مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

التقعيد المقاصدي وأثره في تقريب الاجتهاد الفقهي

     يتبادر إلى ذهن كثير ممن يشتغل بالفقه واستنباط الأحكام ويقوم بمهام الفُتيا للناس أنَّ الحكم الشرعي لا بُدَّ له من نصّ لفظيّ ثابت في الكتاب أو مرويّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح، وأن المجتهد هو الذي ينظر في ذلك النصّ لا يتجاوزه ولا يتعدّاه، فإنْ وجد الحكم الشرعي فيه فهو المطلوب؛ وإنْ لم يجده فيه فلا يجوز له أن يطلب الحكم في غير النصّ أبداً.

    وهذا المنظور في حد ذاته اتجاه خاطئ لأنه يدعو في حقيقته إلى القول بمقولة  ” سد باب الاجتهاد ” وهذا غير وارد ويتنافى مع صلاحية هذه الشريعة لكل الأزمنة والأمكنة وأنها قابلة للتجدد ومواكبة تطورات العصر، وكذلك لأنّ حصر مجال الاجتهاد والنظر في النصّ وحده ، حصر للاجتهاد فيما سبق من اجتهادات وأقوال علمائنا،  وعليه فإنه من الضروري أن نؤكد على أن الاجتهاد لا ينبني فقط على النصّ اللفظي لا يتعدّى البحث فيه ولا يتجاوز النظر في ألفاظه، بل الاجتهاد يتجاوز النصّ إلى الروح.. ويتعدَّى المنطوق إلى المفهوم.. وينظر في حال الناس كما ينظر في أحوال الألفاظ.. ويعالج التعارض بين المصلحة والمفسدة كما يعالج التعارض بين الظاهر والمؤول وبين العام والخاص وبين المطلق والمقيد وبين الحقيقة والمجاز، ويدفع تعارض النصّ مع المصلحة بالترجيح أو الجمع كما يدفع أي تعارض وتدافع ، وذلك وفق قواعد مقاصدية استخلصها علماؤنا رحمهم الله – من خلال استقرائهم لمجموعة من الجزئيات والنصوص المفردة ،التي تتحد وتتوافق في معنى  جامع بينها ، يراعي مقاصد الشارع ومصالح المكلف في الدنيا والآخرة .

1: مفهوم القواعد المقاصدية وحجيتها :

تتمثل حقيقة القواعد المقاصدية في كونها : ” أصل كلي يشتمل على معنى عام، مستفاد عن طريق الاستقراء  من أدلة الشرع المختلفة، و الغايات التي وضعت الشريعة لتحقيقها .”

وهي حجة يمكن الاستناد إليها في استنباط الأحكام الشرعية في النوازل المستحدثة لأن هذه القواعد مستفادة عن طريق الاستقراء .

وبما  أن الاستقراء إذا كان تاما يفيد القطع ، فإن هذه القواعد المقاصدية أصول يمكن الاحتجاج بها عند غياب النص الشرعي الصريح في النوازل والوقائع المستحدثة ،وما يؤكد هذا الأمر هو ما ذكره الإمام الشاطبي بقوله : ” كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين وكان ملائما لتصرفات الشرع ومأخوذاً معناه من أدلته فهو صحيح يبنى عليه، ويرجع إليه إذا كان ذلك الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعا به .” ([1])

 فإمامنا – رحمه الله – من خلال كلامه هذا يؤكد أن القواعد المقاصدية المستفادة معانيها من أدلة الشرع ، والموافقة لمقصود الشارع وحِكمه، هي أصول صحيحة، يمكن للمجتهد أن يبني اجتهاداته الفقهية على وفقها ، لأنها أصول مستفادة من مجموع أدلة شرعية عن طريق استقراء الجزئيات المتعددة ، وهذا ما يكسب هذه الأصول مكانة جليلة ، حتى وإن ” وقع تعارض بين الكلي والجزئي ولم يمكن الجمع بينهما، فإنه يتعين تقديم الأول لأن القاعدة المقررة في موضِعِها، أنه إذا تعارض أمر كلي وأمر جزئي، فالكلي مقدم لأن الجزئي يقتضي مصلحة جزئية، والكلي يقتضي مصلحة كلية، ولا ينخرم نظام العالم بانخرام المصلحة الجزئية .” ([2])

  وبما أن القاعدة المقاصدية ” قد استفيدت من مجموع الأدلة الجزئية التي نهضت بمعنى تلك القاعدة، فإن كان كل دليل جزئي هو حجة بذاته يصح الاستدلال به، فمن باب أولى أن تتحقق هذه الحجية في القاعدة التي أرشدت إليها مجموع الأدلة ” ([3]) وتصبح حجة يمكن الاستدلال بها لإثبات حكم شرعي لنازلة مستجدة، لأنها استمدت هذه الحجية من حجية مجموع الأدلة الجزئية التي نهضت بمعناها.

ولبيان هذا الأمر نورد الأمثلة التالية :

المثال الأول :

القاعدة المقاصدية :” من مقصود الشارع في الأعمال دوام المكلف عليها ” ([4])

هذه القاعدة هي أصل بني من خلال استقراء مجموعة من النصوص القرآنية والحديثية، تفيد جميعها معنى واحدا، وهو أن الشارع يقصد في الأعمال دوام المكلف عليها :

ومن هذه النصوص نذكر مايلي :

قوله تعالى :{ إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ }([5])

و قوله تعالى :{ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ }([6])

وقوله صلى الله عليه وسلم:” خذوا من الأعمال ما تطيقونه ، فإن الله لا يمل حتى تملوا ” وغير هذه النصوص كثير تدل في مجموعها على أن قصد الشارع من الأعمال الدوام عليها من طرف المكلف واستمراره في أدائها.

المثال الثاني :

القاعدة المقاصدية ” النظر في المآل معتبر شرعا ” ([7])

فهذه القاعدة بدورها قاعدة كلية تعبر عن معنى عام ، قصده الشارع والتفت إليه ، وعرفنا قصد الشارع إليه من خلال تصفح كثير من الجزئيات والأدلة التي نهضت بذاك المعنى العام ، ومن بين هذه الأدلة نذكر ما يلي :

قوله تعالى :

    { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ  }([8])

وقوله عز وجل :

    { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ([9])

وقوله سبحانه وتعالى :

    { وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ }([10])

فهذه كلها نصوص شرعية ترشد إلى إحكام النظر إلى المآل عند بيان الحكم، مما يشير إلى اعتبار ذلك المآل وتوجه القصد إليه.

    ومن خلال ما تقدم بيانه يتضح لنا بجلاء أن القواعد المقاصدية، هي كليات أرشدت إليها مجموعة من الأدلة الجزئية ، وبما أن هذه الأدلة الجزئية هي حجة معتبرة يصح الاستدلال بها،  فمن باب أولى أن تتحقق هذه الحجية في القاعدة المقاصدية  المستفادة منها .

 

وتتجلى أهمية القواعد المقاصدية في الاجتهاد الفقهي في النقاط التالية :

  • إن القواعد المقاصدية ” تضع للمجتهد المعالم  والصور  التي يترسمها  الشارع  ويتغياها  من  تشريعه،  فتكون هذه القواعد  راسخة  في ذهن المجتهد،  عميقة  في وجدانه ليكون  الحكم  الذي يتوصل  إليه  بعد عملية  الاجتهاد  متوافقا تماما مع الغايات نفسها التي  تكشف عنها  القواعد،  بل مؤكدة  وموثقة  لمضمونها.” ([11])

وبذلك تكون هذه القواعد وسيلة لضبط الاجتهاد الفقهي وتسديد مساره حتى يكون موافقا  لكليات  الشرع  ومقاصده ومحققا  لمصالح  العباد في الدارين .

  • إن هذه القواعد “تضبط علم المقاصد ، ومن المعلوم أن ضبط العلوم بقواعد محددة أمر في غاية الأهمية ، حتى إن الإمام الزركشي يقول : ” أن ضبط الأمور المتعددة في القوانين المتحدة ، هو أوعى لحفظها وأوعى لضبطها “. ([12])

     وبذلك فإن علم المقاصد بهذه القواعد يكون محدد المعالم واضح الأمارات ، بين الملامح ، يسهل على المجتهد أن يقف عليه من خلال هذه القواعد الكلية التي يعبّر كل منها عن معنى مقصود شرعا ([13])

  • إن هذه القواعد المقاصدية الكلية ” تعطي بمجموعها أو بمجموعة منها ، كليات أكبر وأعم ، هي المبادئ العليا والمقاصد الكبرى للتشريع الإسلامي ، بل هي معالم الدين وركائز ه وأسسه وأركانه ، فهي بذلك تكون كليات حاكمة وكليات ناظمة ، فوظيفتها لا تقتصر على مرجعيتها وحجيتها فيما لا نص فيه ، بل هي الأصول والأمهات لكل ما يَندر ج تحتها من الفروع والجزئيات ، سواء كان منصوصا أو غير منصوص “([14]) بحيث يمكن للمجتهد الرجوع إليها والاعتماد عليها في استنباطه الأحكام المناسبة للحوادث المستجدة ..

     فالاهتمام بتقعيد المقاصد “والتوجه نحو تطبيق تلك القواعد على الفروع والجزئيات، للاستفادة من ذلك في التأويل والاستنباط، يمكن أن يساهم في ضبط التوجه المقاصدي للاجتهاد الفقهي خاصة  في مجال فهم النصوص وتأويلها وفق مقاصديتها. ذاك أن الالتفات إلى جزئيات مبعثرة في المقاصد دون الاهتمام بكلياتها وقواعدها، سيخرج بالأفهام والاجتهادات عن مرمى المقاصد وحكمة التشريع. فكما أن عدم مراعاة المقاصد، يمكن أن ينجم عنه قصور في الرؤية والتأويل، فكذا الأمر بالنسبة للغلو والتطرف، في استعمالها دونما ضوابط أو حدود.”([15] )  ولا يخفى دور القواعد المقاصدية في نفي التعارض والتناقض بين الأحكام المستنبطة وفق إجراء المقاصد وإعمالها. فمن خلال تلك القواعد، يمكن توجيه الأنظار والتأويلات بمنظور ينتفي التناقض والتعارض فيه. كما أن مراعاة مراتب تلك القواعد وأدلتها وموقعها، من حيث الضروري والحاجي والتحسيني، تبرز أهميته في عدم تقديم تحسيني على حاجي أو ضروري، وهكذا تتم من خلال القواعد تحديد أطر العمل وفق تلك المراتب وأهميتها.

والمتأمل في اجتهادات العلماء السابقين رحمهم الله في فن المقاصد، “يلحظ اهتمامهم بربط القول بالمقاصد بالقواعد والأصول والكليات. فالقاعدة المقصدية هي التي تكشف عن الغاية الكلية أو الجزئية التي ترسمها الشارع من تشريعه، فتصبح بذلك وسيلة للكشف عن الحكمة التشريعية لا الحكم بعده.” ([16])  وعلى هذا يعتبر تقعيد المقاصد من الضوابط الهامة التي ينبغي مراعاتها في الفقه المقاصدي، والتي يمكن أن يسوق إغفالها وإهمال البحث فيها، إلى الإفراط أو التفريط في هذا الركن الهام.

2 : أثر القواعد المقاصدية في اجتهاد العلماء.

  لقد اهتم علماؤنا – رحمهم الله – في اجتهادهم في فروع المسائل وجزئياتها بمقاصد الشريعة السمحة وفق قواعد وضوابط مقاصدية ، يسترشدون بها في الكشف عن الأحكام المناسبة لها .

  وإن تتبع اجتهادات الأئمة الأعلام ليرشد إلى اعتبارهم لهذه القواعد واعتدادهم بها في الكشف عن الحكم الشرعي المناسب للوقائع والمستجدات التي لم يرد فيها نص ، الأمر الذي يبين لنا أن هذه القواعد كانت راسخة في أذهان المجتهدين من علمائنا . لأنهم أدركوا أن الفقيه إذا اقتصر في فقهه على جزئيات الشريعة دون أي التفات أو عناية بالكليات ، والتي تعتبر محور الجزئيات وقطب رحاها ، فلا ريب أنه سيخرج بأحكام تكون مجافية لحكمة الشريعة وروح التشريع الراعي لمقاصد جليلة تروم تحقيق مصالح العباد الدنيوية والأخروية ودرء المفاسد عنهم .

 قال الإمام الشاطبي – رحمه الله – :” فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات  بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس ، فمحال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها ، فمن أخذ بنص في جزئي معرضا عن كلِّيه فقد أخطأ.” ([17])

 واعتناء علمائنا بهذه القواعد راجع لكونها ” تثري المجتهد ، من حيث إنها تضع له المعالم والصور التي يترسمها الشارع ويتغياها من تشريعه ، فتكون هذه القواعد راسخة في ذهن المجتهد عميقة في وجدانه ، ليكون الحكم الذي يتوصل إليه بعد عملية الاجتهاد متوافقا تماما مع هذه الغايات نفسها التي تكشف عنها القواعد ، بل مؤكدة وموثقة لمضمونها . وبذلك تكون هذه القواعد والتي تعتبر في الحقيقة من كليات الشريعة مساهمة أيما مساهمة في تصحيح الفكر الاجتهادي خشية أن يزل أو يطغى .” ([18])

  ولعل ما يؤكد لنا أثر هذه القواعد في بناء الاجتهاد الفقهي عند علمائنا ما سنورده من أمثلة تطبيقية حول إعمالهم وتوظيفهم للقواعد المقاصدية في كشف الأحكام المناسبة والموافقة لمقاصد الشارع الحكيم ، ومن بين هذه الأمثلة نذكر النموذج التالي  :

 اختلف فقهاؤنا – رحمهم الله – في مسألة التوجه إلى الكعبة هل هو واجب وُجوب المقاصد أو الوسائل ؟

 وينبني على هذا الخلاف، أن من أخطأ  في وجهة الكعبة وجبت عليه الإعادة ، وهو مذهب الشافعي – رضي الله عنه – وعبر عنه القرافي بأنه الأصل، لأن المقصود الذي دلَّ النص عليه إنما هو البيت ، ومذهب مالك – رحمه الله – أن الواجب وجوب المقاصد إنما هو الجهة ولا عبرة بالعين ، لأن الجهة قامت مقام العين، كإقامة السفر ثمانية وأربعين ميلا مقام المشقة ، وإقامة صيغ العقود مقام الرضا، وإليه ذهب الحنفية .([19])

 وحاصل الخلاف في وجوب الإعادة في حق من أخطأ، “فالمالكية والحنفية ، قالوا : بأن الجهة هي المقصد وقد حصلت فلا إعادة ، والشافعية ، قالوا بأنها وسيلة ، وهي إذا لم تفض إلى المقصِد سقط اعتبارها ، كالأوصاف مع المياه ، فتجب لتحصيل المقصد الذي يحصل بعد .”([20])

     قال القرافي – رحمه الله – : ” …فتقول العلماء هل الواجب الجهة أو السَّمت ؟ قولان ، ويصحُّ فيه قيد لطيف ، فيكون معناه ، هل الواجب وجوب المقاصد السَّمت أو الجهة . قولان ، فبهذا القيد استقام حكاية الخلاف ، واتضح به تخريج الخلاف ، هل تجب الإعادة على من أخطأ في اجتهاده أم لا ؟ قولان مبنيان على أن الجهة واجبة وجوب المقاصد ، وقد حصل الاجتهاد فيها ، وهو الواجب عليه فقط لا شيء وراءه .

        أو واجبة وجوب الوسائل ، فتجب الإعادة،  لأن الوسيلة إذا لم تفض إلى مقصودها سقط اعتبارها .”([21])

      ففي هذا المثال وظف الإمام القرافي – رحمه الله – في اجتهاده القاعدة المقاصدية  ” الوسائل إذا لم تفض إلى مقصودها سقط اعتبارها ” في بناء حكم من أخطأ بناء على اجتهاده في وجهة القبلة ، هل عليه الإعادة أم لا ؟

    وهذا دليل واضح وبيًّن على استفادة علمائنا – رحمهم الله – من القواعد المقاصدية ، واعتمادهم عليها وتوظيفهم إياها في اجتهاداتهم الفقهية .

3 : دور القواعد المقاصدية في مواكبة المستجدات .

    إن المقاصد الشرعية ، وقواعدها الضابطة لها ” تعتبر من المعطيات الضرورية التي يرجع إليها في معرفة أحكام حوادث الزمان وأحواله ، ولا سِيَما في عصرنا الحالي الذي تكاثرت قضاياه، وتضخمت مستجداته، وتشابكت ظواهره وأوضاعه، وتداخلت مصالحه وحاجياته ، وليس لذلك من سبيل سوى بجعل المقاصد إطارا جامعا ، وميدانا عاما يمكن أن ندرج فيه طائفة مهمة من أوضاع عصرنا ، لمعرفة ما هو شرعي ومتفق مع مراد الشارع ومقصوده ، وما هو بعيد عن ذلك .”([22])

   ولذلك راعى علماؤنا – رحمهم الله – عند بيانهم لحكم نازلة أو حادثة مستجدة  أدلة الشرع ومقاصده ، وتم ذلك ب” إعمال المقاصد بصفة مباشرة، أو بصفتها قواعد مقاصدية مستنتجة من الأدلة ، وكذلك بإعمال الأدلة بصفة غير مباشرة بصفتها الشرعية ، وباعتبار كونها أساس تلك المقاصد.”([23])

  وقد كان لجوؤهم إلى المقاصد وقواعده لحل المشكلات المعاصرة ومتابعة المستجدات من الحوادث الطارئة على المجتمع الإسلامي يكون من خلال ما يلي:

* وضعهم ثلة من القواعد المقاصدية القطعية اليقينية ” التي يعود إليها العلماء والمجتهدون في حسم الخلاف وتحديد حكم معين في قضية معينة لم يُنص أو يُجمع عليها.” ([24])

وهذا ما عبر عنه الإمام الطاهر بن عاشور بقوله :” لتكون نبراسا للمتفقهين في الدين ومرجعا بينهم عند اختلاف الأنظار، وتبدل الأعصار ، وتوسلا إلى إقلال الاختلاف بين فقهاء الأمصار ودربة لأتباعهم على الإنصاف .”([25])

*اعتماد  القواعد المقاصدية في الترجيح عندما يكون هناك تعارض ولا يمكن الجمع، إذ يقع الالتجاء إلى الاختيار والانتقاء في ضوء المرجحات الشرعية والمقاصدية.

قال الدكتور القرضاوي :” وهناك اجتهاد آخر أسميه الاجتهاد الانتقائي وهو اختيار أرجح الأقوال من تراثنا الفقهي العظيم ، مما نراه أقرب إلى تحقيق مقاصد الشرع ومصالح الخلق ، وأليق بظروف العصر .”([26])

 ويتم ذلك من خلال الاعتماد على مجموعة من القواعد المقاصدية  الترجيحية  التي تضبط لنا  التعارض بين المصالح والمفاسد وبينهما معا، لذلك فإن ” دراسة ما يستجد من أوضاع العصر وحوادثه المستجدة أن تكون واقعة ضمن دائرة شمولية وكلية وعامة ، تأخذ بعين الاعتبار جملة الكليات والقواعد والجزئيات الشرعية ، حتى يكون الحكم المتوصل إليه متطابقا مع المقصود الشرعي أو قريبا منه ” ([27])

         وهذا ما أكده  الإمام الشاطبي بقوله :” فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، إذ محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها، فمن أخذ بنص مثلا في جزئي معرضا عن كليه فقد أخطأ، وكما أن من أخذ بالجزئي معرضا عن كليه فهو مخطئ، كذلك من أخذ بالكلي معرضا  عن جزئيه .”([28])

   لذلك فإن أي فقيه قام بمعالجة لجزئية معينة، بمعزل عما يرتبط بها من كليات وأصول، يعد مخلا بإحدى الكليات الشرعية المقررة ، ومفضيا إلى نوع من الاختلال والاضطراب في سلامة حصول الأفعال وآثارها على وفق ما أراد الشارع الحكيم، وهذا الذي “وقعت فيه قديما وحديثا، أفهامٌ وتأويلات كثيرة خاطئة، لاقتصارها فيما تبحث عنه على آحاد الأدلة وجزئيات الشريعة وظواهر النصوص، مما يوقعها في سوء التقدير وخطأ الاجتهاد ومناقضة المقاصد، ومعارضة الأصول والقواعد الكلية .”([29])

    وهذا النظر الشمولي المراعي للكليات والقواعد المقاصدية إلى جانب الجزئيات ” هو الذي جعل المقاصد الشرعية إطارا شاملا لواقع  العصر الحالي دون شذوذ أو استقلال عن المنظومة الشرعية ، وهو كذلك تأكيد لمبدأ اعتبار الجمع بين مراعاة المقاصد ككليات للمشكلات والحوادث التي تمثل جزئيات وفروعا لتلك الكليات العامة .”([30])

    لذلك على الفقيه المجتهد عندما تعرض عليه حوادث جديدة ليس فيها نصوص وأحكام جزئية خاصة بها ومباشرة في موضوعها، أن يحتكم إلى كليات الشريعة ومقاصدها العامة …

     لأنه بالتجائه إلى القواعد المقاصدية الكلية ” يتسع له باب النظر والاجتهاد ، ويتحرر من التكلف والتعسف،  ومن التشبيهات الملتوية والأقيسة المضنية، وهذا ينطبق على كل  القضايا والأحوال المختلفة اختلافا جوهريا عن الأحوال والقضايا القديمة التي جاءت فيها نصوص خاصة، أو اجتهادات فقهية  ظرفية، فنقلُ هذه النصوص والاجتهادات من مناطاتها ومواضعها الحقيقية، وتنزيلها وإعمالها في مواضع ومناطات وأحوال  مختلفة في صفاتها وحقيقتها، إنما هو تعسف واعتداء على تلك النصوص وتلك الاجتهادات مثلما هو تعسف واعتداء على الناس ومصالحهم.

   ويُغنينا عن هذا التعسف  اللجوء إلى رحاب الكليات والقواعد المقاصدية العامة، التي ما وضعت  على الكلية والعموم إلا لتُسعِف الناس بهديها وحكمها العام الذي يستوعب مالا يحصى ولا يتناهى من الحالات والجزئيات المتجددة، كما يمكننا بنفس الدرجة من الحجية ، الاحتكام إلى الكليات الاستقرائية المبنية على مجمل الأحكام التفصيلية .”([31])

   وقد نقل شهاب الدين الزنجاني عن الإمام الشافعي، أنه يرى جواز التمسك بالمصالح المستندة إلى كليات الشرع ولو لم تشهد لها أدلة جزئية خاصة ، ثم قال:” واحتج – أي الشافعي – في ذلك بأن الوقائع الجزئية لا نهاية لها ، وكذلك أحكام الوقائع لا حصر لها، والأصول الجزئية التي نقتبس منها المعاني و العلل محصورة متناهية، والمتناهي لا يفي بغير المتناهي، فلا بد إذا من طريق أخرى يُتوصل بها إلى إثبات الأحكام الجزئية ، وهي التمسك بالمصالح المستندة إلى أوضاع الشرع ومقاصده على نحو كلي ، وإن لم يستند إلى أصل جزئي.” ([32])

  لذلك فإنه لمتابعة ما يستجد من الحوادث اللامتناهية، ينبغي على الفقيه المجتهد أن يلجأ إلى الكليات والقواعد المقاصدية العامة لتسعفه لبيان الحكم الشرعي المناسب لأن هذه  القواعد الكلية تستوعب مالا يحصى من الحالات والحوادث المستجدة .

مثال ذلك :

    من بين الأمثلة التي وجدتها عند فقهائنا ، والتي اعتمدوا فيها على قاعدة من القواعد المقاصدية لبيان حكم شرعي جديد في نازلة مستجدة ، ما جاء في مسألة تلقيح الصبيان.

  حيث ” ظهر التلقيح ضد الجذري في المغرب في مطلع القرن العشرين ، وظهر قبله في مصر بنحو عشر سنوات ، فأفتى الفقيه عليش بتحريمه، نظرا لسببين : لما يحدثه من خطورة في بعض الحالات ولما يسببه من طول العمر، والأعمار بيد الله .”([33])

  لكن علماء المغرب ناقشوا الفقيه علِّيش في فتواه،وردوها عليه وأفتوا بالجواز بناء على اعتمادهم على القاعدة المقاصدية ” درء المفاسد مقدم على جلب المصالح .”

ومن بين هؤلاء العلماء نجد الفقيه المهدي الوزاني – رحمه الله – الذي ذكر في نوازله الكبرى عند رده على هذه الفتوى قوله :” لم يظهر لي وجه القول بالمنع ، إذ غاية ما هنالك أن الجذري داء ينزل بالصبيان من جملة الأدواء  العارضة، والفَصْدُ على الكيفية المعلومة،  من جملة الدواء الجائز تعاطيه شرعا بعد نزول الداء أو قبله ، حفظا للصحة  كتعاطي الكي والحجامة ، من خوف نزول الأضرار التي ينشأ عنها الموت بمقتضى  الحكمة الإلهية، فإن قلنا هذا الفعل لا يجوز، لأن فيه تشبها بالمجوس الذين يريدون تطويل الحياة ، نقول إن الفَصْدُ ، والحجامة ، والكي، وسائر الأدوية لا تجوز، لأن فيها حيلة لدفع الضرر وتطويلا للحياة، و التَّداوي مشروع إجماعا، فالأعمار بيد الله لا بالتَّداوي، كما أن الشرع الشريف لا يمنع خواص الأدوية، فلا مانع إذن من التَّداوي.

     فإن احتج المانع بتألُّم الصبي، قلنا: التألم الأعظم منه يكون في سقيه مراًّ للحاجة، ولا يقول أحد بمنعه، والأعظم ألما منها معا ألم المرض المقيم، وإن قال بإمكان حصول الآفة كالشلل، قلنا : قد يحصل ذلك  على سبيل الندور، وليس على سبيل الندور نحرمه، فكل الأدوية قد يحصل معها ضرر.

     إلا أن التَّداوي بأي نوع، إن كان الغالب فيه السلامة جاز الإقدام عليه ، وإن كان الغالب العطب حُرِّم، وإن تساوى الأمران حرم كذلك ، لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح .”([34])

    وهذا استعمال صريح في الاعتماد على قاعدة مقاصدية، عند بيان الحكم الشرعي للنازلة من طرف هذا العالم المجتهد.

    ومن خلال ما تقدم بيانه يتضح لنا أن التقعيد المقاصدي له دور عظيم في ضبط وتقريب الاجتهاد الفقهي من واقع ومعاش العباد، ومواكبة هذا الاجتهاد لما يستجد على الناس من نوازل وحوادث يفرضها زمان ومكان عيشهم، ويوفر للمجتهدين ثروة فقهية يمكن الاستناد إليها والاحتجاج بها في استنباط الأحكام المناسبة عند فقد النص الشرعي الملائم،ولذلك فإن هذه القواعد بعمومها و شمولها يمكن أن تضبط ما لا يتناهى من الجزئيات والفروع…

******************************************************

لائحة المصادر والمراجع :

 * القرآن الكريم برواية ورش

* منهج الدرس الدلالي عند الإمام الشاطبي د. عبد الحميد العلمي، نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب الطبعة الأولى 1422هـ/2001م.

*القواعد،المقري أبو عبد الله محمد بن محمد بن احمد ، تحقيق أحمد بن عبد الله بن حميد،،جامعة أم القرى مكة،السعودية،دط،دت.

* الموافقات للامام الشاطبي ، دار المعرفة ، 1395هـ

*المنثور في القواعد للزركشي

* القواعد المقاصدية عند الإمام الشاطبي عرضا ودراسة وتحليلا  لعبد الرحمن الكيلاني  ص 13، دار الفكر بدمشق، الطبعة الثانية 2005م

* الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية لأحمد الريسوني ،مطبعة طوب بريس الرباط ،ط 1/2007.

* أثر العرف في فهم النصوص د. رقية طه العلواني

* الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف لعلاء الدين المرادي.تحقيق حامد الفقي ،دار إحياء التراث بيروت ، ط،2.1406هـ/1986

الفروق للقرافي

* الشاطبي ومقاصد الشريعة  للدكتور العبيدي

*الاجتهاد المقاصدي ،حجيته ،ضوابطه ،مجالاته، لنور الدين الخادمي ، الطبعة الأولى 1419هـ/ 1998الدوحة.

*الاجتهاد في الشريعة الإسلامية د. وهبة الزحيلي، مجلة الاجتهاد صادرة بجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض سنة 1404هـ/1984م.

* مقاصد الشريعة لابن عاشور ، تحقيق محمد مطبع الحافظة دار الفكر ، دمشق سورية ط1(1983).

*الاجتهاد والتجديد ،د، يوسف القرضاوي ،عدد19 عن وزارة الأوقاف  الكويتية.

*تخريج الفروع على الأصول للزنجاني (شهاب الدين محمود بن أحمد ) تحقيق محمد أديب. صالح ، مؤسسة الرسالة ط 4، 1402هـ/1982.

*فقه المقاصد وأثره في الفكر النوازلي د، عبد السلام الرافعي. طبع إفريقيا الشرق المغرب 2004م.

* النوازل الكبرى للمهدي الوازاني ، نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغرب، ط1، 1992.

(أصل هذه الدراسة مقال منشور بمجلة الغنية العدد الرابع)

 

الهوامش:


[1] الموافقات للشلطبي :1/39

[2] منهج الدرس الدلالي عند الامام الشاطبي للدكتور عبد الحميد العلمي ص : 126

[3] قواعد المقاصد لعبد الرحمن الكيلاني :120

[4] الموافقات للشاطبي :2/305

[5] المعارج الآية :22

[6] البقرة الآية :43

[7] الموفقات للشاطبي :4/194

[8] البقرة الآية : 183

[9] البقرة الآية : 179

[10] الأنعام الآية : 108

[11] القواعد المقاصدية عند الامام الشاطبي للكيلاني. ص: 62

[12] المنثور في القواعد للزركشي .1/65،

[13] القواعد المقاصدية عند الامام الشاطبي  لعبد الرحمن الكيلاني .65

[14] الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية لأحمد الريسوني :33 مطبعة طوب بريس – الرباط ،ط 1/2007.

[15] أثر العرف في فهم النصوص د. رقية طه العلواني ص: 196

[16] أثر العرف في فهم النصوص د. رقية طه العلواني ص: 197

[17] الموافقات للإمام الشاطبي : 3/8

[18] قواعد المقاصد لعبد الرحمن الكيلاني :62

[19] الانصاف في معرفة الراجح من الخلاف لعلاء الدين المرادي ،2/8 .تحقيق حامد الفقي ،دار إحياء التراث –بيروت ، ط،2.1406هـ/1986

[20] الفروق للقرافي و، 2/155، وانظر كذلك قواعد المقري ،2/390

[21] الفروق للقرافي ،2/155

[22] الشاطبي ومقاصد الشريعة  للدكتور العبيدي ،ص : 179

[23] الاجتهاد المقاصدي ،حجيته ،ضوابطه ،مجالاته، لنور الدين الخادمي ،ج2/144، الطبعة الأولى 1419هـ/ 1998الدوحة.

[24] الاجتهاد في الشريعة الإسلامية د. وهبة الزحيلي،ص :184. مجلة الاجتهاد صادرة بجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض سنة 1404هـ/1984م.

[25] مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور ،ص :5.

[26] الاجتهاد والتجديد ، د، يوسف القرضاوي ،ص: 163 عدد19 عن وزارة الأوقاف  الكويتية .

[27] الاجتهاد المقاصدي ،حجيته ،ضوابطه ،مجالاته، لنور الدين الخادمي ،ج2/149.

[28] الموافقات للإمام الشاطبي :2/8.

[29] الاجتهاد المقاصدي ،حجيته ،ضوابطه ،مجالاته، لنور الدين الخادمي ،ج2/149

[30] الشاطبي ومقاصد الشريعة ،د، العبيدي ص: 181

[31] الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية ،د، أحمد الريسوني ،ص:119. مطبعة طوب بريس – الرباط ،ط 1/2007.

[32] تخريج الفروع على الأصول للزنجاني (شهاب الدين محمود بن أحمد ) ص:322، تحقيق محمد أديب صالح ، مؤسسة الرسالة ط 4، 1402هـ/1982.

[33] فقه المقاصد وأثره في الفكر النوازلي د، عبد السلام الرافعي ص: 302. طبع إفريقيا الشرق المغرب 2004م.

[34] النوازل الكبرى للمهدي الوازاني :ج1/ ص80 ، .81

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق