مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

التوابث المغربية بين دعوى الإقرار وسلوك الإعراض

 عرف الحقل الديني  ببلادنا يقظة نابعة من إرادة قوية في رعاية العمل الديني وفق رؤية شمولية، تأخذ  بعين الاعتبار خصوصية الهوية المغربية عقيدة وفقها وسلوكا، وذلك من أجل تحصين توابث الأمة من التغيير، خصوصا وأن المجتمعات الحالية  تعيش زعزعة يقينيات، فكانت مبادرة جلالة الملك محمد السادس باعتباره أميرا للمؤمنين: الإعلان عن تجديد الحقل الديني من خلال مؤسسة نظامه، وضبط عمله على أسس وتوجهات معقلنة، تأخذ بعين الاعتبار التحديات الراهنة التي يعيشها المغرب، والسياق العام الذي يعرفه العالم بما يمكن أن نصطلح عليه ” بالسياحة الدينية “.

وأمام هذه التحديات وغيرها، كان العمل على توحيد توابث الأمة، درءا لكل ما من شأنه أن يحدث الفرقة بين أهل الملة الواحدة، أو يكون سببا في انسلاخ المؤمن عن معتقده الراسخ وسلوكه القويم.

 فكان من واجب فئات المجتمع، الانضواء حول هذا الأصل المكون لهوية المجتمع المغربي، ترسيخا لقيم الوحدة والائتلاف اللذين هما من المقاصد العظمى للشريعة الإسلامية.

وسيرا على هذا المنحى فقد أبدت طوائف من الأمة الالتزام بمقتضيات هذا التوجه الذي راهنت عليه الدولة، من أجل إحياء العمل الديني على أسس الوسطية والاعتدال والمحبة.

فلا سبيل إلى ادِّعاء الإقرار بتوابث الهوية المغربية، وجعلها في نفس الوقت مطية للخروج عنها، انطلاقا من تقطيع النصوص وإخراجها عن سياقها. أو العمل على تأويلها بما يفقدها مدلولها الأصيل، فقد أصبح بعض الدارسين بما لديه من معتقدات مخالفة وقناعات مغايرة لا يجد بُدا من أن يجعل من التمذهب لا تمذهبا، وأن يُقرر أشعرية ويعتقد تجسيما وأن يكون صوفيا بلباس مُتسلِّف.

إن من شأن هذه الرؤى غير الواضحة، التي تستبطن توجهات خارجة عن السياق العام الذي تؤطره الإرادة العليا للبلاد، أن يحدث تشويها للجسم المغربي في قيمه المثلى وخصوصياته المتميزة، في سبيل إحداث قطيعة ولو أنها غير ظاهرة مع التاريخ، وضربا لجهود علماء من هذه الأمة لقرون خلت وهي تعمل على ترسيخ دعائم الهوية المغربية عقيدة وفقها وسلوكا.

الأشعرية بين تأييد النقل و تسديد العقل

لقد عمل المذهب الأشعري منذ تأسيسه على ترسيخ جوانب  الاعتقاد السليم للأمة، بما يضمن التسنن الأقوم لما كان عليه السلف الصالح في المعتقد.

 فجاءت جهود الإمام الأشعري في سبيل تقرير مسائل الاعتقاد وفق أصول النقل ودعائم العقل، حيث إنه لم يَبتدع رأيا في هذا المجال، بقدرما حاول صياغة اعتقاد السلف على أسس عقلية، تُحصِّن عقول الأمة من أن تزيغ بهم رياح التعطيل أو التشبيه وغيرها من مفاسد الاعتقادات.

 يقول تاج الدين السبكي: “اعلم أن أبا الحسن لم يُبدع رأيا، ولم ينشئ مذهبا، وإنما هو مُقرِّر لمذاهب السلف، مناضل عما كانت عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالانتساب إليه إنما هو باعتبار أنه عقد على طريق السلف نطاقا، وتمسك به، وأقام الحجج والبراهين عليه، فصار المُقتدي به في ذلك، السالك سبيله في الدلائل يسمى أشعريا. ولقد قلت مرة للشيخ الإمام رحمه الله – يقصد والده تقي الدين السبكي -: أنا أعجب من الحافظ ابن عساكر في عدِّه طوائف من أتباع الشيخ، ولم يذكر إلا نزرا يسيرا، وعددا قليلا، ولو وفَّى الاستيعاب حقَّه لاستوعب غالب علماء المذاهب الأربعة، فإنهم برأي أبي الحسن يدينون الله تعالى، فقال: إنما ذكر من اشتهر بالمناضلة عن أبي الحسن، وإلا فالأمر على ما ذكرت من أن غالب علماء المذاهب معه”. (طبقات الشافعية ، 3 /365).

وعلى هذا المنهج سار غالب علماء الأمة من المتكلمين في إرساء دعائم المدرسة الأشعرية، وفق مبادئ الإثبات والتنزيه، وذلك باعتماد إمكانات العقل السديد، دون إغفال واجب النقل بوصفه أساس البناء العقلي. حيث إن هذا التكامل الذي قعَّد له الإمام الأشعري، هو الذي وجه جهود العلماء من أجل تحصين المعتقد الإسلامي من محاولات التشويش أو التغيير، على أن مجهودات علماء الأشاعرة لم تقف عند مستوى التقرير بما هو متضمن في كتب الأشعري، بل كانت لهم إضافات تخص في جانب منها توسيع وإغناء الفكر الأشعري، كما تعمل أيضا على نقد بعض الآراء كما هو الشأن بالنسبة للإمام الغزالي في بعض اجتهاداته.

إلا أنه رغم هذه الجدة التي أظهرها بعض علماء الكلام في الفكر الأشعري، فقد ظلوا أوفياء للتوجه العام الذي انطلق منه أبو الحسن الأشعري، بحيث إنهم لم يحدثوا قطيعة مع هذا الفكر، أو شرخا في بنيته العامة.

والغريب أن هناك من الدارسين من يأخذ عقيدة الأشاعرة وينزع عنها خصوصيتها لتصير في آخر المطاف عقيدة غير أشعرية، أو على غير ما قرره علماء الأشاعرة.

فقد سبق الذِكر أن المدرسة الأشعرية عملت على تحصين المعتقد الإسلامي، بما هو مقرر في أصول الكتاب والسنة وما يؤيدهما من إمكانات العقل والنظر السديد، فالمسلم إذا لم تخالط عقله بعض مفاسد الاعتقاد، كانت النصوص الشرعية كافية في تسكين قلبه وزيادة إيمانه، أما إذا كان ممن داخلته الأغاليط وأفسدته الشبهات، كان الأولى سلوك ترتيب في الكلام يكون بإمكانه رفع مواطن الإشكال لدى المسلم، يزيد في قوته و إحكامه تلك الدلائل التي أحدثت الشبهة.

وعلى هذا الأساس فإن الذي يدعو إلى تخليص الفكر الأشعري من جانبه الكلامي، كان كمن يحتكم إلى طريق وحيد في الاستدلال، ويسقط مبدأ أساسيا عملت الشريعة على تقريره، وهو حفظ المقامات ومراعاة الأهليات، فلكل صنف من الرجال ما يناسبه من المقال، ولكل وسيلته في الإقناع.

 مع أن علماء الكلام لم يؤسسوا هذا العلم  للارتقاء في مدارج الإيمان، وإنما غرضهم الدفاع عن الشريعة ضد أهل الزيغ والابتداع.

وإذا لم يخض بعض علماء الأمة في مسائل الكلام فليس ذلك مطية للطعن في أشعريتهم، كما أن جمهور العلماء المنتسبين لعلم الكلام ليسوا خارجين على ما هو عليه السلف في الاعتقاد، وإنما شأن هذا وذاك أن الأول أخذ النص دون أن يصبغه بتعقله والثاني أخذه وألبسه معقوله، وكلاهما أشعري العقيدة.

التمذهب وحدة و انفتاح:

تمسَك المغاربة بالمذهب المالكي لما كان يمثله من فقه معظم الصحابة رضوان الله عليهم، فقد كانت المدينة موطن الرسالة، ومبدأ تأسيس الدولة على هدي من الشريعة المحمدية، ولاشك بأن عوامل التأسيس وما عرفته الدولة من انفتاح وتوسيع قد ساعد على تحقيق ثروة من التشريعات، على مستوى سنِّ الأحكام الفقهية، سواء المتعقلة بحياة الأفراد أو الجماعة.

ولقد عمل الصحابة بعد العهد النبوي، على إغناء مجال الاجتهاد والاستنباط، منطلقين من المقاصد العامة للشريعة، وما تتيحه من إمكانات النظر في استخلاص الأحكام التي تقتضيها أحوال المسلمين، ومن أبرز هؤلاء الصحابة الذين عملوا على توسيع مجال النظر الاجتهادي، سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي يعد مؤسس المدرسة الفقهية بالمدينة.

حيث “انتقل فقه عمر والصحابة إلى فقهاء المدينة السبعة، وهم سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وعبيد الله بنِ عبد الله بن عتبة، وخارجة بنِ زيد، وسليمان بن يسار، وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب. وورث علم هؤلاء تلاميذهم من أمثال: ابن شهاب الزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وزيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب، ونافع مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب، وربيعة الرأي، وأبي الزناد. وانتقل علم هؤلاء جميعا إلى الإمام مالك بن أنس الأصبُحي”.  (نظرية المقاصد عند الشاطبي،61).

وذلك أن هذا التعاقب الذي عرفه المذهب المالكي عبر كبار رجالات العلم، شكّل له قوة على مستوى ترسيخ وجوده كأحد المذاهب الكبرى والبارزة في العالم الإسلامي.

 يقول ابن تيمية: “وكان أهل المدينة فيما يعملون: إما أن يكون سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما أن يرجعوا إلى قضايا عمر بن الخطاب ويقال: أن مالكا أخذ جل الموطأ عن ربيعة، وربيعة عن سعيد بن المسيب، وسعيد بن المسيب عن عمر، وعمر مُحدّث” (مجموع الفتاوى، 10/332).

وعلى هذا الأساس عمل معظم العلماء عبر التاريخ على الانضواء تحت لواء المذهب المالكي لما تميز من قوة استدلالاته، واتساع مصادر الاستنباط لديه، ولم يكن لأحد من علماء المذهب، رغم ما عرف عن بعضهم من علو درجته في العلم والاجتهاد، ليخرج عن دائرة المذهب ويؤسس لنفسه مذهبا خاصا، وهو ما نلاحظه عند كبار رجال العلم، من أمثال ابن العربي، والباجي وابن عبد البر، لما كان يؤرقهم من هاجس تضييق مجال الخلاف، وتوحيد الأمة على مذهب الأئمة المشهورين.

وفي هذا الصدد يقول القاضي عياض: “فحقّ على طالب العلم ومُريد تعرُّفِ الصواب والحق، أن يعرف أولاهم بالتقليد، ليعتمد على مذهبه، فتقليدهم جميعهم لا يتفق ولا يصح أن يقلد المقلد من شاء منهم على الشهوة“. (ترتيب المدارك، 1/58-61 بتصرف ).

وكأن القاضي عياض يجيب عن إشكالية تتجاوز وقته، وهو ما يقع الآن من بعض طلاب العلم، من دعوتهم للأخذ بمذاهب خاصة، تعمل على تلفيق عدد من الآراء والاجتهادات تحت غطاء العمل بالدليل وإتباع الحجة.

وإذا نحن استقرينا جهود علماء الأمة من ناحية الاستنباط والاجتهاد، لوجدنا أنها تمت في إطار المذاهب المعروفة، إما على مستوى تجاوز الآراء الضعيفة، أو ترجيح ما هو أولى بالاعتبار، وهذا ما عرف عند العلماء بالاختلاف داخل المذهب، على أن العلماء لم يكونوا منحصرين في اجتهادات مذاهبهم، بل عملوا على الاستفادة من آراء المذاهب الأخرى، كما هو الشأن بالنسبة لمراعاة الخلاف عند المالكية، ولم يكن ذلك داعيا لأحدهم على أن ينتقص من مذاهب الأئمة أو يدعو إلى تجاوزها.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل أصبحت أقوال الإمام مالك عند البعض حجة للخروج عن الالتزام بالمذاهب، بدعوى قول الإمام مالك: “كل أحد يؤخذ من قوله، ويترك، إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم”. (سير أعلام النبلاء، 8/93).

وهي حقيقة لا ينازع فيها أحد من علماء الأمة، فلم يؤثر عن أحدهم إثبات العصمة لآرائه الاجتهادية، وإنما كل ماهنالك أن الأئمة الأعلام كانوا يؤسسون لمناهج عامة تضبط الاجتهاد الفقهي، بتقنين عملية الاستنباط، على أن يكون الاختلاف في قضايا الفروع داخل ضوابط منهجية عامة.

 ولذلك فإن الإمام مالك كثيرا ما كان يراجع آرائه الفقهية، كما أن علماء المذهب قد خالفوا إمامهم في بعض آرائه الاجتهادية، ولم يكن ذلك سببا لأي واحد منهم في أن ينفرد بمذهب خاص مقابل جمهرة من العلماء.

 يقول زاهد الكوثري: “ثم انتقلت علوم هؤلاء إلى شيوخ مالك من أهل المدينة، فقام مالك بجمعها وإذاعتها على الجماهير، فنُسب المذهب إليه تأصيلا وتفريعا، وانصاع له علماء كبار تقديرا لقوة حججه، ونور منهجه على توالي القرون، ولو قام أحد هؤلاء العلماء المنتمين إليه بالدعوة إلى مذهب يستجده لوجد من يتابعه من أهل العلم لسعة علمه وقوة نظره، لكنهم فضلوا المحافظة على الانتساب إلى مذهب عالم المدينة حرصا على جمع الكلمة، وعلما منهم بأن بعض المسائل الضعيفة المروية عن صاحب المذهب تُترك في المذهب إلى ما هو أقوى حجة وأمتن نظرا برأي أصحاب الشأن من فقهاء المذهب، حتى أصبح المذهب باستدراك المستدركين لمواطن الضعف بالغ القوة، بحيث إذا قارعه أحد المتأخرين أو ناطحه فقد رأسه” (مقالات الكوثري، 107/106).

التصوف سلوك و أذواق:

التصوف تجربة حية قوامها السلوك المتزن والحركية المتجددة للفعل القلبي، قصد التحقق بالكمالات الخلقية، وهو إرادة يدفعها الشوق نحو معايشة معاني التوحيد والعبادة بالذوق والوجدان، فهو قيم المحبة والوفاء والرضا والاطمئنان التي تضمنها قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: ” أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك “. (رواه البخاري ومسلم).

فالتصوف علم أصيل أسسه الوحي الإلهي، وتمثلته شخصية النبي صلى الله عليه وسلم على الكمال، بحيث إن الاهتداء بهديه عليه السلام هو عين التصوف، وهو ما نجده عند رجالات القوم في تعريفهم للتصوف، حيث يقول سيد الطائفة: “اجتناب كل خلق دني واستعمال كل خلق سني وأن تعمل لله، ثم لا ترى أنك عملت”.(تاج العارفين، 151).

وهذا المعنى الأصيل هو الذي أشار إليه القوم بلفظ التصوف، وهو اصطلاح تداوله علماء الأمة كابرا عن كابر، ولم يكن لهم أي داعٍ للتحفظ منه.

 يقول ابن تيمية: ” أما لفظ “الصوفية”: فإنه لم يكن مشهورا في القرون الثلاثة، وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك، وقد نُقِل التكلم به عن غير واحد من الأئمة والشيوخ، كالإمام أحمد بن حنبل، وأبي سليمان الداراني، وغيرهما. وقد روي عن سفيان الثوري أنه تكلم به، وبعضهم يذكر ذلك عن الحسن البصري “.( مجموع الفتاوى، 6/5).

 فلو كان هذا الاصطلاح مما يجب على علماء الأمة فضلا عن عامتهم التحفظ عن استعماله، لكان الأولى بذلك هؤلاء العلماء الفطاحل والذي يدعي هؤلاء المتحفظين الانتساب إليهم وتقليدهم حذو النعل بالنعل، لما هو مقرر عند كل ذي لب، من الأبعاد الأخلاقية والمعاني السامية التي يشير إليها هذا  اللفظ داخل رحاب أهل التصوف.

إلا أنه ينبغي التنبيه إلى أن الاصطلاح بلفظ التصوف لم يكن يطرح أي إشكال عند رجالات القوم و عند غيرهم من العلماء، فهم يعبرون عن هذه المعاني التي يعيشونها باصطلاحات شتى كطريق السلوك والتزكية والإحسان، لكن أن يكون تحفظنا من بعض الأسماء مطية إلى إحداث شرخ في بنية التصوف، فهذا الذي لا ينبغي أن يُقبل، خصوصا أن ما يشير إليه القوم من معاني هذا الاصطلاح لا يدل على حصر الحق لديهم دون غيرهم، كما أنه لا يدل من قريب أو بعيد على إحداث فُرقة بين أهل الملة الواحدة، وإنما تبقي خصوصيته كامنة في قوة الاصطباغ بمعاني الشريعة، وتحقيق الاقتداء الأكمل بالنموذج الأعظم عليه أفضل الصلاة والتسليم في الأقوال والأفعال والأحوال، دون ظاهرية متحجرة أو باطنية موغلة.

لذلك فإن التصوف لا ينبني على الاختصاص بالاعتقاد دون الأمة، وإلا كان يحمل في طياته معاني التبديع والفرقة بين عموم المسلمين، وإنما هو فهم يؤسس على ما هو متفق عليه بين علماء الأمة مع مزية التحقق وقوة التأثر.

فكان التصوف عند أهل السلوك قِيماً عملية، ومعان أخلاقية، وأحوالا سنية، فمن تمثل هذه المعاني في سلوكياته، واتخذها أوصافا في تعاملاته، كان على هدي من أخلاق النبوة ورجالات الصلاح، ومن فقد في سلوكه هذه المعاني الأخلاقية، فتبقى له مزية الاعتقاد دون كمال الاقتداء.

والغريب أن نرى بعض من  يتحفظون مِن اصطلاح التصوف، لا يكون لهم أي داع للتحفظ من اصطلاحات علوم إسلامية كالفقه والنحو غيرها، بل من اصطلاح “السلفية”، الذي أفرغ من معانيه السامية، التي تشير إلى الفهم العميق للأصول الشرعية وفق منهج السلف الصالح، والاقتداء الأكمل لما كان عليه الأصحاب والتابعون، ليدل على التعصب في الرأي والقذف بالتبديع.

يقول سعيد رمضان البوطي: “فالسلفي اليوم كل من تمسك بقائمة من الآراء الاجتهادية المُعينّة، ودافع عنها، وسفّه الخارجين عليها، ونسبهم إلى الابتداع، سواء منها ما يتعلق بالأمور الاعتقادية، أو الأحكام الفقهية والسلوكية “. (السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي، 237).

وهنا يطرح إشكال عقدي صريح، بحيث إن عدم إدراك حدود مجال الاعتقاد الذي يقتضيه الابتداع، وما هو خارج عن ذلك من أحكام فقهية وسلوكيات خلقية، يوقع الأمة في تشتت أفرادها، كما يضيق مجال المنتسبين إلى هدي الرسالة المحمدية.

لقد عملت بعض التوجهات على أساس شبهة في الفهم على أن يتحاملوا على كل من هو خارج عن آرائهم ويسرعوا إلى رميه بما يخرجه عن رِبقة السنة، متخذين رأيا شاذا عند بعض أصحاب الأصول، من أن الحق واحد لا يتعدد، ومن ثمة فهم يترصدون كل قول مخالف على أن يمنحوه لقب البدعة، خصوصا عندما يتعلق الأمر بطريق أهل التصوف.

والعجب أن نجد بعض هؤلاء المخالفين لتوابث الأمة، يخرج عن مسلكه القديم المعروف بالتصريح بالقدح والقذف، و يتخذوا حيلا أخرى، تتجلى في قولهم بأن الجنيد لم يدع إلى شيء اسمه الفكر الصوفي، ولم يكن يقبل حقائق التصوف وأذواقه، فنكون في آخر المطاف بصدد  تصوف على غير أهله، وصوفية على غير طريقتهم.

إن السلوك الصوفي ليس فكرا تأمليا، بقدر ما هو طريق عملي يتخذ الاشتغال بالطاعات وأنواع القربات سبيلا للتحقق بمنازل الإحسان وكمالات الأخلاق، وبفضل هذا السلوك العميق الذي يتدرج فيه المؤمن في معراجه الإيماني، تختلف المنازل والمقامات وتتنوع المشارب والأحوال، وكل واحد منهم يعبر عمّا وصل إليه في تجربته الخاصة، دون أن ينتقص من شأن التجارب الأخرى، لأن الكل يقتبس من معاني الإحسان المشار إليها في الحديث الشريف.

وهذا ما انتبه إليه العلامة ابن خلدون في شفاء السائل بقوله: “وقد حاول كثير من القوم العبارة عن معنى التصوف بلفظ جامع يعطي شرح معناه، فلم يفِ بذلك قول من أقوالهم. فمنهم من عبر بأحوال البداية، قال الجريري: “التصوف الدخول في كل خلق سني والخروج من كل خلق دني… ومنهم من عبر بأحوال النهاية، قال الجنيد: ” هو أن يميتك الحق عنك ويحييك به”… ومنهم من عبر بعلامة. قال البغدادي: “علامة الصوفي الصادق أن يفتقر بعد الغنى، ويذل بعد العز، ويخفى بعد الشهرة، وعلامة الكاذب العكس.”(شفاء السائل، 202-203).

إلا أنه رغم هذا التصنيف الذي حدد به ابن خلدون مراتب القول الصوفي، فلا يمكن أخذه بشكل جامد، ذلك أن الذين ذكر لهم هذه التعاريف، قد تجد للواحد منهم تعاريف تعم هذه المراتب على حسب سياقات الكلام، وحيثيات المقام.

 وقد جاء عن الإمام الشاطبي قوله: “وحاصل ما يرجع إليه لفظ التصوف عندهم معنيان:

– أحدهما: أنه التخلق بكل خلق سني والتجرد عن كل خلق دني.

– والآخر: أنه الفناء عن نفسه والبقاء بربه.

وهما في التحقيق يرجعان إلى معنى واحد، إلا أن أحدهما يصلح التعبير به عن البداية، والآخر يصلح التعبير به عن النهاية، وكلاهما اتصاف، إلا أن الأول لا يلزمه الحال، والثاني يلزمه الحال، وقد يعتبر فيهما بلحظ آخر، فيكون الأول عملا تكليفيا، والثاني نتيجته، ويكون الأول اتصاف الظاهر، والثاني اتصاف الباطن، ومجموعهما هو التصوف “. (الاعتصام،1/ 348- 349).

فالتصوف في عمقه الإحساني، مشرب أخلاقي و ذوقي، يأخذ فيه القول الصوفي أبعادا مفتوحة تكون في متناول العامة والخاصة، وقد يغلب على أحدهم القول بحقائق و إشارات لا يدركها إلا أهل الاختصاص.

 والإمام الجنيد إذ يتخذ ما يُعبَّر عنه  بطريق السلوك أو الأخلاق، فليس ذلك قدحا في إشارات القوم، فقد كان في  بعض أحيانه يغلب عليه القول بالحقائق، حيث جاء عنه في بعض كلامه: “أنا تكلمت بهذا العلم في السراديب والبيوت خُفية، ولما جاء الشبلي تكلم بهذا العلم على المنابر وأظهره بين الخلائق“.( تاج العارفين، 176).

فالمعاني والأذواق التي تتواتر عن القوم هي معان إحسانية، يتضمنها التصوف الجنيدي، إلا أنه ينبغي عند التحقق من نسبتها، إرجاع فهمها إلى المختصين بهذا الشأن.

 فقد جاء عن اليافعي أن “ما ينسب إلى المشايخ له محامل: الأول أنه لم تصح نسبته إليهم، الثاني بعد الصحة يلتمس له تأويل موافق، فإن لم يوجد له تأويل في الظاهر فله تأويل في الباطن لم نعلمه، وإنما يعلمه العارفون”. ( نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، 2/183).

 وهو ما قام به سيد الطائفة بالنسبة لأقوال الإمام أبي يزيد البسطامي، التي أخرجها إلى ما يليق بأحوال الرجل ومقامه، عندئذ نكون قد أخذنا بمنهج الإمام الجنيد اقتداء به في جانب السلوك.

وجملة القول أن مراعاة التوابث المغربية، لابد أن ينطلق من أساس الاقتناع بالعمل ِوفقَهَا، دون استبطان ما ينخر كينونتها من الداخل، أو إصباغها بلباس مغاير لخصوصيتها.

• فالعقيدة الأشعرية هي تكامل النقل والعقل.

• والتمذهب هو وحدة وانفتاح. 

• والتصوف سلوك و أذواق إحسانية.

د. طارق العلمي

  • أستاذ باحث في الرابطة المحمدية للعلماء، متخصص في المجال الصوفي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق