مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

التوكـل اعتماد القلب على الله تعالى

   هو أصل من أصول العبادة الذي لا يتم التوحيد إلا به، جاء الأمر به في كثير من الآيات القرآنية، في قوله تعالى: ﴿فاعبده وتوكل عليه﴾[1]، وقوله عز وجل: ﴿وتوكل على الحي الذي لا يموت﴾[2]، وهو من سمات المؤمنين الصادقين: ﴿إنما المومنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون﴾[3].

   ومعنى التوكل على الله عز وجل”هو الثقة به، والاعتماد عليه، وتفويض الأمر إليه، والاستعانة به في كل شأن، والإيقان بأن قضاءه نافذ، والسعي فيما لا بد منه من مطعم، وملبس، ومسكن..”[4].

   وهو مقام جليل من مقامات الإيمان وشرط فيه، ومن أفضل الأعمال القلبية التي تُقرِّب إلى الحق تبارك وتعالى، قال عز من قائل: ﴿وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مومنين﴾[5]، فكلما قوي إيمان العبد كان توكله أكبر، وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل.

   وقد مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم التوكل وبيّن أهميته في الحياة وقيمته في إحلال الطمأنينة في النفوس، فقال: (لو أنكم كنتم توكّلون على الله حق توكُّله لرُزقتم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا)[6]، أي أن الطير تصبح جائعة ضامرة البطون، ليس في حوصلتها شيء من الطعام، وترجع آخر النهار وقد امتلأت بطونها من رزق الله تعالى.

   وأراد سيد الخلق عليه السلام أن يجعل التوكل شعارا للمؤمن، فأرشد إلى بعض الأدعية يدعو بها حين يخرج من بيته، لما فيها من توجيه القلب إلى الله عز وجل.

   فعن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من بيته قال: (باسم الله، توكلت على الله، اللهم إني أعوذ بك أن أَضل أو أُضل، أو أَزل أو أُزل، أو أَظلم أو أُظلم، أو أَجهل أو يُجهل علي)[7].

   وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال- يعني إذا خرج من بيته- باسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: كفيت ووقيت، وتنحّى عنك الشيطان)[8].

   فالتوكل من أشرف الرتب وأعلى المقامات القلبية العظيمة الأثر، جعله الله تبارك وتعالى سببا لنيل محبته، وهو فريضة يجب إخلاصها له تعالى، ومضمونه وحقيقته: ثقة القلب بالله عز وجل وتسليم أمور العبد المؤمن إليه جل وعلا، وتفويضها إليه، والاعتماد عليه في كل شيء.

   فقد سئل الإمام الجنيد عن التوكل فقال: “اعتماد القلب على الله تعالى”[9].

   وقال ابن عجيبة: “التوكل: ثقة القلب بالله حتى لا يعتمد على شيء سواه، والتعلق بالله والتعويل عليه في كل شيء، علما بأنه عالم بكل شيء. أو أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك”[10].

   لهذا لا تعارض بين التوكل على الله تعالى وبين العمل واتخاذ الأسباب، “بل إن التوكل لا يصح إلا إذا اتخذ الإنسان لكل عمل يريده جميع الأسباب الموصلة إلى تحقيقه، فالله سبحانه قد ربط المسببات بأسبابها، والنتائج بمقدماتها. والإنسان مسوق إلى الأخذ بالأسباب بمقتضى فطرته وبمقتضى تكليف الله له..، وإهمال هذه الأسباب مناف للفطرة، ومخالف لأمر الله”[11].

   ولهذا اعتبر العلماء ترك الأسباب والتقاعس عن السعي تواكلا وتكاسلا لا يتفق مع روح الإسلام، كما أكد الصوفية هذه الناحية تصحيحا للأفكار وردا للشبهات، وبيانا للناس أن التصوف هو الفهم الحقيقي للإسلام.

   قال ابن قيم الجوزية: “فاعلم أن نفاة الأسباب لا يستقيم لهم توكل البتة. لأن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المتوكل فيه. فهو كالدعاء الذي جعله الله سببا في حصول المدعو به”[12].

   وقد دخل جماعة على الجنيد –رحمه الله- فقالوا: أين نطلب الرزق؟ فقال: إن علمتم في أي موضع هو، فاطلبوه منه، قالوا: فنسأل الله تعالى ذلك. فقال: إن علمتم أنه ينساكم فذكِّروه. فقالوا: ندخل بيوتنا فنتوكل؟ فقال: التجربة مع الله تبارك وتعالى شك، قالوا: فما الحيلة؟ فقال: ترك الحيلة[13].

   وللصوفية في سيّد المتوكلين عليه أفضل صلاة المصلين وأزكى سلام المسلمين، الأسوة والقدوة الحسنة، “فقد كان يأخذ لكل أمر عدّته، ويستعد لملاقاة أعدائه الاستعداد الكامل، ويتخذ جميع أسباب النصر، وكان يعمل ويسعى للكسب، ويأمر غيره بالسعي والكدح، وما كان يترك السبب الذي جعله الله موصلا إلى الغاية، إذ أن ترك السبب مجافاة النظام الذي وضعه الله للحياة، وما كانت مجافاة نظام الحياة موصلة إلى شيء”[14].

   وكان أبو جعفر الحداد[15]– شيخ الجنيد – أحد المتوكلين، وقال: أخفيت التوكل عشرين سنة، ولا فارقت السوق، أكتسب في كل يوم دينارا أو عشرة دراهم، لا أُبيِّت منه دانقا، ولا أستريح فيه إلى قيراط أدخل به الحمام، بل أخرجه كله قبل الليل. وكان الجنيد لا يتكلم في التوكل بحضرة أبي جعفر، فيقول: أستحي من الله أن أتكلم في مقامه، وهو حاضر[16].

   هكذا كانت أحوال الصوفية وخاصة القوم من أولياء الله تعالى والعارفين به، توكلوا عليه عز وجل، واعتمدت قلوبهم عليه جل وعلا، ووثقوا بما عنده، وعملوا بالأسباب الموصلة إليه، فجنوا ثمارا دنيوية وأخروية، فتحقق لديهم الإيمان به عز وجل، وبعث في قلوبهم السكينة والطمأنينة والارتياح، وورثوا محبة الخالق تبارك وتعالى، وقوة القلب وشجاعته وثباته، فقويت عزيمتهم وثبتوا على أمرهم، وكفاهم الله تعالى في جميع شؤونهم، “فقلوبهم مطمئنة بالله تعالى، معتمدة عليه، واثقة به، متوجهة إليه، مستعينة به، لأنه لا فاعل في الوجود سواه. وأبدانهم تأخذ بالأسباب امتثالا لأمره، وتمسكا بشرعه، واقتداء بهدي نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام “[17].

 


[1] سورة هود، الآية 123.

[2] سورة الفرقان، الآية 58.

[3] سورة الأنفال، الآية 2.

[4] السيد سابق : إسلامنا، ص: 47.

[5] سورة المائدة، الآية 25.

[6] الترمذي: السنن، كتاب الزهد،  باب في التوكل على الله، رقم 2344.

[7] المصدر السابق، كتاب الدعوات، باب ما جاء ما يقول إذا خرج من بيته ، رقم 3427.

[8] نفسه، رقم 3426.

[9] سعاد الحكيم: تاج العارفين، ص: 218.

[10] ابن عجيبة: معراج التشوف، ص ص: 30-31.

[11] السيد سابق: إسلامنا، ص: 53 .

[12] ابن قيم الجوزية: مدارج السالكين، 99/2.

[13] سعاد الحكيم: تاج العارفين، ص: 219.

[14] السيد سابق: إسلامنا، ص: 54.

[15] من أكابر الصوفية والزهاد. صحب أبا تراب وأكابر العباد. ترجمته في: حلية الأولياء، 362/10.

[16] سعاد الحكيم: تاج العارفين، ص: 219.

[17] عبد القادر عيسى: حقائق عن التصوف، ص: 246.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق