وحدة المملكة المغربية علم وعمرانفنون وعمرانغير مصنف

الثريا الكبرى بجامع القرويين بفاس

تستحق التحف الفنية المعمارية المغربية أن تنغرس في قلوبنا ووجداننا، فهي ليست شواهد مادية على إرثنا الحضاري العريق فحسب لكنها أيضا تعبير ثقافي علمي إنساني على مدى تجدر حضارة المغرب في مسيرة الحضارة الإنسانية في أبهى لحظات عطائها الإنساني. معرفة هذا الإرث وتذوقه والحفاظ عليه فرض عين وستكون الفوائد العلمية والتربوية والثقافية والحضارية لذلك حاسمة في تطور مسيرة الحضارة المغربية حاضرا ومستقبلا، ولا شك أن إعداد برامج عملية لإعادة ترميم معطيات الذاكرة الوطنية مسألة ملحة لا تتحمل التأجيل…

كنا قد تحدثنا في حلقة سابقة عن أكبر ثريا في العالم من حيث الحجم مصنوعة من نحاس وتعود إلى عهد أبي يعقوب يوسف المريني وتوجد في المسجد الأعظم بمحروسة تازة.

لكن أقدم ثريا حفظت إلى اليوم بالمغرب هي الثريا الكبرى بمسجد القرويين بفاس حرسها الله، وقد عوضت هذه الثريا ثريا زناتية نصبت بالمسجد تعويضا لثريا أخرى سابقة عليها تعود لفترة عبد الملك المظفر بن المنصور بن أبي عامر إبان حكم أمويي الأندلس القصير لفاس.

تعود الثريا الكبرى الموحدية بجامع القرويين إلى عصر الناصر إذ تم نصبها في البلاطة الوسطى الموازية لجدار القبلة سنة 600 هـ. وتقع بالضبط عند ملتقى البلاطين الأوسط الممتد من المحراب إلى العنزة (محراب مصلى الصيف) والبلاط الذي يتسامت عليه باب الصالحين من الناحية الغربية وباب السبع لويات من الجهة الشرقية تحت قبة مضلعة.

يخبرنا العلامة المرحوم عبد الهادي التازي في موسوعته حول “جامع القرويين”[1] أنه لما كانت أيام أبي عبد الله الناصر رابع ملوك الموحدين، اقترحها القاضي الخطيب أبو محمد عبد الله بن موسى المعلم، فصنعت من أنقاض الثريا الزناتية ومن صرف الأوقاف، نقضها وصهرها من جديد، وزاد عليها من النحاس قدرا مهما، واستأجر الصناع، فتضافرت جهود المعلمين من أهل فاس على إبداعها، وأتوا حقا بالرائع من الفن، هذا في هندسته وهذا في خطه، وهذا في وشيه، وهي عديمة المثال في الشرق كله ولا يمكن أن تضاهيها إلا ثريا تازة، لقد قامت بسبع مائة وسبعة عشر دينارا فضيا ودرهمين ونصف الدرهم على ما حققه ابن أبي زرع في “روض القرطاس”، أي ما يفوق مليونا من الفرنكات، وقد كان عدد قناديلها 520 قنديلا، ويفوق وزنها 17 قنطارا ونصف القنطار، والذي يملأ قوارير سرجها من الزيت قنطار واحد وسبع قلل (70 لترا تقريبا). في قطرها متران و25 سم، ويقدر الأقدمون محيطها باثنين وثلاثين شبرا، لقد علقت الثريا بواسطة ساق تحتوي على مجسم ذي ست زوايا وكرتين، وفي قاعدته شبه شمعدان يحمل بعض المصابيح..  يتكون هيكل الثريا من مخروط يحتوي على اثني عشر طوقا تتفاوت سعة، وهي تتدرج متصاعدة، وبذلك أمن معدن أطرافها من التآكل بلهيب الفتائل المشتعلة تحته..

أما ما تحتويه من نقوش، حسبما حققه العلامة عبد الهادي التازي رحمه الله، فإن الثريا تعد آية بما حوته من أنواع الخطوط الكوفية والنسخية، ففي الدائرة الأولى نقش على طول الدائرة كلمات “العظمة لله”، وفي الدائرة الثانية بالكوفي أيضا “العزة لله”، وفي دائرة ثالثة بالخط النسخي “السعادة والإقبال”. وبجانب هذه الدوائر أفاريز نقشت عليها آيات من القرآن الكريم، ففي الإفريز الأول منها بخط كوفي واضح تملأ فراغ الحروف فيه بعض الزخارف : “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” (لقمان 32،33، (34؛ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ، هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (الحشر 21،22، 23، 24).

أما الإفريز الثاني من الثريا، فقد نقش بخط مجوهر قوله تعالى : الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ  وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ  وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (النور 35، 36،37). إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَىٰ أولئك أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (التوبة 9)؛ إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما”..

أما الإفريز الثالث فيحتوي على اثني عشر جناحا، كل جناح يتخذ شكل مرمى كرة، إذا ضربت جوانب المرمى الثلاثة في اثني عشر يتحصل ستة وثلاثون، كل جانب من هذه الجوانب الست والثلاثين يحتوي على نقش بالخط الكوفي، يقرأ فيه: ” أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل على محمد وآله.. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ  الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ  رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ  رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ  فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ  لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ  وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (آل عمران من الآية 190 إلى الآية 200).

أما الإفريز الرابع فنقشت فيه الآية الكريمة: “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ” (فاطر29،30، 31)

الثريا الكبرى تعود إلى مكانها الأصلي بعد طول غياب في إحدى المعارض

أما ساق الثريا فتعتبر قطعة شديدة الأهمية لأنها علاوة على ما تحويه من فنون رائعة، فإنها تحمل تاريخ الثريا الأول “هذا ما أمر به الخليفة الإمام أمير المؤمنين أبو عبد الله ابن الخليفة الإمام المنصور أمير المؤمنين أبو يوسف ابن الخلفاء الراشدين أدام الله تأييدهم وعزهم” وتحت هذا نقشت الآية الكريمة ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، صدق الله العظيم” وتحت هذا أيضا نقشت الوثيقة التالية : ” طبعت هذه التربة بمدينة فاس حرسها الله، وكان الفراغ منها في شهر جمادى الأولى سنة ستمائة” و تحت هذا التاريخ طبقة أخرى نقش عليها “وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا. صدق الله، لا إله إلا الله، محمد رسول الله”.

وقد بعثت الثريا الكبرى في نفوس الأدباء والشعراء روحا من التنافس انعكست على ما نظموه من أشعار، من ذلك ما حكاه ابن رشيد الفهري المتوفى سنة 721هـ في فهرسته قال: “كنت مع الفقيه الأستاذ أبي القاسم المزياتي تحت إيقاد الثريا بعد صلاة المغرب، وأخبر الأستاذ أبو القاسم بقدوم الأستاذ ابن عبدون (ت 659هـ)، فقال لنا أبو القاسم : قوموا إلى لقائه، فالتقيناه وهو داخل للمسجد، وسلمنا عليه، فاستقبل الثريا وهي مسرجة، فقال المزياتي مرتجلا :

  انظر إلى ثرية نورها                                          يصدع باللألاء سجف الغسق

قال ابن عبدون :

كأنها في شكلها ربوة                                                  انتظم النور بها فاتسق

فقال ابن المرحل (ت 699هـ)

أعيذها من شر ما يتقى                                               وفجأة العين برب الفلق

وقال محمد بن خلف:

باهى بها الإسلام ما أشرقت                                        كأساتها عند مغيب الشفق 

وإلى جانب هذه الثريا الكبرى الفريدة من نوعها توجد ثريا صغرى كانت في الأصل ناقوسا، حمل في إحدى المعارك الذي خاضها الموحدون في الاندلس، وتوجد في القبة التاسعة من قباب المسجد ابتداء من قبة المحراب، والثانية من جهة العنزة، وتحتوي على ثلاث حاملات للقناديل، وقد نقش على الخدود الستة للدائرة التحتية “الملك لله، العزة لله”. ويخبرنا الدكتور عبد الهادي التازي في كتابه حول جامع القرويين (ج1، ص 83) أن أول إشارة إلى استيلاء الموحدين على النواقيس من اسبانيا هي الإشارة التي أوردها ابن صاحب الصلاة في “المن بالإمامة” الذي ذكر أن الموحدين لما نزلوا مدينة “وبذة” سنة 576هـ حملوا تسعة نواقيس معهم، ومن المفروض أن تكون وزعت على المساجد الكبرى في مختلف مدن المملكة، وفي طليعتها جامع القرويين.

الثريا الصغرى بالقرويين ويبدو شكل الناقوس باديا

ويذكر هنري طيراس أن اسم الملك الموحدي الناصر قد نقش على مقبض هذه الثريا على نحو ما رأينا في الثريا الكبرى “هذا ما أمر به الخليفة الإمام أمير المؤمنين أبو عبد الله بن الخليفة المنصور أمير المؤمنين أبو يوسف ابن الخلفاء الراشدين أدام الله تأييدهم ونصرهم”

الثريا الصغرى (الناقوس) في القبة التاسعة من قباب المسجد ابتداء من قبة المحراب، والثانية من جهة العنزة (يبدو خشبها مزخرفا في الصورة)

بقي أن نشير إلى أن الموحدين اهتموا كثيرا بإنارة المساجد فقد سعوا إلى “تكثيف السرج وتغليظ الفتائل، لأن في الإضاءة بهاء للدين، وأنسا للمجتهدين، ونفيا لمكان الريبة، وهداية للسابلة، وتنزيها لبيوت الله من وحشة الظلام”، ولم تكن الإنارة تقتصر على داخل المسجد بل كانت تتعداه إلى ضواحيه، فكان المؤمنون يشعرون قبل الوصول إليه بالانشراح يعلو صدورهم والبهجة تشملهم، وكانت وظيفة الوقاد ذات أهمية كبرى في سياسة تدبير المسجد ومحيطه، وكان صاحبها يشرف على عدد من الأعوان.. وكثيرا ما كانت تضاء جل جنبات المسجد ومرافقه في المناسبات الكبرى، وكان من المصابيح ما هو من صنع محلي من معامل الزجاج بفاس، وفيها ما جلب من العراق وغيرها.

فتخيلوا أيها الفضلاء حفظكم الله مسجدا جامعا من عيار القرويين يحوي أروع ما أبدع من فن النقوش والزخرفة في عصره، وجوانبه مضاءة بشكل فريد ورائع تحت إشراف خبراء من أجل تيسير العبادة وتلقي العلم والصلاح…  كل هذا ينبئ على ما وصلت إليه الحضارة المغربية من تفوق وازدهار، فمثال الثريا وما أحاط بها من مهام وخبرات يعطي فكرة واضحة عن حجم عظم هذا البلد وعراقته وتجدره في تربة الفنون والإبداع في ربط وثيق بين الدين والتمدين، وبين القيم والعمران بفضل من الله.

[1] عبد الهادي التازي، جامع القرويين المسجد والجامعة بمدينة فاس، ج 1، ص 80، دار الكتاب اللبناني، بيروت 1972.

د. جمال بامي

  • رئيس مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية، ومركز علم وعمران بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق