مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

التصوف من خلال: “دليل الإمام والخطيب والواعظ، منشورات وزارة الأوقاف-المغرب-“

مدخل: الدليل وحفظ الخصوصية المغربية في الشأن الديني

الضابط المنهجي الثالث: التصوف، تربية على المحبة[1]

يعتبر التصوف كما أرسى قواعده السلوكية شيوخ المغرب من أهم المميزات للخصوصيات المغربية في المجال الديني؛ وذلك لمَا تراكم أيضا في هذا المجال من رصيد تربوي، أسهم – عبر التاريخ – بصورة فعالة جدا، في تشكيل الوجدان الديني المغربي، والسلوك الاجتماعي الوطني؛ بما لا يمكن محوه أو تغييره. وهذه حقيقة تاريخية راسخة!

وعدم اعتبار هذه الخصوصية من لدن الوعاظ والمرشدين؛ من شأنه أن يؤدي بخطابهم الإصلاحي إلى عكس مقاصده التربوية تماما!

وقد كان للتصوف كما تمثله شيوخ المغاربة – ولا يزال – الأثرُ البالغ في تمتين الروابط الروحية، بين جميع المكونات الثقافية والاجتماعية والقَبَليَّة للمجتمع المغربي، تحت لواء واحد، هو: لواء المحبة! إذ المحبة هي غاية التربية الروحية، والسلوك الصوفي، وذلك بالسير بالمريد عبر “مقامات” التربية و”أحوال” التزكية؛ حتى يصل إلى تحقيق خُلّة “المحبة” في نفسه؛ خُلُقاً تعبديا أصيلا صادقا، يمتد في سلوكه وطبيعَته إلى سائر المجالات بعد؛ بما فيها المجال الاجتماعي، والسياسي، والثقافي… إلخ، بما هي علاقات، وتصورات، ومشاعر أيضا! لأن المحبة لا تَلْزَمُ في الوجدان الروحي حدا معينا، بل تفيض مواجيدها في السلوك العام للإنسان. وهذا سر القوة في التربية الصوفية، مما لا تجده في غيرها.

ومن هنا كان السلوك بالناس في الخطاب الديني -تربيةً ووعظا- بالتدرج بهم بين “المقامات” و”الأحوال” أمرا أساسيا جدا، في سياق تحقيق النظرية الاندماجية، وترسيخ الخصوصية المغربية، في تنظيم الشأن الديني، وحسن تدبيره. وبيان ذلك هو كما يلي:

فالمقامات هي ما يكتسبه العبد من منازل إيمانية؛ بمجاهداته الروحية في طريق العبادة والزهد. فإذا حصل العبد على مقام ما كان له ذلك المقام خُلُقُا ثابتا، وصفةً راسخةً، يبني عليها ما بعدها؛ إلى أن يبلغ خلة الكمال.

ومن هنا قال أبو نصر السراج الطوسي رحمه الله: (فإن قيل: ما معنى المقامات؟ يقال: معناه مقام العبد بين يدي الله عز وجل، فيما يقام فيه من العبادات، والمجاهدات، والرياضات، والانقطاع إلى الله عز وجل (…) [قال:] وقد سئل أبو بكر الواسطي رحمه الله عن قول النبي عليه الصلاة والسلام: “الأرواح جنود مجندة”[2] قال: “مجندة” على قدْر المقامات. والمقامات: مثل التوبة، والورع، والزهد، والفقر، والصبر، والرضا، والتوكل، وغير ذلك. (…) وأما معنى الأحوال: فهو ما يحل بالقلوب، أو تحل به القلوب من صفاء الأذكار. وقد حُكيَ عن الجُنيد رحمه الله أنه قال “الحال نازلة تنزل بالقلوب فلا تدوم”.)[3]

وللإمام أبي الحسن الهجويري عبارة لطيفة في تعريف هذين المصطلحين بصورة أدق وأوضح. قال رحمه الله في سياق حديثه عن المريد: (الحال: معنى يرد من الحق على القلب، دون أن يستطيع العبد دفعه عن نفسه بالكسب حين يرد، أو جدبه بالتكلف حين يذهب. فالمقام: عبارة عن طريق الطالب وموضعه في محل الاجتهاد، وتكون درجته بمقدار اكتسابه في حضرة الحق تعالى. والحال:عبارة عن فضل الله تعالى ولطفه إلى قلب العبد، دون أن يكون لمجاهدته تعلق به؛ لأن المقام جملة الأعمال، والحال من جملة الأفضال! والمقام من جملة المكاسب، والحال من جملة المواهب).

ولذا كانت المنازل أو المقامات مراتب، إذا حصل عليها العبد وجب أن يحافظ عليها؛ لأنها مستوى معين من التدين، والفهم للدين، والقرب من الله، لا يجمل به أن يتراجع عنه. فهو ثابت. وإذن؛ فالمقام نتيجة العمل، والحال ذوق المقام؛ فآل الجميع إلى العمل! وما أحسن قول أبي بكر الكلاباذي رحمه الله: (الأحوال مواريث الأعمال، ولا يرث الأحوال إلا من صحح الأعمال!)

ولا يزال العبد يسلك هذا الطريق متخلقا، بين تهذيب وتشذيب؛ حتى تصفو روحه تماما لله، محققة الرضى الكامل بالله؛ بما تخلق من كلمة الإخلاص: (لا إله إلا الله)، سلوكا أبديا إلى الله؛ فينال نعمة المحبة صفة ومقاما باقيا، وذلك هو نجاح التربية الصوفية في تربية الخلق؛ لأن مجتمعا يكون السواد الأعظم من أفراده على هذه الشاكلة، لن يصدر منه ما يمزق وحدته، ولا ما يضعف تماسكه، ولا ما يُبْلي نسيجه الاجتماعي….

النظرية الاندماجية للشأن الديني [4]

يتكون هذا المحور من اثنا عشر معلما، ضمن «دليل الإمام والخطيب والواعظ» تدل السائرين على ما ينبغي حفظه ورعايته، لإصلاح الشأن الديني وتحسين أدائنا في مجالات التوجيه والإرشاد وتحصينه من نوازع الخلاف والخروج عن الجادة، ومنها:

السادس: التصوف

مما لا خلاف فيه بين أهل العلم أن السلوك إلى الله وتزكية النفس من أدرانها مطلب من المطالب المفروض على الدعاة والأئمة توجيه الناس إلى التزود منه، فهو منهج متين، ومقام من الدين مكين، وقد كان الزهد في أول الإسلام دعوى إلى التقلل والكد في طلب العلم، والجهاد في سبيل الله، وعمارة الأرض، والتخلق بكل خلق سني. وكما يعلمهم ما يصلح ظواهرهم يعلمهم ما يصلح بواطنهم، ولكنه هدف كبير، وأمر جليل.

والتصوف السني اصطلاح يمثل تيارا ومدرسة للتربية والسلوك في زمن السلف، وقد سار في ركابه أقوام طلقوا الدنيا واعتزلوا غمرات السياسة، وعرفوا برسم الزهد في بداية أمرهم، وكان أعلامهم ممن لزموا الكتاب والسنة، كبشر الحافي، ومالك بن دينار، وأبي سليمان الداراني، والجنيد سيد الطائفتين.

وقد سلك مسلكهم أعلام فقهاء المالكية ممن صنفوا في هذا الشأن وصاروا فيه قدوة وأئمة تُقتَفى آثارهم كابن الحاج، وابن أبي جمرة، والشاطبي، والشيخ زروق المالكي « محتسب الصوفية»، وصاحب «عدة المريد»، ممن وقفوا عند مسلك الثوري، وابن المبارك، وسري السقطي، والحارث المحاسبي، وإبراهيم بن أدهم، وغيرهم ممن لزموا هدي القرآن والسنة.

فهذا المنحنى في التصوف السني قد سلكه أعلام الأئمة الربانيين، ولم يزالوا يتواصون بالعناية به في تزكية الأنفس، ولم يقع عليه إنكار أحد من أهل العلم المعتبرين، بل هو روح التربية وسبيل تزكية الأنفس، لزمه أعلام الأمة على هدي الشريعة كما قال الجنيد سيد الطائفة: «الطرق كله مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول  صلى الله عليه وسلم، واتبع سنته، ولزم طريقته ». [5]

ومن المعلوم أن هذا المنحى المعتدل لا يُكسب صاحبه شهرة، ولا يصنع له زعامة، لأن مقتضاه التواضع ولزوم ما عليه الجماعة، واطِّراح حب الرئاسة، واتباع هدي القرآن والسنة، وهو سبيل لا يسمح بالتميز والتفرد عن الأمة بمذهب أو نِحلة  «لأن علامة أهل الحق أنه ليست لهم علامة» و «من أخلص لله لم يحتج إلى إعلان».

 

الهوامش:


[1]– دليل الإمام والخطيب الواعظ، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية -المملكة المغربية- 1428هـ/2007م، ص:29-36.

[2] – أخرجه البخاري 3158،  مسلم 2638.

[3] – اللمع 65-66.

[4] – دليل الإمام والخطيب الواعظ، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية -المملكة المغربية- 1428هـ/2007م، ص: 42-62.

[5] – تلبيس إبليس لابن الجوزية 162.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق