مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةشذور

التشوف إلى مقامات التصوف (6) درر من تفسير ابن جزي الغرناطي (مقام المراقبة)

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده

وبعد فهذه الدرة السادسة من نفائس درر الإمام العلامة أبي القاسم محمد بن أحمد بن جزي الغرناطي المالكي (ت:714) التقطت من تفسيره المسمى بـ«التسهيل لعلوم التنزيل» منتزعة من مطلع سورة النساء عند قوله سبحانه: ﴿إن الله كان عليكم رقيبا ﴾ [النساء:1] فصل بها مقام المراقبة، ثاني اثنين عند الأولياء،  وأحد الفصلين عند الأصفياء، قال الجريري : «أمرنا هذا مبني على فصلين : أن تلزم نفسك المراقبة لله، وأن يكون العلم على ظاهرك قائما».

مقام جمع بين المعرفة لله والخشية منه سبحانه، فهو سبيل الشهود، وطريق المكاشفة، كما قرر أحد تلامذة الجنيد وأصفيائه بقيله: «من لم يحكم بينه وبين الله تعالى التقوى والمراقبة لم يصل إلى الكشف والمشاهدة».([1])

ومبناه على التفقه في أسمائه الحسنى: الحفيظ العليم، والسميع البصير، والرقيب الخبير، فمن التزم بها ملاحظة وتعرفا ومصاحبة لزمته المراقبة، ودنت منه المكاشفة، والسالكون في ذلك على مراتب ثلاث:

أدناها لأهل البدايات الذين يخادنون المراقبة في المسير، ويأنسون باستدامتها عن وحشة المسالك، في حضور مع الحق جل جلاله؛ تعظيما له، وذهولا به عنه؛ على زلفى إليه تقر بمطالعتها الأعين، وتسر بالغيب فيها القلوب، ولعمري إنها لمن بواعث المسير، وحوافز السناء؛ وإليه الإشارة بقول الهروي رحمه الله « الدرجة الأولى: مراقبة الحق تعالى في السير إليه على الدوام، بين تعظيم مذهل، ومداناة حاملة، وسرور باعث »([2])

والثانية أصفى حالا وأروع ذوقا، وأبعد شأوا وأسمى مقاما؛ لأنها مراقبةُ مراقبةِ الحق؛ وفي ذلك تجريد للحشاشة عما سوى الأرضى لباريها، والأومق بخبيرها؛ قطعا للالتفات عما تتشوف إليه البواطن، أو تشرئب إليه الظواهر؛ إذ المحل معمور بالرقيب مهابة وأنسا؛ فلا إحساس للمريد بنفسه وخواطره؛ إذ كانت الحجاب الكثيف عن تمام المراقبة وكمال الشهود، فالصغو إليها من رعونات النفس المفضيات إلى قبيح التعرض للخلق والأمر؛ إعراضا أو تأويلا، وتلك مناقضة لكمال الشهود المستلزم ثلج التسليم، ولذة الاستسلام؛ ولذلك قال في المنازل: «والدرجة الثانية: مراقبة نظر الحق إليك، برفض المعارضة، وبالإعراض عن الاعتراض، ونقض رعونة التعرض».

أما الثالثة فهي حال العارفين، ومسلك الواصلين، الذين شهدوا انفراد الحق بأزليته وحده؛ إذ كان ولم يكن شيء غيره ، وكل ما سواه فهو كائن بتكوينه بعد عدمه، فأعدموا الكائنات من الشهود، كما كانت معدومة أزلاً في الوجود، وطالعوا عين السبق ففنوا بشهود من لم يزل عن شهود من لم يكن([3]):

ومن ذلك مراقبة الانفصال عن مدحضة المراقبة؛ لقوله تعالى: ﴿ فلا تزكوا أنفسكم﴾ [النجم:31]؛ إذ من نواقض الزكاة التزكية، ومن نواقض المراقبةِ المراقبةُ، وتلك ورطة تثقل خطوات المريدين، وتكبل هرولة السالكين، وطبها فناء المراقب عن المراقبة في الرقيب

وبه ـ أعني الفناء ـ لا يلحظ العارف في أحداث الخلق والأمر بدءاً وغاية إلا عابر الإشارة من الأزل للأبد؛ لقوله سبحانه: ﴿ هو الأول والآخر﴾ [الحديد:3] وما سواه كائن بتكوينه، وإشارة ملكه وملكوته، ودليل قهره وجبروته؛ فلا التفات إلى حادث في وجود محدِث، ولا اشرئباب إلى مكوَّن في وجود مكون، ولا رنو إلى مصنوع في وجود صانع ، ولا أرب في مخلوق في وجود خالق

وبذلك تهون الدنيا وما فيها عن الخلص، وتذوب الأغراض والأعواض في جنب شريف المراد، وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين، وإليه ألمع الهروي بقيله: «والدرجة الثالثة: مراقبة الأزل، بمطالعة عين السبق؛ استقبالا لعلم التوحيد، ومراقبة ظهور إشارات الأزل على أحايين الأبد، ومراقبة الخلاص من ورطة المراقبة»

ولوعورة التوقل في معارجها، ووحشة السالك في فياح أرجائها، أحاطها أرباب المعارف بما يُلين الترقي، ويؤنس الأرجاء بدءا وانتهاء، وإليه لمح أبو القاسم بالمشارطة والمرابطة قبلها، والمحاسبة والمعاقبة بعدها؛ كيما تثمر حياءً لأهل البدايات، وشهوداً لأهل النهايات

ولعله ما استنبط من حديث جبريل في سر تأخير الإحسان عن الإسلام والإيمان([4])؛ إذ كان غاية كمالهما بل والمقوّم لهما؛ إذ بعدمه يتطرق إلى الإسلام الرياء والشرك، وإلى الإيمان النفاقُ؛ فيظهره رياء أو خوفاً، ومن ثم قال تعالى: ﴿بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن﴾[البقرة: 111]، قال بعض الأعيان: «لا يصح دخول مقام الإحسان إلا بعد التحقق بكمال الإيمان، فمن بقي عليه بقية منه فهو محجوب عن شهود الحق في عبادته كأنه يراه، وعلامة كماله أن يصير عنده الغيب كالشهادة في عدم الريب، ويسري منه الأمان في العالم بأسره فيأمنوه على أنفسهم وأموالهم وأهليهم».([5])

وعلى الترقي وعدم الريب تصفو المناجاة، ويتمحض الإقبال؛ وهو ما أشار إليه الإمام النووي عند قوله صلى الله عليه وسلم ﴿أن تعبد الله كأنك تراه﴾، بقوله: «هذا من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم؛ لأنا لو قدرنا أن أحدنا قام في عبادة وهو يعاين ربه سبحانه وتعالى لم يترك شيئا مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن السمت واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها إلا أتى به، فقال صلى الله عليه وسلم: ﴿اعبد الله في جميع أحوالك كعبادتك في حال العيان﴾([6]) وعليه يتنزل مصطلح «التخايل» في قول عبد الله بن عمر لعروة بن الزبير: «أكنت ذكرتَ لي سودة بنت عبد الله ونحن في الطواف نتخايل الله عز وجل بين أعيننا، وكنتَ قادرا أن تلقاني في غير ذلك الموطن؟».([7])  

بل تأصيل أبي القاسم  المقام إلى معرفة وحال، وتفصيله المريد له إلى مقرب حيي وسابق مشاهد مستمد من قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل ﴿ أن تعبد الله كأنك..﴾، وهو عين ما أومأ إليه شراح الحديث، قال في المفهم: «وأرباب القلوب في هذه المراقبة على حالين:

أحدهما: غالب عليه مشاهدة الحق، فكأنه يراه؛ ولعل النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذه الحالة بقوله: ﴿وجعلت قرة عيني في عبادة ربي﴾([8])

وثانيهما: لا ينتمي إلى هذه الحالة، لكن يغلب عليه أن الحق سبحانه مطلع عليه ومشاهد له؛ وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين﴾ [الشعراء: 217،218] وبقوله: ﴿وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه﴾[يونس:61].

وهاتان الحالتان ثمرة معرفة الله تعالى وخشيته؛ ولذلك فسر الإحسان في حديث أبي هريرة بقوله: ﴿أن تخشى الله كأنك تراه﴾؛ فعبر عن المسبب باسم السبب توسعا».([9])

وبعد فهذه درة الإمام رحمه الله كما وردت في تفسير قوله تعالى: ﴿إن الله كان عليكم رقيبا﴾: [النساء:1].

قال رحمه الله: «إذا تحقق العبد بهذه الآية وأمثالها استفاد مقام المراقبة، وهو مقام شريف أصله علم وحال، ثم يثمر حالين:

 أما العلم: فهو معرفة العبد بأن الله مطلع عليه، ناظر إليه يرى جميع أعماله، ويسمع جميع أقواله، ويعلم كل ما يخطر على باله.

 وأما الحال: فهي ملازمة هذا العلم للقلب بحيث يغلب عليه، ولا يغفل عنه، ولا يكفي العلم دون هذه الحال.

 فإذا حصل العلم والحال:

 كانت ثمرتها عند أصحاب اليمين: الحياء من الله، وهو يوجب بالضرورة ترك المعاصي والجد في الطاعات.

 وكانت ثمرتها عند المقربين: الشهادة التي توجب التعظيم والإجلال لذي الجلال.

 وإلى هاتين الثمرتين أشار رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بقوله: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»

فقوله ﴿أن تعبد الله كأنك تراه﴾: إشارة إلى الثمرة الثانية، وهي المشاهدة الموجبة للتعظيم، كمن يشاهد ملكا عظيما، فإنه يعظمه إذ ذاك بالضرورة.

وقوله ﴿فإن لم تكن تراه فإنه يراك﴾: إشارة إلى الثمرة الأولى ومعناه: إن لم تكن من أهل المشاهدة التي هي مقام المقربين، فاعلم أنه يراك، فكن من أهل الحياء الذي هو مقام أصحاب اليمين.

 فلما فسر الإحسان أول مرة بالمقام الأعلى رأى أن كثيرا من الناس قد يعجزون عنه، فنزل عنه إلى المقام الآخر.

 واعلم أن المراقبة لا تستقيم حتى تتقدم قبلها المشارطة والمرابطة، وتتأخر عنها المحاسبة والمعاقبة:

 فأما المشارطة: فهي اشتراط العبد على نفسه التزام الطاعة وترك المعاصي،

وأما المرابطة: فهي معاهدة العبد لربه على ذلك.

ثم بعد المشارطة والمرابطة أول الأمر تكون المراقبة إلى آخره، وبعد ذلك يحاسب العبد نفسه على ما اشترطه وعاهد عليه، فإن وجد نفسه قد أوفى بما عهد عليه الله حمد الله، وإن وجد نفسه قد حل عقد المشارطة، ونقض عهد المرابطة، عاقب النفس عقابا بزجرها عن العودة إلى مثل ذلك، ثم عاد إلى المشارطة والمرابطة وحافظ على المراقبة، ثم اختبر بالمحاسبة، فهكذا يكون حتى يلقى الله تعالى». ن التسهيل لعلوم التنزيل لأبي القاسم بن جزي الغرناطي:1/394.


([1]) ن مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين للإمام ابن قيم الجوزية: 2/65.

([2]) منازل السائرين لأبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي: 38 وكذا مايأتي من النقل بعد عنه.

([3]) ن مدارج السالكين لابن القيم:2/72

([4]) حديث مشهور، قال ابن رجب في تخريجه: «هذا الحديث تفرد مسلم عن البخاري بإخراجه» ثم أطال النفس في تخريجه، بما في ذلك ما سيأتي من بعض رواياته، فانظره. جامع العلوم والحكم: 1/ 97  

([5]) ن – التيسير بشرح الجامع الصغير للمناوي:1/ 857. – دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين للشيخ محمد بن علان: 1/226.

([6]) ن شرح صحيح مسلم للإمام النووي:9/25.

([7]) أخرجه أبو نعيم في الحلية، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا بشر بن موسى، ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، ثنا حرملة، حدثني أبو الأسود، قال: سمعت عروة بن الزبير.. ن حلية الأولياء وطبقات الأصفياء:1/309.

([8]) المشهور من لفظ الحديث ﴿ قرة عيني في الصلاة﴾، ولما أجده باللفظ المذكور.. ن للتوسع: تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف للزمخشري للحافظ جمال الدين الزيلعي: 1/196 والمداوي لعلل الجامع الصغير وشرحي المناوي للحافظ أحمد بن الصديق الغماري: 3/382.

([9]) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم لأبي العباس أحمد بن عمر القرطبي :1/ 59.

د. عبد الهادي السلي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق