مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

الترجيح بالسياق عند أبي بكر بن العربي

لماذا استحوذ كتاب ابن العربي ” أحكام القرآن ” على توجهات المصنفين؛ ونال هذه السورة التي تذبذبت دون سمائها مؤلفات المفسرين، لم يكن ذلك بسبب التنظيم والتنقيح البالغين؛ فالعصر كله كان نموذجا لهذين المسلكين. وإنما الأمر يتعلق بالجاذبية الذاتية، وسمات التميز التي انتزعت للمؤلَّف ذلك المقام المكين.

ولئن كان هذا التفرد بارزا عند ابن العربي في الاستدلال عموما؛ فإنه يظهر جليا في عملية الترجيح؛ تلك العملية التي هي المعيار التي يصنف به الرجال حسب الترتيب الاستحقاقي في مدارج العلم، ويضرب به سور التمييز بين أهل الغوص الراسخين ؛ وأهل النقول الناسخين .

إن كل جوانب الترجيح عند ابن العربي متشابهة في ألوان الإبداع، مختلفة في نكهة الإمتاع،  إلا أن الأمر الذي يلفت الانتباه ـ حقا ـ في تلك الطرق الترجيحية هو السياق الذي يكثر الاهتمام به في ثنايا هذا الكتاب، فتارة يعنون به المصنف : ” المسألة الثانية: في فهم سياق الآية…” [1] وطورا يجعله شرطا في استيعاب المعنى:  ” وقد جهِل مساق الآية من ظن هذا ..” [2]،هذا إلى جانب استعمالاته المتنوعة؛ وللتمسك به قناعة علمية لا يكاد يتردد حينما يرجح بها.

وإذا كان الترجيح بالسياق معروفا عند المفسرين؛ فإن الملاحظ عند ابن العربي هو الحضور الفاعل لهذه الظاهرة ببعديها الأفقي المتمثل في كثافة الاستعمال؛ والعمودي المتمثل في عمق التطبيق.

1-ترجمة ابن العربي:

لم يكن طفرة أن يدور فلك ابن العربي خارج مداره الزمني في تفرد ملحوظ شهد عليه شاهد من عطائه؛ ووقَّع عليه الأفذاذ من نظرائه. وازداد رقم هذا التفوق حدة حينما قرر ابن العربي وأد بعض تسجيله لتجاوزه مقرر العصر؛ وأقدار جيله.

نعم قد يبدو هذا التميز – لبادي الرأي – استثناء من السيرورة الطبيعية للأحداث، غير أن المسح المقارب للأسباب الموضوعية وتسليط الأضواء على أطيافها؛ قد يخرج صورة مقاربة لأسباب هذا التميز ؛ ترفع التعارض الظاهر مع منطق التسلسل التاريخي.

ومن هذا المنطلق ؛ سأحاول تقديم الترجمة لنقف عند كبريات الروافد والمحطات التي زودت هذا الرحالة الطموح أثناء جوبه الدؤوب لآفاق المعرفة؛ دون أن أنسى تلك المحطات الثانوية التي يمر عليها الدارسون وهم عنها معرضون.

شيوخ ابن العربي ورحلاته:

نشأ القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله … المعافري المعروف بابن العربي[3] في بيئة علمية وارفة الظلال؛ ” فقد تأدب ببلده وقرأ القراءات “[4] وكان أبوه رئيسا؛ وزيرا؛ عالما؛ أديبا؛ شاعرا؛ ماهرا…” [5] وكانت الأندلس حافلة بجهابذة العلم ؛ لكن همته العالية قذفت به إلى أقاصي البلاد.

دخل الشام و لقي أبا بكر محمد بن الوليد الطرطوشي [6] وتفقه عنده[7]؛ وسمع بدمشق من الفقيه نصر بن إبراهيم المقدسي[8] وأبي الفضل بن الفرات [9]؛ وطائفة. وببيت المقدس من مكي بن عبد السلام الرميلي[10]

وذكر أبو القاسم بن عساكر أنه سمع بدمشق أيضا من أبي البركات بن طاووس ؛والشريف النسيب  [11].

ودخل بغداد وسمع بها من أبي الحسين المبارك بن عبد الجبار الصيرفي[12]  ومن الشريف أبي الفوارس طراد بن محمد الزينبي [13] ومن أبي بكر بن طرخان [14]وغيرهم كثير.

كما سمع من جماعة منهم أبو الخطاب بن البطر[15]وجعفر السراج [16].

كما تفقه بالإمام أبي حامد الغزالي[17] والفقيه أبي بكر الشاشي[18] والعلامة الأديب أبي زكريا التبريزي[19] وجماعة .

ولقي بمصر والاسكندرية جماعة من المحدثين فكتب عنهم واستفاد منهم وأفادهم. منهم القاضي أبو الحسين الخلعي[20].[21]

وفي الحجاز سمع من أبي علي الحسين بن علي الطبري[22] وغيره.

ولتقويم هذه الرحلة يقول صاحب الصلة: ” وقدم بلده إشبيلية بعلم كثير لم يدخله أحد قبله ممن كانت له رحلة إلى المشرق” [23].

ويقول الذهبي: “وأدخل الأندلس إسنادا عاليا وعلما جما”[24].

ويقول ابن العربي عن نفسه: ” وأفنيت عظيما من الزمان في طريقة الصوفية ولقيت رجالاتهم في تلك البلاد أجمعين؛ وما كنت أسمع بأحد يشار إليه بالأصابع إلا رحلت إليه قصيا؛ أو دخلت إليه قريبا”[25].

إن هذه المقالة وما قبلها تسلط الأضواء على تلك الكوكبة من الشيوخ الذين لم تذكرهم التراجم؛ وربما كان هؤلاء هم الجندي المجهول وراء فتوحات هذه الشخصية لقلاع المعارف العصية.

  • مجالسه ومطالعاته:

يحدثنا ابن العربي في قانون التأويل عن مفاوضاته مع الكرامية والمعتزلة والمشبهة[26] كما نقل فيه بعض المناظرات المذهبية التي كان يحضرها.[27]

ويصف لنا ثقافته الموسوعية في هذه الكلمة” فقرأت من كتب التفسير كثيرا؛ ووعيت من حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم- عيونا…ومن كتب المخالفين كثيرا ؛ ومن المسانيد جما غفيرا؛ وأكثر ما قرأت للمخالفين كتاب عبد الجبار الهمذاني الذي سماه المحيط ؛ وكتاب الرماني عشر مجلدات” [28].

  • تنوع عصره المذهبي:

ما ساد في عصره من مذاهب وتحديات؛ كان يتصدى لها بنفسه؛ منقحا للعلوم ؛ مهذبا للقواعد ليخوض غمار حروب لا يخف أوارها حتى يثور غبارها. ففي ظل هذا السباق نحو التسلح بالحجج؛ يمكن أن نفهم هذا الابتكار الجديد .

هذه ترجمة مختصرة لابن العربي؛ فيها محاولة لتسليط الأضواء على الإشارات التاريخية التي يؤدي تهميشها إلى حدوث ثغرات في بناء التصور العام عن المترجم له. وقد جعلتها جسرا للعبور إلى عملية الترجيح بالسياق عند ابن العربي؛ وقبل ولوج الموضوع لابد من تفكيك أجزائه للوصول إلى مفهومه التركيبي.

2-تعريف السياق وأهميته:

” سياق الكلام أسلوبه ومجراه ” [29]؛ و ” يدل السياق في اللغة على التتابع ؛ ويرتبط بالحديث والكلام ؛ فيدل على معنى السرد؛فمن ذلك قولهم: هو يسوق الحديث أحسن سياق، وفي المثل إليك يساق الحديث؛ وجئتك بالحديث على سوقه: على سرده”[30].

فالسياق- إذن- هو ذلك النظام الذي يربط وحدات الجملة أو الفقرة بعضها بالبعض في نسق معين؛ حيث يقع التنازل في المفردات والجمل عن صرامة الدلالة ونصيتها إلى المرونة التي يفرضها العرف الجمعي؛ أو يقتضيها الجو المكتنف للحدث والذي يؤدي إلى تغيير صورة الخطاب وانحناء خطه. ويستخدم هذا القانون كثيرا عند الأصوليين في أبواب متفرقة؛ وتكمن خطورته في تغييره لقسمات الدلالات؛ إذ يؤدي أحيانا إلى إلغاء اعتبار المفاهيم؛ أو النقص من فاعلية العموم أو تعميم الخاص؛ أو تخصيص العام.” وللتقيد بسياق الكلام في تفسير النصوص وتأويلها فائدة منهجية؛ لأن معنى العبارة يختلف باختلاف مجرى الكلام…”[31].

أما أهميته في التفسير فقد صرح العلماء بأنه لا غنى عنه للمفسر؛ وسيأتي كلام ابن جرير الطبري. وقد نبه الشاطبي إلى ضرورة ” الالتفات إلى أول الكلام وآخره بحسب القضية وما اقتضاه الحال فيها؛ لا ينظر في أولها دون آخرها” [32].وقال صاحب البحر المحيط: فدلالة السياق متفق عليها في مجاري كتاب الله تعالى”[33]؛ ويقول الزركشي: ” ليكن محط نظر المفسر مراعاة نظم الكلام الذي سيلقيه؛ وإن خالف الأصل اللغوي لثبوت التجوز…”[34]

هذه هي مكانة السياق، فما هي قيمته في الترجيح الذي يقوم على أساس من الموازنة وقوة الدلالة؟

3-أهمية الترجيح بالسياق:

للسياق دور هام في الترجيح بين المعاني المحتملة؛ يقول التلمساني عند ذكر القرائن المرجحة لأحد الاحتمالين: ” وهي إما لفظية أو سياقية وإما خارجية …”[35] ويقول الشوكاني: إن الأصوليين ” جعلوا دلالة قرينة السياق أقوى من قرينة السبب “[36]، وقد عد الزركشي دلالة السياق من الأمور التي تعين على فهم المعنى عند الإشكال”[37].

وقد قرر هذه القاعدة الكثير من المفسرين؛ نذكر منهم:

  • ابن عطية: يقول منتقدا من خالف هذه القاعدة :” وهذا تفسير من انتزع ألفاظ آخر الآية عما تقدمها؛ وارتبط بها من المعنى؛ وعما تأخر أيضا…”[38]؛
  • ابن جزي: ذكر في – مقدمته- أن من أوجه الترجيح أن يشهد بصحة القول سياق الكلام . وغيرهما كثير.

إن الترجبح بالسياق هو استثمار للتراكيب ينتج أنماطا من المعرفة؛ تزيد من كثافة المرجحات؛ وتحسن من نوعيتها.فالتواصل العميق بين وحدات النظم واستنطاقها يفتح أبواب عالم صاخب بالحركة والحوار من بين تضارب تيارات تلك الجمل المسوقة في مجرى واحد .

أما عن القيمة التاريخية لهذه العملية فتتمثل في كون الترجيح بصورة عامة يلقي الأضواء على السمات الذاتية للشخص من كفاءات وميول ..بواسطة المنظومة المعرفية التي يرجح بها؛ و كلما كانت وسائل الترجيح عميقة – كما في الترجيح بالسياق – فإن تحليل تلك الشبكة قد يعطي تصورا أوضح مما تعطيه التراجم والدراسات الخارجية المحكومة بالتسلط الصارم لجغرافية الأحداث والسرد التاريخي.

إن هذه القيمة المعرفية قد تغري ابن العربي بالانسياق وراء الترجيح بالسياق؛ ولكن أليست ثمة أسباب أخرى؟

4-أسباب اتساع الترجيح بالسياق عند ابن العربي:

 – تأثره بابن جرير تأثرا واضحا:

 حيث يقول عن كتابه في مقدمة ” أحكام القرآن ” : ” فجاء فيه بالعجب العجاب ونثر فيه لباب الألباب…”، وحينما يخطئ ابن جرير فإن مشاعر ابن العربي تهتز عند الضغط على زناد التقويم؛ فتأتي العبارة مزيجا يصعب الفصل فيه بين نبرة التقدير ونبرة التعريض: ” يا لها من هفوة عالم بالقرآن والسنة… واعجبا له مع تبحره في العلوم كيف بعد عليه صواب القول وحاد عن سداد النظر”[39].

ولقد كان ابن جرير كثير الاهتمام بقضية السياق، وقد رجح في قوله تعالى ” وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء” أن المخاطب المشركون؛ قال: وذلك أن ذلك في سياق الخبر عنهم أولا؛ فأن يكون ذلك أيضا خبرا عنهم أشبه من أن يكون خبرا عن اليهود” [40].

ويقول في موطن آخر:” توجيه الكلام إلى ما كان نظيرا لما في سياق الآية أولى من توجيهه إلى ما كان منعدلا عنه”[41].

– الخلفية الأصولية لابن العربي:

سبق أن أشرنا إلى أهمية السياق عند الأصوليين؛ أما مكانة ابن العربي في الأصول فإنها تطالع كل باحث في كتبه؛ فكم نقح فيها من قاعدة؛ ونحت فيها من مصطلح!

– الظرفية الزمنية: التي احتدم فيها الصراع على مستوى المذاهب والاتجاهات؛ فقد عقدت المجالس العلمية والمناظرات التي كان يعرض فيها الرأي والرأي الآخر؛ أمام جمهور من النقاد يميزون الصحيح من السقيم.

وقد نقل ابن العربي نموذجا من تلك المناظرات – في كتابه – يظهر فيه اهتمام المتناظرين بالترجيح بالسياق؛ أعرض منه هذه الفقرة التي ذكر فيها مناظرة بين فقيه من الحنفية يدعى الزوزني؛ وبين عطاء المقدسي؛ فقد سئل الأول عن قتل المسلم بالكافر فاستدل على القصاص بعموم: ” ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى”، فقال عطاء المقدسي: ” ما استدل به الشيخ الإمام لا حجة له فيه من ثلاثة أوجه:

أحدها أن الله سبحانه قال: ” كتب عليكم القصاص” ؛ فشرط المساواة في المجازاة؛ ولا مساواة بين المسلم والكافر؛

الثاني: أن الله سبحانه ربط آخر الآية بأولها ؛ وجعل بيانها عند تمامها فقال: ” كتب عليكم القصاص في القتلى؛ الحر بالحر والعبد بالعبد”…فإذا نقص العبد عن الحر بالرق؛ وهو من آثار الكفر؛ فأحرى وأولى أن ينقص عنه الكافر..

الثالث: أن الله سبحانه وتعالى قال: ” فمن عفي له من أخيه شيء ” ولا مؤاخاة بين المسلم والكافر؛ فدل على عدم دخوله في هذا الأمر..

وجرت في ذلك مناظرة عظيمة حصلنا منها فوائد جمة”[42].

– التدبر الذاتي للقرآن: الذي يتناسب مع الغوص في أعماق السياق؛ فقد نقل لنا ابن العربي معاناته في تأمله للآيات بعبارة بليغة: ” وهذه الآية معضلة ولا يتخلص منها إلا بجريعة الذقن مع الغصص بها برهة من الدهر”[43]. ولقد وجد ابن العربي في هذا التملي لجواهر القرآن ما يغذي اعتزازه بنفسه: ” لم تزل هذه الآية مخبوءة تحت أستار المعرفة حتى هتكها الله عزوجل بفضله لنا…”[44].والجدير بالذكر – هنا – أن الآية التي يقصدها؛ هي التي جعلها الأصوليون أصلا في أن الأصل في الأشياء الإباحة؛ وقد رد عليهم ابن العربي بالسياق كما سنرى . ويقول في موطن آخر : ” هذه الآية بكر لم يبلغني عن أحد فيها ذكر” [45].

هذه الأسباب مجتمعة سيكون لها دور – دون شك – في رسم ملامح الترجيح بالسياق .

5-ملامح الترجيح بالسياق:

إن قراءة ابن العربي للسياق وترجيحه به لا تقف عند مجرد فهم للكلمة في إطارها العام؛ بل تتجاوز ذلك إلى قراءة ثانية بآليات قوية يوظف فيها معرفته الموسوعية التي يفوح منها أريج التحقيق.

وتقسيم هذه الملامح من خلال النماذج إنما هو تقسيم إجرائي؛ وإلا فإنها تتداخل في النموذج الواحد تداخلا يأبى التوزع والانشطار:

يجعل ابن العربي السياق حدا مانعا؛ فهو يبعد المعنى الجامع للكلمة ليتعين معناها الآني بواسطة السياق؛ فالإطار الدلالي للكلمة محكوم بحدود ما قبله وما بعده- يقول ابن العربي: ”  المسألة الأولى ؛ قوله ( في البر والبحر) في تفسيره قولان: أحدهما هو الأرض اليابسة؛ والبحر هو الماء.

الثاني: أن البر الفيافي؛ والبحر الأمصار؛ وإنما يكون تفسير كل واحد منهما بحسب ما يرتبط به من قول مقدم له أو بعده؛ كقوله ههنا أن المراد غمرة الماء؛ وقرينتها المبينة؛ ” حتى إذا كنتم في الفلك…”[46].

اختبار قول المخالف في إطار السياق: لإبراز تهافته؛ وهو هنا يسلك طريقة فنية لاختبار الوجه المتناسب مع الهندسة البنائية للنظم حيث يجعل السياق مختبرا لتجريب المعاني المتعددة.

والاختلاف إما أن يكون في المفرد أو المركب:

المفرد: وفيه يلجأ إلى حصر المعاني المعجمية للكلمة؛ ثم يجُس كل نغمة من الدلالات المتنوعة بحس مرهف ليرى مدى تناغمها مع الإيقاع العام للجملة، مثال ذلك قوله في الآية” وقوموا لله قانتين” بعد أن ذكر كل معاني القنوت: ” وهذه المعاني كلها يصح أن يكون جميعها مرادا لأنه لا تنافر فيه إلا القيام فإنه يبعد أن يكون معنى الآية: وقوموا لله قائمين “[47].

ويقول عند الآية: ” ذلك أدنى ألا تعولوا” : ( اختلف الناس في تأويله على ثلاثة أقوال؛ الأول: ألا يكثر عيالكم؛ قاله الشافعي، الثاني: ألا تضلوا؛ قاله مجاهد، الثالث: ألا تميلوا؛ قاله ابن عباس والناس. والذي يكشف لك ذلك في هذه المسألة البحث عن معاني عال لغة؛ حتى إذا عرفته ركَّبتَ عليه معنى الآية ” ثم ذكر معانيه السبعة ورجح معنى الميل؛ واستبعد حمله على كثرة العيال، حيث قال: ” فأما كثرة العيال فلا يصح أن يقال: ذلك أقرب إلى ألا يكثر عيالكم”[48].

المركب: وبما أن المركب لا يرجع فيه إلى المعاجم؛ فإن السياق يصبح هو المعجم المعتمد.

يقول ابن العربي: عند قوله تعالى: “فمن تطوع خيرا فهو خير له” ؛ فيه قولان: أحدهما: من زاد على طعام مسكين ..وقيل من صام ، وهذا ضعيف لقوله تعالى بعد ذلك: ” وأن تصوموا خير لكم” . والملاحظ في كل ما تقدم أن ابن العربي لا يكتفي بالرد الإجمالي على المخالف؛ وإنما يعرض قول الخصم تنصيصا؛ فتسمع في أوتار هذا العرض نغمة التندر والسخرية؛ وصخب المناظرة؛ وصلف القهر والتبكيت.

-استخدام ابن العربي القواعد البلاغية: انطلاقا من قناعة تامة بأن القرآن الكريم في أعلى مستويات البلاغة؛ وقد اخترت هنا نموذجين:

أحدهما: اعتمد فيه على الضمائر التي تسبك السياق وتخيطه؛ مثال ذلك قوله عند الآية” وآتوا النساء صدقاتهن نحلة..”: ( المسألة الأولى: من المخاطب بالإيتاء؟ وقد اختلف الناس في ذلك على قولين: أحدهما أن المراد بذلك الأزواج، والثاني: أن المراد به الأولياء..واتفق الناس على الأول وهو الصحيح؛ لأن الضمائر واحدة؛ وهي فيما تقدم بجملته الأزواج فهو المراد هنا؛ لأنه تعالى قال:  ” وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى…وآتوا النساء صدقاتهن ..”فوجب تناسق الضمائر وأن يكون الأول هو الآخر فيها أو منها”.[49]

والثاني: انطلق فيه من ضرورة سلامة النظم من الركة والإسفاف:

يقول ابن العربي عند قوله تعالى: “فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع” (وقد توهم قوم من الجهال أن هذه الآية تبيح للرجل تسع نسوة ..) ثم بين أن مقصود الكلام ونظام المعنى هو نقل العاجز عن هذه الرتب إلى منتهى قدرته وهي الواحدة..) ، ثم قال: ( ولو كان المراد تسع نسوة لكان تقدير الكلام فانكحوا تسع نسوة ؛فإن لم تعدلوا فواحدة؛ وهذا من ركيك البيان الذي لا يليق بالقرآن)[50].

الرصيد الأصولي؛ وحضور ثقافة عصر التنزل:

مثاله ما قاله عند الآية ( ولا تقربا هذه الشجرة) في سياق رده على الذين قالوا إن آدم عليه السلام حمل النهي على التنزيه ( فقد سقط ذلك ههنا لقوله تعالى:” فتكونا من الظالمين”؛ فقرن النهي بالوعيد ، ولا خلاف مع ذلك فيه..)[51]، [ يقصد أن النهي إذا اقترن بالوعيد لم يجز حمله على التنزيه].

وقال عند قوله تعالى: ” ولا تنكحوا ما نكح آباءكم ” يعني النكاح الفاسد المخالف لدين الله؛ قال: ” والمعنى الصحيح؛ ولا تنكحوا نساء آبائكم؛ ولا تكون ما هنا بمعنى المصدر لاتصالها بالفعل؛ وإنما هي بمعنى الذي وبمعنى من، والدليل عليه أمران: [فذكر الأول] ثم قال : والثاني:أن قوله ( إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا) تعقبَ النهي بالذم البالغ المتتابع؛ وهذا دليل على أنه انتهاء من القبح في الغاية؛ وذلك هو خَلْفُ الأبناء على حلائل الآباء؛ إذ كانوا في الجاهلية يستقبحونه ويسمونه المقتي؛ نسبوه إلى المقت”[52].

-النظرة الشمولية للآيات: وتصور قضاياها وتنزلاتها في الواقع في عملية تحليل للمعاني واهتمام بمرجعية الضمير في لفتة بلاغية مرهفة؛ ترصد كل تغير في الخطاب؛ وقلق في النظم.

كما يظهر في هذه العملية التنقيحية أثر السبر والتقسيم بمفهومه العام؛ وحضور جزئيات الثقافة الفقهية، يقول ابن العربي عند قوله تعالى” أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح” :

( والذي تحقق عندي بعد البحث والسبر أن الأظهر هو الولي لثلاثة أوجه:

أحدها : أن الله تعالى قال في أول الآية ” وإن طلقتموهن…” إلى قوله تعالى: ” وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم ” فذكر الأزواج وخاطبهم بهذا الخطاب؛ ثم قال ” إلا أن يعفون ” فذكر النسوان…” أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح” فهذا ثالث؛ فلا يرد إلى الزوج المتقدم إلا لو لم يكن لغيره وجود؛ وقد وجد وهو الولي؛ فلا يجوز بعد هذا إسقاط التقدير بجعل الثلاث اثنين من غير ضرورة.

الثاني: أن الله تعالى قال: ” أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح” ولا إشكال في أن الزوج بيده عقدة النكاح لنفسه؛ والولي بيده عقدة النكاح لوليته…وقد ثبت بهذا أن الولي بيده عقدة النكاح؛ فهو المراد لأن الزوجين يتراضيان فلا ينعقد لهما أمر إلا بالولي؛ بخلاف سائر العقود فإن المتعاقدين يستقلان بعقدهما.

الثالث: أن ما قلناه أنظم في الكلام؛ وأقرب إلى المرام؛ لأن الله تعالى قال: ” إلا أن يعفون” ومعلوم أنه ليس كل امرأة تعفو؛ فإن الصغيرة أو المحجورة لا عفو لها؛ فبين الله تعالى القسمين وقال: إلا أن يعفون إن كن لذلك أهلا؛ أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح؛ لأن الأمر فيه إليه”[53].

هذه محاولة لرسم خارطة السياق عند ابن العربي؛ حاولت فيها أن أحدد مواقع علوم الآلة التي يستخدمها في استثمار هذا الحقل المعرفي.

ومع أنه أبدع في هذه العملية أيما إبداع؛ فإن ذلك لم يمنع من وقوع مبالغة ـ أحيانا ـ في التمسك بحدود السياق تمسكا حجر سعة أفق ابن العربي الذي درج على حمل النصوص على أكمل الدلالات وأعم الوجوه.

يقول ابن العربي معلقا على الآية ” هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا “: ( وقد تعلق كثير من الناس بها في أن أصل الأشياء الإباحة..ولكن ليس لهذه الآية في الإباحة ودليلها مدخل.. وتحقيق ذلك أن الله تعالى إنما ذكر هذه الآية في معرض الدلالة والتنبيه على طريق العلم والقدرة؛ وتصريف المخلوقات بمقتضى التقدير والإتقان والعلم…”[54].

وما ذهب إليه ابن العربي هنا يعترض عليه من وجهين:

أحدهما أن الأصوليين قد أخذوا الإباحة من سياق الامتنان؛ وهو لا يتنافى مع سياق التنبيه على القدرة؛ بل هما معا توأمان؛ أحدهما يخاطب العقل والآخر يخاطب الوجدان؛ كما قال تعالى: “والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد” ؛

والثاني: أنه لا يتماشى مع العرف الاستنباطي لدى الفقهاء؛ ذلك العرف الذي لا تأسره المظلة الواحدة للموضوع عن استشراف آفاق أخرى؛ فقد كانوا يستنبطون الأحكام الفقهية من الآيات الواردة في سياق بيان العقيدة؛ ومعرض الحديث عن اليوم الآخر.

وفي ختام هذه الإطلالة يظهر لنا أن عملية الترجيح بالسياق عند ابن العربي ليست مجرد تأمل لتفهم الكلمة في نسقها الذي وردت فيه؛ بقدر ما هي صناعة معقدة يوظف فيها حشدا هائلا من المعارف للكشف عن المستوى السامق للسياق القرآني؛ وحراسته من التوجهات المغرضة؛ والفهوم الضحلة.

ومن خلال هذه العملية تتضح للمتوسمين بعض خيوط نسيج الترجمة الداخلية للمصنف، ولعل دراسة جوانب أخرى في هذا المضمار، تسعفنا في ملأ فراغات أخرى ربما أسهمت في التعرف على سر النبوغ و التميز لشخص ابن العربي رحمه الله رحمة واسعة.

(أصل هذه الدراسة مقال منشور بمجلة الغنية العدد المزدوج 6/5)

 ******************************************

أهم المصادر والمراجع:

-أحكام القرآن  لابن العربي  تحقيق علي محمد البجاوي؛ دار المعرفة بيروت؛

– قانون التأويل لابن العربي ؛ دراسة وتحقيق محمد السليمان؛

-الغنية للقاضي عياض؛

-الصلة  لابن بشكوال: أبي القاسم خلف بن عبد الملك؛ الدار المصرية للتأليف والترجمة؛

-وفيات الأعيان ؛ لابن خلكان؛ ت. إحسان عباس؛

-سير أعلام النبلاء؛ للذهبي ؛ حققه: شعيب الأرناؤوط؛ مؤسسة الرسالة؛

-تفسير ابن جرير الطبري؛

-المحرر الوجيز لابن عطية ؛ طبعة وزارة الأوقاف؛

-التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي الغرناطي؛

-البرهان للزركشي؛ط 2 عيسى البابي الحلبي؛

-البحر المحيط للزركشي ؛

-مفتاح الوصول للتلمساني؛ت عبد الوهاب عبد اللطيف؛ دار الكتب العلمية؛

-إرشاد الفحول للشوكاني؛

-المعجم الفلسفي ؛ جميل صليبا؛ الشركة العالمية للكتاب ؛1994.

-الموافقات في أصول الشريعة للشاطبي؛ دار الكتب العلمية تحقيق دراز؛

– أساس البلاغة للزمخشري.

الهوامش:


[1]ـ أحكام القرآن لابن العربي 1/369.

[2]ـ المصدر نفسه: 1/391.

[3] ـ الذهبي؛ سير أعلام النبلاء؛المجلد 20؛ترجمة:128.

[4] ـ القاضي عياض؛ الغنية ؛ص:66.

[5] ـ سير أعلام النبلاء؛مجلد20؛ ترجمة:128.

[6]ـ الإمام العلامة شيخ المالكية؛ أبو بكر محمد بن الوليد الأندلسي ت :520هـ ؛ سير أعلام النبلاء؛ مجلد 19 ؛ ترجمة 285.

[7] ـ ابن بشكوال؛ الصلة؛ مجلد2؛ ج/9؛ رقم:1297.

[8] ـ هو الشيخ الإمام العلامة القدوة المحدث أبو الفتح الفقيه الشافعي(ت490هـ) ؛ السير م/19؛ ترجمة 72.

[9]ـ أحمد بن علي (ت494هـ)؛ الذهبي ؛ السير م/19؛ترجمة66.

[10] ـ الإمام الحافظ العلامة الشهير ؛ أبو القاسم ( ت492هـ )؛ انظر المصدر السابق.

[11] ـ الشيخ الإمام المحدث نسيب الدولة ؛ أبو القاسم (ت 508هـ) ؛ السير م/19ترجمة 212.

[12] ـ الشيخ الإمام المحدث العالم ( ت500هـ ؛ الذهبي؛ السيرم/19 ترجمة 132.

[13] ـ مسند العراق؛ (ت 491هـ)؛ المصدر السابق.

[14] ـ محمد بن طرخان المحدث المتقن النحوي.(ت513هـ ) السير : م/19 ترجمة 245.

[15]ـ الشيخ المقرئ مسند العراق  نصر بن أحمد ( ت494هـ)؛ السير:م/19 ترجمة29.

[16]ـ الشيخ الإمام؛ البارع؛ المحدث المسند؛ بقيةالمشايخ؛ أبو محمد جعفر بن أحمد ؛ (ت 500هـ)؛ السير: م/19؛ ترجمة 1414.

[17] ـ ذكره صاحب الصلة باسم: أبي حامد الطوسي ؛ الصلة؛ مرجع سابق.

[18]ـ القفال الشاشي محمد بن علي؛ لم يكن بما وراء النهر للشافعيين مثله في وقته؛ (ت536هـ)؛ابن خلكان: وفيات الأعيان؛م/4 ص575.

[19]ـ إمام اللغة يحيى بن علي بن محمد ؛ (ت 502هـ)؛ السير:م/19 ترجمة 170.

[20]ـ هو الشيخ الإمام الفقيه القدوة ؛ مسند الديار المصرية القاضي أبو الحسين علي بن الحسن الشافعي (ت 492هـ)؛ السير:م/19؛ ترجمة 42.

[21]ـ الذهبي؛ سير أعلام النيلاء؛م/20؛ ترجمة 128.

[22]ـ الإمام؛ مفتي مكة ومحدثها ؛ أبو عبد الله ؛ الحسين بن علي الشافعي (ت 498هـ)؛ السيرم/19؛ ترجمة 123.

[23]ـ ابن بشكوال؛ الصلة: م/2؛رقم/1297.

[24]ـ السير؛ مصدر سابق.

[25]ـ قانون التأويل؛ص:119-120.

[26]ـ ابن العربي؛ قانون التأويل: 95.

[27]ـ  قانون التأويل ؛ ص:102.

[28]ـ قانون التأويل ص: 118.

[29]ـ صليبا جميل؛ المعجم الفلسفي؛1/681.

[30]ـ  الزمخشري؛ أساس البلاغة ؛مادة س و ق.

[31]-صليبا ؛ المعجم الفلسفي؛1/681.

[32]ـ الشاطبي؛ الموافقات 3/249.

[33] ـ الرازي؛ البحر المحيط في أصول الفقه؛6/52.

[34]ـ الزركشي؛ البرهان1/361.

[35]ـ الشريف التلمساني؛ مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول؛ ص 50.

[36]ـ الشوكاني؛ إرشاد الفحول ؛ص162.

[37]ـ البرهان ؛2/200.

[38]ـ المحررالوجيز؛ 5/214.

[39]ـ  ابن العربي؛ أحكام القرآن ؛ 1/418.

[40]ـ الطبري؛ جامع البيان؛6/268.

[41]ـ جامع البيان؛6/91.

[42]ـ أحكام القرآن:1/63.

[43]– أحكام القرآن؛1/202.

[44]ـ أحكام القرآن؛1/13.

[45]ـ أحكام القرآم؛1/498.

[46]ـ عند تفسيره للآية22 من سورة يونس.

[47]ـ أحكام القرآن لابن العربي1/206.

[48] ـ أحكام القرآن؛1/314.

[49]ـ أحكام القرآن؛1/316.

[50]ـ أحكام القرآن؛ 1/313.

[51]ـ أحكام القرآن؛1/19.

[52]ـ أحكام القرآن؛ 1/368.

[53]ـ أحكام القرآن؛1/221.

[54] ـ أحكام القرآن؛ 1/13.

 

ذ. خالد البورقادي

خريج دار الحديث الحسنية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق