مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

الجدل الكلامي في عصر ابن خلدون: سعيد البوسكلاوي

خصص الباحث-سعيد البوسكلاوي-أستاذ بكلية الآداب/وجدة- هذا المقال للحديث عن وضعية الجدل الكلامي في عصر ابن خلدون، انطلاقا من موقف ابن خلدون المتضارب من علم الكلام، وقد قسم مقاله إلى خمسة محاور:
1- السياق العقدي: تحت هذا العنوان أدار الكاتب المحور الأول من هذا المقال بقوله: «يربط ابن خلدون سند التعليم في علم أصول الدين بالفخر الرازي، ويذكر ثلاثة شخصيات سافرت إلى الشرق ونقلت أصول هذا العلم إلى بلاد المغرب: أبو القاسم بن زيتون، وأبو عبد الله شعيب الدكالي المغربي، وأبو علي ناصر الدين المشدالي.
رحل الأول من تونس في منتصف المائة السابعة وأدرك تلامذة الفخر الرازي (فأخذ عنهم ولقن تعليمهم وحذق في العقليات والنقليات، ورجع إلى تونس بعلم كثير وتعليم حسن)[1].
 والثاني رحل من المغرب إلى مصر واستقر بعد عودته بتونس. وعن هذين العالمين أخذ أهل تونس جيلا بعد جيل، واتصل سند التعليم إلى أن انتهى إلى ابن عبد السلام شارح ابن الحاجب.
 والثالث ارتحل من زواوة في آخر المائة السابعة أدرك تلامذة ابن الحاجب (وأخذ عنهم ولقن تعليمهم وقرأ مع شهاب الدين القرافي في مجالس واحدة، وحذق في العقليات والنقليات)[2].
ولا يغفل ابن خلدون أن يسجل قلة  تلامذة هذا الأخير ببجاية وتلمسان في هذا العهد، أما فاس وباقي أقطار المغرب، فقد غاب عنها حسن التعليم لعدم اتصال سند التعليم في طلبتها، (فعسر عليهم حصول الملكة والحذق في العلوم)[3].
نشتم لدى ابن خلدون نوعا من عدم الرضا عن هذه الوضعية التي آلت إليها العلوم بعد انقطاع سند التعليم خاصة في فاس وباقي أقطار المغرب، التي عسر على أهلها (الحذق في العلوم)، بل كأنه يتحسر على انقطاع الوصل العلمي وندرة المهتمين بالعلوم. يغلب على الظن أنه يقصد بالدرجة الأولى العلوم العقلية، بل إن سياق حديثه يحيلنا على علم واحد هو علم الكلام، فهل فعلا لم تنتج في هذا العصر نصوص كلامية؟ هل خبا الاهتمام بهذا العلم إلى الدرجة التي يصفها ابن خلدون؟ ثمة سؤال آخر يفرض نفسه على شجرة السند التي رسمها ابن خلدون لعلم الكلام في زمنه بالغرب الإسلامي: هل عدد أساتذة أصول الدين الذين عادوا من رحلات علمية إلى المشرق على الأقل في القرنين السابع والثامن ينحصر فقط في هؤلاء الثلاثة الذين ذكرهم صاحب المقدمة؟ وهل ينتهي سند تعليم الكلام كله إلى الفخر الرازي دون غيره من أئمة معاصرين له سابقين أو لاحقين؟ أم أن ثمة تقاليد كلامية أخرى لا تنتهي بالضرورة إلى الإمام ابن الخطيب؟
نطرح هذا السؤال/[الأسئلة] لأننا نعتقد أن ثمة بالفعل تقاليد كلامية جديدة كانت قد بدأت تترسخ ببلاد المغرب يمكن أن نلمح إلى تقليدين:
أحدهما: شق طريقه من داخل مدرسة الفخر الرازي بدأ في مصر على يد المقترِح[4]، وكثير من المغاربة درسوا في مصر وتتلمذوا على يد هذا الأخير، ثم تبعه في ذلك شرف الدين التلمساني وغيره ليتكرس هذا التوجه بشكل نهائي لدى الأشاعرة المالكيين ببلاد المغرب، ونجد آثار هذا التقليد واضحة، وقد بلغت أوجها لدى السنوسي في القرن التاسع، وهو تقليد نقد الإمام ابن الخطيب مع الاحتفاظ بكل التقدير له كإمام المذهب. ومع هذا التقليد تكرس أيضا نقد طريقة المتأخرين، ربما تحت تأثير موقف الغزالي الداعي إلى منع العوام عن علم الكلام، وإن كان هذا الأخير لم يسلم بدوره من انتقادات المغاربة.
والتقليد الثاني: هو تقليد من خارج التيار الأشعري يرجع إلى الإمام ابن تيمية (فيلسوف مذهب أصحاب الحديث) الذي درس على يديه مغاربة لا نتوفر على معطيات كافية حول مدى مساهمتهم في نشر المذهب التيمي ونقل بعض مؤلفاته إلى بلاد المغرب في هذا العصر؛ وابن تيمية لم يخف أبدا نقده للغزالي والفخر الرازي، بل للجويني قبلهم وغيره من أئمة الأشعرية مآخذ عليهم بسبب تأثرهم بكتب المعتزلة والفلاسفة. نزعم أن رياح هذا التيار لابد أنها وصلت إلى بلاد المغرب وتفاعل معها، إيجابا، كثير من فقهاء المالكية الذين وجدوا فيها سندا قويا لمواقفهم الرافضة للجدل الكلامي، وإن كان هذا لم يمنعهم من أن يخوضوا في هذا العلم، بل أن يبرع بعضهم في استعمال آليات الحجاج والمناظرة في رد (مزاعم) المتكلمين وأطروحاتهم كما فعل شيخ الإسلام وتلميذه. ولا نشك في التأثير القوي الذي مارسه هذا التيار على الخائضين في هذا العلم وفي توجيه الكلام الأشعري وجهة توفيقية نتيجة محاصرة (منهجه التأويلي) بشكوك واستدلالات منطقية تضاهي أو تفوق أحيانا أدلة المتكلمين. وفرضت بالتالي على هؤلاء اعتماد منهج التفويض في أحيان كثيرة ونقد طريقة المتأخرين، وما بروز هؤلاء المتكلمين (الجدد) إلا لتوفر جو ثقافي وعقدي يسمح بذلك».
وللجواب عن سؤال طرحة الكاتب في نهاية المحور الأول من مقاله يدور حول السمات العامة للوضعية العقدية في العصر المريني؟ ذكر فيه أن الحركة الفكرية عرفت نوعا من الازدهار مع المرينيين الذين شجعوا العلم والدرس ووفروا بعض وسائله وأجوائه، ساهم فيه-كذلك- نزوح كثير من علماء الأندلس إلى بلاد المغرب والذين كان لهم دور في إذكاء كثير من المناظرات والمراجعات في مسائل فقهية أو أصولية أو أدبية أو صوفية أو غيرها، غير أن الهيمنة الفكرية العامة كانت لعلوم الفقه والحديث..
وعن سؤال ثان حول: ما هو التوجه العقدي الذي كان يشجعه الأمراء المرينيون؟ يجيب الكاتب بأن الواقع يوجب إعادة النظر فيما يكرره بعض المؤرخين من غياب مذهبية عقدية رسمية لدى المرينيين، وليستخلص أن الأمر الثابت الذي يجب تسجيله هنا هو العودة القوية لفقهاء المالكية الذين حظوا بمراكز مرموقة في مجالس الدرس والفتيا، وأسندت لهم وظائف سياسية مهمة، وراحوا يكرسون على المستوى العقدي الرسمي تنظيرا مالكيا مناهضا، أو على الأقل مخالفا للمذهب الأشعري خاصة في صورته المتأخرة، لكن دون أن يعني هذا حمل الناس بالقوة على اعتماد هذا المذهب كما فعل الموحدون من قبل..
2-رفض طريقة المتأخرين: يقول الكاتب في هذا المحور: «في سياق حديثه عن علم الإلهيات، دعا ابن خلدون بشكل حاسم إلى ضرورة فصل علم الكلام عن الفلسفة عبر التمييز بين مسائل كلا العلمين، بعد أن صار علم الكلام مختلطا بالحكمة. إذ ينظر ابن خلدون بعين غير راضية إلى الامتزاج الحاصل بين الكلام والحكمة لدى المتأخرين، وذلك ليس فقط لأن موضوعهما ومسائلهما متباينة، وإنما أيضا، بل أساسا، لأن منهج اشتغالهما مختلف..لذا يتبنى دعوة صريحة إلى عزل العقل عن الشرع، وإبعاد النظر عن أمور الدين، لأن إقامة الحجج ليس من اختصاص هذا العلم، إذ التعليل بالدليل بعد أن لم يكن معلوما هو شأن الفلسفة، وكل ما يمكن أن يأتيه هذا العلم هو التماس حجة عقلية تعضد عقائد الإيمان ومذاهب السلف وترد البدع وفي كلا الحالين فإنها تؤخذ صحيحة من الشرع بأدلتها النقلية كما وصلتنا عن الأسلاف.
 إن حجية الدليل النقلي أولى من حجية الدليل العقلي في نظر ابن خلدون، وهذا الموقف هو نتيجة لإيمانه بضعف مدارك العقل البشري. لهذا فهو يرفض (أن ننظر في مدارك الشرع ولا أن نصححها بمدارك العقل، حتى ولو عارضه، بل نعتمد ما أمرنا به اعتقادا وعلما، ونسكت عما لم نفهم من ذلك ونفوضه إلى الشارع ونعزل العقل عنه)[5]. هكذا يدعو صاحب المقدمة إلى عزل العقل عن الإيمان وفصل الحكمة عن الشريعة معتمدا صراحة منهج التفويض ضدا على كل تأويل فيما عارض فيه العقل صريح النص. وما دعا المتكلمين في نظره إلى استخدام منهج التأويل هو رغبتهم في الرد على (أهل الإلحاد) من جنس حججهم التي عارضوا بها عقائد السلف (بالبدع النظرية). فيعتبر ابن خلدون النظر بدعة، لكن ليس أي نظر كان، وإنما يقصد إعمال النظر في النص والسؤال عن الكيف، وهو في ذلك يبدو منسجما جدا مع نفسه بوصفه فقيها مالكيا ملتزما بأصول المذهب، ولم يخرج عن إطار موقف إمام دار الهجرة الذي دعا إلى عدم النظر والتأويل والوقف عن السؤال، معتبرا كل سؤال نظري يتجاوز حدود فهم ظاهر النص بدعة صراح..»، ثم يضيف: «نزعم أن هذا الموقف السلبي الذي عبر عنه ابن خلدون هو استجابة لتيار عقدي جارف بدأ يهيمن على الساحة الفكرية الإسلامية السنية مشرقا ومغربا. لكننا نعتقد أيضا أنه راجع، وربما كان نتيجة مباشرة لذلك، إلى رفض إعمال المنهج الجدلي الحجاجي في قضايا الدين، إنه رفض لأخذ المتكلمين بأصول المناطقة ومفاهيم الفلاسفة، رفض لامتزاج علم الكلام بالمنطق والفلسفة. وهذا الموقف الحذر من علم الكلام لا يخرج عن إطار الموقف العام من العلوم العقلية، فليس من الغرابة أن يتعدى حدود علم الكلام سواء لاعتبارات عقدية أو غيرها، إلى السعي إلى إبطال الفلسفة والدعوة إلى رفض الخوض في العلم الطبيعي لعدم الحاجة إليه في المعاش ولا في المعاد .».
3- متكلمون معاصرون لابن خلدون: ذكر الكاتب في هذا المحور أن هناك اعتقادا خاطئا لدى البعض من أن علم الكلام عرف مع ابن خلدون نهايته أو آخر مراحل تطوره قبل دخوله في مرحلة التدهور والجمود، في حين أن واقع الأمر يفيد غير ذلك لبروز مفكرين تيولجيين بارزين في عصره، وأن كتب التراجم حافلة بأسماء علماء أنتجوا تواليف كثيرة في مختلف العلوم ومن ضمنها علم الكلام والمنطق وأصول الفقه، ولربما كان القرن الثامن من أغزر عصور الغرب الإسلامي إنتاجا فيها، وقد ذكر الكاتب منهم: محمد بن إبراهيم الآبلي العبدري التلمساني(681-757هـ)، وهو الذي تجمع المصادر على كونه علاّمة زمانه، وقد تتلمذ عليه جل علماء هذا العصر: محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن الإمام أبو الفضل(ت797هـ)، أبو عثمان سعيد بن محمد العقباني(720-811هـ)، شهاب الدين أحمد الندرومي(ت830هـ)، ابن مرزوق العجيسي التلمساني(766-842هـ)، محمد القرشي المقري التلمساني(ت759هـ)، ويعتبر لسان الدين ابن الخطيب من أشهر العلماء الموسوعيين في القرن الثامن إلى جانب عبد الرحمن ابن خلدون، كما فاقت تونس شهرة ابن عرفة الورغمي (ت803هـ) في الفقه والمنطق والأصول.
ثم ختم هذا المحور بالقول بأن هذا العصر لم يعدم مناقشات ومراجعات بين علماء القرن الثامن في مسائل أصولية أو فرعية؛ يمكن تمثيلها بما دار حول مسألة مراعاة الخلاف جمعت الشاطبي من جهة والقباب وابن عرفة من جهة أخرى، وليخلص إلى أن النصوص الكلامية المتوفرة على ندرتها تكشف عن كون مسائل مهمة كانت تناقش بين المفكرين من الاتجاهات المختلفة مثل مسائل الإمامة، والأفعال البشرية، والعدل الإلهي، ومراعاة الخلاف، وإيمان الجاهل وغيرها، وأن ابن خلدون لم يكن مصيبا حين اعتبر أن علم الكلام فقد مشروعيته بذهاب أسباب وجوده.
4- ابن خلدون وابن عرفة الورغمي: عرض الكاتب في هذا المحور للتعريف بابن عرفة الورغمي التونسي(716-803هـ) كأحد كبار علماء المنطق والكلام والفقه في هذا العصر، أخذ العلوم العقلية عن ابن أندراس والآبلي وابن الحباب، وتتلمذ أيضا على ابن عبد السلام، ويسجل صاحب البستان أنه كان مكثرا في تآليفه التي يغلب عليها الاختصار، وأنه اشتغل في آخر عمره بعلم الفقه خاصة حينما ولي الإفتاء[6]. واعتبره –الكاتب- نموذجا لفقهاء عصره الذين جمعوا بين علمي المعقول والمنقول، يقول في ذلك: «وإذا كان ابن خلدون يبدو غير راض عن الاندماج بين الفلسفة والمنطق وعلم الكلام الذي تم تدريجيا بين زمني الجويني وفخر الدين الرازي، وربما لأنه لم يدرك الأبعاد النظرية والتداولية للاندماج بين المنطق وعلم الكلام، وانعكاسه على النظر العلمي وعلى أصول الفقه، فإن ابن عرفة على العكس منه نجده يتابع سيرورة ذلك الاندماج بين المنطق وعلم الكلام، ولم يتبرم منه، بل ربما أدرك أثره المثمر على الفكر ورضي به وانخرط فيه..
وإذا كان ابن خلدون قد انتصر كما كثير من علماء عصره لطريقة المتقدمين في علم الكلام، ولم ينظر بعين الرضا إلى طريقة المتأخرين، مقتنعا أيما اقتناع بتعارض السبيلين، فإن معاصره ابن عرفة الورغمي كان ذا رأي آخر، إذ رام الجمع بين الطريقتين ولم يستشعر أي تعارض بين أصولهما، حيث يقول ابن عرفة: (وبعد، لما كان علم الكلام هو الموصل لإدراك حقيقة الإيمان بواضح الأدلة والبرهان، المنجي من الخلود في النيران، رأيت أن أجمع فيه مختصرا شاملا أصول طريقتي الأقدمين والمتأخرين من أهل هذا الشأن..)[7]، وبالجملة يجعل ابن عرفة مهمة العلم إثبات العقائد ولا يحصر وظيفته في الدفاع عنها فقط والرد على الخصوم كما نجد لدى ابن خلدون.
5- دفاع عن الكلام الأشعري ونقد المحدثين: بعد بسطه الحديث عن آية المحكم والمتشابه في سورة آل عمران ذهب ابن خلدون إلى القول بأن الله وحده يعلم تأويلها، أما العلماء فأثنى عليهم بالإيمان فقط، ولهذا جعل السلف(والراسخون) مستأنفا، ورجحوه على العطف. وأن الدليل على أن التأويل فيها غير معلوم للبشر؛ أن الألفاظ اللغوية إنما تفهم منها المعاني التي وضعها العرب لها، فإذا استحال إسناد الخبر إلى مخبر عنه جهلنا مدلول الكلام حينئذ. وإن جاءنا من عند الله فوضنا علمه إليه، ولا نشغل أنفسنا بمدلول نلتمسه، فلا سبيل لنا إلى ذلك، مقتنعا بأن ذلك كان هو حال أهل السلف وطريقة تعاملهم مع النص القرآني..
بعد ذلك، بدأ كاتب المقال بتبرير ما ذهب إليه ابن خلدون ومتتبعا مواقفه في ذلك قائلا: «والصحيح الذي ينتصر له ابن خلدون هو المذهب الأشعري، إذ نجده يدافع بقوة عن موقف الأشاعرة من التأويل، وحين يتعذر إثبات الحقيقة اللغوية لألفاظ من قبيل الاستواء والمجيء والنزول والوجه واليدين والعينين فلا بد من حملها محمل المجاز، (وهي طريقة معروفة لهم غير منكرة ولا مبتدعة، وإن خالفوا في هذا مذهب السلف في التفويض، إلا أن ما حملهم عليه هو ما ارتكبه جماعة من أتباع السلف وهم المحدثون والمتأخرون من الحنابلة حين حملوا مدلول ألفاظ الصفات على ظواهرها، وإثباتهم الصفات لله تعالى مجهولة الكيفية لم يقهم شر السقوط في التشبيه. لقد أثبتوا الاستواء- يقول ابن خلدون- بحسب مدلول اللفظ فرارا من تعطيله..ولا يعلمون من ذلك أنهم ولجوا من باب التشبيه في قولهم بإثبات استواء/الاستواء..ثم يدعون أن هذا مذهب السلف، وحاشا لله من ذلك، وإنما مذهب السلف ما قررناه أولا من تفويض المراد بها إلى الله والسكوت عن فهمها)[8]»..
ويضيف: «ومن المعلوم أن التيار السني المتشدد لا يخفي عداءه المعلن حينا والخفي حينا آخر للتيار الأشعري، بل لأقرب أئمة الكلام إليهم، المناصرين لمذهبهم كابن كلاب  والقلانسي والصالحي وغيرهم، إذ يضعونهم في نفس مرتبة الأشاعرة لا لشيء إلا لكونهم خاضوا في الكلام، وإن كان ممثلو هذا التيار بدورهم لم يستطيعوا أبدا تجنب الخوض فعلا في هذا العلم ولو على سبيل إنكاره ودحض آراء المتكلمة.. ولعله من نافل القول هنا أن خصوم هذا التيار، في هذا العصر المتأخر، لم يعد هو المعتزلة والفلاسفة كما كان الشأن في السابق، بقدر ما صار الأشاعرة هم الخصم الأول لمكان منافستهم لهم قيادة عقيدة أهل السنة، بل لا يتوانى بعضهم في وصف الأشاعرة بأشنع النعوت ووضعهم في نفس خانة المعتزلة..»، ويضيف كذلك: «لذا سيكون بعيدا عن واقع الحال من اعتقد أن دفاع ابن خلدون عن أصول المذهب الأشعري في زمنه كان موجها ضد الفلاسفة أو المعتزلة، إن دفاعه عن أصول المذهب (الصحيحة) جاء في سياق حديثه عن مفهوم مذهب السلف الذي ينازع الأشاعرة فيه تيار الفقهاء المحدثين. ففي عز الصراع بين المشبهة والمعتزلة، قام أبو الحسن الأشعري فتوسط بين الطرق وانتصر لمذهب السلف ورد اعتقادات المعتزلة بأصول منهجهم..- وإذا كان يجد في إيجاد الأعذار للإمام أحمد بن حنبل، فإنه راح ينتقد بلا هوادة أتباعه المتأخرين الذين أصروا على إثبات الصفات وحمل الآيات على ظواهرها بحسب مدلول الألفاظ تفاديا منهم السقوط في مزلة التعطيل..ويضيف-ابن خلدون- ملاحظا أن التعطيل الذي وقعت فيه المعتزلة (والذي يشنع هؤلاء بإلزامه) هو أخف من التعطيل الذي وقعت فيه المشبهة، لأنه لا يعدو أن يكون عند أولئك تعطيل اللفظ وهو أمر لا محظور فيه، وإنما المحظور في تعطيل الإله، وهو ما ارتكبه هؤلاء في نظر صاحب المقدمة..وليخلص إلى أن مذهب السلف ليس هو ما يزعمه هذا التيار من المحدثين الحنابلة، مؤكدا أن مذهب السلف في الآيات المتشابهة هو تفويض المراد بها إلى الله والسكوت عن فهمها..ولينتهي إلى الإفصاح بأنه يذهب في كل القضايا الدينية مذهب الأشعرية في تفاصيله، ولا يفوت الفرصة دون التأكيد على أن الأشاعرة هم الممثلون الحقيقيون لمذهب أهل السنة. لكن أية أشعرية؟ إنها بالتأكيد ليست أشعرية المتأخرين ولا أشعرية الشافعية، وإنما هي أشعرية مالكية مغربية تفويضية لا تثبت ولا تنفي إلا في ما ندر»..ويضيف الكاتب: «هكذا نفهم لماذا سعى-ابن خلدون- إلى الكشف عن الفرق بين مذاهب السلف والمتكلمين السنية والمحدثين والمبتدعة من المعتزلة والمجسمة، بل ونجده يمعن في تسمية فرقة المشبهة وفي التحذير من زلة التشبيه التي وقع فيها غلاة المحدثين المتقدمين منهم والمعاصرين، دون أن يخفي أبدا انحيازه إلى مذهب أبي الحسن مؤكدا أن الأشاعرة هم المعنيون حقا باسم أهل السنة[9]».
ثم ختم الكاتب مقالته بذكر بعض الاستنتاجات عن أسباب تراجع الجدل الكلامي في القرن الثامن الهجري  وندرة المناظرات الكلامية وضعف الجدل العقدي وعقمه أحيانا زمن ابن خلدون، والتي ذكرها كالتالي:  
1-انحصار الجدال داخل مذهب أهل السنة، وقد رأينا كيف يبذل الفقهاء المالكية الأشاعرة قصارى جهودهم لتفادي المواجهة في الأصول مع أصحابهم في المذهب الفرعي.
2-وهو نتيجة لما سبق غياب الاعتراض القوي والحجاج المثمر، كما غياب التعليل وإثبات العقائد بالعقل. يشترط الأول وجود خصوم أقوياء، والثاني تفرضه وجود نخبة ذات مستوى علمي تطلب الدليل ولا تكتفي بالتقليد، وكلاهما يقتضي بيئة اجتماعية وفكرية مناسبة..
 3-جل المهتمين بالكلام كانوا فقهاء مالكيين: أساتذة في مدارس رسمية أو قضاة أو كتابا أو مستشارين ووزراء؛ أي كانت لهم مناصب رسمية تفرض عليهم الانصياع للعقيدة الرسمية وللتيار السائد الذي لم يكن بأي حال هو المذهب الأشعري كما يشاع بشيء من المبالغة. لذا نفهم تخلي كثير من علماء هذا القرن عن التأليف أو التوسع في هذا العلم، بل وبعضهم تخلى عن التأليف أصلا (حالة الآبلي مثلا) ولا شك أن الأمر راجع إلى هذا الأفق العقدي الضيق الذي أضحى يشدد من مراقبة الفكر وأهله.
4-لم تظهر خلافات كبيرة لا في أوساط الأشاعرة أنفسهم، ولا بينهم وبين غيرهم في بلاد المغرب؛ إذ لم يعرف القرن الثامن مناظرات كلامية ومناقشات كبيرة في حجم المراجعات التي عرفها القرن الموالي في قضايا عقدية دقيقة بين أبي عبد الله السنوسي وأحمد بن زكري من جهة، وبينه وعبد الكريم المغيلي من جهة ثانية..

 

[الجدل الكلامي في عصر ابن خلدون/سعيد البوسكلاوي]-
[ضمن أعمال المائدة المستديرة التي نظمتها كلية الآداب بالرباط تحت عنوان:« الأبنية الفكرية بالغرب الإسلامي زمن ابن خلدون» يومي 24-25 فبراير2006-منشورات كلية الآداب/الرباط-رقم: 140-صفحات:125-153]

 

الهوامش:

[3-2-1] المقدمة لابن خلدون- تحقيق علي عبد الواحد وافي-دار نهضة مصر-الطبعة الثالثة-ج/3-ص:1020-1021
[4] تقي الدين أبي الفتح مظفر بن عبد الله بن علي بن الحسين المعروف بالمقترح المولود سنة 560 بمصر، والمتوفى سنة 612هـ.صاحب كتاب: “الإسعاد (ويسمى أيضا المقترح) شرح الإرشاد في علوم الدين للإمام الجويني”.
[5] المقدمة لابن خلدون-ص:1147
[6] البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان-ابن مريم، أبو عبد الله بن محمد التلمساني-ص:190
[7] المختصر الشامل لابن عرفة الورغمي-مخ الجامع الأعظم بتونس-رقم7895 نقلا عن حوليات الجامعة التونسيةك9/1972-ص:183
[8] المقدمة لابن خلدون-ص:1090
[9] المقدمة لابن خلدون-ص:1092

                                                       إعداد الباحث: منتصر الخطيب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق