مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

التصــوف المغربي

يعتبر التصوف أحد معالم الشخصية المغربية الراسخة في وجدان المجتمع المغربي، والذي وجد ارتياحا داخل ضمير العامة والخاصة على السواء، بسبب ما يكتنف خطابه من مشرب أخلاقي يستجيب وطبيعة العقلية الفقهية التي تطبع شرائحه، وكذلك ميول أهله إلى البساطة وبعدهم عن التجريد، لذلك لم تكن علوم الكلام والفلسفة تجد قبولا عندهم، لما يطبعها من جنوح إلى جانب النظر دون العمل.

وقد ذكرت عدة مصادر ممن أرخت للتصوف المغربي مثل التشوف إلى رجال التصوف، والمقصد الشريف، والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف، والمستفاد في مناقب العباد، وأنس الفقير وعز الحقير، الحياة الروحية لبلاد المغرب، التي تمثلت في تأثير  عدد من أقطاب الولاية في عقلية وسلوكيات المجتمع المغربي، لما كان تحمله ممارستهم الصوفية من طابع عملي أخلاقي، يستند رجالاته إلى شخصية الإمام الجنيد باعتباره رمزا للمدرسة الصوفية الأخلاقية، في مقابل مدرسة الإشراق الذي يعتبر أبو يزيد البسطامي أحد أقطابها.

إلا أن هذا الاتجاه الإشراقي داخل الممارسة الصوفية رغم معارضة بعض العلماء لمضمونه الرمزي، وتحفظ بعض الصوفية في كشفه لغيرهم، يبقى سمة التجربة الصوفية بما هي رقي في مدارج الكمال المحمدي، وارتواء من بحر العلم الرباني، فلا يمكن فصل هذه المعاني الوهبية عن التجربة الصوفية، باعتبارها ليست عملا كسبيا يدخل تحت تصرف السائرين، وإنما هي إشراقة نورانية من بحر العظمة الإلهية، تغمر أهل السلوك بما لا يستطيعون دفعه، فأهل الرسوخ والتمكين يستطيعون ضبطها وتصريفها في قوالب لا تعارض في ظاهرها الشعور العام، وغيرهم ممن لم يبلغ منزلتهم يقعون تحت قوتها، فلا يملكون إلا الانقياد وفق منطقها، وقد كان أهل الولاية في المغرب ممن ساروا وفق منهج كتم الحقائق، نظرا لقوة رسوخهم المعرفي.

وقد بدأت تظهر ملامح الشخصية الصوفية لدى أهل المغرب ابتداء من القرن الخامس الهجري، إلا أن نضجه كان خلال القرن السادس الهجري، حيث عرفت هذه الحقبة ظهور عدد كبير من أهل الولاية والتربية عبر مناطق متعددة من المغرب، كانت بينهم اتصالات ومراسلات وتزكيات، وكانت الرحلة للحج أو لطلب العلم من أسباب دخول التصوف لبلاد المغرب، حيث يذكر أن أبا مدين الغوث أخذ عن القطب عبد القادر الجيلاني أثناء زيارته للمشرق، كما كان له اتصال بطريق غير مباشر بالإمام الغزالي عن طريق أبي صالح بن حرزهم، وأخذ أبو الجبل يعلى وعبد الجليل بن ويحلان عن أبي الفضل عبد الله بن الحسن الجوهري بمصر، كما كان لغيرهم اتصالات بأهل الفضل من المشرق كأبي الصبر أيوب الفهري وأبي زكرياء الرجراجي  ويحيى بن علي الزواوي كما تذكر ذلك كتب المناقب.

بالإضافة إلى دخول كتب الرقائق وفقه القلوب التي أضحت من مقررات المنظومة التعليمية لدى علماء المغرب، كما هو الشأن بالنسبة لعلي بن حرزهم الذي يذكر صاحب التشوف تدريسه كتاب الرعاية للمحاسبي1، وعبد العزيز التونسي الذي لما رأى انصراف تلامذته إلى طلب الخطط والمراتب بما تعلموه منه، قطع تدريس الفقه وأمرهم بالنظر إلى رعاية المحاسبي ونحوها من علوم التصوف2، وكان لإحياء علوم الدين وقع عند أهل الفضل بالمغرب، فقد انتسخ أبو الفضل ابن النحوي كتاب الإحياء في ثلاثين جزءا، فإذا دخل شهر رمضان قرأ في كل يوم جزءا، وكان يقول: وددت أني لم أنظر في عمري سواها، ولما وصل إلى فاس كتاب علي بن يوسف بن تاشفين بالتحريج على كتاب الإحياء، وأن يحلف الناس بالأيمان المغلظة أن الإحياء ليس عندهم، أفتى بأنها لا تلزم3، كما أن عليا بن حرزهم كان رافضا في بداية أمره كتاب الإحياء، لكنه تراجع عما كان عليه بسبب رؤيا رآها، وكان يقول: “اعتكفت على قراءة إحياء علوم الدين للغزالي في بيت مدة من عام، فجردت المسائل التي تنتقد عليه وعزمت على حرق الكتاب، فلما نمت رأيت قائلا يقول: جردوه واضربوه حد الفرية، فضربت ثمانين سوطا، فلما استيقظت جعلت أقلب ظهري فوجدت به ألما شديدا من ذلك الضرب، فثبت إلى الله تعالى مما اعتقدت، ثم بعد ذلك تأملت تلك المسائل فوجدتها موافقة للكتاب والسنة”4، كما عرفت الرسالة القشيرية وكتاب قوت القلوب انتشارا كذلك داخل الوسط المغربي.

ولما نضجت التجربة الصوفية المغربية تعاطى أصحابها للتأليف ووضعوا شروحات عليها، ونظموا قصائد في بيان طريق القوم، وألفوا أراجيز وكتب في الطبقات، بما يماثل في مضمونها وشكلها المؤلفات المشرقية.

  وبالنظر إلى المصادر التي أرّخت للمئات من رجالات التصوف بالمغرب منذ بدايةِ القرن الخامس الهجري وما بعده، نجدها تنحو وتؤكد أخلاقية وفاعلية التصوف الذي اتخذه أهل الولاية بالمغرب، منها: 

– كتاب: “المستفاد في مناقب العباد بفاس وما يليها من البلاد”، للتميمي (ألّفه قبل عام 572ھ)، وهو في التعريف بصلحاء فاس.

– كتاب: “التشوف إلى رجال التصوف”، لابن الزيات (ألّفه عام 617ھ)، وهو في التعريف بصلحاء الجنوب خصوصا مراكش وأغمات وما جاورهما.

– كتاب: “المقصد الشريف والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف”، للبادسي، وقد أرَّخ فيه لرجالات التصوف بالريف من الفترة الممتدة ما بين منتصف القرن السادس الهجري إلى أوائل الثامن الهجري.

– كتاب: “دوحة الناشر بمحاسن من كان بالمغرب من مشايخ القرن العاشر”، لابن عسكر الشفشاوني.

–  كتاب: “نشر المثاني لأهل القرن الحادي عشر والثاني”، لمحمد بن الطيب القادري.

– وكتب الأسانيدِ، مثل: “تحفة أهل الصديقية بأسانيد الطريقة الجزولية الشاذلية”، و”الترجمان المعرب عن أشهر فروع الشاذلية بالمغرب”، لعبد الحفيظ الفاسي، و”ممتع الأسماع في الجزولي والتباع وما لهما من الأتباع”، و”المعزى في مناقب أبي يعزى”، لأحمد التادلي الصومعي، و”أخبار أبي العباس السبتي”، لابن الزيات التادلي، و”المنهاج الواضح في تحقيق كرامات أبي محمد صالح”، لأبي العباس الماجري، و”مرآة المحاسن من أخبار الشيخ أبي المحاسن”، لمحمد العربي الفاسي…

 فالناظر في هذه المؤلفات وكثرتها يدرك من جهة، أن المغرب كان وما يزال بلد التصوف والأولياء بامتياز، كما يدرك من خلالها ما ميّز ويُميِّز هؤلاء الأعلام ذوي المنحى الأخلاقي والذوق الإسلامي، فمن ذلك:

 • ما صرّح به ابن الزيات في أوائل القرن السابع الهجري (617ھ) في مقدمة كتابه، أنه جرّده من “الحقائق”، وأنه خبر رجالات الصلاح والولاية في عصره، ومن قبلهم، وأكد تمسكهم “بالسنة والجماعة، وطهارتهم من البدع والإحداث في الدين، والاقتفاء لآثار من مضى من السلف الصالح…”5.

• وأبرز ابن قنفذ (740-810ھ(، الذي جال بالمغرب في منتصف القرن الثامن، هذه الخصوصية المغربية في منظومته التي يُؤكد فيها تشبت التصوف المغربي بأخلاق القرآن والسنة والإجماع، فقال:

  فاطلُبه في القرآن أو في سُنّةٍ          واعضُدهُ بالإجماع واترُك تاليه6

• وقعّد الشيخ زروق الفاسي (846-899ھ) جُملة من قواعد التصوف، بناها على المنحى الجُنيدي وفي ارتباط وثيق مع النصوص الشرعية، وقد عبّر عنه تصريحا في مواطن عدة من كتابه، مثلما نجد في القاعدة السابعة عشرة مثلا. وتميزت الممارسة الصوفية بالمغرب بالفعل الاجتماعي النافع والمندمج، بعيدا عن الدروشة والانزواء، ودحضا لتقسيم الناس إلى خاصة يصلح لهم أمر التصوف، وعامة لا يصلح لهم، فلا تقصي أحدا إلا من أراد أن يقصي نفسه من دائرتها؛ فعامة المسلمين يجمعون بين الضروري من علوم الدين وبين الممارسة الصوفية في توافق وانسجام، وذلك عملاً بقول إمام دار الهجرة: “من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسّق، ومن جمع بينهما فقد تحقّق”7.

وقد بدأت طوائف التصوف تظهر في المغرب إبان القرن السابع الهجري، وهو ما لاحظه ابن قنفذ خلال القرن الثامن الهجري، حيث تعددت الطوائف بتعدد الشيوخ، وأقرب ما ترجع إليه ستة:

الشعيبيون: وهم طائفة أبي شعيب أزمور من أشياخ الشيخ أبي يعزى.

الصنهاجيون: من طائفة بني أمغار من بلد تيطنفطر من أقران أبي شعيب.

الماجريون: وهم طائفة أبي محمد صالح، ومنهم الدكاليون.

الحجاج: وهو الذين لا يدخل جمعهم إلا من حج بيت الله الحرام.

الحاحيون: وهي طائفة الشيخ الشهير أبي زكرياء يحيى بن أبي عمرو عبد العزيز بن عبد الله بن يحيى الحاحي.

الطائفة السادسة فهم  الغماتيون: وهم طائفة الشيخ الولي الشهير أبي زيد عبد الرحمن الهزميري.8

لكن الغالب على هذه الطرق أنها تفتقد للاستمرارية التربوية، باعتبار غياب النموذج الحي الضامن لامتداد العمل التربوي داخل الطريق الصوفي، ويعتبر توقف السند التربوي وعدم مواصلة العمل التزكوي عن طريق الوارث أو المجدد من أسباب جمود العمل التربوي داخل الطرق الصوفية، وهو الأمر الذي حصل مع عدد من الطرق التي اقتصرت على جانب البركة دون ملامسة جوهر الإنسان من حيث الرجوع به فطرته الأولى وصفاءه الأصلي، وغالب الانتقادات التي وجهت للتصوف كانت تشير إلى هذا الجانب التبركي للطرق الصوفية دون واقعها التربوي، أو كانت عبارة عن مزايدات سياسية تريد أن تتخذ لنفسها  موضعها داخل المجتمع المغربي، وإلا فإن التصوف لا يمكن إنكار أدواره الإيجابية التي تعددت على مختلف مجالات المجتمع، ولذلك نجد عددا من رموز الحركة السلفية الوطنية يتراجعون عن موقف العداء للطرق الصوفية، وينصفون رجالاته كما هو الشأن بالنسبة للعلامة علال الفاسي حيث يقول: “والتصوف المغربي إلى جانب الفقه المالكي له الأثر الفعال في كل السياسات التي جرت في بلادنا، فالفقه والتصوف عنصران أساسيان في تكييف المجتمع المغربي وتسييره”9، هذا إلى جانب مواقف أخرى لأعلام من الحركة السلفية تبين حقيقة العمل الصوفي وأدوار رجالاته.   

   وتميز التصوف في تاريخ المغرب في علاقته بالمجتمع بالفاعلية والحركية، وأخذ ذلك أشكالا متعددة، خصوصا بأدواره المباشرة في التربية والتوجيه، أو في تجلياته النافعة في كل مجالات الحياة المادية: اجتماعية كانت أو اقتصادية أو سياسية، بعد ما أضفى عليها لباسا أخلاقيا، أعطى لهذه المجالات بعدا تربويا.

– في الجانب الديني: نشر الإسلام وتنظيم مواسم دينية ورحلات جماعية للحج، وجمع شمل الأمة على وحدة العقيدة والمذهب.

– في الجانب العلمي: بتحفيظ القرآن، وتدريس العلوم الشرعية وبناء الكتاتيب والمدارس العتيقة، وإنشاء الخزائن وتعميرها بالكتب العلمية.. ولم يقم بهذا الدور في تاريخ المغرب غير الزوايا.

– في الجانب الاجتماعي التضامني: اشتهر بذلك صوفية المغرب منهم: أبو العباس السبتي دفين مراكش، الذي أدار مذهبه على التضامن والإيواء والإطعام، خصوصا أيام المجاعة والأوبئة..

– في الشأن العام: بتأطير المجتمع حيث يتدخل شيوخ الزوايا لضمان الأمن وفض النزاعات وتأمين الطرقات …

– في الجانب الجهادي: بالدعوة إلى الجهاد وتحرير الثغور عند دخول المستعمر الأجنبي، وتعد شخصية أبو الحسن الشاذلي نموذجا حيا في دفاع الصوفية عن الدين والوطن.

– في الجانب الوطني: بالالتفاف حول الإمامة للأمة، وضمان الولاء لها، ما ذكره الولالي في مباحث الأنوار في أخبار الأخيار، من أن أعلاما من أهل الولاية كانت لهم دعوات صريحة حول طاعة ولاة الأمور ومحبتهم،

* من ذلك ما يروى من علاقة ود بين الشيخ أبو العباس السبتي وأبو يعقوب المنصور.

* وفي القرن العاشر الهجري كان الشيخ أحمد بن عبد الله مَعَن أنه كان يحث على طاعة ومحبة السلطان مولاي إسماعيل، وكان يقول: كل من خالف السلطان فقد خالف الشريعة.

* وفي القرن الحادي عشر الهجري كان الشيخ السوسي أحمد بن عبد الله يحث على تعظيم السلطان ومحبته.

* وفي القرن الثالث عشر الهجري كانت علاقة ود تجمع الشيخ التجاني والسلطان مولاي سليمان.

وبالتالي فقد قدم التصوف المغربي عبر التاريخ دروسا في التضامن والوطنية الصادقة، شملت عدة مجالات تربوية واقتصادية واجتماعية وسياسية، كان لها الأثر البارز في شعور المجتمع المغربي، كما أضحت القيم الصوفية تشكل ثقافة رجالاته، وهو الأمر الذي يدل بأن المغرب بلد التصوف والصوفية بامتياز.   

 

الهوامــــــــــش:

1- ابن الزيات التادلي: التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي العباس السبتي، تحقيق أحمد التوفيق، الطبعة الثانية 1997، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ص322.

2- نفس المصدر، ص93.

3- نفسه، ص96.

4- نفسه، ص 169.

5- نفسه، ص 36.

6- ابن قنفذ: أنس الفقير وعز الحقير في التعريف بالشيخ أبي مدين وأصحابه، تحقيق أبي سهل نجاح عوض الصيام، وتقديم علي جمعة، الطبعة الأولى1422ﻫ/2002م، دار المقطم، ص11.

7- أحمد زروق: قواعد التصوف، تقديم وتحقيق عبد المجيد الخيالي، دار الكتب العلمية، الطبعة الثالثة 1428ﻫ/2007، ص28.

8- ابن قنفذ: أنس الفقير وعز الحقير، ص106-108.

9- علال الفاسي: التصوف الإسلامي في المغرب، إعداد عبد الرحمن بن العربي الحريشي، مطبعة الرسالة، دون سنة الطبع، ص21.

 

 

د. طارق العلمي

  • أستاذ باحث في الرابطة المحمدية للعلماء، متخصص في المجال الصوفي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق