مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

الجاحظية من المعتزلة

 

هم أتباع عمرو بن بحر الكناني أبي عثمان الشهير بالجاحظ (163-255هـ) الأديب والمتكلم المعتزلي، وهو مذهب في نفي الصفات وإثبات القدر خيره وشره من العبد، وهو مذهب المعتزلة عموما.. ويعد الجاحظ من الطبقة السابعة في ترتيب رجال الاعتزال كما ذكر ذلك البغدادي في فرقه، ويعتبر من معتزلة البصرة؛ منبت الاعتزال ومهد التيارات، ومقصد الشعراء والبلغاء. وقد احتل الجاحظ منزلة مرموقة بين مفكري عصره؛ فهو أديب ناقد وعالم متبحر، يقول فيه ثابت بن قرة الصابئي: (أبو عثمان الجاحظ، خطيب المسلمين وشيخ المتكلمين، ومدرة المتحدثين، إن تكلم حكى”سحبان” في البلاغة، وإن ناظر صارع “النظام” في الجدل، شيخ الأدب ولسان العرب، كتبه رياض زاهرة، ومسائله أفنان مثمرة، ما نازعه منازع إلا رشاه آنفا، ولا تعرض له معترض إلا قدم له التواضع استبقاء)[1]..
واتسم الجاحظ بالموسوعية في مجال التأليف، فهو صاحب المصنفات المشهورة ومنها: “الحيوان” و”البيان والتبين” و”البخلاء” وغيرها من الكتب، وقد انتقد بغرابة بعض مصنفاته الأخرى ومنها: “حيل اللصوص” و”الكلاب” و”طبائع الحيوان” وغيرها، حتى قيل أن كتابه “طبائع الحيوان” هو بمثابة طرح لمذهبه في الطبائع، ومنها اعتبره العديد من الباحثين بأنه فيلسوف الطبائع عند المسلمين.
ينسب مؤرخو الملل والنحل الجاحظ إلى القائلين بالطبع؛ وهي الفكرة التي شرحها القاضي عبد الجبار بالقول: (إن المعارف تحصل بطبع المحل عند النظر )[2]، مع ما تشتمل هذه المقولة من تقليل دور الرسل والأنبياء في تبصير الإنسان وتعريفه بالخالق، وتعظِّم قدرة العقل المطبوع على الرؤية والاستنباط. وهذا راجع إلى مدى اهتمامهم بالفلسفة اليونانية عموما وبعلم الطبيعة خصوصا.
يقول الشهرستاني في الجاحظ وفي مذهب الجاحظية: (كان من فضلاء المعتزلة والمصنفين لهم، وقد طالع كثيرا من كتب الفلاسفة، وخلط وروج كثيرا من مقالاتهم بعباراته البليغة، وحسن براعته اللطيفة. وكان في أيام المعتصم والمتوكل. وانفرد عن أصحابه بمسائل: 
 منها قوله: إن المعارف كلها ضرورية طباع، وليس شيء من ذلك من أفعال العباد. وليس للعبد كسب سوى الإرادة وتحصل أفعاله منه طباعا كما قال ثمامة. 
 ونقل عنه أيضا: أنه أنكر أصل الإرادة وكونها جنسا من الأعراض فقال: إذا انتفى السهو عن الفاعل وكان عالما بما يفعله فهو المريد على التحقيق، وأما الإرادة المتعلقة بفعل الغير فهو ميل النفس إليه. وزاد على ذلك بإثبات الطبائع للأجسام كما قال الطبيعيون من الفلاسفة وأثبت لها أفعالا مخصوصة بها. وقال باستحالة عدم الجواهر، فالأعراض تتبدل، والجواهر لا يجوز أن تفنى. 
 ومنها قوله في أهل النار: إنهم لا يخلدون فيها عذابا، بل يصيرون إلى طبيعة النار. وكان يقول: النار تجذب أهلها إلى نفسها من غير أن يدخل أحد فيها. 
 ومذهبه: مذهب الفلاسفة في نفي الصفات  وفي إثبات القدر خيره وشره من العبد؛ مذهب المعتزلة. 
 وحكى الكعبي عنه أنه قال: يوصف الباري تعالى بأنه مريد؛ بمعنى أنه لا يصح عليه السهو في أفعاله ولا الجهل ولا يجوز أن يغلب ويقهر. 
 وقال: إن الخلق كلهم من العقلاء عالمون بأن الله تعالى خالقهم، وعارفون بأنهم محتاجون إلى النبي، وهم محجوجون بمعرفتهم.  ثم هم صنفان: عالم بالتوحيد، وجاهل به.  فالجاهل معذور، والعالم محجوج. 
 ومن انتحل دين الإسلام فإن اعتقد أن الله تعالى ليس بجسم ولا صورة ولا يرى بالأبصار، وهو عدل لا يجور ولا يريد المعاصي، وبعد الاعتقاد واليقين أقر بذلك كله؛ فهو مسلم حقا. وإن عرف ذلك كله ثم جحده وأنكره وقال بالتشبيه والجبر؛ فهو مشرك كافر حقا. وإن لم ينظر في شيء من ذلك كله، واعتقد أن الله تعالى ربه، وأن محمدا رسول الله؛ فهو مؤمن لا لوم عليه ولا تكليف عليه غير ذلك. 
 وحكى ابن الراوندي عنه أنه قال: إن للقرآن جسدا يجوز أن يقلب مرة رجلا ومرة حيوانا. وهذا مثل ما يحكى عن أبي بكر الأصم أنه زعم أن القرآن جسم مخلوق. وأنكر الأعراض أصلا، وأنكر صفات الباري تعالى. 
ومذهب الجاحظ هو بعينه مذهب الفلاسفة، إلا أن الميل منه ومن أصحابه إلى الطبيعيين منهم أكثر منه إلى الإلهيين)[3].
أما البغدادي فقد ذكر فرقة الجاحظية وانتسابها لأبي عمرو الجاحظ فقال في فرقه: (ذَكَرَ الجاحظية منهم؛ هؤلاء أتباع عمرو بن يحيى الجاحظ، وهم الذين اغتروا بحسن بذله (هكذا) الجاحظ في كتبه التي لها ترجمة تروق بلا معنى واسم يهول. ولو عرفوا جهالاته في ضلالاته لاستغفروا الله تعالى من تسميتهم إياه إنسانا فضلا عن أن ينسبوا إليه إحسانا..)[4]. 
وذكر من فضائح هذه الفرقة فقال: (ومن فضائح الجاحظ أيضا قوله باستحالة عدم الأجسام بعد حدوثها. وهذا يوجب القول بأن الله سبحانه وتعالى يقدر على خلق شيء ولا يقدر على إفنائه. وأنه لا يصح بقاؤه بعد أن خلق الخلق منفردا كما كان منفردا قبل أن خلق الخلق. ونحن وإن قلنا إن الله لا يفني الجنة ونعيمها والنار وعذابها ولسنا نجعل ذلك بأن الله عز وجل قادر على إفناء ذلك كله، وإنما نقول بدوام الجنة والنار بطريق الخبر..)[5].
ويضيف بعد ذلك: (ومن فضائح الجاحظ أيضا قوله بأن الله لا يدخل النار أحدا وإنما النار تجذب أهلها إلى نفسها بطبعها ثم تمسكهم في نفسها على الخلود. ويلزمه على هذا القول أن يقول في الجنة أنها تجذب أهلها إلى نفسها بطبعها وأن الله لا يدخل أحدا الجنة. فإن قال بذلك قطع الرغبة إلى الله في الثواب وأبطل فائدة الدعاء. وإن قال إن الله تعالى هو يدخل أهل الجنة الجنة لزمه القول بأن يدخل النار أهلها..)[6]. 
أما ابن حزم فيذكره في فِصله في المبحث المخصص لذكر شنع المعتزلة من قولهم أن جميع أفعال العباد من حركاتهم وسكونهم في أقوالهم وأفعالهم وعقودهم لم يخلقها الله عز وجل، وذكر من أقوال الجاحظ ما يلي: 
(وأما أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ البصري الكناني صليبة، وقيل: بل هو مولى، وهو تلميذ النظام وأحد شيوخ المعتزلة، فإنه كان يقول: إن الله تعالى لا يقدر على إفناء الأجسام البتة، إلا أن يرفقها ويفرق أجزاءها فقط، وأما إعدامها فلا يقدر على ذلك أصلا…)[7]. 
فيما ذهب أبو الحسن الأشعري في مقالاته لعرض بعض آراء الجاحظ في معرض رده على المعتزلة وفرقها، حيث قال: (واختلفوا في الحواس الخمس هل هي جنس واحد أو أجناس مختلفة؟ فقال قائلون: هي أجناس مختلفة؛ جنس السمع غير جنس البصر، وكذلك حكم كل حاسة جنسها مخالف لسائر أجناس الحواس، وهي على اختلافها أعراض غير الحساس وهذا قول كثير من المعتزلة منهم الجبائي وغيره. وقال قائلون كل حاسة خلاف الحاسة الأخرى ولا نقول هي مخالفة لها لأن المخالف هو ما كان مخالفا بخلاف وهذا قول أبي الهذيل)[8].. 
ويضيف: (وزعم عمرو بن بحر الجاحظ أن الحواس جنس واحد وأن حاسة البصر من جنس حاسة السمع ومن جنس سائر الحواس، وإنما يكون الاختلاف في جنس المحسوس وفى موانع الحساس والحواس لا غير ذلك لأن النفس هي المدركة من هذه الفتوح ومن هذه الطرق، وإنما اختلفت فصار واحد منها سمعا وآخر بصرا وآخر شما على قدر ما مازجها من الموانع. فأما جوهر الحساس فلا يختلف، ولو اختلف جوهر الحساس لتمانع ولتفاسد كتمانع المختلف وتفاسد المتضاد. وزعم أن اختلاف المحسوس من اللون والصوت في جنسهما وأنفسهما ولو كان يدل على اختلاف جنس البصر والسمع لكان ينبغي أن يكون بعض البصر أشد خلافا لبعض من السمع للبصر، لأن السواد وإن كان مرئيا فهو أشد مخالفة لجنس البياض من جنس الحموضة للسواد. قال فلما كان ذلك فاسدا لم يجب أن تختلف الحواس لاختلاف المحسوسات. قال الجاحظ: فالحساس ضرب واحد والحس ضرب واحد والمحسوسات ثلاثة أضرب: مختلف كالطعم واللون، ومتفق ومتضاد كالسواد والبياض.. وزعم الجاحظ أن أصحابه اختلفوا في اختلاف طرق الحواس وشوائبها ومن أي شيء موانعها..)[9].
وذكر له في موضع آخر في أثناء الحديث عن الإرادات والكراهات فقال: (وقال غيره من المتكلمين إن الإرادات والكراهات والعلم والجهل والصدق والكذب والكلام والسكوت غير الحركات والسكون وهو أبو الهذيل. وقال الجاحظ ما بعد الإرادة فهو للإنسان بطبعه وليس باختيار له وليس يقع منه فعل باختيار سوى الإرادة. وقال ضرار وحفص: الفرد ما تولد من فعلهم مما يمكنهم الامتناع منه متى أرادوا فهو فعلهم، وما سوى ذلك مما لا يقدرون على الامتناع منه متى أرادوا فليس بفعلهم ولا وجب لسبب وهو فعلهم.  وكان ضرار بن عمرو يزعم أن الإنسان يفعل في غير حيزه وأن ما تولد عن فعله في غيره من حركة أو سكون فهو كسب له خلق لله عز و جل وكل أهل الإثبات غير ضرار يقولون لا فعل للإنسان في غيره ويحيلون ذلك)[10].
– ومن باقي أقوال الجاحظ رأيه في الإمامة، حيث يرى الجاحظ أن الأحق بالسلطة يجب أن يتميز قبل كل شيء بملكة العقل، يقول في ذلك: (فإن قالوا فما صفة فضلهم؟ قلنا أن يكون أقوى طبائعه العقل، ثم يصل قوة عقله بشدة الفحص وكثرة السماع، ثم يصل شدة فحصه وكثرة سماعه بحسن العادة، فإذا جمع إلى عقله علما، وإلى علمه حزما وإلى حزمه عزما كان هو الإمام..)[11].
ومن جملة أقوال فرقة الجاحظية كذلك قولهم: (إن المعارف كلها ضرورية وليس فيها شيء من أفعال العباد المكتسبة، وليس للعباد كسب سوى الإرادة، ومعنى ذلك أنه إذا كانت أفعال العباد طبيعة لا كسبا، لزم ألا يكون عليها ثواب أو عقاب، إذ لا يثاب ولا يعاقب العبد على ما لا يكون كسبا، كما لا يثاب ولا يعاقب الإنسان على لونه وتركيب بدنه)[12].
ومن بين أقوالهم أيضا: (المعارف كلّها ضرورية ولا إرادة في الشاهد أي في الواحد منّا، إنّما هي إرادته لفعله عدم السهو، أي كونه عالما به غير ساه عنه، وإرادته لفعل الغير هي ميل النفس إليه. وقالوا إنّ الأجسام ذوات طبائع مختلفة لها آثار مخصوصة، كما هو مذهب الطبعيين من الفلاسفة ويمتنع انعدام الجواهر، إنّما تتبدّل الأعراض والجواهر باقية على حالها، كما قيل في الهيولي، والنار تجذب إلى نفسها أهلها لا أنّ الله يدخلهم فيها. والخير والشّرّ من فعل العبد، والقرآن جسد ينقلب تارة رجلا وتارة امرأة)[13].
هذه جملة من آراء فرقة الجاحظية ومذهبها المنتسبة إلى أبي عثمان عمرو الجاحظ من المعتزلة، والذي انتقده الكثير بسب ما أورده في مؤلفاته وخاصة في الجانب الأخلاقي؛ فقد انتقده الاسفراييني فقال: (وأما تصانيفه فمن تعرف ما فيها وتأمل معانيها ومقاصده فيها علم أنه لا يشتغل بتصنيف أمثالها إلا من لا خلاق له ولا مروءة فإن أعلى تصانيفه كتاب “طبائع الحيوان” وقد بينا مقصوده فيه، وذلك من شر المقاصد.. ومن كتبه كتاب “حيل اللصوص” فيه الحيل التي يتوصلون بها إلى الفساد، يمدحهم بالشطارة ويزعم أنها من مروءتهم ويمدحهم باختيارهم للغلمان على النسوان، وبأنهم يلعبون بالنرد والشطرنج، ويحثهم على القمار، ويزعم أنه من المروءة ومن الآداب المرضية، ومن عد الدعارة والشطارة من المروءة وزينها وحث عليها، فقد خالف الشريعة والمروءة، لأن المسلمين أطبقوا على أن من كانت هذه طريقته كان مذموما في الشريعة والمروءة. ومن كتبه ما صنفه في غش الصناعات أفسد بذلك على المفسدين أموالهم وحث بذلك الناس على الغش والخيانة.. ولا يفتخر بمثل هذه الكتب إلا من كان مثله لا خلاق له في دين ولا مروءة) [14].
الهوامش: 
[1] تاريخ المذاهب الإسلامية-محمد أبو زهرة-دار الفكر العربي/القاهرة-طبعة/2009-ص: 133-وانظر الجانب الاعتزالي عند الجاحظ-د.بلقاسم الغالي-دار ابن حزم-الطبعة الأولى/1999-ص:77
[2] شرح الأصول الخمسة-القاضي عبد الجبار-تعليق: أحمد بن الحسين بن أبي هاشم- حققه وقدم له: د.عبد الكريم عثمان- مكتبة وهبة/القاهرة-الطبعة الرابعة/2006-ص:76 
[3] الملل والنحل لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني-دار ابن حزم-الطبعة الأولى/2005 – ص: 49-50
[4] الفرق بين الفرق-عبد القاهر البغدادي-تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد-مكتبة دار التراث/القاهرة-طبعة/2007- ج/ 1 -ص: 160
[5] نفسه
[6] نفسه
[7] الفصل في الملل والأهواء والنحل-لابن حزم الظاهري- وثقه وضبطه وعلق عليه وخرج أحاديثه: سامي أنور جاهين- دار الحديث/القاهرة-طبعة/2010 – ج/ 3 – ص: 204
[8] مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين للإمام أبي الحسن الأشعري-تحقيق: أحمد جاد-دار الحديث/القاهرة-طبعة/2008 – ص: 231
[9] نفسه-ص:196
[10] نفسه-ص:171- وانظر التبصير في الدين لأبي المظفر الاسفراييني- دراسة وتحقيق: د.مجيد الخليفة- دار ابن حزم-الطبعة الأولى/2008-ص:273
[11] نفسه–ص: 230
[12] انظر الجانب الاعتزالي عند الجاحظ- ص:318
[13] أطلس الفرق والمذاهب الإسلامية: أماكن نشوئها وانتشارها ونبذة عن فكرها وتاريخها-شوقي أبو خليل-دار الفكر/دمشق-طبعة/2009-ص:415
[14] كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم-علي ابن القاضي التهانوي- إشراف ومراجعة: د.رفيق العظم-تحقيق: د.عبد الله الخالدي- مكتبة لبنان-الطبعة الأولى/1996-ج/1- ص:544-وانظر كذلك شرح مواقف الإيجي للشريف الجرجاني-منشورات محمد علي بيضون-دار الكتب العلمية/بيروت-الطبعة الاولى/1998-ج/3-ص:656
 
إعداد الباحث: منتصر الخطيب

هم أتباع عمرو بن بحر الكناني أبي عثمان الشهير بالجاحظ (163-255هـ) الأديب والمتكلم المعتزلي، وهو مذهب في نفي الصفات وإثبات القدر خيره وشره من العبد، وهو مذهب المعتزلة عموما.. ويعد الجاحظ من الطبقة السابعة في ترتيب رجال الاعتزال كما ذكر ذلك البغدادي في فرقه، ويعتبر من معتزلة البصرة؛ منبت الاعتزال ومهد التيارات، ومقصد الشعراء والبلغاء. وقد احتل الجاحظ منزلة مرموقة بين مفكري عصره؛ فهو أديب ناقد وعالم متبحر، يقول فيه ثابت بن قرة الصابئي: (أبو عثمان الجاحظ، خطيب المسلمين وشيخ المتكلمين، ومدرة المتحدثين، إن تكلم حكى”سحبان” في البلاغة، وإن ناظر صارع “النظام” في الجدل، شيخ الأدب ولسان العرب، كتبه رياض زاهرة، ومسائله أفنان مثمرة، ما نازعه منازع إلا رشاه آنفا، ولا تعرض له معترض إلا قدم له التواضع استبقاء)[1]..

واتسم الجاحظ بالموسوعية في مجال التأليف، فهو صاحب المصنفات المشهورة ومنها: “الحيوان” و”البيان والتبين” و”البخلاء” وغيرها من الكتب، وقد انتقد بغرابة بعض مصنفاته الأخرى ومنها: “حيل اللصوص” و”الكلاب” و”طبائع الحيوان” وغيرها، حتى قيل أن كتابه “طبائع الحيوان” هو بمثابة طرح لمذهبه في الطبائع، ومنها اعتبره العديد من الباحثين بأنه فيلسوف الطبائع عند المسلمين.

ينسب مؤرخو الملل والنحل الجاحظ إلى القائلين بالطبع؛ وهي الفكرة التي شرحها القاضي عبد الجبار بالقول: (إن المعارف تحصل بطبع المحل عند النظر )[2]، مع ما تشتمل هذه المقولة من تقليل دور الرسل والأنبياء في تبصير الإنسان وتعريفه بالخالق، وتعظِّم قدرة العقل المطبوع على الرؤية والاستنباط. وهذا راجع إلى مدى اهتمامهم بالفلسفة اليونانية عموما وبعلم الطبيعة خصوصا.

يقول الشهرستاني في الجاحظ وفي مذهب الجاحظية: (كان من فضلاء المعتزلة والمصنفين لهم، وقد طالع كثيرا من كتب الفلاسفة، وخلط وروج كثيرا من مقالاتهم بعباراته البليغة، وحسن براعته اللطيفة. وكان في أيام المعتصم والمتوكل. وانفرد عن أصحابه بمسائل: 

 منها قوله: إن المعارف كلها ضرورية طباع، وليس شيء من ذلك من أفعال العباد. وليس للعبد كسب سوى الإرادة وتحصل أفعاله منه طباعا كما قال ثمامة. 

 ونقل عنه أيضا: أنه أنكر أصل الإرادة وكونها جنسا من الأعراض فقال: إذا انتفى السهو عن الفاعل وكان عالما بما يفعله فهو المريد على التحقيق، وأما الإرادة المتعلقة بفعل الغير فهو ميل النفس إليه. وزاد على ذلك بإثبات الطبائع للأجسام كما قال الطبيعيون من الفلاسفة وأثبت لها أفعالا مخصوصة بها. وقال باستحالة عدم الجواهر، فالأعراض تتبدل، والجواهر لا يجوز أن تفنى. 

 ومنها قوله في أهل النار: إنهم لا يخلدون فيها عذابا، بل يصيرون إلى طبيعة النار. وكان يقول: النار تجذب أهلها إلى نفسها من غير أن يدخل أحد فيها. 

 ومذهبه: مذهب الفلاسفة في نفي الصفات  وفي إثبات القدر خيره وشره من العبد؛ مذهب المعتزلة. 

 وحكى الكعبي عنه أنه قال: يوصف الباري تعالى بأنه مريد؛ بمعنى أنه لا يصح عليه السهو في أفعاله ولا الجهل ولا يجوز أن يغلب ويقهر. 

 وقال: إن الخلق كلهم من العقلاء عالمون بأن الله تعالى خالقهم، وعارفون بأنهم محتاجون إلى النبي، وهم محجوجون بمعرفتهم.  ثم هم صنفان: عالم بالتوحيد، وجاهل به.  فالجاهل معذور، والعالم محجوج. 

 ومن انتحل دين الإسلام فإن اعتقد أن الله تعالى ليس بجسم ولا صورة ولا يرى بالأبصار، وهو عدل لا يجور ولا يريد المعاصي، وبعد الاعتقاد واليقين أقر بذلك كله؛ فهو مسلم حقا. وإن عرف ذلك كله ثم جحده وأنكره وقال بالتشبيه والجبر؛ فهو مشرك كافر حقا. وإن لم ينظر في شيء من ذلك كله، واعتقد أن الله تعالى ربه، وأن محمدا رسول الله؛ فهو مؤمن لا لوم عليه ولا تكليف عليه غير ذلك. 

 وحكى ابن الراوندي عنه أنه قال: إن للقرآن جسدا يجوز أن يقلب مرة رجلا ومرة حيوانا. وهذا مثل ما يحكى عن أبي بكر الأصم أنه زعم أن القرآن جسم مخلوق. وأنكر الأعراض أصلا، وأنكر صفات الباري تعالى. 

ومذهب الجاحظ هو بعينه مذهب الفلاسفة، إلا أن الميل منه ومن أصحابه إلى الطبيعيين منهم أكثر منه إلى الإلهيين)[3].

أما البغدادي فقد ذكر فرقة الجاحظية وانتسابها لأبي عمرو الجاحظ فقال في فرقه: (ذَكَرَ الجاحظية منهم؛ هؤلاء أتباع عمرو بن يحيى الجاحظ، وهم الذين اغتروا بحسن بذله (هكذا) الجاحظ في كتبه التي لها ترجمة تروق بلا معنى واسم يهول. ولو عرفوا جهالاته في ضلالاته لاستغفروا الله تعالى من تسميتهم إياه إنسانا فضلا عن أن ينسبوا إليه إحسانا..)[4]. 

وذكر من فضائح هذه الفرقة فقال: (ومن فضائح الجاحظ أيضا قوله باستحالة عدم الأجسام بعد حدوثها. وهذا يوجب القول بأن الله سبحانه وتعالى يقدر على خلق شيء ولا يقدر على إفنائه. وأنه لا يصح بقاؤه بعد أن خلق الخلق منفردا كما كان منفردا قبل أن خلق الخلق. ونحن وإن قلنا إن الله لا يفني الجنة ونعيمها والنار وعذابها ولسنا نجعل ذلك بأن الله عز وجل قادر على إفناء ذلك كله، وإنما نقول بدوام الجنة والنار بطريق الخبر..)[5].

ويضيف بعد ذلك: (ومن فضائح الجاحظ أيضا قوله بأن الله لا يدخل النار أحدا وإنما النار تجذب أهلها إلى نفسها بطبعها ثم تمسكهم في نفسها على الخلود. ويلزمه على هذا القول أن يقول في الجنة أنها تجذب أهلها إلى نفسها بطبعها وأن الله لا يدخل أحدا الجنة. فإن قال بذلك قطع الرغبة إلى الله في الثواب وأبطل فائدة الدعاء. وإن قال إن الله تعالى هو يدخل أهل الجنة الجنة لزمه القول بأن يدخل النار أهلها..)[6]. 

أما ابن حزم فيذكره في فِصله في المبحث المخصص لذكر شنع المعتزلة من قولهم أن جميع أفعال العباد من حركاتهم وسكونهم في أقوالهم وأفعالهم وعقودهم لم يخلقها الله عز وجل، وذكر من أقوال الجاحظ ما يلي: 

(وأما أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ البصري الكناني صليبة، وقيل: بل هو مولى، وهو تلميذ النظام وأحد شيوخ المعتزلة، فإنه كان يقول: إن الله تعالى لا يقدر على إفناء الأجسام البتة، إلا أن يرفقها ويفرق أجزاءها فقط، وأما إعدامها فلا يقدر على ذلك أصلا…)[7]. 

فيما ذهب أبو الحسن الأشعري في مقالاته لعرض بعض آراء الجاحظ في معرض رده على المعتزلة وفرقها، حيث قال: (واختلفوا في الحواس الخمس هل هي جنس واحد أو أجناس مختلفة؟ فقال قائلون: هي أجناس مختلفة؛ جنس السمع غير جنس البصر، وكذلك حكم كل حاسة جنسها مخالف لسائر أجناس الحواس، وهي على اختلافها أعراض غير الحساس وهذا قول كثير من المعتزلة منهم الجبائي وغيره. وقال قائلون كل حاسة خلاف الحاسة الأخرى ولا نقول هي مخالفة لها لأن المخالف هو ما كان مخالفا بخلاف وهذا قول أبي الهذيل)[8].. 

ويضيف: (وزعم عمرو بن بحر الجاحظ أن الحواس جنس واحد وأن حاسة البصر من جنس حاسة السمع ومن جنس سائر الحواس، وإنما يكون الاختلاف في جنس المحسوس وفى موانع الحساس والحواس لا غير ذلك لأن النفس هي المدركة من هذه الفتوح ومن هذه الطرق، وإنما اختلفت فصار واحد منها سمعا وآخر بصرا وآخر شما على قدر ما مازجها من الموانع. فأما جوهر الحساس فلا يختلف، ولو اختلف جوهر الحساس لتمانع ولتفاسد كتمانع المختلف وتفاسد المتضاد. وزعم أن اختلاف المحسوس من اللون والصوت في جنسهما وأنفسهما ولو كان يدل على اختلاف جنس البصر والسمع لكان ينبغي أن يكون بعض البصر أشد خلافا لبعض من السمع للبصر، لأن السواد وإن كان مرئيا فهو أشد مخالفة لجنس البياض من جنس الحموضة للسواد. قال فلما كان ذلك فاسدا لم يجب أن تختلف الحواس لاختلاف المحسوسات. قال الجاحظ: فالحساس ضرب واحد والحس ضرب واحد والمحسوسات ثلاثة أضرب: مختلف كالطعم واللون، ومتفق ومتضاد كالسواد والبياض.. وزعم الجاحظ أن أصحابه اختلفوا في اختلاف طرق الحواس وشوائبها ومن أي شيء موانعها..)[9].

وذكر له في موضع آخر في أثناء الحديث عن الإرادات والكراهات فقال: (وقال غيره من المتكلمين إن الإرادات والكراهات والعلم والجهل والصدق والكذب والكلام والسكوت غير الحركات والسكون وهو أبو الهذيل. وقال الجاحظ ما بعد الإرادة فهو للإنسان بطبعه وليس باختيار له وليس يقع منه فعل باختيار سوى الإرادة. وقال ضرار وحفص: الفرد ما تولد من فعلهم مما يمكنهم الامتناع منه متى أرادوا فهو فعلهم، وما سوى ذلك مما لا يقدرون على الامتناع منه متى أرادوا فليس بفعلهم ولا وجب لسبب وهو فعلهم.  وكان ضرار بن عمرو يزعم أن الإنسان يفعل في غير حيزه وأن ما تولد عن فعله في غيره من حركة أو سكون فهو كسب له خلق لله عز و جل وكل أهل الإثبات غير ضرار يقولون لا فعل للإنسان في غيره ويحيلون ذلك)[10].

– ومن باقي أقوال الجاحظ رأيه في الإمامة، حيث يرى الجاحظ أن الأحق بالسلطة يجب أن يتميز قبل كل شيء بملكة العقل، يقول في ذلك: (فإن قالوا فما صفة فضلهم؟ قلنا أن يكون أقوى طبائعه العقل، ثم يصل قوة عقله بشدة الفحص وكثرة السماع، ثم يصل شدة فحصه وكثرة سماعه بحسن العادة، فإذا جمع إلى عقله علما، وإلى علمه حزما وإلى حزمه عزما كان هو الإمام..)[11].

ومن جملة أقوال فرقة الجاحظية كذلك قولهم: (إن المعارف كلها ضرورية وليس فيها شيء من أفعال العباد المكتسبة، وليس للعباد كسب سوى الإرادة، ومعنى ذلك أنه إذا كانت أفعال العباد طبيعة لا كسبا، لزم ألا يكون عليها ثواب أو عقاب، إذ لا يثاب ولا يعاقب العبد على ما لا يكون كسبا، كما لا يثاب ولا يعاقب الإنسان على لونه وتركيب بدنه)[12].

ومن بين أقوالهم أيضا: (المعارف كلّها ضرورية ولا إرادة في الشاهد أي في الواحد منّا، إنّما هي إرادته لفعله عدم السهو، أي كونه عالما به غير ساه عنه، وإرادته لفعل الغير هي ميل النفس إليه. وقالوا إنّ الأجسام ذوات طبائع مختلفة لها آثار مخصوصة، كما هو مذهب الطبعيين من الفلاسفة ويمتنع انعدام الجواهر، إنّما تتبدّل الأعراض والجواهر باقية على حالها، كما قيل في الهيولي، والنار تجذب إلى نفسها أهلها لا أنّ الله يدخلهم فيها. والخير والشّرّ من فعل العبد، والقرآن جسد ينقلب تارة رجلا وتارة امرأة)[13].

هذه جملة من آراء فرقة الجاحظية ومذهبها المنتسبة إلى أبي عثمان عمرو الجاحظ من المعتزلة، والذي انتقده الكثير بسب ما أورده في مؤلفاته وخاصة في الجانب الأخلاقي؛ فقد انتقده الاسفراييني فقال: (وأما تصانيفه فمن تعرف ما فيها وتأمل معانيها ومقاصده فيها علم أنه لا يشتغل بتصنيف أمثالها إلا من لا خلاق له ولا مروءة فإن أعلى تصانيفه كتاب “طبائع الحيوان” وقد بينا مقصوده فيه، وذلك من شر المقاصد.. ومن كتبه كتاب “حيل اللصوص” فيه الحيل التي يتوصلون بها إلى الفساد، يمدحهم بالشطارة ويزعم أنها من مروءتهم ويمدحهم باختيارهم للغلمان على النسوان، وبأنهم يلعبون بالنرد والشطرنج، ويحثهم على القمار، ويزعم أنه من المروءة ومن الآداب المرضية، ومن عد الدعارة والشطارة من المروءة وزينها وحث عليها، فقد خالف الشريعة والمروءة، لأن المسلمين أطبقوا على أن من كانت هذه طريقته كان مذموما في الشريعة والمروءة. ومن كتبه ما صنفه في غش الصناعات أفسد بذلك على المفسدين أموالهم وحث بذلك الناس على الغش والخيانة.. ولا يفتخر بمثل هذه الكتب إلا من كان مثله لا خلاق له في دين ولا مروءة) [14].

 

 

الهوامش: 

 

[1] تاريخ المذاهب الإسلامية-محمد أبو زهرة-دار الفكر العربي/القاهرة-طبعة/2009-ص: 133-وانظر الجانب الاعتزالي عند الجاحظ-د.بلقاسم الغالي-دار ابن حزم-الطبعة الأولى/1999-ص:77

[2] شرح الأصول الخمسة-القاضي عبد الجبار-تعليق: أحمد بن الحسين بن أبي هاشم- حققه وقدم له: د.عبد الكريم عثمان- مكتبة وهبة/القاهرة-الطبعة الرابعة/2006-ص:76 

[3] الملل والنحل لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني-دار ابن حزم-الطبعة الأولى/2005 – ص: 49-50

[4] الفرق بين الفرق-عبد القاهر البغدادي-تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد-مكتبة دار التراث/القاهرة-طبعة/2007- ج/ 1 -ص: 160

[5] نفسه

[6] نفسه

[7] الفصل في الملل والأهواء والنحل-لابن حزم الظاهري- وثقه وضبطه وعلق عليه وخرج أحاديثه: سامي أنور جاهين- دار الحديث/القاهرة-طبعة/2010 – ج/ 3 – ص: 204

[8] مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين للإمام أبي الحسن الأشعري-تحقيق: أحمد جاد-دار الحديث/القاهرة-طبعة/2008 – ص: 231

[9] نفسه-ص:196

[10] نفسه-ص:171- وانظر التبصير في الدين لأبي المظفر الاسفراييني- دراسة وتحقيق: د.مجيد الخليفة- دار ابن حزم-الطبعة الأولى/2008-ص:273

[11] نفسه–ص: 230

[12] انظر الجانب الاعتزالي عند الجاحظ- ص:318

[13] أطلس الفرق والمذاهب الإسلامية: أماكن نشوئها وانتشارها ونبذة عن فكرها وتاريخها-شوقي أبو خليل-دار الفكر/دمشق-طبعة/2009-ص:415

[14] كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم-علي ابن القاضي التهانوي- إشراف ومراجعة: د.رفيق العظم-تحقيق: د.عبد الله الخالدي- مكتبة لبنان-الطبعة الأولى/1996-ج/1- ص:544-وانظر كذلك شرح مواقف الإيجي للشريف الجرجاني-منشورات محمد علي بيضون-دار الكتب العلمية/بيروت-الطبعة الاولى/1998-ج/3-ص:656

 

                                                     إعداد الباحث: منتصر الخطيب

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق