وحدة الإحياءدراسات محكمة

التحليل اللساني وعالمية القيم الدينية

مركزية علم اللغة في بناء نظرية للتأويل

ليس في وسع أحد أن ينكر مركزية النص القرآني في إنشاء الحضارة الإسلامية إلى درجة يمكن فيها أن نعلن أن الاختلاف في التصورات يمكن أن يتطرق إلى كل مناحي الفكر الإسلامي باستثناء فكرة دوران الذات الحضارية الإسلامية حول محور نصها المقدس. فلا إخال خلافاً حولها قد يحدث إلا على سبيل التصنع والتكلف. والواقع أن دور القرآن الفريد في تاريخ الأمة لم يقتصر على تشكيل الوجدان وصياغة المنظور الكوني للمؤمنين به، بل تجاوز ذلك إلى تحريك العقل للانحشار في أضخم وأرقى حركة شهدتها الحضارة العربية الإسلامية، ونقصد بها حركة تدوين العلوم وتأسيس المناهج ونقل المعارف. ليس إذن عن الاهتمام بهذا الكتاب من محيص، وليس غير إعادة النظر فيه سبيلاً لفهم الذات الحضارية الإسلامية؛ لأنه هو أعطاها ملامحها الخاصة، سواء من حيث كونه وحياً منزلاً، أم نصاً مؤولاً.

غير أن هذا النص نفسه قد ساهم وبشكل تم الاعتراف به تاريخياً في خلق تجزئة نظرية في الفهوم الناظرة في الوحي، والخلاف في مجال تأويل النصوص واستقطار دلالاتها يعود في تصورنا إلى عاملين:

الأول: وفاة النبي، صلى الله عليه وسلم، بحيث أن هذا الحدث/الظاهرة لم يكن مفهوماً عند كثير من الصحابة بوصفه حدثاً طبيعياً، بل نظر إليه على أنه ظاهرة في تاريخ الرسالة. إذ كيف ستتحرك الأمة الفتية بدون النصوص المنزلة؟ فوفاة محمد -صلى الله عليه وسلم- كانت وفاة مبلغ للوحي، وليس فقط وفاة نبي مصطفى، ويبدو أن المجتمع الإسلامي الأول كان قرآنياً بامتياز، يتضح هذا من الآثار المروية عن جزع النبي -صلى الله عليه وسلم- حين انقطاع الوحي لفترة غير معتادة، مما يدل على أن النص كان المحرك للمجتمع عبر قناة التأويل الذي فهم عبر شروط التداول العربي الأول للمصطلح بوصفه تطبيقاً لمعاني النصوص وتحويلها إلى تجربة واقعية، وهو ما سنوفيه بسطاً في ما سيأتي. لقد فهمت وفاة النبي على أنها انقطاع في المسار الرابط بين التنزيل والتأويل، وعليه فإن توقف عملية التبليغ إيذان بتوقف حركة المجتمع، وكسبه في التاريخ.

الثاني: افتقاد الإطار المعرفي للتعامل مع النص

الراجح أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان يمثل السلطة المرجعية العليا في إعطاء الدلالات التاريخية العملية للنصوص؛ أي أن عملية التنزيل الفوقي كانت تليها مباشرة عملية التأويل المؤدية إلى إنتاج الحركة الواقعية أي التنزيل الأفقي أو قل التطبيق حسب ما هو مصطلح عليه في الدراسات التأويلية المعاصرة application، تجربة تاريخية.

ومع أن عدداً من الصحابة كانوا يميزون في شخصية النبي -صلى الله عليه وسلم- بين المبلغ والمؤول، فإن الغالب الأعم أن النبي المؤول كان هو نفسه النبي المبلغ: أي أن تأويلات النبي كان ينظر إليها على أنها نصوص ثانوية يتم تبليغها، ومعنى ذلك أن كلام النبي بالوحي، وكلامه عن الوحي شيء واحد، ومن هنا نفهم ما حصل في تراثنا من توسيع هائل لدائرة السنة لتصبح بذلك نصاً موازياً، وفي بعض الأحيان ناسخاً للنص القرآني، تشهد لهذا حادثة تأبير النخل، بحيث تحول كلام النبي، صلى الله عليه وسلم، في مجال كسبي دنيوي إلى نص ملزم نتيجة لعدم فهم الفروق بين سلطة التبليغ وسلطة التأويل. لقد نتج عن غياب سلطة مرجعية عليا يقع عليها الإجماع في العمل بتأويلها للنص إلى عدم فهم أسباب الخلاف في فهم النص عقب وفاة النبي، صلى الله عليه وسلم، وفي هذه اللحظة بالذات وقع ما يمكن عده أخطر وأهم ظاهرة في تاريخ الحضارة الإسلامية توازي في أهميتها ظاهرة التدوين ذاتها، وهي إلغاء جانب التأويل في النص القرآني لصالح التنزيل في شكله العمودي، فما دام التأويل محاولة لتحويل مضامين النصوص إلى كسب بشري، وما دامت العملية تلك لا يمكن حصول الإجماع حولها نظراً للطبيعة السيميائية للغة الوحي، فإن التأويل ينبغي أن يبتعد عنه، حسب التصور التقليدي، درءاً للخلاف وحسماً لموارد النزاع[1]. هكذا تمت مصادرة التفاعل الإيجابي بين النص والمتلقي لصالح مصدر تفسيري عاصم يستطيع القيام مقام المرجعية العليا للنبي، وهو السنة بوصفها ليس فقط تأويلاً للقرآن، بل وحياً ثانياً، أو نصاً على النص الأصلي. كما تم جعل مرجعية اللغة العربية في ذات المستوى في ما يتعلق بالنصوص التي لم تؤولها السنة، ومن هنا احتل الشعر الجاهلي مكاناً معتبراً في المجال الإسلامي بوصفه مصدرا للتأويل الديني، ولم يقف العقل السلفي عند هذا الحد؛ أي جعل السنة نصاً موازياً للقرآن والشعر الجاهلي سجلاً للتأويل الديني، بل عُدت مجمل تأويلات السلف بغض النظر عن صحتها الإسنادية أقدر التأويلات على الوصول للدلالة النصية الصافية، بل وادعت إمكان فهم المقاصد الحقيقية لمنزل النص[2].

ويمكن تلخيص المشكلات النظرية للتفسير الديني التقليدي في مشكلات ثلاث:

  1. خلق نص بشري مظنون في ثبوته ودلالته يوازي في أهميته الوحي.
  2. ربط القرآن بالبيان اللغوي وإبعاده عن مجال الفعل التطبيقي.
  3. ربط الدلالات القرآنية بالتأويلات التاريخية لجيل معين يفترض فيه أن يعرف مراد الله من كلامه.

أولاً: القرآن ومعضلة الازدواج: الوحي أم النص

يعيش العقل الإسلامي مرضاً مزمناً مع نصه يتلخص في ما يمكن وصفه بمعضلة الازدواج في النظر إلى ظاهرة التعامل مع الوحي، وليس إلى الوحي في ذاته. فالوحي من الناحية السيميائية يقتضي وجود مستووين دلاليين: الفوق الأزلي المعصوم والتحت الزائل المعدوم: أي أنك بمجرد التلفظ بكلمة الوحي، فإن معنى الفوق والتحت والعصمة والخطأ والإطلاق والنسبية سيتبادر إلى الذهن تواً. وكلمة الوحي من تلك الكلمات المركزية في اللغة العربية. وأقصد بالكلمة المركزية تلك الكلمات القادرة على إنتاج حقلها الدلالي الخاص، والذي يجعلها مركزاً لمفاهيم أخرى تدور في فلكها. فالوحي يستدعي مفاهيم أساسية كمفهوم: الله – القرآن – العصمة – الحق، ويمكن أن نطلق على هذا الحقل الدلالي حقل المفاهيم الإيجابية اللازمة (اللزوم هنا بمعناه المنطقي)، كما أنه يستدعي بالخلف مفاهيم نقيضة وهي: الإنسان – الكلام – الخطأ – الباطل، ويمكن أن نطلق على هذا الحقل الدلالي اسم حقل المفاهيم السلبية اللازمة، وربما بدا الحقلان متمايزين بسبب التباعد الوجودي بين مركز الحقل الأول وهو (الله) ومركز الحقل الثاني وهو (الإنسان)، غير أن هذا التمايز يقع في المجال النظري فحسب؛ إذ يلتقي الحقلان واقعاً في عملية الفهم التي يحاولها الإنسان في رغبته الأكيدة والدائمة للتفاعل مع معاني الوحي، بل إننا نذهب أبعد من ذلك إلى التأكيد على أن التقاء الحقلين يكون في المجال النظري الذي تحدده اللغة، فوظيفة اللغة في تصورنا لا تقتصر على نقل المعنى أو المقصود، بل تقوم بوظيفة وجودية كبيرة تخلق فيها علاقات متعددة بين المجال الدلالي لمفهوم الله والمجال الدلالي لمفهوم الإنسان: أي أن اللغة أداة حسية تساعد المطلق على التعين في النسبي، فيلتقي الحقلان حينها، وهذا التعين للمطلق ليس تعيناً فيزيائياً مادياً، بل إنه تعين تصوري، والمراد أن كلمة الله حينما تدخل في تركيب لغوي ما، فإنها تنتقل من الوجود المطلق لله سبحانه لتتعين في الوجود المدرك للإنسان من خلال اللغة.

فالتركيب الإضافي: كلام الله، يجعل الله مقروناً بصفة يلتقي فيها لزوماً مع الإنسان:

ومهما حاول الإدراك اللغوي القائم على التشبيه أن يخضع للإدراك العقدي القائم على التنزيه، فإن الاشتراك في صفة الكلام يحصل إدراكاً مقيداً لله في التصور، ومن هنا يمكن تفسير النزاع الوجودي القائم في كل الديانات بين دعاة التنزيه ودعاة التشبيه. ولنأخذ مثالاً آخر، فقولنا: القرآن، هذه كلمة تحصل في الإدراك تصوراً مطلقاً ما لهذا الكتاب المنزل. لكن قولنا: القرآن عربي، يجعل التقييد بصفة العربي داخل التركيب تقييداً موازياً للمطلق داخل التصور بحيث يلتقي القرآن مع شعر امرئ القيس أو حسان أو غيرهما في كون شعرهم موصوفاً بصفة العربي. وهنا يتم الوصل بين المطلق والنسبي بالصفة المقيِّدة بفضل اللغة، (الالتقاء بين القرآن والعربية في الأساليب والأنحاء مسألة مجمع عليها بين المفسرين وعلماء الكلام وعلماء الأصول وعلماء اللغة).

إن ما نريد الوصول إليه هنا أن تعين الوحي لا يمكن أن يحصل إلا عن طريق اللغة، وهي الأداة التي تمكننا من إدراك الجانب النسبي في القرآن، فظواهر التأويل والمجاز بأنواعه ظواهر يشترك فيها القرآن الكريم مع الكلام العربي كما صرح بذلك الشافعي وغيره، فهي إذن الوسيلة الإجرائية التي تقدرنا على ربط الصلة بين المفاهيم الإيجابية اللازمة والمفاهيم السلبية اللازمة المكونة للحقل الدلالي للقرآن. وهذا يفتح نافذة منهجية للتمييز بين تصورين يظن أحدهما أنه نقيض للآخر لكنهما في الحقيقة مختلفان في مستوى الإجراء التحليلي فحسب، فالذين يدعون إلى الاشتغال بالأدوات اللسانية القديمة والحديثة في فهم القرآن ينظرون إلى الجانب النسبي منه، ومن هنا تظهر تصوراتهم وكأنها تلغي القداسة عن النص، في الوقت الذي ليس من همها منهجياً الاهتمام بالجانب المقدس إلا في مجال آخر بعيد عن البحث العلمي ومتعلق بجانب التعبد والإيمان.

فالقرآن كما في تعريفه الشائع والمحتصر كلام الله، وهو ليس كلام الله حصراً ولكنه من كلام الله، ونزوله بلسان العرب كما يعترف بذلك القرآن نفسه، يجعله سائراً على مهيع العرب في مخاطباتهم وأساليبهم فيجري عليه إذن ما يجري على الكلام النسبي من وضوح وغموض (ولقد ناقش علماء الأصول طبقات الغموض الدلالي في القرآن في مباحث الدلالة، وناقش علماء الكلام التنازع التأويلي في الآيات القرآنية المحتملة للتشبيه والتنزيه في مباحث المجاز). وإذن، فإن خضوع كلام الله بما هو لغة بشرية (وليس أسلوباً بشرياً)، يجعلنا في حل من استثمار كل ما وصل إليه الكسب البشري من معارف لغوية وإنسانية وتطبيقها على النص القرآني دون خوف أو وجل من نزع القداسة كما يتخوف المتخوفون.

 والظاهر أن نصية القرآن الكريم هي ما ينبغي التركيز عليه وإيفاؤه حقه من الاهتمام في مجال الدراسات القرآنية وذلك لسببين:

أولهما؛ أن جانب الوحي قد تم التركيز عليه في الحاضر والماضي بشكل كبير ولم يعد مجال خلاف.

ثانيهما؛ الاعتراف بالجانب النصي في القرآن هو ما سيعيد الاعتبار لأهمية التأويل في مقابل الإسراف في الاهتمام بالتنزيل؛ أي إعادة الاعتبار للإنسان بوصفه متلقياً ومبلغاً لدلالات الوحي ومحولاً لها إلى خبرة تاريخية. وأظن أن هذا سيضع القرآن في سياقه الصحيح من جديد بوصفه نصاً مؤسساً للحركة الاجتماعية ومعيناً لا ينضب في توجيه الخبرة الإنسانية وتسديدها. وسنرى أن الاعتراف بنصية القرآن الكريم سيقلب اتجاه البحث في المعنى من الاتجاه التقليدي: أي اتجاه الله نحو الإنسان بوصف الله مركزاً للاهتمام، إلى الاتجاه الطبيعي الجديد: أي من الإنسان نحو الله بوصف الإنسان هو مركز الاهتمام وليس الله.

ثانياً: القرآن نص ولكن بأي معنى؟

بغض النظر عن بعض الآراء المتصلبة حول نصية القرآن الكريم والتي برزت في إطار سجالي صرف، فإن الاعتراف بنصية الكتاب المنزل كان متداولاً في الأوساط الكلاسيكية بدون أدنى تحفظ ولم يكن هذا الاعتراف ضمنيا فحسب كما يرى نصر حامد أبو زيد، بل كان بالأحرى اعترافا واضحا لا جدال فيه. ولقد اتخذ هذا الاعتراف شكلين:

شكل ضمني: وأقصد بهذا الشكل الإيمان بأن القرآن الكريم نزل بلغة العرب، وعلى سننهم في القول مما يعني أن علماءنا قد فهموا أن قوانين اللغة نسقاً وتداولاً تجري أحكامها على القرآن بحيث يخضع الإعراب للمعنى وليس العكس: أي أن التأويل اللغوي للنص يقتضي معنىً منسجما مع ذلك التأويل. ولعل أول من أشار إلى هذا في مجال التأويل اللغوي أبو عبيد معمر بن المثنى (توفي 210ﻫ) حين ذهب إلى أن في “القرآن مثل ما في الكلام العربي من وجوه الإعراب ومن الغريب والمعاني[3].” وفي مجال التأويل الفقهي والأصولي الإمام الشافعي (توفي 204ﻫ) حين قال:[4] “فإنما خاطب الله بكتابه العرب بلسانها على ما تعرف من معانيها، وكان مما تعرف من معانيها، اتساع لسانها، وأن فطرته أن يخاطب بالشيء منه عاماً ظاهراً يراد به العام الظاهر ويستغني بأول هذا منه عن آخره، وعاماً ظاهراًيراد به العام ويدخله الخاص؛ فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه، وعاما ظاهراً يراد به الخاص، وظاهراً يعرف في صياقه أن يراد به غير ظاهره. فكل هذا موجود علمه في أول الكلام أو وسطه أو آخره، وتبتدئ الشيء من كلامهما، يبين أول لفظها فيه عنه آخره، وتبتدئ الشيء يبين آخر لفظها منه عن أوله، وتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون الإيضاح باللفظ، كما تعرف الإشارة، ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها، لانفراد أهل علمها به، دون أهل جهالتها[5].”

شكل جزئي: فقد أشار علماء الأصول إلى مصطلح “النص”، وعدوه شكلاً من أشكال الدلالة على المعنى، بل عدوه أكثر تلك الأشكال حسماً في الإشارة إلى معنى الكلام، فعند الشافعي مثلاً يعد النص ما استغني في البيان بتنزيله عن تأويله[6]. وهو عند الأصوليين نوع من “النصوص” التي لا تحتمل التأويل وبذلك يكون النص عندهم أقوى في الدلالة من الظاهر، كما أنه عند بعض علماء أواااتبياالتفسير ما يقابل المتشابه لكونه لا يحتاج إلى تأويل[7] (ازدواجية المعنى/المغزى).

إن الاعتراف التاريخي والشجاع لعلماء المسلمين بوجود طبقات من الغموض الدلالي في القرآن الكريم ليؤكد بجلاء صحة تصورنا بضرورة إعادة النظر في القرآن بالتركيز على النسبي فيه وذلك لتيسير عملية الاجتهاد والتمكين للأفكار الجديدة من أن تأخذ مكانها داخل المنظومة الإسلامية بوصفها تأسيسا لأرتذوكسية جديدة ستحاول الإجابة عن أسئلة مسلم هذا العصر بعيدا عن منهجية الوسطية التلفيقية من جهة، والتطرف ببعديه الديني والعلماني من جهة ثانية.

ترى ماهي الدلالات الفلسفية لهذا الاعتراف؟

أولا لنتفق منهجيا على مقدمات:

1. يصف القرآن الكريم نفسه بأنه مبين وبأنه ميسر للذكر.

2. القرآن كلام الله ومعنى هذا أنه من الواجب في الكلام الإلهي أن يتصف بصفات الكمال التي هي من لوازم صفات المتكلم الكامل. والغموض هو على الأقل في المفهوم الطبيعي canonical صفة نقص، ولا يجوز في حق الله وحف كلامه أن يكون ناقصا.

وإذن لنتساءل هل يوجد تناقض بين كون القرآن مبينا وبين كونه غامضا؟ أو على الأقل محتملا لدلالات اختلافية؟ وهل يجري النقص على كلام الله؟

الجواب على هذين الاعتراضين يجرنا إلى فتح باب المساجلة من جديد حول طبيعة القرآن ووظيفته وهو ما سنرجيء الحديث عنه إلى حين عرض الجواب على الاعتراضين السالفين.

من الواضح أن التحليل اللساني للقرآن سيمكننا من الوصول إلى حقيقة بسيطة قلما انتبه إليها المختصون وهي أن القرآن ليس نصا واحدا فهو وإن كان كتابا أو مصحفا فليس نصا منسجما بالمعنى اللساني لمصطلح Text والمشتق من النسيج Textile حيث يستلزم النسج درجة كبيرة من الترابط في مستوى التأليف اللغوي linguistic composition كالترابط Cohesion والانسجام Coherence وكذا في مستوى الوحدة الموضوعية بالإضافة إلى وحدة السياق Context وهذه العناصر نجدها غائبة في القرآن الكريم، بل وفي السورة الواحدة على الرغم من المحاولات الجادة والمتكلفة لبعض الدراسات حول التفسير الموضوعي للقرآن والتي تشبه في تكلفها البحث عن المناسبة الموضوعية بين السور والذي شاع التأليف فيه في المراحل المتأخرة من تاريخ علم التفسير.

ومعنى ذلك أن القرآن يشبه ديوان شعر من حيث تنوع موضوعاته واختلاف ظروف إبداع نصوصه وهذا بالضبط هو ما حدا بالعلماء إلى اكتشاف الاختلافات الأسلوبية بين القرآن المكي والقرآن المدني.

وإذا اتفقنا على أن القرآن ليس نصا بالمعنى اللساني، فإن هذا يمهد لاستثنار ما يمكن تسميته بالمدونة اللغوية داخل القرآن. والمقصود منها وجود تنويعات لغوية وأسلوبية في القرآن تتناسب مع الموضوع والسياق الذي من أجله نزلت الآية أو السورة ويمكن عد بعض المدونات في القرآن ذكرا لا حصرا ومنها:

مدونة العقيدة، مدونة الشريعة، مدونة الوعظ، مدونة الغيب، مدونة القصص.

ويمكن عد مدونات أخرى كلية وفرعية لكل منها أسلوبها وتعبيراتها.

ويمكن أن نلاحظ أن الغموض الدلالي في النص لا يضر إلا في مدونة الشريعة بحيث ينبغي للغة هنا أن تكون مباشرة غير رامزة أو محتملة وهذا ما وفى به القرآن الكريم؛ إذ تجد في آيات الأحكام وضوحا دلاليا كبيرا إلا في بعض الحالات التي تكون فيها الدلالة متأرجحة بين معنيين على الأكثر. أما المدونات الأخرى فيكون فيها الغموض الدلالي والرمز والمجاز أمورا مطلوبة في الأسلوب تماما كما هو الشأن في اللغة الأدبية التي يعد فيها الغموض ميزة أسلوبية يحتفى بها وتزيد النص جمالا وماء بتعبير الأقدمين.

ما يهمنا هنا أن هذا الاعتراف الجزئي ينصية القرآن: أي بوجود طبقات من الغموض الدلالي يفيد بوضوح التقبل الضمني لدى علماء المسلمين لنسبية النص، في مقابل التسليم بمطلقية الوحي، فلو تتبعنا تقسيمات الأصوليين لطرائق الدلالة في القرآن أو السنة (وهما عند الكثيرين منهم نص واحد)، لألفينا أن التسليم بتمايز النصوص في مراتب الدلالة يفيد اقتناعاً واضحاً بمركزية التأويل في بناء هوية النص، بل إن علماءنا تقبلوا وبشجاعة نادرة فكرة وجود طبقات من الغموض الدلالي في نصوص الوحي، كما نجد ذلك في حديثهم عن المحتمل، والمشكل والمتشابه إلى درجة أن أطبقوا مجمعين على أن في القرآن آيات محتملة تجعل القرآن ظني الدلالة مع كونه قطعي الثبوت.

وهنا يتضح وإلى حد بعيد، القصور النظري الشائع في الخطاب الديني المعاصر، بحيث شاعت مقولة “لااجتهاد في مورد النص” في الوسط الديني لتعني أن التأويل ينبغي أن يتوقف كلما ورد نص سواء كان قرآنا أم سنة، والمستندون إلى هذه المقولة يستعملون كلمة “النص” بمعناها اللاتيني المعاصر أي: text، وهو ذهول بعيد عن المعنى الواضح للمقولة في الوسط الإسلامي التقليدي، والتي تفيد فيه كلمة النص المعنى الأصولي الذي أشرنا إليه سابقاً: أي أن الاجتهاد ينبغي أن يتوقف في وجود نوع من النصوص البينة بذاتها والتي لا يتطرق لدلالتها وجه من أوجه الاحتمال[8].

التأويل من المعنى إلى المغزى

        ميّزنا في ما سبق بين الوحي والنص، وقلنا إن الإيمان بالقرآن وحياً مطلقاً لا يلغي التسليم به نصاً نسبياً متعيناً في اللسان العربي بمواصفاته الأسلوبية وتشكله التاريخي، ولعل هذا التمييز يخرجنا من مأزقين:

1. مأزق التعامل مع النص بمطلقية نسبية: أي بالذهول عن المطلق والثابت فيه والتأسيس لما أسميه بعلمنة المقدس: أي تحويل الإلهي المطلق إلى الإنساني النسبي في مقابل تحويل الإنساني النسبي إلى مطلق، وهنا تتم التضحية بمقصدية صاحب النص لصالح مقاصد القارئ التي تتحول إلى حقيقة ثابتة في النص المؤول.

2. مأزق التعامل مع النص بنسبية مطلقية، أي الذهول النظري عن البشري (اللغة والتأويل) في النص، والتأسيس لما أسميه بتقديس “المعلمن”، أي تحويل الإنساني النسبي إلى إلهي مطلق، عن طريق الادعاء بإمكانية العثور على مقصد صاحب النص، وبالتالي التضحية بسياق القراءة لصالح مقصدية مدعاة ولكنها عملياً مستحيلة[9].

ونمثل لذلك بآراء كثير من المفسرين الذين لا يجدون حرجاً في الحديث عن “مراد الله” و”مقصود الله”، وهم في الحقيقة لا يقومون إلا بعملية تأويل عادية يحاولون فيها الوصول إلى الدلالة بواسطة آليات تأويلية نسبية مشروطة بالزمان والمكان[10].

ولتجاوز المأزقين ينبغي التمييز بين مستويين من مستويات الدلالة النصية وهما: المعنى Sense أو Meaning، والمغزى Signification، هذا التمييز وإن اعتمده بشكل منهجي عالم التأويليات “هيرش”، واستفاد منه الدكتور نصر حامد أبو زيد، فإنه تمييز قديم يعود على الأقل إلى الإمام الشاطبي الذي أسس لمشروعه التأويلي في الموافقات على تجاوز الدلالة النصية المباشرة: أي المعنى إلى مستوى الدلالة الكلية للنصوص التي يتم الوصول إليها عن طريق الاستقراء، ثم يتم ربط الدلالة الكلية بسياق إنتاج النص أو المقاصد الثاوية وراء النصوص مقرونة بمقاصد المكلف. وهذه العملية التأويلية المركبة تشير إلى وعي الشاطبي بالمساحة الموجودة بين المعنى والمغزى.

يرى كادامير أن المعنى والمغزى شيء واحد ما دام البحث في المعنى لا يتم في الأصل إلا من خلال أثر سياق القراءة في توجيه عملية التأويل: أي أن ظروف المؤول وهمومه هي التي تدفعه إلى البحث في المعنى، بل وتوجه طريقته في ذلك مما يعني أن المعنى لا ينفصل عن المغزى ابتداءً. والمقصود هنا بالمعنى دلالة النص التاريخية واللغوية معزولة عن سياق القراءة. أما المغزى فهو أثر هذا السياق في الدلالة التاريخية/اللغوية لإنتاج الدلالة الحينية (نسبة إلى الحين)، غير أن تصور كادامير يوشك أن يؤدي إلى الوقوع في المأزق الأول، أقصد توجيه المعنى التاريخي/اللغوي لخدمة المغزى الحيني مما يفيد انتهاك سياق النص لصالح سياق القراءة، وهو بالضبط مأخذ واتشتيرهسير على كادامير؛ إذ يرى هذا الأخير أن التركيز على وحدة المعنى والمغزى معناه إنكار هوية النص التي تمنحه القدرة على الاستمرار في إنتاج النعاني الحينية المختلفة انطلاقاً من نواته الصلبة التي تمثل هويته وهي المعنى.

أما هيرش فإنه يؤكد على أن الوحدة المدعاة بين المعنى والمغزى من شأنهما أن تفقدنا المقياس الذي على أساسه يمكن تحديد التاويل الأقرب إلى معنى النص، ما دام الذي يحدد هوية النص هو القارئ الباحث عن مغزى النص المحكوم حتى بشروط سياق القراءة. وإذا كان موقف هيرش سليماً من الناحية المنهجية، فإن موقف كادامير في ما نتصوره سليم من الناحية العملية: أقصد عملية التطبيق العملي للمقولات النظرية: أي أنه من الصعب جداً التمييز بين سياق القراءة وسياق النص؛ لأن سياق الالقراءة هو الذي يحدد وجهة الإسئلة المطروحة على النص، وهنا تحدث في أي موقف تأويلي سليم عملية انصهار للسياقين في لحظة واحجة هي لحظة التأويل، ومن هنا يكتسب المصطلح الكاداميري: انصهار االآفـاق “Fusion of horizons”  قيمته الإجرائية بحيث يمتزج سياق النص مع سياق القراءة لخلق الموقف التأويلي دون التقليل من قيمة أي سياق منهما، ولا نسلم لموقف كادامير هنا إلا على الشرط الذي وضحه هيرش وهو أن يكون القارئ قادراً على تجاوز أفقه التاريخي ليصل إلى أفق النص.

وإذن، فإن كلاً من هيرش وكاداميرمتفقان على أن التأويل السليم Valid interpretation لا يمكن أن يتجاوز حقائق النص الموضوعية أو المعنى، ما دام هذا الأخير: “هو ما يقدمه النص، وهو ما يقصده الكاتب من خلال استعمال معين للتركيب اللغوي، وهو ما تعنيه الرموز: (أي اللغة)، أما المغزى فهو العلاقة القائمة بين المعنى والشخص (القارئ) أو التصور أو السياق أو أي شيء يمكن تخيله.”

والملاحظ أن هذا التعريف لا يسلم من اعتراضات نستطيع أن نوجهها إليه، فهل يستطيع النص أن يقدم معناه؟ هل هناك معنى معزول لنص معزول؟ هل يمكن تصور وجود نص أصلاً بدون وجود المنتج والمتلقي؟ ثم هل نستطيع أن نفصل وجوديا بين لحظة إنتاج النص ولحظة تلقيه؟ وبخصوص التركيب اللغوي هل هو ثابت أم متغير؟ هل اللغة هوية معقولة في مجال التداول؟

هنا يقع التصور الهيرشي في معضلة منهجية كبيرة أوقعه فيها سعيه نحو وضع الحدود والتعريفات لمفاهيم لا يمكن تعريفها أصلاً. ولذلك نجد صعوبة في موافقته على أن المعنى عنصر ثابت في النص، والمغزى عنصر متحول.

كيف إذن نفك معضلة المعنى والمغزى؟ قبل الإجابة على هذا السؤال أود أن أقدم محاولة لتعريف مصطلح التأويل، ومن خلال هذا التعريف يمكن أن نفهم البعد الإجرائي للتمييز بين المعنى والمغزى في إطار التصور الذي قدمه كادامير مدعوماً بالشروط التي وضعها هيرش:

معنى التأويل: ويمكن تلخيص هذا المعنى الجديد القديم في أن التأويل في أصل التداول العربي لم يكن نظرية في البيان اللغوي فحسب، بل كان مرتبطا بتصور وظيفي وهو التطبيق: أي أن تأويل الكلام هو تحققه واقعا أو هو التصيير كما أشار إلى ذلك الطبري في جامع البيان وابن تيمية في رسالة الإكليل وأما عد التأويل ترجيحا لإحدى احتمالات اللفظ أو هو تجاوز للمعنى السطحي إلى معنى آخر فهو معنى حادث للتأويل اقتضته فلسفة الكلام والفرق التي طفت على السطح بعد الفتنة السياسية بين الصحابة.

وظيفة التأويل: ومن خلال تجديد الفهو لعملية التأويل تجدد وظيفته لترتقي من مجرد تقليب النظر في اللغة إلى ربط المكون اللغوي بالمكون الواقعي ليتم ربط الفهم بالتطبيق والذي هو غاية النص المنزل: أي محاولة تنزيله واقعا.

اتضح لدينا أن التأويل في أصل التداول العربي يعني التطبيق، فهو إذن من المصطلحات التي يتوحد فيها المفهوم والوظيفة، هذا المعنى الإصلي للتأويل هو من المعاني الأساسية للفظة Interpretation. والحقيقة أن كادامير كان محقاً حين أكد أن عملية التأويل لم تكن قط عملاً تأملياً خالصاً، بل كانت دائماً محاولة لتطبيق النص في الواقع[11].

نظرية التأويل واللغة من منظور شلايرماخر

يعد شلايرماخر (1768-1834) بحق مؤسس مدرسة التأويل البروتستانتي، ولأن الرجل كان عالماً فيلولوجياً إلى جانب كونه رجل دين لاهوتي، فقد حظيت اللغة في نسقه الفكري بمكانة مرموقة في سلم الأدوات التأويلية. ولنا أن نعتقد أنه ولو لم يكن عالم لغة لما استطاع الحط من قيمة اللغة في التأويل، ولو أنه فعل، لما كان هناك اتجاه تأويلي ينسب إليه.

لقد استطاع شلايرماخر، وببراعة نادرة، وضع نظرية نسقية للفهم مستقلة عن باقي العلوم، فقد اخرجها من دائرة المنطق حيث كانت من ملحقاته، والمبرر هو أن المنطق لم يعد مرتبطاً بالقضايا العملية[12]. كما أن الهيرمينوطيقا لا تدخل في دائرة الفلسفة؛ لأن الفيلسوف لا يهتم بعملية الفهم في ذاتها ما دامت في نظره عملية تقع بشكل ضروري. أما الفيلولوجيا فلا تصلح لأن تكون حاضناً للهيرمينوطيقا بسبب تحول منهجها إلى الوضعية المهتمة بملاحظة العينات فحسب، وهذا لا يعني أن استقلال الهيرمينوطيقا استقلال مطلق من وجه نظر شلايرماخر، فالإجراءات اللسانية في عملية الفهم متلبسة بالموضوع، وارتباط الفهم بالكلام يجعل الفهم موصولاً بعملية أكثر تعقيداً وهي التفكير، ومن هنا ترتبط نظرية الفهم مجدداً بالفلسفة.

قسم شلايرماخر عمليات الفهم التأويلي إلى قسمين مترابطين:

ـ قسم يقوم على فهم ما يقال في سياقه اللغوي، وهنا يقترح شلايرماخر مفهوم “المجموع اللغوي” وهو حسب تقديرنا رغبة منه في الابتعاد عن تجزيء الفهم بتجزيء اللغة، ولبيان ذلك يشير شلايرماخر إلى أن التأويل اللغوي يجب أن يأخذ بيعين الاعتبار كل احتمالات النص وإمكانات الدلالة فيه[13].

ـ قسم يقوم على فهم ما يقال في سياق تفكير المتكلم، وهنا يتعلق الأمر بفهم المقول لا بوصفه كلاماً، بل بوصفه واقعاً ((fact في التفكير الكلي للمتكلم.

يتعلق القسم الأول بنظرية الفهم النحوية، أو قل اللسانية حسب فهمنا العام لمقصود شلايرماخر[14].

لم يبتعد شلايرماخر كثيراً عما قرره سابقوه من علماء الإسلام في ما يتعلق بالتفسير حيث عدوا اللغة وعلومها علوم آلة تستخدم لأغراض. ومعلوم أن الآلة أقل قيمة من الغرض؛ لأنها خادمة له وهو سببها الموجد، فقد ذهب شلايرماخرإلى أن قيمة التأويل اللغوي أقل من قيمة التأويل النفسي بدعوى أن اللغة وسيلة لنقل الفكر. ولهذا فمجال التأويل اللغوي هو إزاحة بعض المشكلات الأولية أمام عملية الفهم الأساسية[15]، مع أنه سبق وأن أكد أن العلاقة بين اللغة والفكر علاقة جدل لا يتوقف، وأن اللغة نفسها تستطيع تعديل الفكر وتوجيهه ونحن نرى في هذا التصور أثراً لنزعته الفيلولوجية المعنية بتتبع جزئيات اللغة بدل النظر إلى اللغة بوصفها منتجاً دائماً للدلالة تبعاً لطبيعة الرموز المستعملة في النص. ولقد حاول شلايرماخر أن يعيد للغة قيمتها في سلم النظر التأويلي فعد التأويل اللساني أعلى قيمة من التأويل النفسي في حالة البحث عن كيفية عرض الفكر في اللغة؛ أي “حينما ننظر إلى المتكلم وكلامه بوصفهما حالات تتستعرض اللغة من خلالهما ذاتها[16]“، ولهذا فإنه وبسبب العلاقة الجدلية بين الفكر واللغة فإن التأويل النفسي واللغوي يتماثلان في الأهمية والاعتبار.

 ومعنى ذلك أن التأويل اللساني يكون تالياً في الرتبة بعد التأويل النفسي إذا نظر إلى اللغة المنتج بها النص بوصفها أداة إيصالية، كما أنه يكون في مستوى أهمية التأويل النفسي إذا نظر إلى لغة النص باعتبارها غاية في ذاتها: أي بوصف النص مجالاً لعرض قدرات اللغة بصفتها تلك على التأثير. فاللغة في نظر شلايرماخر قادرة على إنتاج عدد غير محدود أو قل مطلق من المعاني فهي إذن أداة مطلقة. بل إن شلايرماخر يعود ليؤكد على التحالف الوجود بين البناء النفسي لمنتج الدلالة ولغته بوصفها كلاماً، فالمتكلم حين يتكلم اللغة يدمعها بطابعه النفسي، ولهذا فلا يمكن فهم نفسية الإنسان إلا من خلال كلامه[17]، ومن هذا يتضح أن شلايرماخر لم يطرح مفهوم الدائرة التأويلية فحسب[18]، بل طرح ما يمكن أن نسميه الدائرة النفس/لغوية، كما سلف بيانه.

التأويل اللساني عند شلايرماخر: من المفهوم إلى الإجراء

 في إطار ما يسميه شلايرماخر التأويل النحوي، أو قل اللساني، قدم الرجل محاولة جريئة لاقتراح قوانين تأويلية عام  (Canons)ولقد بدأها بقانون إجرائي في غاية الأهمية مفاده أن تحديد نقطة الانطلاق في عملية التأويل تبدأ من طريقة استعمال مؤلف النص للغة حسب المواضعات اللغوية المعروفة والمتعارف عليها لدى الجماعة اللغوية في عصر المؤلف[19]، يضاف إلى ذلك أن النص ينتج دلالته الخاصة في سياقه التاريخي الخاص به، وهنا نكون أمام معيارين حاسمين في تأويل النص:

ـ المعيار الآلي؛ أي أن لغة النص تفهم في إطار معهود الجماعة اللغوية في استعمال اللسان.

ـ المعيار الاجتماعي/التاريخي؛ وهو أن فهم المعنى يمر عبر تصور لطبيعة فهم الجماعة اللغوية للنص خلال زمن إنتاجه. وهنا يقوم السياق بدوره الأساسي في إنتاج الدلالة Sense.

والواقع أن ما أشار إليه شلايرماخر هو بالضبط ما قام به الشاطبي حينما اقترح ضرورة الارتباط بمعهود العرب في مخاطباتها لفهم دلالة النص بشكل يبعدنا عن إسقاط معاني لاحقة على معاني النص الأصلية أو قل المعهودية بتعبير شلايرماخر أو الشاطبي.

إلا أن معضلة هذا التصور تظل كامنة في مشكل الاعتقاد المثالي بوجود الدلالة الأصلية مفصولة عن الدلالة التاريخية المتطورة. فحسب الشاطبي هناك دلالة أو معنى ما نعود إليه حينما نربط الفيلولوجيا بتاريخ الجماعة التي حدث فيها النص وهو ما يعني أن النص من الناحية اللغوية لا يحمل سوى تلك الدلالة المعهودة للعرب في زمان ما ومكان ما وفي إطار مواضعات لسانية معينة. وإذن، فإن النموذج المعرفي الثاوي وراء هذا الفهم يتأسس على تصور أداتي للغة وهو التصور الذي ساد في الأوساط العلمية الإسلامية التقليدية.

فاللغة أداة تؤدي غرضا والذي يعطي المعنى للغة هي الجماعة اللغوية نفسها. ولعلنا نذهب إلى أن طغيان التصور الأداتي للغة في الفكر الإسلامي القديم مرده إلى غلبة البعد الوظيفي في الثقافة الإسلامية لحظة التأسيس أو قل في مرحلة بناء المدونة اللغوية في عصر الاحتجاج اللغوي وما بعده بزمن ليس باليسير.

ولعل وظيفية التصور راجعة بدورها إلى الطبيعة البدوية للعقل العربي والذي يتجه بطبيعته تلك إلى الحصول على معرفة يتم توظيفها في بناء الحضارة عوض الانحشار في عملية أرقى وهي التأمل في اللغة ذاتها وإنتاج خطاب لساني حول اللغة لا بوصفها أداة لغرض ما، بل باعتبارها موضوعا للمعرفة ومجالا للتفلسف وهو المستوى الذي يتطلب مستوى ما من الحضارة لم يصل إليه المسلمون إلا في أواخر القرن الثالث وهو ما يفسر الضمور الكبير للمصنفات اللسانية المتعلقة بفلسفة اللغة وعلم اللغة المقارن مع الاعتراف بوجود استثناءات مضيئة كابن جني والجرجاني.

وإذن، فإن العقل الإسلامي لم يكن قادرا على إنتاج تصورات فلسفية في التأويل تنقل اللغة من مستوى الأداة إلى مستوى صناعة المعرفة ونوجيه الفكر.

وهنا نوجه اعتراضنا الجوهري لمنهجية الشاطبي التأويلية والقائمة على افتراض وجود المعنى بين لغة النص ومعهود الجماعة اللغوية في الخطاب. فما الذي يمنع من أن تصنع لغة النص ذاتها فكر الجماعة وتصوغه وفق عملية نفسية معقدة تقوم بها اللغة حسب سابير ووورف بحيث تتحول إلى محدد وموجه لفكر الجماعة وتصورها العام للعالم والأشياء. وما الذي يمنع من جهة أخرى أن يتطور المعهود من مواضعات لسانية اجتماعية إلى مواضعات جديدة تبعد النص عن معناه الخاص به وترهن معانيه في تلك المواضعات التي جاء النص ليتحرر منها ويخرج من إسارها؟

إن الجواب عن هذين التساؤلين هو بالضبط ما سيفتح المجال للحديث عن الكيفية التي سنتعامل بها مع القرآن في سياق العولمة وثقافة الإنسان الحديث للمساهمة في تأسيس قيم دينية عالمية وإنسانية تشجع احترام حقوق الإنسان وتدفع نحو الديمقراطية وتحارب النزوعات المذهبية والطائفية والعنصرية والتي جاء الوحي لتحرير الإنسان منها.

التحليل اللساني وعالمية القيم الدينية في القرآن

لا شك أن أي نظام لغوي لابد أن يكون مرتبطا بالثقافة التي يمثل رمزها الدال، فاللغة الإنجليزية مثلا تظل في بناها معبرة عن الثقافة الإنجليزية، كما أن الفرنسية مرتبطة في بعدها التعبيري بالثقافة الفرنسية التي نشات في رحمها اللغة او التي أنشأتها اللغة. ولكي لا نقع في مطبات النسبية اللغوية المطلقة، فإننا نقر بوجود علاقة ما بين اللغة والثقافة ولكنها علاقة قابلة للانفصال والاتصال والدليل على ذلك أن العربي مثلا و المتحدث بالإنجليزية يستطيع وبجهد واع إخضاع لغته الانجليزية لقيمه المرتبطة بثقافته الخاصة[20].

ومعنى ذلك أن اللغة يمكنها الخضوع لطبيعة القيم التي يحملها المتكلم باللغة، وهذا حتما يجري على لغة القرآن والتي يجب أن نخضها للقيم التي جاء القرآن بها أو جاء لتأكيدها. ولكي لا نبعد النجعة في التنظير دعونا نجري بعض التحليلات اللسانية لبعض المفاهيم التي نريد منها المساهمة في صياغة القيم الإنسانية الإيجابية ومواجهة القيم الطائفية والمذهبية الضيقة من جهة ومواجهة الجوانب السلبية في العولمة الثقافية المعاصرة.

مفهوم الإسلام، الكفر، القوامة

من الصعب إجراء دراسة دلالية لنص ثري ومعجز مثل القرآن الكريم ومع ذلك سنحاول النزول من برج التنظير لتقديم محاولة بسيطة لفهم بعض المصطلحات القرآنية في إطارها اللغوي ومقارنة ذلك بالدلالة المعهودة لدى المسلمين لنرى مساحة الخلف بين الدلالة التاريخية المعهودة والدلالة اللسانية المؤسسة لفهم جديد متجاوز وليس متضادا بالضرورة مع الدلالة التاريخية.

الإسلام

وردت كلمة الإسلام بمشتقاتها المختلفة كأسلم ومسلمين وأسلموا وغيرها وهي في القرآن تعني مجرد الخضوع والتسليم وخصوصا حينما ترد فعلا كما في قوله تعالى: “قالت الاعراب ءامنا قل لم تومنوا ولكن قولوا أسلمنا”.

إلا أن ورودها مقرونة بالألف واللام في كلمة: الإسلام يمنحها خصائص الإسم ومنها: الثبات والجوهرية والذاتية ونعني بالثبات تجرد الاسم عن الحركة داخل الزمن فقولك: المنزل أو الجبل يرسل إلى الذهن معنى الثبات وعدم الحركة ومعنى الجوهر: أي وجود شيء ما بجوهره والذي قد تكون الحركة من أعراضه إذا تعلق بفعل من الأفعال وكذا معنى الذات أي وجود شيء بذاته متحيزا داخل المكان.

ففي قوله تعالى: “ومن يبتغ غير الاِسلام دينا فلن يقبل منه” يتبادر إلى ذهن المسلم أن المقصود بالإسلام ذات متحيزة وثابتة ولها جوهر وعرض ومعنى متحيز: أي أن الإسلام هنا يعني دينا من الأديان متحيزا في المكان والزمان وله صفات جوهرية تميزه عن غيره من الأديان الأخرى كالمسيحية واليهودية والبوذية مثلا.

والسبب في هذا الخلط راجع إلى الالتباس الحاصل بين اللغة والفكر من جهة، واللغة والتداول من جهة أخرى. ولهذا السبب فلا يمكن بحال من الأحوال تطوير نظرية في التأويل إلا من خلال الاهتمام بالتطورات الحاصلة في العلوم الإنسانية والاجتماعية وخصوصا علم النفس وعلم الاجتماع.

فاللغة مرتبطة بالإدراك من جهة وبالمجتمع من جهة أخرى. وإذا كانت الدلالة اللغوية اعتباطية بالنظر إلى الرمز اللغوي مفصولا عن الواقع الخارجي، فإن هذه الاعتباطية تتلاشى كلما حل المعنى باللفظ، فتتحول المعاني من قيم اعتباطية arbitrary إلى قيم إدراكية متحكمة في الخارطة الذهنية للمتكلم ثم تتحول بفعل التداول إلى قيمة إدراكية اجتماعية، فتتحول إلى سلطة متحكمة في الإدراك الفردي؛ أي أن إدراك الجماعة اللغوية يصبح هو المتحكم في منح الدلالة للفظ مع أن الدلالة كانت في أصلها شيئا اعتباطيا.

فكلمة (إسلام) تحولت داخل الإدراك الجمعي العربي من كونها مصدرا إلى كونها اسما من الأسماء. ومن الناحية الدلالية فإن المصدر يدل على الحركة، والفعل ولهذا عد وسطا بين الفعل الصرف والاسم الصرف من جهة كونه قابلا من جهة للدلالة على الحركة ومن جهة أخرى قابلا للتعريف والدلالة ولو بشكل جزئي على الذات.

ولأننا في إطار تطوير نظرية في التأويل تربط القيم الدينية بالمشترك الإنساني، فإن مصدرية الإسلام تكشف عن عالمية قيم القرآن، فالإسلام هو الاستسلام: أي أنه قيمة من القيم الروحية وليس بالضرورة مذهبا دينيا جديدا. وهو بالضبط القيمة التي أمر الله بها الإنسان بعد وجود البشر الأول: أي أن يستسلم للقوة الخيرة التي أوجدته وأن يبتعد عن التأله الذي سيؤدي به إلى التسلط والقهر والصراع من أجل القوة وفي هذا ما فيه من دعوة أصلية في الإسلام إلى تحقيق السلم الكلي والذي يبدأ من النفس المستسلمة لله.

ومن داخل هذا المنظور يمكن أن نفهم قوله تعالى في الحجرات: “قالت الاَعراب ءامنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا”: أي أطعناك يا محمد واستسلمنا لك بوصفك القائد السياسي وهنا ينبغي تأسيس التأويل على الواقع السياسي في مرحلة بزوغ نجم النبي وخصوصا بعد تحقيق انتصارات حاسمة فتحت شهية القبائل العربية لتغيير وجهة التحالفات من قريش إلى النبي؛ ومن هنا جاءت بعض القبائل طائعة رغبة منها في الاستفادة من  ميزان القوة الجديد. فاستعملت هذه القبائل لفظة الإيمان والتي تعني هنا داخل السياق القرآني الدين الإسلامي ذاته، فما كان من القرآن إلا أن بين لهم أنهم جاءوا مطيعين لا مؤمنين بالدين ومن هنا نفهم أن كثيرا من الجدال التفسيري حول الفروق الدلالية والدينية بين الإيمان والإسلام لا مبرر له إذا فهمنا النص بما ذهبنا إليه.

والحاصل أن دعوة الإسلام ليست في حقيقتها دعوة إلى رسوم الشعائر وأشكال التميز الديني، بل هي في حقيقتها دعوة إلى الاستسلام لله، والخضوع له، والابتعاد عن التكبر والصلف والحكم على الناس وتكفيرهم او حتى رميهم بالنعوت المختلفة. ليس الإسلام، إذن، سوى دعوة خالصة للسلم والخضوع هكذا فإن من تمثل هذا الاستسلام كان مسلما بالمعنى العام واللساني لكلمة إسلام وهو ما يعني أن الإسلام دين العالمين ليس في شرائعه ولكن في دعوته إلى الاستسلام والخضوع لله.

الكفر

وردت كلمة الكفر في القرآن لتعني معنى غريبا ولكنه معتبر في اللغة وهو معنى الزارع أو الفلاح، “يعجب الزراع ليغيض بهم الكفار” فيكون المقصود بالكفار الزراع. وتعني كفر في العربية: غطى وأخفى to conceal ومن الناحية الدلالية يتضح أن الكفر قيمة من القيم تماما كما الإسلام. فالكفر في السياق القرآني تغطية للحق وإخفاء له: أي أن الكافر هو ذلك الذي يعرف الحق ويخفيه أو يمنع آخرين من الاعتراف به. ولا يمكن بحال من الأحول إطلاق هذه الصفة على أولئك الذي لا يعرفون الحق ولا يخفونه. وإن تم إطلاق صفة الكفر على النصارى واليهود والمجوس فهو إطلاق تاريخي وليس بالضرورة إطلاقا قرآنيا.

ويؤكد هذا إطلاق لفظ المؤمنين على الصابئين في القرآن، كما يقويه إطلاق لفظة أهل الكتاب على النصارى واليهود وإباحة الزواج منهم وأكل طعامهم والتعاون معهم إلى غير ذلك.

وعليه، فإن القرآن يفتح المجال لتعاون حضاري مفتوح وخال من التحيزات المذهبية والدينية، فالذي يرفضه القرآن ويحذر منه هو تلك النفسية السلبية التي تعرف الحقيقة وتعمد إلى تعميتها وإخفائها. أما مجرد الجهل بالحقيقة فلا يعد بحال من الأحول كفرا وهو ما يفتح المجال لتفاعل حضاري بناء مع الأمم الأخرى على قاعدة صلبة من القيم العالمية الساعية نحو التفاهم مع ما يقتضيه ذلك من عدل وموضوعية.

لقد اختلطت دلالة الكفر اللسانية بدلالة تاريخية مصاحبة لها ظروفها ومبرراتها حتى صار كافرا كل من ليس مسلما، مع أن كثيرا من غير المسلمين في هذا العالم لم بخفوا حقيقة عرفوها ولا عمدوا إلى حق فحاربوه وهم يعلمون. وإذا صح ما ذهبنا إليه اعتدل مقياس الحكم على الناس لدى المسلم، واستطاع يكون من الأمة الوسط العادلة في حكمها على البشرية من خلال اعتماد منظور قيمي إنساني شامل بعيد عن التمذهب والطائفية.

القوامة

قطع العالم الحديث شوطا كبيرا من أشواط تحرير المرأة، وهو مسار اضطلع الإسلام بدور تاريخي فيه، وإن كنا نرى أن مكتسبات المرأة في العصر النبوي قد تم التراجع عنها فيما بعد لصالح تصور سلفي ذكوري، وسنقوم الآن بمحاولة لدراسة دلالية تطبيقية لمعنى القوامة في القرآن الكريم معتمدين في نقد التفسير التقليدي على ابن كثير -رحمه الله- يقول: “الرجال قوامون على النساء: أي الرجل قيم على المرأة وهو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت “بما فضل الله بعضهم على بعض”: أي لأن الرجال أفضل من النساء والرجل خير من المرأة ولهذا كانت النبوة مختصة بالرجال وكذلك الملك الأعظم لقوله -صلى الله عليه وسلم-: “لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة” رواه البخاري… وكذا منصب القضاء وغير ذلك.. فالرجل أفضل من المرأة في نفسه وله الفضل عليها والإفضال.”

يلاحظ أن ابن كثير تعامل مع النص القرآني بطريقة التفكيك ثم البناء والمقصود أنه لجأ إلى تحميل النص القرآني معاني ثقافية غير معجمية حتى بدا لنا وكأن الله تعالى يرى أن:

ـ للرجل الحق في تأديب المرأة.

ـ الرجل أفضل من المرأة في نفسه وليس لعلة معقولة كالتقوى مثلا.

ـ القوامة معناها التسلط والتحكم.

ـ علة تفضيل الرجل أن جعل الله النبوة مقتصرة على الرجل.

وسنلاحظ أن ابن كثير في كل هذه القضايا قد أبعد النجعة وأفرط في التأويل وقول النص القرآني ما لم يقل وحمله قيما بالية جاء القرآن نفسه ليغيرها. فما الذي جعل ابن كثير يتخبط كل هذا التخبط وينسب لرب العالمين في القوامة ما لم يقله رب العالمين؟

الجواب أن لألفاظ اللغة دلاليا معاني معجمية وأخرى ثقافية، وقد تبتعد المعاني الثقافية عن المعاني الأصلية المعجمية لأسباب جغرافية وتاريخية ولسانية والمهم هو أن المجتمع يفرز عبر استعماله للألفاظ معاني تتراكم وتترسخ لتصبح هي المعنى المتبادر إلى الذهن كلما ورد اللفظ. ولهذا فأنت ترى ابن كثير وقد اعتمد على المعنى الثقافي للقوامة أي أن المجتمع العربي وبسبب نظرة ما للمرأة وعلاقتها بالرجل تواضع على مفهوم للقوامة خالف فيه القرآن ولكن هذا المفهوم قد ترسخ فأصبح هو معنى القوامة ومقصدها.

فما هي يا ترى معاني القوامة في المعجم؟

قام في اللسان ضد القعود قاله صاحب اللسان، قال رجل لابن الأعرابي أراد أن يشتريه:

لا تشترني فإني إذا جعت أبغضت قوما وإذا شبعت أحببت نوما: يقصد بالقوم هنا نقيض القعود

وإذا ما عدي فعل قام ب: على وهو مرادنا هنا فيعني ما يلي:

ـ الملازمة: إلا ما دمت عليه قائما؛ أي ملازما. 

ـ الثبات والتمسك: مثل القائم على حدود الله.

ـ المون أو الإنفاق: فال صاحب اللسان: قام الرجل على المرأة أي مانها وأنفق عليها ومنه اسم الجلالة القيوم: أي الرزاق.

ـ الخدمة: قام الرجل على ضيفه: أي خدمه.

وهنا يبدو لنا أن ابن كثير لم يهتم بالمعاني المعجمية، ولو فعل واهتم بها وربطها بسياق النص لظهر له المعنى (ولا أقول المقصود فالمقصود مرتبط بالمتكلم والمعنى بمواضعات اللغة) فالرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض في الرزق وبما أنفقوا: أي أنهم يمونون نساءهم ويخدمونهن ويلازمونهن ويحافظون عليهن ولا يضيعونهن وإن اقتضى الأمر نوعا من الحزم حين الخلاف، فمرده لكل رجل وطريقة تعامله مع زوجته ولا تحتمل القوامة ما ذهب إليه ابن كثير -رحمه الله- من تسلط وتأديب ولا أجده قد  أفرط في مخالفة القرآن إلا حين ذهب إلى أن الرجل أفضل من المرأة في ذاته: أي لغير سبب مع أن ابن كثير يقرأ صباح مساء: “يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم”.

وإذن، فنحن في حاجة لنقد التراث والاهتمام بمصالحة مع قيم العالم الحديث مثل حقوق الإنسان والطفل والمرأة والديموقراطية والحرية الدينية: إن ديننا يحتاج إلى تجديد واع يجعل من الإسلام دينا إنسانيا عالميا ولن نتمكن من ذلك ما دامت أفكارنا رهينة عصر الانحطاط حيث تسويغ الظلم واللامساواة والاستبداد بأشكاله العديدة السياسية والفكرية.

الهوامش


1. السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، (4/179).

2. الزرقاني محمد عبد العظيم، مناهل العرفان في علوم القرآن، دار الفكر، د، ط، ت. (2/35)، وراجع أيضا السكاكي في المجال اللغوي الذي يرى إمكان الوقوف على تمام مراد الله السكاكي، مفتاح العلوم، ت: نعيم زرزور، ط2، بيروت: دار الكتب العملية، 1987، ص:162.

3. أبو عبيدة، مجاز القرآن، (1/8). وقارن بالمرجع نفسه (1/18-19).

4. الشافعي، الرسالة، ت. أحمد شاكر (د، ط، ت) بيروت: دار الكتب العلمية، ص: 51-52.

5. المرجع السابق.

6. راجع الرسالة في شرح الشافعي لكيفية البيان…

7. الزمخشري، الكشاف، دار الكتاب العربي، د. ت. ص: 50.

8. يرجع الفضل في إثارة هذه النقطة المهمة للدكتور نصر حامد أبو زيد، وللمزيد راجع: أبو زيد: النص السلطة والحقيقة، والشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية.

9. في تمييزهم بين التفسير والتأويل يرى بعض العلماء ومنهم الماتريدي أن التفسير هو ما يكون فيه القطع بأن الله قصد كذا وكذا وأما ما يتطرق إليه الاحتمال فهو تأويل راجع: الإتقان للسيوطي(4/167-168).

10. راجع مثلا تفسير ابن كثير وغيره لقوامة الرجل على المرأة كما سيأتي بيانه في هذا البحث.

11. Gadamer, Truth and Method, p: 308.

12. Friedrik Schleirmacher, General Hermeneutics, in : the hermeneutic reader, ed: Kurt Muller-Vollmer, Continum. New York. 1992. p :74.

13. Ibid. p: 74.

14 . لقد أقام شلايرماخر علاقة بين اللغة والفكر، ومن ثم بين التأويل اللغوي والفلسفي، كما ربط اللغة بالتطور النفسي للمتكلم وعد الفهم اللغوي أساسياً لعملية أرقى وهي الفهم النفسي، كما أكد على أهمية البلاغة في التأويل، ولهذا فإن تسميته للهرمينوطيقا التقنية بالنحوية تسمية لا تفي بالمقصود. وكان أولى أن يسميها التأويلية التداولية، أو اللسانية.

15. يرى شلايرماخر أن الكلام تعبير خارجي عن الفهم لصور معينة، والفهم عملية داخلية قائمة على التفكير.

 16. Ibid. p: 75.

17. Ibid. p: 76.

18. المقصود بالدائرة التأويلية عند شلايرماخر هي أن البناء الكلي للنص يفهم من خلال أجزائه كما أن أجزاءه لا تفهم إلا من خلال فهم الكل.

19. Ibid. p: 86.

20. الحديث عن الإنجليزية الإسلامية والإنجليزية الهندية.

Science
الوسوم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق