وحدة الإحياءدراسات عامة

التربية على القيم في المنظومة الإسلامية.. المقاصد والآليات

تقترح الدراسة التالية للنقاش مجموعة من الأفكار تتعلق بالتربية على القيم بشكل عام وبالتربية على القيم في إطار المنظومة الإسلامية بشكل خاص. نمهد لها بملحوظتين:

1. ملحوظة حول عبارة “التربية على القيم”

كل تربية هي، أو ينبغي أن تكون، في منطلقاتها وفي غاياتها – مؤسسة على القيم، فَلِمَ إضافة عبارة “على القيم؟” ليس المراد من إثارة السؤال التشكيك في صحة العبارة، فاستعمال هذه العبارة يدخل في دائرة الاصطلاح وهو بهذا الاعتبار استعمال مقبول بناء على المقولة المشهورة “لا مشاحة في الاصطلاح”. ومع ذلك، من المفيد الوقوف عند دلالة استعمال هذه العبارة. يبدو أن استعمالها جاء على غرار استعمال عبارات مماثلة أصبحت متداولة من قبيل التربية على المواطنة والتربية على حقوق الإنسان…”، قد تكون عبارة تقوم مقام عبارة شبيهة تتضمن لفظ التربية متبوعا بنعت يصفها ويخصصها مثل التربية الموسيقية والتربية الخلقية…

والظاهر أن العبارتين معا تفيدان وجود خلل ما في المجال المشار إليه بسبب إهمال الناس له أو نقص في سلوكياتهم المتعلقة به أو نحو ذلك. ومن هنا يمكن القول إن عبارة “التربية على القيم” تشير إلى وجود مشكل في حياة الناس بسبب التفريط في القيم.

2. ملحوظة حول التربية على القيم والحاجة إليها

ليس خاف على أحد أن البشرية تواجه في الظرفية الحالية أزمة حضارية عميقة متعددة الأوجه والأبعاد؛ هذا أمر لا خلاف فيه، إنما الخلاف في تفسيره، ومن بين التفسيرات الشائعة ذلك التفسير الذي يربط بين هذه الأزمة وبين ما يعرف بانهيار القيم، ومن المعلوم أن العديد من التيارات الفكرية ظلت تمانع في قبول هذا الربط…

وليس خاف أيضا أننا نشهد، في الآونة الأخيرة، العديد من المؤشرات التي توحي بأن هناك ما يشبه الصحوة الأخلاقية. ومن بين تلك المؤشرات الدعوات المتكررة من قبل الأشخاص والمنظمات والهيئات الحكومية وغير الحكومية إلى التخليق وإلى إعادة الاعتبار للقيم. المثير للانتباه، بل الاستغراب، أن تصدر هذه الدعوات عن جهات كانت إلى عهد قريب تعتبر الأخلاق عزاء للضعفاء أو أداة في أيدي الطغاة والمستغلين لتبرير ظلمهم واستغلالهم…

إننا نميل إلى الاعتقاد بأن تلك الدعوات تعبير جماعي (عالمي) عن الشعور بالأزمة الناجمة عما أصبح يعرف بانهيار القيم وتعبير عن رغبة جماعية في التصدي لهذه الأزمة ولمخلفاتها على حياة الأفراد والمجتمعات. وفي هذا الإطار يندرج ما نشهده من محاولات تروم تخليق الأفراد وتخليق المجتمعات والنظم والمؤسسات المكونة لها وتجنيد المؤسسات المكلفة بالتنشئة الاجتماعية وضمنها وسائط وقنوات الإعلام ومؤسسات التربية والتعليم للنهوض بتلك المهمة.

وفي هذا الإطار تندرج العناية الخاصة التي تحظى بها المدرسة، والجهود الرامية إلى جعل المناهج الدراسية ترتقي من مستوى تلقين المعارف والمعلومات والتدريب على المهارات إلى مستوى العناية ببناء المواقف والاتجاهات والسلوكيات في مجالات الحياة المختلفة وذلك استنادا إلى منظومة من المعايير والقيم.

هذه المعطيات، إن صحت و صح ما بني عليها، تفرض علينا نحن المسلمين، أن نستجيب لنداء “الضمير العالمي” الداعي إلى إعادة الاعتبار للأخلاق وننخرط بشكل إيجابي في سيرورة التخليق ونسهم بشكل فعال في التربية على القيم.

من هذا المنطلق نتساءل: كيف ينبغي لنا نحن المسلمين أن نتعامل مع أزمة القيم تفسيرا ومعالجة؟ كيف يمكن لنا أن تتعامل مع الجهات التي تدعو إلى إعادة الاعتبار للقيم؟ كيف ينبغي لنا أن ننخرط ونسهم في التربية على القيم؟

لتحليل هذا السؤال والمساهمة في تجميع بعض عناصر الإجابة عنه تقترح هذه الورقة القضايا التالية:

ـ القضية الأولى: مفادها ألا تربية بدون مرجعية ثقافية وحضارية، ويترتب عنها أن انخراط المسلمين في سيرورة التخليق لا يمكن أن يكون إلا من داخل المنظومة الثقافية الحضارية الإسلامية.

ـ القضية الثانية: مفادها ألا تربية خارج التاريخ/الظرفية التاريخية، ويترتب عنها أن انخراط المسلمين في سيرورة التخليق لابد أن ينطلق من؛ يراعي خصوصيات الظرفية التاريخية بشكل عام ووضع الإسلام والمسلمين في ظل هذه الظرفية بشكل خاص.

ـ القضية الثالثة: مفادها أن تأسيس نموذج تربوي أخلاقي إسلامي فاعل حي لا يمكن أن يتم إلا في إطار المنظور الشمولي للدين.

ـ القضية الرابعة: مفادها أننا أمة لها تاريخ و لها تراث ومن غير المعقول ألا نستفيد مما أنتجه أسلافنا في مجال الأخلاق تنظيرا وممارسة.

وتندرج تحت كل قضية من هذه القضايا أفكار وقضايا فرعية نعرضها مختصرة على النحو التالي:

أولا: بالنسبة للقضية الأولى: لا تربية على القيم بدون مرجعية ثقافية

التربية على القيم تربية ومعناها لا يخرج عن معنى التربية والمفاهيم المرتبطة بها: التأديب والتهذيب والتنشئة… ومعنى التربية، وإن اختلف الفلاسفة والمربون في التعبير عنه، فهو لا يخرج عن المقصدين المتضمنين في معنى الكلمة اللاتينية ex-ducere التي منها اشتقت كلمةéducation الفرنسية أولهما… vers guiderتوجيه الفرد نحو… وثانيهما… conduire hors إخراج الفرد من…

من هذا المنطلق ومن هذا التعريف البسيط نستنتج مجموعة من الأفكار/الاستنتاجات:

ـ الاستنتاج الأول؛ مفاده ألا تربية على القيم بدون مرب

وبيان ذلك أن التربية فعل ولكل فعل فاعل. وفعل التربية فعل يقوم به طرف على طرف أو لفائدة طرف. وهنا لا بأس من التساؤل عن إمكانية التربية الذاتية: هل بإمكان الإنسان أن يقوم بتربية نفسه بنفسه؟ مما يبرر هذا التساؤل أننا عندما نفكر في الطرف المقصود بفعل التربية غالبا ما ينصرف الذهن إلى النشء، إلى الصغار، لكن الأمر في الحقيقة غير ذلك، خصوصا عندما يتعلق بالتربية على القيم التي يحتاج إليها كل الناس مهما بلغوا من العمر والجاه والغنى والسلطان، والتي قد لا يفيد فيها العلم ولا تكفي فيها المجاهدات الشخصية. لذا نرى أن التربية الذاتية ضرب ومن المحال لا مناص من التسليم بأنه لا قيم بدون تربية ولا تربية على القيم بدون مرب.

ـ الاستنتاج الثاني؛ مفاده أنه لا تربية على القيم بدون مقاصد واضحة

وهنا لابد من فتح قوس لنطرح سؤالا مشكلا: هل القيم غايات تطلب لذاتها، أم هي وسيلة لتحقيق غايات أسمى؟ ليس من السهل الحسم في هذه المسألة ومع ذلك نرى من الضروري أن نراعي عند تعاملنا معها البعد الوظيفي للقيم الذي يبدو واضحا إذا أخذنا بعين الاعتبار علاقة القيم بمشروع الحياة بالنسبة للفرد وعلاقتها بالمشرع المجتمعي بالنسبة للجماعة.

من هذا المنطلق نتناول مقاصد التربية على القيم ونقول إن التربية فعل هادف وكما هو واضح في العبارتين: توجيه الفرد نحو… وإخراج الفرد من… فالتربية تقوم أساسا على ثنائية الإيجاب والسلب (التوجيه والإخراج).

ومن هنا ينبغي أن نقرر أن التربية على القيم تتطلب تحديد المقاصد الإيجابية والكمالات التي ينبغي أن يوجه نحوها النشء وكذلك تحديد الحالات والأوضاع السلبية التي ينبغي أن يخرج منها. وغني عن البيان أن ثنائية الإيجاب والسلب ثنائية التوجيه والإخراج تحيل على ثنائية أخرى تتعلق بطبيعة الإنسان: ثنائية الفطرة الطيبة (قابلية الترقي والاستعداد لفعل الخير والتحقق بالكمالات) في مقابل الخصائص والصفات غير الطيبة كالغرائز وغيرها التي قد توقعه في الشر وتمنعه من التحقق بالكمالات.

ـ الاستنتاج الثالث؛ وهو أن التربية باعتبارها فعلا هادفا لابد لها من آليات ووسائل

فكما هو معلم فالاكتمال الخلقي (أو التحقق بالقيم) ليس طبيعيا في الإنسان، لا يتم بصورة تلقائية، ولهذا لم تترك جماعة بشرية أبناءها سدى، ولم يخل مجتمع من نظم ومؤسسات تناط بها مهمة التربية. وإذا كان الأمر كذلك صح القول بألا قيم بدون تربية على القيم وبدون منهاج تربوي، نذكر بهذا الأمر الذي هو من البداهة بمكان لنتذكر أن منظومة القيم التي ينشدها الإسلام ويحث عليها، والتي لا يشك مسلم في أهميتها وفي سمو مقاصدها، لا يمكن تقديمها للعالم والدفاع عنها بالانتصار لها وبيان فضلها بالمقال بل يجب أن يكون بالحال.

 أي بتمثلها وتطبيقها، كما يجب أن ندرك أن منظومة القيم الإسلامية لا يمكن أن تتحقق على أرض الواقع ما لم توضع لذلك الآليات العملية المناسبة. فحرصنا على قيمنا وعلى المقاصد المرتبطة بها يفرض علينا حرصا مماثلا على الوسائل والآليات الضرورية لتفعيلها؛ “إذ لولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط”… وغني عن البيان أن الوسائل والآليات ينبغي أن تكون متكاملة فيما بينها ومتناسبة مع المقاصد من جهة ومع الفرد المراد تربيته من حيث استعداداته وظروفه الذاتية والموضوعية من جهة ثانية.

هذه الاستنتاجات الثلاثة تقودنا إلى طرح السؤال التالي: على أي أساس يتم تحديد الطرف أو الأطراف التي تتولى عملية التربية وتحديد المقاصد المستهدفة من ورائها وتحديد الآليات والوسائل اللازمة والمناسبة لها؟

وهنا لا مفر من طرح السؤال – المشكل التالي: هل القيم قائمة بذاتها، أم أنها في حاجة إلى مرجعية؟

إن القيم كمالات عامة وهي لذلك في حاجة إلى مرجعية تحدد في إطار ماهيتها ودلالاتها وأبعادها ومقتضياتها…

والقيم مترابطة ولابد من نسق فكري يوجه ترتيبها وانتظامها وضبط العلاقات القائمة فيما بينها..

والقيم مثالية (مفارقة للواقع بل مناقضة له) وهي لذلك في حاجة إلى مرجعية تحدد صلتها بالواقع، وتوجه أشكال وصيغ التوفيق بين مقتضياتها وبين إمكانات وإكراهات الواقع..

والقيم مجردة تتطلب مرجعية يتم في إطارها تحديد المنهج المناسب لإعداد الناس للتحقق بها والانسجام معها. إن القيم لا تكتسب قوتها وقدرتها على توجيه وتأطير سلوكيات من يتبناها ويسعى للتحقق بها إلا عندما تنتظم لتكون ما يعرف بمنظومة القيم. ومنظومة القيم بدورها لا يمكن أن تنشأ من فراغ، بل لابد أن تكون مؤسسة وموجهة بمرجعية ثقافية حضارية.

وهنا أقف عند مسألة دقيقة، مسألة القيم بين العموم والخصوص. وعندما تطرح مسألة العموم والخصوص لابد أن تطرح المسألة الموازية لها والتي هي، في حقيقة الأمر، وجهها الثاني وهي مسألة الإطلاق والنسبية؛ هل منظومة القيم عامة (أو هل ينبغي لها أن تكون كذلك) والوجه الثاني للمسألة؛ هل منظومة القيم مطلقة (أو هل ينبغي أن تكون مطلقة؟) هذه المسألة تجرنا لطرح مسألة أخرى أكثر دقة؛ مسألة العلاقة بين القيم والعقائد والأفكار: هل القيم مؤسسة على العقائد والأفكار، أم أنها تسمو وتتعالى عليها؟ هذا السؤال يحيل على سؤال آخر: هل القيم مرتبطة بالهويات الدينية والثقافية أم مستقلة عنها؟

إننا نميل إلى الاعتقاد بأن القيم مهما كانت عامة ومهما كانت مطلقة (نظريا) فإن التحقق بها عمليا لا يمكن أن يكون إلا في إطار خاص وفي إطار نسبي: في إطار المرجعية الثقافية للمجموعة البشرية المراد تربيتها وفي حدود الإمكانات الذاتية والموضوعية المتاحة في الزمان المكان للفرد والمجتمع.

على هذا الأساس نرى أن عملية التخليق والتربية على القيم لا يمكن أن تتم إلا في إطار مرجعية ثقافية، وأنها بالنسبة لنا نحن المسلمين ينبغي أن تكون في مقاصدها وآلياتها نابعة من خصوصيات المنظومة الإسلامية.

ثانيا: بالنسبة القضية الثانية: ومفادها ألا تربية خارج التاريخ

إضافة إلى الاستنتاجات التي استنتجناها ونحن بصدد تحليل القضية الأولى ينبغي التذكير بأن التربية فعل يحدث في سياق التاريخ. ما يهمنا في فكرة التاريخ في هذا السياق أمران:

الأمر الأول: ويتعلق بالحركة: تغير وتطور الأحوال والمآلات والعوامل المحركة والموجهة له والمشاريع الغايات المقصودة من ورائه…

الأمر الثاني: ويتعلق بالتفاعل والتدافع بين البشر بين الأفراد فيما بينهم، ثم بين الفرد والجماعة بنظمها ومؤسساتها، ثم بين مكونات المجتمع الواحد، وأخيرا بين المجموعات البشرية: الفئات المجتمعات والشعوب والأمم…

الحركة والتفاعل في إطار التاريخ يمكن تصورهما داخل ثلاثة دوائر: التاريخ الأصغر: سيرورة نمو وتطور الأفراد والتاريخ الكبير: حياة المجتمع والتاريخ الأكبر: تاريخ البشرية. لا يمكن فصل التربية على القيم عن هذه الدوائر في تكاملها أحيانا وتعارضها أحيانا…

هذان الأمران لابد من اعتبارهما من منطلق الظرفية التاريخية وما تتميز به من سمات وما يطبعها من رهانات ومشاكل وتحديات، ذلك لأن سؤال الأخلاق، وإن كان سؤالا قديما، لكنه يتلون بلون الظرفية التاريخية ويتأثر، لا محالة، بأهم سمة تميز هذه الظرفية. من هذا المنطلق نرى أنه من الضروري أن يكون التعامل مع مسألة الأخلاق، ومع الدعوة إلى التربية على القيم في الظرفية التاريخية الحالية في ضوء أهم السمات العامة التي يتسم بها العالم اليوم ألا وهي العولمة

أهم ما يهمنا في العولمة في سياق الحديث عن الأخلاق وعن التربية على القيم:

ـ دور العولمة وما يرتبط بها من شروط في سيرورة التخليق في هذا الصدد نذكر:

ـ تراجع في دور الإيديولوجيا، تزايد الخوف من حدوث حرب عالية ثالثة أو ما يشبهها من قبيل صدام الحضارات؛

ـ تزايد الوعي بالمشكلات الحضارية التي تواجه البشرية في المجالات المختلفة (الاقتصاد والمال والعلم والتكنولوجيا وقضايا التدبير والحكامة…) والأهم من ذلك؛ الوعي بصلة هذه المشكلات بالأخلاق وبما يعرف بانهيار القيم؛

ـ تزايد العناية بالإنسان وبشروط عيشه المادية والمعنوية… بارتباط رغد العيش بالقيم.

كل هذه المعطيات تبيح لنا أن نستبشر خيرا وننتظر أن تسهم العولمة في إعادة الاعتبار للأخلاق، وفي نجاح التربية على القيم وننتظر أن تسهم الأخلاق بدورها في تأسيس نظم تسمح للبشر-فرادى وجماعات بالعيش الكريم وبالتعايش السلمي والتعاون…

لكن، مع ذلك، لا ينبغي أن ننسى أن العولمة تتم في إطار نظام عالمي جديد، وهو نظام وحيد القطب – وهي لذلك لا يمكن أن تروم سيادة منظومة حضارية على كل ما سواها. وليس غريبا أن تثير مساعي الهيمنة ردود أفعال الكيانات والمجتمعات المدافعة عن هوياتها وخصوصياتها الثقافية ومواقعها ومصالحها…

 من الطبيعي، إذن، في ظل هذا المناخ أن يبقى التدافع بل الصراع هو السائد… ولا ينتظر أن تنجح القيم حيث فشلت الأفكار والإديولوجيات، بل المنتظر أن تستعمل القيم في تبرير تزايد بؤر التوتر وتمهيد الطريق أمام مطامع العولمة وهيمنة منظومة قيم معينة على غيرها؛ إذ عوض أن تسهم في تطوير علاقات التعارف والألفة والتعاون بين الشعوب تتحول هي بدورها إلى مجال للتدافع والصراع. ومن هنا لابد من الاستعداد للانخراط الإيجابي في سيرورة التخليق والتربية على القيم والاستعداد أيضا للانخراط في سيرورة التدافع الحضاري.

الأمر الثاني الذي يهمنا في العولمة، ولعله هو الأخطر، هو اقترانها بالحداثة، فالملاحظ أن الدعوة إلى التخليق لا تكاد تنفك عن الدعوة إلى الحداثة، وما يؤكد ذلك كون التيار الحداثي هو الأقوى والأكثر تأثيرا في مجال التربية على القيم.

فما هي منطلقات ومقاصد هذا التيار ما هي آثارها على الدعوة إلى التخليق وعلى التربية على القيم؟ وما مدى انسجامها مع منطلقاتنا ومرجعياتنا الإسلامية؟

لعل أهم ما يهمنا من خلفيات الاتجاه الحداثي ومن موقفه من مسألة الأخلاق والتربية على القيم تحديدا أولا على مستوى المقاصد سعيه إلى تأسيس منظومة قيم إنسانية شمولية كونية تسمو على منظومات القيم المرتبطة بالمرجعيات الثقافية والدينية المحلية (وهو في هذا يلتقي مع دعاة العولمة الذين يسعون إلى تكريس سمو القوانين والمواثيق الدولية على القوانين والأعراف المحلية).

 هذه القيم الكونية، من المنظور الحداثي، هي القادرة على توحيد البشر. قد يجد هذا الموقف الداعي إلى تجاوز كل الأطر المرجعية الثقافية الخاصة تبريره عموما وعند دعاة العولمة وعند الحداثيين في ما قد يتسبب فيه التعصب للهويات والخصوصيات، ومن بينها الخصوصيات الدينية، من صراع و تدافع عنيف بين البشر.

 لكن ما لا ينبغي تناسيه هو أن التجربة أبانت أن تطويق الهويات والخصوصيات الثقافية في المجتمعات الغربية على الخصوص كانت له تداعيات خطرة على اندماج الأقليات من المهاجرين على الخصوص، وتبعا لذلك على انضباطهم بقيم وقوانين بلاد المهجر. ولا يستبعد أن تتفاقم مشاكل اندماج هذه الأقليات في ظل العولمة؛ فالنظام العالمي الجديد يخضع لمنطق القطب الوحيد وهو منطق الغلبة للأقوى.

 ما دامت تعتمد على أهم ما يجمعهم (العقل والمعرفة والقانون) لذلك ينبغي أن تكون هي المرجع، بل ينبغي أن تكون مرجعية المرجعيات في تكوين الإنسان وتربيته على القيم.

مما يترتب عن هذا الموقف وهذا هو الأهم بالنسبة لنا نحن المسلمين؛ هو إدخال الدين في دائرة الخصوصيات الثقافية وفي دائرة الأمور الشخصية. يترتب عن ذلك أنه لا ينبغي اعتباره في المشاريع الحضارية الكونية بالنظر للاعتبار الأول ولا ينبغي اعتباره في المشاريع المجتمعية المحلية بالنظر للاعتبار الثاني. وهنا نجد الدين قد غيب عن مجال التربية وإذا استحضر أطر بإطار قيم الحداثة.

وهنا ننتهي إلى أن الدعوة إلى التخليق في ظل العولمة هي دعوة إلى عولمة منظومة قيم بعينها هي قيم الحداثية. وتحديث القيم (الذي ينبني على تغييب المرجعيات القيمية الخاصة وضمنها مرجعية القيم الدينية) يفضي إلى علمنتها وعلمنة التربية عليها. ومن المنتظر منطقيا من علمنة القيم ألا تقف عند حد فصلها عن الدين، بل إنها ستتجاوز ذلك إلى الدعوة لإخضاع منظومات القيم المستمدة من الدين لمنطق الحداثة ومقتضياتها. فالحداثة تتحول إلى فلسفة عامة توجه تصورات الإنسان لذاته ولمحيطه الطبيعي والإنساني الاجتماعي وتحدد مبادئ وقواعد سلوكه… إنها تتحول إلى دين، بل إنها تطمح لأن تصبح دينا كونيا، ويبرر مسعاه هذا بكونه يقوم على أسس كونية؛ العلم والعقل والقانون الدولي…

وهنا نتساءل عن جدوى محاولة الجمع بين الحداثة والإسلام.

مما لا شك فيه، أن معظم القيم الأساس في المنظومة الحداثية، خصوصا ما يتعلق منها بالحرية الفردية، تتعارض في منطلقاتها ومرجعياتها الفلسفية وفي آليات تفعيلها القانونية والتربوية مع منظومة القيم الإسلامية التي تتمحور حول صلة الإنسان بخالقه. لذلك نرى أن محاولة الجمع بينهما هي من قبيل محاولة تربيع الدائرة أو تدوير المربع إنه لن يتم إلا باحتواء أحدها للآخر. فهل سيضطر المسلمون في ظل هذا الوضع العالمي للتخلي عن حلم إقامة حداثة إسلامية/أسلمة الحداثة وقيمها والقبول بعلمنة وتحديث الإسلام وقيمه؟ هذا الوضع وما يحمله من تناقضات ومفارقات يتطلب منا أن نتبين موقع الإسلام والمسلمين في ظل هذا الوضع العالمي الجديد..

الأمر الثالث الذي يهمنا في العولمة يتعلق بوضع الإسلام والمسلمين

ـ ينبغي أولا أن نستحضر مختلف الأبعاد الدلالية للإسلام فهو يشير أولا إلى مجموعة من الدول والأنظمة السياسية، ويشير ثانيا إلى مجموعات بشرية (مجتمعات أغلبيات أو أقليات)، ويشير ثالثا، وهذا الذي يهمنا بالدرجة الأولى في هذا السياق، إلى دين وحضارة متميزين لهما تأثيرهما ليس فقط على حياة المنتمين إليهما ولكن أيضا على حياة البشرية بشكل عام على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي…

ـ وينبغي ثانيا أن نتبيّن دلالة الاهتمام المتزايد بالإسلام على الصعيد العالمي وتعدد وتباين المواقف منه (والتي تتراوح بين الإقبال وإعلان العداء مرورا بالاهتمام البريء) ونحاول أن نفهم دون أن نستغرب ذلك الخوف الساذج، بل المرضي من الإسلام الذي أصبح يعرف بـ”الإسلاموفوبيا”..

ـ لابد أن ندرك، تبعا لكل ما سبق، أن الإسلام أصبح، أكثر من أي وقت مضى، طرفا في التدافع الحضاري وأنه لكي يكون طرفا يأخذ بعين الاعتبار في المجالات المختلفة، وضمنها مجال إقرار منظومات القيم واعتمادها في تخليق، الأفراد والمجتمعات، لابد أن يكون أيضا طرفا في التدافع الحضاري الذي يسيطر على العالم في المجالات المختلفة ومنها مجال القيم والأخلاق..

ـ كما ينبغي أن ندرك أن وضع الإسلام في العالم في الظرفية الحالية ودوره في التدافع الحضاري كل له تأثيره على الجبهة الداخلية على مواقف المسلمين بعضهم من بعض وله امتداداته في حياتهم وفي تعاملهم مع دينهم بشكل عام ومع منظومتهم القيمية بشكل خاص. (لا يمكن مثلا فصل التعامل مع قيمة التسامح عن هذا السياق التاريخي وعن وضع الإسلام فيه)..

ـ وينبغي تبعا لما سبق أن نعترف بأن الأمة الإسلامية معنية بمشكلة الأخلاق؛ لأنها كغيرها من الأمم والشعوب في حاجة إلى تخليق ولأن نصيبها من الأزمة الأخلاقية لا يمكن تفسيره بالأسباب والعوامل الخارجية، بل لابد من مراعاة دور العوامل الداخلية المرتبطة بحياة المسلمين أنفسهم..

ـ وينبغي أخيرا أن ندرك أن انخراط المسلمين في السياق العالمي وممارسة ما يفرضه من تعاون وتدافع تتطلب تقوية الجبهة الداخلية وذلك باحتواء الأمة الإسلامية لكل مكوناتها مهما تعددوا واختلفوا.

القضية الثالثة: وهي مربط الفرس هي قضية تتأسس على القضيتين الأولى (لا تربية بدون مرجعية ثقافية، والتي بنينا عليها أن انخراط المسلمين في سيرورة التخليق ينبغي أن يكون من داخل المرجعة الثقافية الإسلامية)، والثانية (لا تربية خارج التاريخ، والتي بنينا عليها أن هذا الانخراط ينبغي أن يراعي الظرفية التاريخية ووضع الإسلام والمسلمين في العالم في ظل النظام العالمي في ظل العولمة وسيادة قيم الحداثة…) هذه القضية الثالثة سنحاول من خلال عرضها وتحليلها أن نقترب أكثر من السؤال الذي طرحناه سابقا: كيف ينبغي لنا نحن المسلمين أن نتعامل مع أزمة القيم تفسيرا ومعالجة؟ كيف يمكن لنا أن تتعامل مع الجهات التي تدعو إلى إعادة الاعتبار للقيم؟ كيف ينبغي لنا أن ننخرط ونسهم في التربية على القيم؟

جوابا عن هذا السؤال نجيب مبدئيا: نقول إن أفضل ما يمكن أن تسهم به الأمة الإسلامية في سيرورة التخليق في الوقت الراهن، لمواجهة أزمة القيم، نموذج أخلاقي حي (يجسده الحال قبل المقال وبعده) نموذج يستند إلى منظومة قيمية متكاملة وقوية بمقوماتها النظرية وبنظمها وبآلياتها التربوية العملية تحافظ على الثوابت الثقافية للأمة وتراعي متغيرات الزمان وخصوصيات الظرفية التاريخية الحالية.

لكن كيف نتصور هذا النموذج نظريا وما هي متطلبات تحقيقه على أرض الواقع في الظرفية الحالية؟

الجواب الذي نقترحه لهذا السؤال هو مفاد القضية:

 بناء نموذج أخلاقي إسلامي في الظرفية الحالية يتطلب تفعيل المنظومة الإسلامية كما سنحدد المقصود منها فيما بعد: وذلك لا يمكن إلا بتوفر الشروط التالية:

الشرط الأول: مراعاة خصائص المنظومة الإسلامية أننا أمة لها تاريخ، ولها منظومة حضارية عظيمة أنتجت تراثا غنيا، ومن غير المعقول ألا نستفيد مما أنتجه أسلافنا؛ فالشجرة تييا باتصالها بتربتها عبر جذورها وتموت بانفصالها عنها.

ما أود قوله:

أن من بين أهم أسباب عظمة الأمم عظمة رجالها ومن أهم هؤلاء الرجال العلماء وهذا الأمر يصدق على الخصوص على الأمة الإسلامية، فقد أظمأ الله قلوب علمائها لمعرفة دينهم وأنار عقولهم وأنهض هممهم لتحقيق هذا المطلب فهبوا لخدمة الدين، فأسسوا العلوم المختلفة، وحددوا لكل منها مجاله، ووضعوا له أدواته المفاهيمية والمنهجية، وقعدوا له القواعد والضوابط… فأصبح للإسلام منظومة علمية شاملة ومتكاملة ومتينة هي بحق من أهم مقومات الحضارة الإسلامية.

ثم وحرصا منهم على الاستفادة من العلم حرصوا على تأسس المؤسسات والنظم لإشاعة العلم ونشره في الأوساط المختلفة وحددوا لكل فئة عمرية واجتماعية ما يناسبها.

ووعيا منهم بأن تحصيل العلم لا يؤدي حتما إلى العمل به فقد قننوا القوانين وقعدوا القواعد وأسسوا المؤسسات حتى يكون المسلم أقدر على الانسجام مع تعاليم الدين السمحة والتحقق بقيمه الفضلى ومثله العليا. فأصبح للإسلام منظومة ثقافية شاملة ومتكاملة في مكوناتها ومجالاتها وأبعادها.

تتمثل هذه المنظومة الإسلامية حسب تصورنا لها في سياق الموضوع الذي نحن بصدده في:

ـ القرآن الكريم والسنة النبوية؛

ـ سيرة السلف الصالح؛

ـ اجتهادات العلماء المسلمين في المجالات المختلفة وكذا العلوم المختلفة التي أسسوها أو طورها في المجالات المختلفة؛

ـ ومختلف النظم والمؤسسات التي أبدعها المسلمون لتنظيم حياتهم داخل دائرة دينهم.

مما لا شك فيه أن عطاء هذه المنظومة عبر التاريخ كان يفور ويغور؛ لأنها كانت تتأثر بما يعتري حياة البشر من عوارض وما تتسم به من تدافع و تعاون….

لكنها ولله الحمد كانت وما تزال تحافظ على أهم مقوماتها ().

() تتمثل هذه المقومات في:

ـ القدرة على الحفاظ على الوجود والتميز بفضل العناية الإلهية وفضل الغيورين على الدين وعلى مصالح الأمة خصوصا وراث الأنبياء العلماء وبفضل تشبث المسلمين بدينهم رغم بعض مظاهر الانحراف الضعف التي تعتريهم وبفضل غيرة خاصة المسلمين وعامتهم على الهوية وعلى رموزها… القرآن الكريم وعلى الذات الشريفة للنبي، صلى الله عليه وسلم، وعلى التراث المادي والمعنوي الذي خلفه السلف الصالح…

ـ القدرة على التجدد: الصحوة الإسلامية… بفضل تجدد الشعور بالانتماء للأمة الإسلامية عبر مختلف دعوات التجديد والاجتهاد، وبفضل الانفتاح على التجارب: التجارب في المجتمعات الإسلامية المتنوعة وعلى تجارب المجتمعات غير الإسلامية وعبر الحضور المتميز لفئات عريضة من المسلمين في تلك المجتمعات والاستفادة من المستجدات العلمية والتقنية…

ـ والقدرة على الضبط الذاتي التي تضمن مقاومة الانحراف والشطط ومقاومة التآكل/التحلل الداخلي ومقاومة الهجوم والتشويش الخارجي…

وقد تضافرت جهود العلماء في المجالات المختلفة في بناء هذه المنظومة واشتغل كل فريق منهم بترصيص الركن الذي يعنيه ويدخل في دائرة اختصاصه (رغم أن تكوينهم العلمي كان في الغالب موسوعيا).

صحيح أن اشتغالهم لم يخل من التنافس ومن التدافع ولم يخل من الاختلاف ولكن كل ذلك لم يزد البناء إلا قوة ورسوخا. ومما أعانهم على ذلك وجعل تدافعهم ينفع ولا يضر التزامهم بضوابط منهجية وبقواعد أخلاقية تضبط أعمالهم تقنن علاقاتهم: أقروا بأن لكل علم رجاله بأن لكل ميدان أهله… فاعترف كل فريق لغيره بأهليته في مجال اختصاصه وبمسؤوليته عن مراقبة ما يجري في دائرة اختصاصه. فوضع كل فريق آليات الضبط والمراقبة والتعزير… تفاديا للفوضى وما ينجم عنها من إضرار بمصالح العباد وعلى رأسها حفظ الدين.

لم تكن ميادين العلم معزولة بعضها عن بعض؛ لأن أهلها فتحوا قنوات التواصل والحوار فيما بينهم.

وفي المجال الذي نحن بصدده، مجال القيم والتربية على القيم، فإن من تعرف على المنظومة الإسلامية في شموليتها وتكاملها يدرك، لا محالة، أن المسلمين أنتجوا من المعارف النظرية ووضعوا من المناهج والآليات وأسسوا من النظم والمؤسسات… ما يكفي لبناء منظومة تعليمية وتربوية متكاملة قادرة على تأهيل المسلمين، فرادى وجماعات، لاتباع تعاليم الدين والسير بصدق وثبات نحو تحقيق مقاصده السامية والتخلق بأخلاقه الفضلى والتحقق بقيمه العليا… وبذلك يكونون أقدر من غيرهم على الصلاح والإصلاح.

إنها منظومة مؤهلة، أكثر من غيرها، لتوفر للتربية على القيم السند النظري وكذا آليات التفعيل الضرورية…

إنها منظومة متكاملة: عقيدة وشريعة وأخلاقا، هذه المنظومة يرتبط تفعيلها في تأسيس نموذج أخلاقي باعتماد المنظور الشمولي تبعا لشمولية الإسلام.

ومراعاة خصوصيات هذه المنظومة هي مراعاة لخصوصيات الإسلام ذاته:

فمن بين أهم محددات ماهية الإسلام التي بها يتميز ويمتاز؛ شموليته، والشمولية هنا تعني أمرين: أولهما؛ كون الإسلام موجها للناس كافة، بل للثقلين، وثانيهما؛ كونه نظام حياة يشمل حياة المسلمين في كل مراحلها و في جميع جوانبها وأبعادها. هذا أمر معروف.

ما نود إضافته هو أن تحقيق ماهية الإسلام منظورا إليها من هذه الزاوية (الشمولية) يتوقف على تكامل مقوماته الثلاثة: (العقيدة و الشريعة والأخلاق). هذا التكامل يتوقف بدوره على تكامل أركانه ومقاماته الثلاثة المنصوص عليها صراحة في حديث جبريل: الإسلام والإيمان والإحسان.

فلكي يكون الإسلام فعلا دينا شاملا صالحا للعالمين ويكون لهم بمثابة نظام حياة لابد أن يكون دين أخلاق.

عندما نقول عن الإسلام إنه دين أخلاق لا نقصد بذلك فقط عنايته بالأخلاق، بل نقصد قبل ذلك أن له منظومة أخلاقية متميزة. هذا يقودنا إلى الحديث عن مميزات المنظومة الأخلاقية الإسلامية.

الشرط الثاني: مراعاة مميزات المنظومة الأخلاقية الإسلامية

 لعل أهم هذه المميزات:

ـ كونها أولا؛ مؤسسة على عقيدة التوحيد.

ـ كونها ثانيا؛ مؤطرة بقواعد وأحكام الشريعة.

ـ وكونها ثالثا؛ ولعل هذا هو الأهم، إجرائية ومعيشة ولذلك لم تبق على حالها (مثلا عليا ومبادئ مجردة)، بل إنها تحولت إلى واقع معيش يلمسه كل من تعرف إلى السيرة النبوية وسيرة السلف الصالح، وتحولت من جهة ثانية إلى إجراءات عملية يدركها كل من تعرف إلى مناهج وتقنيات التربية والتخليق عند المسلمين في تنوعها وتكاملها: بدءًا بمناهج التعليم والتلقين والتهذيب والتأديب مرورا بوسائل الوعظ والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وانتهاء بأشكال المجاهدات ومناهج التربية الروحية.

ومما لا شك فيه أن فعاليتها جاءت بالدرجة الأولى من التناسق الكبير بين سندها النظري وبين عدتها العملية وتبعا لذلك من الترابط الوثيق بين مقاصدها المستمدة من مقاصد الدين في معناه الشمولي وبين آلياتها ووسائلها المتعددة والمتكاملة المستمدة من مختلف مكونات الدين ومرجعياته القرآن والحديث والسيرة وسيرة السلف الصالح والتي أثبتت جدواها عبر القرون.

من هذا المنطلق نرى أن تفعيل منظومة القيم الإسلامية وتوظيفها في بناء نموذج تربوي أخلاقي حي يقتضي الحفاظ على الترابط الوثيق بين مقاصد التربية وبين آلياتها والذي يقتضي بدوره التعامل مع الدين في المنظور الشمولي.

من خلال:

  1. مراعاة الأبعاد المتعددة للأخلاق، فمنظومة فالأخلاق الإسلامية متعددة الأبعاد ولا يمكن تفعيلها إلا بمراعاة وحدة وتكامل هذه الأبعاد:
  • البعد التعبدي: فالأخلاق حاضرة في العبادات كلها وهي شرط لكمالها (مع العلم أن العبادة هي أيضا أداة من أدوات تحسين الأخلاق: ﴿إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر…﴾ (العنكبوت: 45).
  • البعد التعرفي: مصداقا لقوله تعالى: ﴿اتقوا الله ويعلمكم الله﴾ فالعبادة وثيقة الصلة بالمعرفة معرفة الشرع ابتداءً، ومعرفة الله انتهاءً. ومن هنا كان للأخلاق بعد تربوي يتمثل ابتداء في تطهير النفس وتزكيتها استعادا لسمو الروح ورجوعها إلى خالقها.
    • وللأخلاق بعد دعوي فيها يتأهل المسلمون لتقديم الإسلام لغيرهم، بالحال قبل المقال، بالسمت الحسن بالمعاملة الطيبة… وكل أحوال المسلمين إن حسنت كانت دعوة غير مباشرة لغير المسلمين.
  • وللأخلاق بعد اجتماعي؛ فالأخلاق محكها الحياة الاجتماعية: “الدين المعاملات” (الحديث) وهنا ننتقل إلى مظهر آخر من مظاهر شمولية المنظومة الأخلاقية الإسلامية:

ﻫ. مراعاة الترابط بين الأخلاق وبين مقاصد الدين في منظوره الشامل للأخلاق: التكامل بين القيم المرتبطة بالاستخلاف وبالتكليف في أبعاده الثلاثة:

ـ عبادة الله (من بين القيم المرتبطة بها التوحيد، الطاعة والإخلاص والخوف والرجاء والمحبة والمعرفة…).

ـ وعمارة الأرض (ومن بين القيم المرتبطة بها تلك المرتبطة بالعمل والكسب).

ـ ونفع الخلائق من بين أهم ما يطلب في التعامل مع الخلائق التوفيق بين التعامل معهم باعتبارهم بابا، وبين التعامل معهم باعتبارهم حجابا، والتوفيق في التعامل معهم بين الغيرة على شرع الله وبين توقير خلق الله الرحمة بهم والرفق والتماس العذر.

ـ مراعاة التكامل بين هذه المقاصد و بين مقاصد الشرع الخمسة/الكليات الخمس (حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال).

الشرط الثالث: مراعاة خصائص المنهج التربوي الإسلامي

وهنا أصل إلى القضية الرابعة، ومفادها أننا أمة لها تاريخ، ولها تراث، ومن غير المعقول ألا نستفيد مما أنتجه أسلافنا في مجال الأخلاق تنظيرا وممارسة.

فمن غير المعقول، كما أسلفنا، أن نشتغل في الوقت الراهن في مجال التخليق والتربية على القيم وكأننا نريد أن نعيد اكتشاف النار أو اختراع العجلة. من العبث أن نتناسى أن لنا منهجا تربويا متكاملا.

الجدير بنا أن نستفيد في مجال التربية على القيم مما أنتجته تلك الفئة من علماء الأمة وصلحائها وهم فئة ميز الله بهم أمة الإسلام، تخصصت في هذا الفن، فن الأخلاق جدير بنا أن نستفيد مما توصلوا إليه من تدقيقات نظرية ومما راكموه من تجارب عملية تتعلق بالجوانب التالية:

ـ تحليل القيم تعريفها و تدقيق ماهيتها..

ـ ترتيبها تحديد أشكال الترابط التعارض فيما بينها..

ـ تحديد مقتضيات التحقق بها، ومستويات ذلك التحقق..

ـ العوامل الذاتية (أحوال المكلفين، واستعداداتهم الحسية، والمعنوية الظاهرية والباطنية) والعوامل الموضوعية التي تساعد أو تعوق التحقق بها..

ـ مقاصد الدين في شموليته وتكامل أركانه ومقاماته..

ـ أحكام الشريعة حدودها..

ـ القواعد المبثوثة في كتب السنة والمتحققة في سيرة المربي الأول وسير السلف الصالح.

 أختم بالقول: إن من بين أسباب تخلف المسلمين عن موعدهم في مجال الأخلاق تعطيل هذا المنهج التربوي. قد نجد لإعراض بعض المسلمين عن هذا المنهج عذرا في ما حصل من انحراف في استعماله لكن الأولى؛ هو تقنين المنهح لا تعطيله. وهنا لا يسعنا إلا أن نستعير من ابن رشد الفيلسوف ما قاله عن النظر العقلي الذي شبه الانحراف عن الدين: بسببه بالموت شرقا وشبه منع الناس دونه بالموت عطشا.

 فالضرر الذي قد يصيب المسلمين فرادى و جماعات من جراء تعطيل هذا المنهج أكثر احتمالا وأشد خطورة من الضرر الذي قد يصيبهم في حالة سوء استعماله.

ونقول على غرار ما قاله الندوي رحمه الله: “ماذا خسر العام بانحطاط المسلمين”؛ أقول ما أعظم ما خسره المسلمون بسبب إعراضهم عن المنهج التربوي الإسلامي المتكامل في مقاصده وفي آلياته.

وهنا نرى أن الحل هو العمل على تفعيل المنظومة الإسلامية في شموليتها حتى تعود آليات الضبط الذاتي (الحوار والمناظرة والحسبة…) للاشتغال وبذلك سيستفيد المسلمون من تراثهم ومن هذا المنهج التربوي ويأمنوا محاذير ومخاطر الانحراف التي قد تقع بسبب سوء استعماله.

Science
الوسوم

د. مولاي هاشم هاشمي علوي

أستاذ باحث بالمركز التربوي الجهوي/مراكش

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق