مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةشذور

التشوف إلى مقامات التصوف (5) درر من تفسير ابن جزي الغرناطي (مقام المحبة)

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده

وبعد فهذه درة خامسة من نفائس درر الإمام العلامة أبي القاسم محمد بن أحمد بن جزي الغرناطي المالكي (ت:714) التقطت من تفسيره المسمى بـ«التسهيل لعلوم التنزيل» منتزعة من قوله سبحانه في سورة البقرة: ﴿والذين ءامنوا أشد حبا لله ﴾ [البقرة:164] فصل بها مقام المحبة التي تنافس فيها المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وفي سبيل تعرفها شمر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيمها تروح العابدون؛ فهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون.

ولسانها عند أرباب التحقيق أتم، ومقامها أكمل، وحالها أشرف، وصاحبها من أهل الصحو بعد السكر، والتمكين بعد التلوين، والبقاء بعد الفناء، ولسانه نائب عن كل لسان، وبيانه واف بكل ذوق، ومقامه أعلى من كل مقام؛ فهو أمين على كل من دونه من أرباب المقامات؛ لأن مقامه أمير على المقامات كلها؛ فلا غرو أن كانت روح الإيمان والأعمال، والمقامات والأحوال؛ ولذلك قال الهروي في منازل السائرين: «والمحبة هي سمة الطائفة، وعنوان الطريقة، ومعقد النسبة».([1])

ولسنائها عند أرباب الأحوال عجز العارفون عن حدها ؛ إذ كانت الحدود لا تزيدها إلا خفاء، ولا سبيل إلى وصفها بأظهر منها؛ إذ كانت الأوصاف لا تزيدها إلا جفاء؛ إذ من شدة الظهور الخفاء؛ على أن مادتها تدور على معان خمس : الصفاء والبياض كحبب الأسنان ونضارتها. والعلو والظهور كحبب الكأس والمطر. واللزوم والثبات، ومنه إحباب البعير: يحسر فيلزم مكانه، واللب والنقاية كحبة القلب والفؤاد، والحفظ والإمساك كحب الماء للوعاء الذي يحفظ فيه.

وهي معان تستلزمها برمتها محبة القوم تعرفا وتألها: فهي لب المقامات والأحوال؛ لما فيها لأربابها من الصفاء والسناء،  والثبات على المناجاة واللزوم، والحفظ للوالهين أثناء السير والوصول، قال الهروي رحمه الله: «والمحبة أول أودية الفناء، والعقبة التي ينحدر منها على منازل المحو، وهي آخر منزل تلقى فيه مقدمة العامة ساقة الخاصة».([2])

ولقد عدلوا ـ إذ تقاصرت عباراتهم رغم المحاولة عن حدها ـ إلى أسبابها وموجباتها، درجاتها ومراتبها، ويوانع ثمارها:

فأما الأسباب فقد أجملها أبو القاسم هـهنا في المعرفة المثمرة الحسن والإحسان، وفصلها غيره في عشر آيلة بضرب من النظر إلى التعرف؛ لأنها أسبابه، وحاصلها: تدبر الكتاب وتفهمه، والتفكر في أسمائه وصفاته، وإمعان النظر في مطوي أسرارها، ومطالعة آلائه ونعمه، و إدمان ذكره ومناجاته، و تذلل بين يديه وانكسار، وخلوة وسرار، وإيثار محابه على كل محبوب، ومخالطة أصفيائه، ومباعدة ما يبعد عن قربه وأقربائه،  وفرط الزلفى بالنوافل إلىه ﴿ وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه﴾([3])

وأما درجاتها فقد جعلها أبو القاسم هـهنا عامة وخاصة؛ تشوفا إلى أدنى المراتب فيها، والتي لا ينبغي لقلب السالك أن يكون عريا عنها بإطلاق، ولذلك سيمت بحكم الوجوب؛ لأنها أدنى ما يطلب؛ لكنه رحمه الله أجمل في الخاصة وفصلها غيره([4]) في مراتب شتى:  بدايتها علاقة وهي تعلق قلب المحب بالمحبوب ثم إرادة وهي ميله إليه، ثم  صبابة؛ لإمعان الميلان والانصباب، ثم غرام وهو لزوم بعد انصباب، ثم وداد؛ لأنها مرحلة صفاء المحبة، وخلاصها من الشوب، ثم تتيم وهو من ثمار الخلاص والنقاء، ثم تعبد وهو فوق التتيم، ثم الخلة التي انفرد بها الخليلان، كما صح مرفوعا من قوله صلى الله عليه وسلم: ﴿إن الله اتخذني خليلا، كما اتخذ إبراهيم خليلا﴾([5])، وجماع ما سلف من المراتب في طرفين وواسطة، وهو ما نبه عليه الهروي في المنازل بقوله: «وهي على ثلاث درجات:

الدرجة الأولى: محبة تقطع الوساوس، وتلذ الخدمة، وتسلي عن المصائب: وهي محبة تنبت من مطالعة المنة، وتثبت باتباع السنة، وتنمو على الإجابة للفاقة.

والدرجة الثانية: محبة تبعث على إيثار الحق على غيره، وتلهج اللسان بذكره، وتعلق القلب بشهوده: وهي محبة تظهر من مطالعة الصفات، والنظر في الآيات، والارتياض بالمقامات

والدرجة الثالثة: محبة خاطفة، تقطع العبارة، وتدقق الإشارة، ولا تنتهي بالنعوت: وهذه المحبة هي قطب هذا الشأن، وما دونها محاب نادت عليها الألسن، وادعتها الخليقة، وأوجبتها العقول».([6])

ومن ألطف ما في المقام ما أشار إليه أبو القاسم بقوله: « فإن سائر مقامات الصالحين.. مبنية على حظوظ النفس، بخلاف المحبة؛ فإنها من أجل المحبوب، فليست من المعاوضات»، وأوجزه الهروي قائلا: «وما دونها أغراض لأعواض»([7]) فهذا الانفصال من السائرين عن حظوظ الأنفس، والتشوف إلى مقام المحبوب تحببا، والتأله به تتيما؛ لكمال التعرف على ذي الجلال والجمال لا ينوء به إلا الخلص من خلقه، والصفوة من أوليائه؛ إذ النفوس مجبولة على الالتفات إلى الحظوظ العاجلة والآجلة؛ من أجل ذلك أبيح الاستنام إلى حظوظ الدنيا؛ لأنه من عواجل بشرى المؤمن، وجعلت الآجلة من غايات الأعمال؛ لمراعاة الشريعة غالب أحوال العباد خلقا وطبيعة، وكل ما ورد منصوصا من التعبد خوفا ورجاء فمخرج على هذا الذي ألمحنا إليه، فإن شغب بمقام النبوة انفصلنا بمقصد التبليغ، وحقه مشاكهة العامة؛ لكونه شارعا.

فمن تفصى عن حظوظه، وتاه في معبوده، فقد بلغ الغاية في اليقين بربه، وإحسان الظن بملكوته، وهو من تمام المعرفة به، وبذلك يلحظ شاسع الفرق في التأله بين من يوجب على الله الأصلح والصلاح، وبين من قطع الالتفات إلى الحظوظ عاجلا وآجلا؛ فهام في ذات الله تتيما.

وأما ثمارها فجماع ذلك في عوذ وفرار: فرار من الخلق وعوذ بالحق؛ يكون المحب فيه سلما وسلاما، محبة ووئاما على الفرد والمجتمع، وذاك ما فصله أبو القاسم في درته، فتأمل تنل

قال رحمه الله في تفسير قوله سبحانه: ﴿والذين آمنوا أشد حبا لله﴾: «اعلم أن محبة العبد لربه على درجتين:

إحداهما: المحبة العامة التي لا يخلو منها كل مؤمن، وهي واجبة

 والأخرى: المحبة الخاصة التي ينفرد بها العلماء الربانيون، والأولياء والأصفياء، وهي أعلى المقامات، وغاية المطلوبات، فإن سائر مقامات الصالحين كالخوف والرجاء والتوكل وغير ذلك هي مبنية على حظوظ النفس، ألا ترى أن الخائف إنما يخاف على نفسه، وأن الراجي إنما يرجو منفعة نفسه، بخلاف المحبة؛ فإنها من أجل المحبوب، فليست من المعاوضات.

واعلم أن سبب محبة الله معرفته، فتقوى المحبة على قدر قوة المعرفة، وتضعف على قدر ضعف المعرفة، فإن الموجب للمحبة أحد أمرين أوكلاهما إذا اجتمعا، ولا شك أنهما في حق الله تعالى على غاية الكمال:

فالموجب الأول الحسن والجمال

 والآخر الإحسان والإجمال

فأما الجمال فهو محبوب بالطبع؛ فإن الإنسان بالضرورة يحب كل ما يستحسن، ولا جمال مثل جمال الله في حكمته البالغة وصنائعه البديعة، وصفاته الجميلة الساطعة الأنوار، التي تروق العقول وتهيج القلوب، وإنما يدرك جمال الله تعالى بالبصائر لا بالأبصار

وأما الإحسان فقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، وإحسان الله إلى عباده متواتر، وإنعامه عليهم باطن وظاهر، ﴿وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها﴾ [إبراهيم: 34] ، ويكفيك أنه يحسن إلى المطيع والعاصي، وإلى المؤمن والكافر، وكل إحسان ينسب إلى غيره فهو في الحقيقة منه، وهو المستحق للمحبة وحده.

واعلم أن محبة الله إذا تمكنت من القلب ظهرت آثارها على الجوارح من الجد في طاعته، والنشاط لخدمته، والحرص على مرضاته، والتلذذ بمناجاته، والرضا بقضائه، والشوق إلى لقائه، والأنس بذكره، والاستيحاش من غيره، والفرار من الناس، والانفراد في الخلوات، وخروج الدنيا من القلب، ومحبة كل من يحبه الله، وكل من يحب الله، وإيثار الله على كل من سواه، قال الحارث المحاسبي: «المحبة تسليمك إلى المحبوب بكليتك، ثم إيثارك له على نفسك وروحك، ثم موافقته سرا وجهرا، ثم علمك بتقصيرك في حبه».

التسهيل لعلوم التنزيل للإمام أبي القاسم بن جزي: 1/257..


([1]) منازل السائرين: 88، ن مدارج السالكين: 3/8، 42.

([2]) منازل السائرين: 88 ن مدارج السالكين: 3/11 وكذا مقاييس اللغة لابن فارس (حبب)

([3]) البخاري باب التواضع. ن مدارج السالكين: 3/18.

([4]) ن مدارج السالكين: 3/29.

([5]) صحيح مسلم رقم ح: 532.

([6]) منازل السائرين:89

([7]) منازل السائرين: 89.

د. عبد الهادي السلي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق