مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

التمهيد للثورة المنهجية لأشاعرة الغرب الإسلامي

  لقد اكتسب الدرس الأصولي أولا مدرسة متكاملة هي المدرسة الأشعرية ممثلة في أقطابها المشارقة، الأشعري، الأسفريني، الباقلاني المالكي الواسطة الأولى لأقطاب المغاربة، أبي عمران الفاسي، أبي الحسن القابسي، المرادي القيرواني، وتلاميذه والضرير(أبو الحجاج يوسف بن موسى الكلبي السرقسطي (ت520هـ/1126م) صاحب المنظومة الشهير”(التنبيه والإرشاد في علم الاعتقاد)وغيره، وعلم الدرس الأصولي الأندلس الباجي، ثم أخيرًا سفير الثقافة المشرقية إلى الغرب الإسلامي محمد بن العربي المعافري صاحب العواصم من القواصم، ومثل تيار الأشاعرة بالغرب الإسلامي مجموعة من الأسماء اللامعة في الفقه وأصوله ومنهم محمد بن خلف بن موسى الإلبيري وهو من المتكلمين المتحققين، وعبد الحق بن محمد بن هارون السهمي القرشي الصقلي، ومحمد بن علي التميمي المازري الفقيه النظار(536هـ).وبقيت إلى هذا العهد العقيدة الرسمية قبل قيام دولة الموحدين، كانت هي عقيدة أهل التسليم والتفويض، ولقد ارتبطت هذه العقيدة بدخول المذهب المالكي، وتفشت وانتشرت بانتشاره وتفشيه، وعندما قامت دولة المرابطين بقي المذهب العقدي لهذه الدولة هو مذهب أهل التسليم والتفويض، وكان من شأن هذا المذهب أن يجعل سكان المغرب” بمعزل عن أتباعهم في التأويل، والأخذ برأيهم فيهم إقتداء بالسلف في ترك التأويل، وإقرار المتشابهات كما جاءت، حسب تعبير العلامة عبد الرحمن بن خلدون(4).وبالجملة فإن على المتمسكين بالعقيدة الأشعرية أن يتسلحوا بالأدوات المنهجية الناجعة، وكان من موجبات ترسيم المذهب الأشعري بالغرب الإسلامي اتخذ طابعًا سياسيا فقد كان يعني في هذه المرحلة بالذات القضاء على دولة المرابطين السلفية، التي كرست عقيدة أهل السنة والسلف عقيدة رسمية لها. ولأجل هذا فقد أخذت عملية نشر المذهب الأشعري في هذه الفترة طابع المعارضة النظرية أولا.
  أجل فقد كانت المعارضة السياسية للمرابطين عرفت أوجهاً متعددة ومن أبرزها المعارضة النظرية وهي معارضة تقوم على اختيار عقيدة مخالفة ومعارضة للعقيدة الرسمية لدولة المرابطين، واتهامهم بالتجسيم والتشبيه تبعًا لذلك، والتشهير بهم، وتشويه سمعتهم العقدية وإسقاطهم في الكفر لأنهم لا يوحدون الله ولا ينزهونه التنزيه المطلوب، فكانت هذه معارضة النخبة من أولئك الذين كرسوا مجهوداتهم الفكرية في تثبيت وترسيم هذه العقيدة الجديدة ويتعلق الأمر بمجموعة كبيرة من المفكرين نذكر منهم على سبيل المثال:أبو الحجاج الضرير والمهدي بن تومرت وأبو بكر بن العربي وأبو عمرو عثمان السلالجي(574هـ)(5).
  وأصبحت الأشعرية وأعلامها موضع سؤال أمير المسلمين علي بن يوسف،حيث كتب إلى ابن رشد الجد من مدينة فاس يسأل عن الأشعرية ومن انتحل طريقتهم وسمى له فيه جماعة منهم. ونص السؤال: ما يقول الفقيه القاضي الأجل الإمام الأوحد أبو الوليد وصل الله تسديده وتوفيقه، ونهج إلى كل صالحة طريقه، في الشيخ أبي الحسن الأشعري، وأبي إسحاق الأسفريني، وأبي بكر الباقلاني، وأبي بكر بن فورك، وأبي المعالي وأبي الوليد الباجي ونظرائهم ممن ينتحل علم الكلام، ويتكلم في أصول الديانات، ويصنف في الرَّدِّ على أهل الأهواء. أهم أئمة إرشاد وهداية، أم هم قادة حيرة وعماية؟ وما تقول في قوم يسبونهم، وينتقصونهم، ويسبون كل من ينتمي إلى مذهب الأشعرية، ويكفرونهم ويتبرؤون منهم، وينحرفون بالولاية عنهم ، ويعتقدون أنهم على ضلالة وخائضون في جهالة؟ ماذا يقال لهم، ويصنع بهم، ويعتقد فيهم؟ أيتركون على أهوائهم أم يكف على غلوائهم؟ وهل ذلك جرحة في أديانهم ودخل في إيمانهم؟ وهل تجوز الصلاة وراءهم أم لا؟ بين لنا مقدار الأئمة المذكورين، ومحلهم من الدين، وأفصح لنا عن حال المنتقص لهم والمنحرف عنهم، وحال المتولي لهم والمحب فيهم.
  فأجاب رحمه الله على ذلك بهذا الجواب ونصه من أوله إلى آخر حرف فيه” تصفحت السؤال ووقفت عليه، وهؤلاء الذين سميت من العلماء أئمة خير وهدى، ممن يجب بهم الإقتداء، لأنهم قاموا بنصر الشريعة، وأبطلوا شبه أهل الزيغ والضلالة، وأوضحوا المشكلات، وبينوا ما يجب أن يدان به من المعتقدات فهم لمعرفتهم بأصول الديانات، العلماء على الحقيقة لعلمهم بالله عز وجل، وما يجب له، وما يجوز عليه، وما ينتفي عنه، إذْ لا تعلم الفروع إلا بعد معرفة الأصول، فمن الواجب أن يعترف بفضائلهم، ويقر لهم بسوابقهم. فهم الذين عنى النبي عليه السلام-والله أعلم-بقوله:”يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين” فلا يعتقد أنهم على ضلالة وجهالة إلا غبي جاهل أو مبتدع زائغ عن الحق مائل، ولا يسبهم، وينسب إليهم خلاف ما هم عليه إلا فاسق.
جاء في وصية أبي الوليد الباجي لولديه حول علم الكلام فقال:” وإياكما وقراءة شيء من المنطق وكلام الفلاسفة، فإن ذلك مبني على الكفر والإلحاد، والبعد عن الشريعة والإبعاد” والمراد هنا من علم المنطق المشوب بكلام الفلاسفة وعقائدهم، أما المنطق نفسُهُ مجردًا عن هذه العقائد فعلم نافع ولا شك ويلزم طالب العلم درسُه وفهمه، فهو مقدمة لكل العلوم شرعية وغيرها(7).
  والحقيقة أن الجو لم يكن مهيئًا لأشاعرة الغرب الإسلامي كي يبسطوا سلطاتهم وينشروا مبادئ مذهبهم بسهولة، بل إنهم وجدوا مواجهة قوية ومنظمة، فلم يكن المذهب السابق يعدم منظريه والمدافعين عنه، فهناك لائحة طويلة بمجموعة ممن كانت لهم اليد الطولى في الدفاع عن هذا المذهب والاستماتة في ذلك ومنهم: ابن رشد الجد والقاضي ابن حمدين وابن أبي زمنين، وعبد الرحمن بن عتاب وغيرهم كثير. إذْ كلهم كرسوا مجهوداتهم الفكرية للدفاع عن عقيدة أهل التسليم والتفويض، والتصدي للأشاعرة ما وسعهم في ذلك جهدهم، وحتى تتضح أمامنا الصورة فإن نظرة عابرة على عقيدة عرفت شهرتها في هذه الفترة وزامن ظهورها في هذه المرحلة من الصراع المحتدم بين المذهبين، ويتعلق الأمر بعقيدة”شفاء الصدور”لعبد الرحمن بن عتاب(520هـ/1126م)وهي عقيدة متضمنة في كتابه”شفاء الصدور في الوصايا والمواعظ، والتذكير وجمل من الفرائض والفضائل والقرب إلى الله عز وجل والوسائل”(8). والمتتبع لهذه الكتاب يرى أن ابن عتاب ظل وفيا لمذهبه في الاعتقاد لمنهجه في الاستدلال، وهذا بنصوص من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين، أو أقوال رجال المذهب المالكي، مع الابتعاد المطلق عن الاستدلال العقلي، أو قياس الغائب على الشاهد أو التأويل أو ما أشبه ذلك من الأمور التي تميز منهجية خصومهم الأشاعرة، وابن عتاب وأضرابه ممن اشتهروا في هذه الفترة، ومع فقهاء قرطبة الذين يشكلون السلطة العلمية والفقهية وعلى رأسهم القاضي الشهير ابن حمدين هم ممن أفتوا بحرق كتاب الإحياء للغزالي، وهو الكتاب الذي أسقط دولة المرابطين وأقام دولة الموحدين(9).
  وتبرز شخصية الضرير (أبو الحجاج يوسف بن موسى الكلبي السرقسطي(ت520هـ/1126م) من خلال منظومته التعليمية، ومحاورها المعروفة هي التأويل العقلي الذي لا يخرج عن موقف الأشاعرة في التأويل، ووضع شروطًا صارمة في قضايا استدلال الشاهد على الغائب، فإذا خرج عن هذه الشروط اعتبر باطلا، وتحدث عن النبوات والإمامة وغيرها، وظلت منظومة الضرير”التنبيه والإرشاد” مجال الدرس المنطقي الأصولي بالغرب الإسلامي وكثر شراحها إلى القرن التاسع الهجري أي إلى عصر الظاهرة العجيبة محمد بن يوسف التلمساني صاحب العقائد وأم البراهين وصغرى الصغرى وغيرها، والشخصية الثانية التي تركت أثرًا كبيرا في ترسيم المذهب الأشعري هو الثائر الموحدي محمد بن تومرت السوسي صاحب المرشدة الذي رسخ المذهب وأطلق عنان العمل بقواعد الأشاعرة الأصولية في الاعتقاد، أما آراؤه الشيعية أو غيرها فإن تأثيرها على مسيرة الفكر الأشعري بالغرب الإسلامي ظل مغمورًا وباهتًا، حتى رفض الساسة من دولته هذه الأفكار وتمردوا عليها أمثال المنصور، والمأمون، والرشيد وصرحوا برفضهم للميول الشيعية لمهدي الموحدين وبخاصة للقول بالمهدوية والعصمة، ظلت عملية الرفض والإنكار متوالية في أوساط الساسة والمفكرين الكبار حتى صار الحكم على ابن تومرت بالضلال بداهة عند أشاعرة الغرب الإسلامي.
  وعلى الرغم من صغر حجم عقيدة المرشدة(10) .فإنها لاقت اهتمامًا كبيرًا في الوسط الأشعري لأنهم كانوا يرونها عقيدة تعكس أشعرية المهدي بن تومرت، فقد أجمعت الأئمة على حب هذه العقيدة ولا غير، وإنها مرشدة رشيدة لم يترك المهدي أحسن منها وسيلة، وهذا هو السبب الذي جعل مجموعة من الشارحين يتهافتون على شرحها في فترات زمنية مختلفة وفي أماكن من الغرب الإسلامي متباينة من الأندلس والمغرب والجزائر، وتونس وليبيا والسودان، ومن أهم هذه الشروح:
1.شرح أبي عبد الله محمد بن خليل السكوني الإشبيلي نزيل تونس وهو شرح صغير اعتمد فيه احبه على شرح متن المرشدة شرحًا أشعريا مركزًا، قصد منه تأكيد أشعرية المرشدة، ومن خلالها تأكيد الفكر الأشعري في أذهان القارئين لهذا الشرح.
2.شرح محمد بن إبراهيم بن عباد التلمساني(ت.792هـ) وعنوانه الدرة المشيدة في شرح عقيدة المرشدة.
3.شرح أبي عبد الله بن يوسف الخراط على مرشدة ابن تومرت وضاع هذا الشرح عام 756هـ حين دخل النصارى إلى طرابلس الغرب، ومزقوا هذا الشرح وعاثوا في الأرض فسادًا.
4.شرح أبي عبد الله محمد بن أبي العباس ابن إسماعيل الأموي المعروف بابن النقاش وعنوانه”الدرة المفردة في شرح عقيدة المرشدة”(11).
   لقد كان المهدي بن تومرت في حركته الاجتماعية والسياسية داعية موهوب وله آراء في مجال منهج التفكير الشرعي، وأخرى في مجال الفهم العقدي، وثالثة في مجال الأحكام الفقهية، كما كانت له تطبيقات عملية في مجال السياسة والاجتماع(12).

 

 

الهوامش:

 

(4)- يوسف احنانة، تطور المذهب الأشعري في الغرب الإسلامي، المملكة المغربية، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1424هـ/ 2003م.ص:79.
(5)- د.محمد الأمين بلغيث، الحياة الفكرية بالأندلس في عصر المرابطين، المجلد الأول، أطروحة دكتوراه الدولة مخطوطة، إشراف أ.د.عبد الحميد حاجيات، قسم التاريخ، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة الجزائر، 1423-1424هـ/2002-2003م.ص:260.
(6)- ابن رشد، فتاوى ابن رشد، تقديم وتحقيق وجمع وتعليق، د.المختار بن الطاهر التليلي، مسألة رقم:265.ص:943-945.انظر المسألة رقم 189 أيضًا في نفس الموضوع ص:802.-804.انظر نفس النازلة والإجابة عنها عند البرزلي ، نوازل البرزلي، القسم الرابع،ص: 233وجه. مسائل أبي الوليد ابن رشد(الجد) تحقيق التجكاني، الجزء الأول، مسألة رقم:153.ص:716 وما بعدها.
(7)- ابن طملوس، المدخل، ص:13 وما بعدها، أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي(474هـ) وصية الإمام الحافظ أبي الوليد الباجي لولديه رحمهم الله أجمعين،اعتنى بها جلال علي الجهان، بيروت، مؤسسة الريان للطباعة والنشر والتوزع ،1416هـ /1996م. ص:38 هامش رقم:2.
(8)-توجد نسخة مخطوطة من هذا الكتاب بخزانة يوسف بمراكش تحت رقم 461. والنسخة مع الأسف كما وصفها الباحث يوسف أحنانة غير مرقمة كما أن أوراقها غير مرتبة مما يعسر التوثيق بصفحاتها وأرقامها.انظر: أحنانة، تطور المذهب الأشعري في الغرب الإسلامي، المرجع السابق، ص:81 هامش رقم:5.
(9)- د.محمد الأمين بلغيث، الحياة الفكرية بالأندلس في عصر المرابطين، المجلد الأول،ص:255 وما بعدها.
(10)-أبو عبد الله محمد بن خليل السكوني، شرح مرشدة ابن تومرت، تحقيق يوسف أحنانة، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1993م. عمر السكوني، عيون المناظرات، تحقيق المرحوم الدكتور سعد غراب، تونس، منشورات الجامعة التونسية، 1976م.ص:290.
(11)- تطور المذهب الأشعري في الغرب الإسلامي، المرجع السابق، ص:93.
(12)-عبد المجيد عمر النجار، فصول في الفكر الإسلامي بالمغرب، :85.
المصدر: دراسـات في تاريخ الغرب الإسلامي: أ.د محمد الأمين بلغيث. ص:91. دار التنوير/ الجزائر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق