- بل إنها هي النخبة الجديدة للرأي العام، وهذه هي المفارقة التي جعلتني أقف عند هذا المبحث.
1ـ الجماعات الاجتماعية
    ما معنى الحركة الاجتماعية؟ وهل كل حركة أو فعل يمكن أن يوصف بكونه حركة اجتماعية؟ ما هي خصائصها، ومحدداتها، وما العناصر الأساسية التي تدخل في تشكيلها؟
   بهذه الأسئلة تم تصدير مقالة علمية –سنحيل عليها- تحت عنوان: “السوسيولوجيا والمجتمع لدى ألان تورين وبيير بورديو”، تمت الإجابة فيها عن مختلف محددات الحركات الاجتماعية؛ ومتجاوزا بذلك التعريف الضيق لها، وذلك بأن أعطي لها بعد شمولي؛ “إن الحركة الاجتماعية هي فعل موجه ثقافيا وتصارع اجتماعي يقوم به فاعل معرف من خلال وضعه المسيطر أو التابع داخل نمط امتلاك التاريخانية.
إنها ذات طابع شمولي ينقلها من الهامشية إلى المركزية، وذلك بإدراج صراعاتها في مستوى الحقل التاريخاني”.
     لقد أرخى مفهوم الجماعة سدوله على علم الاجتماع، وأثيرت حوله عدة إشكالات، جعلت العديد من آباء العلم يتوجسون منه، لطبيعة التداول اليومي المستهلك لهذا المفهوم، بالإضافة إلى ذهاب فريدناند تونيس إلى أن التحديث modernisation  نجم عنه خسارة الجماعة والتضامن المحلي وفي الاقتصاديات الصناعية النامية لشمال أوربا، لم تعد المعرفة المتبادلة والضوابط الاجتماعية المتولدة نتيجة العيش في مواقع ريفية صغيرة النطاق نسبيا، ممكنة في المراكز الحضرية الناشئة، كبيرة النطاق والمستقلة والمتنوعة اجتماعيا، وأصبحت هذه الفكرة الخاصة بخسارة الجماعة بدورها فكرة محورية في تطور دراسات مدرسة شيكاغو للتحضر.
    لمفهوم الجماعة تعريف تقليدي يحصره في “العلاقات الخاصة بالموقع أو الجوار المشترك لمجموعة من الأشخاص وتعريف حديث يحمل أفكار التضامن والارتباط بين أناس يتشاركون في الخصائص أو الهويات الاجتماعية نفسها.
     وارتبط مفهوم الجماعة أو الحركة بالطبيعة السياسية والاحتجاجية لهويتهما، التي تتناول الصلة بين المجتمع المدني والنظام السياسي خارج أنماط المشاركة السياسية المؤسسية” وهو ما يميزها عن العصابات واللوبيات، التي تشتغل بآليات غير واضحة، وفي وسط يطبعه السرية والعنف المادي في غالب الأحيان.
2ـ الجماعات الإفتراضية: المفهوم والتعريف  
                                                                                                                                          إنه بالعودة إلى كتاب  Les communauté virtuelle  يعرف الجماعات الافتراضية بأنها “تجمعات اجتماعية وثقافية تظهر في الشبكة عندما يكون هناك عدد كاف من الأفراد، يشاركون في مناقشات عامة خلال وقت كاف، ويضعون من وجدانهم ما يكفي لنسج شبكات من العلاقات الإنسانية في الفضاء السيبراني.
انطلاقا من هذا التعريف يمكن أن نستنتج بأن الجماعات الافتراضية تتميزبـ:
    •    توفر عدد معين كحد أدنى.
    •    إلزامية الدخول في نقاش عام.
    •    الاستمرارية الزمنية في النقاش.
    •    العلاقات غير محددة ومعروفة مسبقا.
    •    العلاقات تتشكل من خلال النقاش العام.
ويمكنني أن أزيد مميزات عدة للجماعة الافتراضية؛ من خلال الممارسة العملية من داخل الفضاء العمومي الافتراضي، وتفكيك عدة حركات افتراضية – مع  العلم بأني سأزيد من تفصيلها  بالمحور التطبيقي- كي أجمعها في الأمور التالية:
* غياب الرمز أو القائد أو القيادة الإدارية.  
* غياب الهياكل المحددة، وفقا لقانون أساسي كما هو الحال مع الحركات الواقعية.
*  طبيعة العلاقة فيها إرادية، وليس ضرورية وفقا للقرابة العائلية أو الجغرافية أو الدينية.
* صناعة نخبة جديدة بدل النخبة الواقعية.
* طبيعة الجماعة ترافعية احتجاجية.
* جماعة تنتج “الحقيقة” بشكل جماعي غير محدد سلفا.
*استيعاب شرائح مجتمعية مهمة كما وكيفا، كانت إلى وقت قريب منسحبة.
*هامش الإبداع والتدخل واسع و كبير، بدون قيود تنظيمية أو قانونية.
و نتيجة هذا كله هو:
    •    تجاوز الحركات التقليدية.
    •    تجاوز النخب الواقعية.
    •    انبجاس قاموس مفاهيمي جديد.

3ـ تعريف الجماعات الافتراضية
   إن مفهوم الجماعات الافتراضية هو أحد العناصر المتكررة، للخطاب الذي تضعه المعلوماتية حول نفسها، و يقوم بدوره على الدوام في كل الحالات، بواسطة البوابات التي تقدم خدمة الدردشة، وقوائم وميادين للبث، وبريد إلكتروني و إنزال لصفحة منزلية.
   وتجدر الإشارة إلى أن هذه الخدمات، من جانب آخر، لا يتم تقديمها على انفراد إلا نادرا، و هو ما يشير إليه فاليري بودوا  Valerie Beaudoin ، و هو عالم اجتماع في مختبر العلوم الإنسانية في فرانس تليكوم، بأنها جانب آخر مترابطة تماما بممارسة فاعلين يقضون وقتهم في التجول من مكان لآخر، ويشكلون مجموعة.
   كما أن الجماعات الافتراضية تعتبر أحد أبرز الرهانات المتعلقة بالمواقع الاجتماعية، وذلك لما يثيره هذا المفهوم من جدل حول أثر الانترنت بصفة عامة، والمواقع الاجتماعية بصفة خاصة على اللحمة الاجتماعية La lien Social.
    يعرف راينغولد هاورد العالم الأمريكي المختص في الاتصالات، في كتابه المرجعي الجماعات الافتراضية بأنها “تجمعات اجتماعية و ثقافية و سياسية تظهر في الشبكة عندما يكون هناك عدد كاف من الأفراد يشاركون في مناقشات عامّة خلال وقت كاف من الأفراد و يضعون من وجدانهم ما يكفي لنسج شبكات من العلاقات الإنسانية في الفضاء السيبراني.
    إن ظهور هذه الجماعات الافتراضية مع النت، قد طرح عدّة تساؤلات ذات منحى سوسيولوجي، باعتبارها شكلا جديدا من أشكال الاجتماع البشري، مثل التساؤل حول مصداقية ووثوقية العلاقات، التي تربط بين أشخاص لا يعرفون بعضهم البعض؟ أو التساؤل حول دور الأنترنيت في إضعاف اللحمة الاجتماعية؟ عن طريق علاقات افتراضية، تحل محل حرارة العلاقات الإنسانية المباشرة، و في هذا السياق تساءل فيليب فيليب بروتون عن دور الانترنت في تهديد اللحمة الاجتماعية.   

4ـ الجماعات الافتراضية ومسألة الهوية
     تؤكد العديد من المؤشرات والتقارير على أن الجيل الناشئ سيكون جيل الشبكات الاجتماعية، والدليل على هذا، الانتشار الواسع للتقنية، التي عجلت من وتيرة سرعة الانتشار، ولطبيعة بنيتها التي تسمح بظهور وسائط وشبكات اجتماعية مهمة، تحقق نوعا مهما من التواصل السريع. كما تدل مؤشرات أخرى، أيضا، على أن هذه المرحلة هي مرحلة فيس بوك والمدونات والتويتر والبال تولك و اليوتيب
    ونذكر هنا بأن الفايس بوك فقط على سبيل المثال، ينتمي إليه حاليا حوالي700 مليون مستخدم حسب آخر الإحصائيات، منها ما يقارب ثلاث ملايين مستخدم في المغرب أغلبهم تتراوح أعمارهم بين 16 سنة و 40 سنة، وكذلك هو الأمر مع المدونات التي اعتبرت هي الأخرى، مساهما في التأطير العام ومحققة نسبة مهمة من الاستعمال.
    فالوسيطين الإعلاميين اعتبرا في الدول العربية، بمثابة جماعتين افتراضيتين، لهما دلالاتهما ورمزيتهما، باعتبارها توطدان الرابطة الاجتماعية الافتراضية للأفراد، القائمة على دلالة حميمية، وفي الوقت نفسه توفر هوية جديدة لمستخدميهما.
    ففي الآونة الأخيرة يمكن الإجماع على الإقبال الكبير لدى الأفراد على المشاركة والفاعلية من داخل الجماعات الافتراضية، ليس فقط في المجتمعات العربية وباقي الدول السائرة في طريق النمو، بل سبق اعتمادها بالدول الغربية التي تستعين بالتقنية كوسيلة أساسية في جميع أنظمتها.
    وعلى الرغم من اتساع استعمال التقنية بالعالم العربي، لم يحدث ذلك النقاش الساخن حول هذه التقنية الاتصالية الجديدة، كالذي يحدث في العالم الغربي، حيث احتدم فيه الجدل حول آثار هذه التقنية، رغم ما أحدثت من تغيرات على مستوى البنيات الاجتماعية التقليدية وشبكة الترابط الاجتماعي الأسرة، العائلة، المدرسة، الحي…. بمعنى أنه في المجتمعات التقليدية مازالت مؤسسة الأسرة كشبكة اجتماعية للتربية و التنشئة، والعائلة كشبكة اجتماعية للترابط و التواصل القرابي، والحي الحومة أو الدرب أيضا كشبكة اجتماعية للعب و اللهو، و الخيط الناظم بين هذه الشبكات الاجتماعية أن لها خصائص و قواعد و محددات و عناصر و ضوابط تساهم في تحديد الهوية الاجتماعية للأفراد.
    و نحن لا نكاد نرى أو نسمع جدلا بتلك الحدة التي يعرفها المجتمع الغربي، فيما يخص آثار الشبكات الافتراضية على نمط العلاقات داخل الشبكات الاجتماعية التقليدية، اللهم بعض النقاش على مستوى الخطاب السياسي والإعلامي، الذي فرضته التحولات الأخيرة على المشهد السياسي العربي، بفعل الدور الذي لعبته هذه الوسائط الإعلامية في هذه التغيرات.
    إن الوسائط الإعلامية أصبحت “جماعات افتراضية” منافسة ومؤثرة، وخصوصا بعد أن راج استخدامها على نطاق واسع، تضاعف بذلك عدد المستخدمين لها بشكل كبير كما توضح المعطيات والأرقام.
 ويعود الإقبال الكبير على هذه المواقع لاعتبارات كثيرة نذكر بعضها:
    •    سهولة برنامج استخدامها.
    •    تقديمها لجودة عالية التقنية في التواصل الاجتماعي.
    •    انفتاحها بشكل كبير؛ إذ تتيح سهولة الإبحار في عالمها رغبة كبيرة للأفراد في نسج علاقات اجتماعية جديدة، وقضاء مدة زمنية طويلة أمام الحاسوب.
و يتفاوت عدد المستخدمين بين دول العالم المتقدم و بين دول العالم المتخلف، و بين الفئات الاجتماعية داخل المجتمع الواحد.
    فما هي إذن دلالات نزوع الأفراد نحو الوسائط الإعلامية “فيس بوك” نموذجا؟ هل نحن حقا أمام موجة ثالثة كما سماها ألفين توفلر؟ هل أصبح الفايسبوك يعبر عن شبكة اجتماعية جديدة لها توجهات خاصة؟ هل ما زالت المؤسسات التقليدية كشبكات اجتماعية و كمؤسسات للتنشئة الاجتماعية تحافظ على دورها في تشكيل الهوية الاجتماعية؟ أم أنها متجاوزة أمام الإقبال الكبير على الفضاء العمومي الافتراضي؟
    بناء على هذا ارتأينا دراسة هذه الظاهرة الاجتماعية بهدف إثارة النقاش العلمي حولها على غرار تلك الدراسات العلمية التي أجريت حول هذا الموضوع في الدول الغربية.
   ارتأيت أن تكون انطلاقتي لفهم و تفسير هذه الظاهرة في مجتمعنا المغربي، و كشف التباينات التي سنتوصل إليها. وقد وقع اختياري على الفايسبوك نموذجا، لظهور تجليات تشكل الجماعات الافتراضية، ولمسايرة ومواكبة النقاش المجتمعي الحاصل حوله، ومن أجل مقاربة معرفية حوله.

1    الديمقراطية هي النظام السياسي الذي يحكم الشعب بموجبه نفسه بنفسه، وفي الديمقراطية التشاركية أو المباشرة، يجري اتخاذ القرارات من جانب من يتأثرون بها. و الديمقراطية الليبرالية ديمقراطية تمثيلية يكون فيها للمواطنين حق التصويت والاختيار بين حزبين سياسيين”.
    –    كتاب علم الاجتماع، أنتوني غنز، ترجمة وتقديم الدكتور فايز الصياغ، ص 498 مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الرابعة،
    2     إشكال البحث الذي صدرنا به في البداية، هو هل تشكل المدونات السياسية فضاء عموميا بالمغرب؟ ومن خلال محاولتنا الإجابة عن الإشكال، برزت عدة مفاهيم وعدة أسئلة فضلت التوقف عند بعضها واخترت مفهوم الجماعة الافتراضية ، والتفاعل الحاصل للفاعلين فيها وتأثيره على الهوية؟
    3    عصام العدوني، مجلة إضافات، مقالة : السوسيولوجيا والمجتمع، لدى ألان تورين وبيير بورديو ، ص 33
    4    نفس المرجع و الصفحة
    5     علم الاجتماع، المفاهيم الأساسية، تحرير جون سكوت، ترجمة محمد عثمان، الشبكة العربية للأبحاث والنشر ، ص 165
    6     نفس المرجع ص 155
    7     نفس المرجع ص 155
    8     Rheingald Howard les communauté virtuelles addition-Wesley France paris 1995 p 2
    9     حركة من دون أيديولوجية، قراءة في كتاب ” صدمة الثورات العربية” المعطي قبال، جريدة المساء الصفحة 7، العدد 1444
    10     ما بعد الافتراضي استكشاف اجتماعي للثقافة المعلوماتية، فيليب ريجو، ترجمة عزة عامر المركز القومي العربي للترجمة، ط 1 ، 2009، ص: 122-123
 
    11   Howard, Rheingold, Les communauté virtuelles,1993 , p .2   
    12    شوقي العلوي، رهانات الانترنت، المؤسسة الجامعية للدراسات وللنشر و التوزيع، ط 1 2006، ص. 123

    13        لمزيد من الإطلاع على عدة إحصائيات وبيانات ، كتاب ” أثر الفابي بوك على المجتمع” إعداد م. وائل مبارك خضر فضل الله، مدونة شمس النهضة، نوفمبر 2010

    14    حسب موقع socialbakers ، الذي وزع المشتركين المغاربة في الفايس بوك حسب الجنس والسن:
    15    37 في المائة إناث، 63 في المائة ذكور. وأكد على أن النسبة الغابة في استخدام الفايس هي في سن 18-24 وحددها بنسبة 41 في المائة
    16    Wwwsocialbakercom .
    

ذ. عبد الخالق بدري

باحث بمركز أجيال للتكوين والوقاية الاجتماعية بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق