مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكمفاهيم

التفسير الصوفي الإشاري من خلال نموذج لطائف الإشارات للقشيري (20)

 

ذ. عبد الرحيم السوني.

باحث بمركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوك.      

رابعا: نماذج من بعض القضايا التي تناولها القشيري في تفسيره:

بعدما وقفنا في الفقرة السابقة مع بعض الأدوات والأساليب المنهجية التي اعتمدها القشيري في تفسيره، سنحاول الآن تناول بعض المواضيع والقضايا الموضوعية المتضمنة في هذا التفسير، ومن ذلك:

1ــ البسملة:

يقول الدكتور إبراهيم بسيوني: «سار القشيري في “اللطائف” على خطة واضحة التزم بها من أول الكتاب إلى آخره، فهو يبدأ بتفسير البسملة كلمة كلمة وأحيانا حرفا حرفا، والبسملة تكرر بلفظها مفتتح كل سورة، ومع ذلك فإننا نجده يلجأ إلى تفسير كل بسملة على نحو ملفت للنظر، إذ هي تختلف وتتنوع ولا تكاد تتشابه، ويزداد إعجابنا بالقشيري كلما وجدنا تفسير البسملة يتمشى مع السياق العام للسورة كلها، فالله والرحمان والرحيم لها دلالات خاصة في سورة القارعة، ولها دلالات أخرى في سورة النساء، ودلالات في سورة الأنفال وهكذا»[i].

ويمكن أن نفهم من هذا الكلام أمورا عديدة منها:

أولا: أنه يعتبر البسملة قرآنا، وليست كما يقول البعض شيئا يفتتح به للتبرك، شأن ما نصنع في بداية أقوالنا وأفعالنا.

ثانيا: أنه مادام يعتبر البسملة قرآنا، ومادام يجد لها مقاصد متجددة، فكأنه لا يؤمن بفكرة التكرار في القرآن، و تأكيدا لما سبق سنستحضر قول القشيري نفسه حين قال، «فلما أعاد الله ــ سبحانه ــ هذه الآية ــ أعني بسم الله الرحمان الرحيم في كل سورة، وثبت أنها منها أردنا أن نذكر في كل سورة من إشارات هذه الآية ــ غير مكررة و إشارات غير معادة»[ii].

ثالثا: إن لدى القشيري قدرة غير عادية ونفسا طويلا في استنباط الإشارات الصوفية من القرآن الكريم، ويتجلى ذلك في تعدد و تنوع المعاني المستلهمة من الألفاظ وأسماء الله تعالى وصفاته المتضمنة في البسملة.

ومن الأمثلة التي نوردها في هذا الصدد قوله في بسملة سورة الحجر: «سقطت ألف الوصل من كتابة بسم الله وليس لإسقاطها علة، وزيد في شكل الباء بسم الله وليس لزيادتها علة، ليعلم أن الإثبات والإسقاط بلا علة، فلا يقبل من قبل لاستحقاق علة، ولا رد من رد لاستيجاب علة، فإن قيل العلة في إسقاط الألف من بسم الله كثرة الاستعمال في كتابتها أشكل بأن الباء في بسم الله زيد في كتابتها وكثرة الاستعمال موجودة، فإن قيل العلة في زيادة شكل الباء بركة أفضالها بسم الله أشكل بحذف ألف الوصل لأن الاتصال فيها موجود، فلم يبق إلا أن الإثبات والنفي ليس لهما علة، يرفع من يشاء ويمنع من يشاء»[iii].

وهذا نموذج حقيقي يوضح لنا مدى عمق التفسير الإشاري عند القشيري ودقته، خاصة لو عرفنا أن هذا المعنى الذي أورده في هذه البسملة يتناسب تماما مع ما تتضمنه السورة من أحداث خلق سيدنا آدم وسجود الملائكة له … وهو حتى في السورة التي غابت فيها البسملة، وهي سورة براءة، نجده يقف عند هذا الغياب ليستخرج منه إشارات بديعة فيقول: «الحق ــ سبحانه ــ جرد هذه السورة عن ذكر البسملة ليعلم أنه يخص من يشاء بما يشاء، ويفرد من يشاء بما يشاء، لا لصنعه سبب، ولا في أفعاله غرض ولا أرب. ومن قال أنه لم يذكرها لأن السورة مفتتحة بالبراءة عن الكفار فهو ــ وإن كان وجها في الإشارة ــ إلا أنه ضعيف، وفي التحقيق كالبعيد، لأنه افتتح سورا من القرآن بذكر الكفار مثل قوله: ﴿الذين كفروا…﴾، ومثل قوله: ﴿ويل لكل همزة لمزة﴾، وقوله: ﴿تبت يدا أبي لهب وتب﴾، وقوله: ﴿قل يا أيها الكافرون..﴾، فهذه كلها مفاتح السور، والبسملة مثبتة في أوائلها، وهي متضمنة ذكر الكفار. وقد يقال أنها تضمنت ذكر الكفار دون ذكر صريح للبراءة، وإن تضمنته تلويحا وهذه البراءة هنا في ذكر البراءة من الكفار قطعا  فلم تصدر بذلك الرحمة، وإذا كان تجرد السورة عن هذه الآية يشير إلى أنها لذكر الفراق فبالحري أن يخشى أن تجرد الصلاة عنها يمنع كمال الوصلة والاستحقاق»[iv]. يستنتج من هذا أن الصوفي عند محاولة قيامه بتفسير القرآن الكريم لا يعتمد فقط على المعاني اللغوية، أو المدركات الفكرية، وإنما يستمد زيادة على ذلك، مما يرد عليه من ربه كشفا وذوقا، وهو ما يقف دليلا على تعدد المعاني المستنبطة من نفس القول أو الخطاب كما هو الشأن مع البسملة.

 

 


[i] ـ اللطائف، ج1، ص: 38.

[ii] ـ اللطائف، ج1، ص: 56.

[iii] ـ اللطائف، ج3، ص: 262.

[iv] ـ اللطائف، ج3، ص: 5.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق