وحدة الإحياءدراسات محكمة

التحكيم في الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي

ذ. عبد الرحيم بن سلامة

التحكيم في الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي
(العدد 13)

لقد أولت الدولة المعاصرة القضاء جل اهتماماتها، فوضعت القواعد المنظمة له ولوظيفته، ومنحته من الضمانات ما يكفل له الاستقلال، وأعطت للأفراد – دون تمييز بينهم حق الالتجاء إليه طلبا لحمايته، فوظيفة القضاء تتولاها الدولة وحدها دون غيرها لأنها غدت مظهرا من مظاهر سيادتها.

وإذا كان القضاء في الدولة أصبح حكرا عليها وحدها إلا أنه لا يمنعها أن تجيز للأفراد والهيئات القيام بمهمة الفصل في بعض المنازعات ويمثل التحكيم L’arbitrage صورة منظمة من صور القضاء الخاص في عصرنا الحاضر. إلا أن التحكيم غير القضاء فهو مؤسسة مختلفة عن هذا الأخير عرفته الأنظمة المختلفة القديم منها والمعاصر، فكان التحكيم شائعا بين قبائل العرب في الجاهلية، بل ربما اعتبر الشكل الرئيسي للعدالة والقضاء بين الأفراد، في مجتمع كان الحق فيه متوقفا على القوة في غالب الأحيان، وقد جوز الشرع الإسلامي التحكيم كما تبنته معظم القوانين الوضعية لأنه نظام فرضته الضرورة، وأملته المصلحة العامة والخاصة على حد سواء كما سنرى من خلال هذا العرض.

تعريف التحكيم لغة وشرعا 

التحكيم لغة: هو تفويض الأمر وجعله إلى الغير ليحكم، قال ابن منظور: “وحكموه بينهم، أمروه أن يحكم، ويقال: حكمنا فلانا بيننا أي أجرينا حكمه بيننا[1]“وقال الخليل: “وحكمنا فلانا أمرنا أن يحكم بيننا”[2] التحكيم اصطلاحا: هو: “تراضي الخصمين بواحد من الرعية والترافع إليه ليحكم بينهما”[3].

وعرفه ابن نجم هو: تولية الخصمين حكما يحكم بينهما، أي اختيار ذوي الشأن شخصا أو أكثر ليحكم فيما تنازعا فيه دون أن يكون للمحكم ولاية القضاء بينهما”[4]. فلا فرق بين المعنى اللغوي والاصطلاحي إلا في كون الحكم من الرعية، إذ اللغويون لم يقيدوه بهذا بخلاف الفقهاء فإنهم قد قيدوه.

ولم يخرج تعريف التحكيم عند فقهاء القانون الوضعي عن فقهاء الشريعة فهو عندهم اتفاق ذوي الشأن على عرض نزاع معين قائم، على فرد أو أفراد أو هيئة للفصل فيه دون المحكمة المختصة.

فالتحكيم بذلك، لا يعدو أن يكون مجرد وسيلة قانونية اعترف بها المشرع للفصل في النزاعات المراد عرضها على التحكيم – أي على حكم أو أكثر يختارهم الخصوم مرتضين للحكم الذي ينتهي إليه التحكيم من غير عرض النزاع على القضاء.

مشروعية التحكيم

التحكيم، باعتباره نظاما لتسوية المنازعات بين الأطراف، مشروع بدليل الكتاب والسنة والإجماع:

ـ في القرآن الكريم يقول الله تعالى: ﴿وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما﴾ (النساء: 35)[5].

ومن الأدلة على جواز التحكيم أيضا قوله تعالى: ﴿ فلا وربك لا يومنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما﴾ (النساء: 65).

ـ أما السنة النبوية: فقد روي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: “من حكم بين اثنين تراضيا به فلم يعدل بينهما فعليه لعنة الله”.

ـ أما الإجماع: فقد أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على جواز التحكيم ومشروعيته ولا يسمح المجال بذكر أمثلة في هذا الباب أما في القانون الوضعي فإن العديد من الأنظمة العربية والأجنبية قد أفردت بابا مستقلا في قوانينها للتحكيم وهكذا خص المشرع المغربي بابا كاملا من أبواب قانون المسطرة المدنية وهو الباب الثامن عشر من القسم الخامس في إحدى وعشرين فصلا تبتدئ من الفصل 306 وتنتهي بالفصل 327 إذ أنه أقر نظام التحكيم وشروطه وآثاره، فقد تبناه المشرع المغربي لمزاياه التي تتجلى في قلة كلفته وتبسيط إجراءاته وسرعته، وسرية جلساته، واتساع أسسه، خصوصا إذا كان القائمون به مشهودا لهم بالكفاءة والمهارة والاستقلالية والخبرة والاستقامة والنزاهة والحكمة.

الفرق بين التحكيم والقضاء والإفتاء

أما التحكيم فقد توضح معناه مما تقدم، ويبقى أن نعطي أمثلة للتفريق بينه وبين القضاء والإفتاء:

فالقضاء في اللغة الحكم وفي الاصطلاح فصل الخصومة بين المتنازعين، وهو منصب من المناصب، وشأن من شؤون الوالي ويحتاج إلى نصب الإمام في مشروعيته لأنه من شؤونه بالأصالة.

أما الإفتاء لغة فهو تبيين الحكم والجواب عما يشكل من الأحكام وفي الاصطلاح هو الإخبار عن الله تعالى بحكم شرعي متعلق بكلي[6].

أما الفرق بين الإفتاء والتحكيم والقضاء؛ فالإفتاء إخبار، والتحكيم والقضاء إنشاء وإلزام بالحكم الجزئي في شيء مخصوص ولحكم القاضي آثار كوجوب التنفيذ غير أن القاضي ينصبه الإمام والمحكم يصير حكما بتراضي الخصمين وترافعهما إليه من دون أن ينصبه الإمام.

شروط قاضي التحكيم في منظور الفقه الإسلامي

لقد اهتم العلماء المسلمون ببحث شروط من يتولى منصب القضاء فانفرد الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية بدراسة التنظيم القضائي حيث وضع مقاييس خاصة لابد أن تنطبق على كل من يتولى القضاء بين المسلمين من أهمها أن يكون مسلما عدلا حرا ذكيا عالما بالأحكام الشرعية من كتاب وسنة وإجماع وقياس، آخذا بأي مذهب من المذاهب الفقهية تأكيدا لروح الاجتهاد المفروض في القاضي.

فهل هناك شروط اشترطها الفقهاء فيمن يتولى التحكيم، نعم إن قاضي التحكيم يشترط فيه ما يشترط في القاضي المنصوب من قبل الإمام، كالبلوغ والعقل، والعدالة، والذكورة، وطهارة المولد، وغلبة الحفظ والضبط، والاجتهاد، ولا يسمح المجال لبيان ما شرحه الفقهاء من خصائص كل شرط من هذه الشروط فمن أراد المزيد من التوسع والإيضاح فليراجع كتب الفقه على المذاهب الأربعة فهي غنية في هذا الباب.

شروط التحكيم في الشريعة الإسلامية

هل يشترط لجواز التحكيم عدم وجود قاض منصوب من الإمام في البلد، المشهور عدم الاشتراط، فقضاء التحكيم سائغ وإن كان في البلد قاض منصوب من الإمام، جاء في الروضة: “قاضي التحكيم وهو الذي تراضى به الخصمان للحكم بينهما مع وجود قاض منصوب من قبل الإمام”[7].

الاتفاق على التحكيم في الفقه الإسلامي

إن معظم الفقهاء كما ذكرنا اعترفوا بالتحكيم وبحق الأفراد في الاتفاق عليه فلم يشيروا فيما كتبوا إلى صورة معينة للتحكيم إلا أنهم قد أسهبوا في بيان ما يشترط في المحكم من شروط، وما يصح التحكيم فيه، ومدى لزوم حكم المحكم وموقف القاضي منه، وغير ذلك من قواعد تتعلق بالتحكيم.

مجال ما يجري فيه التحكيم

اختلف الفقهاء فيما يجري فيه التحكيم على أقوال:

  1. جواز التحكيم في كل الأحكام وقال بذلك صاحب كشف اللثام وصاحب الجواهر على القول بالمشروعية.
  2. جواز التحكيم في جميع ما يقع فيه التداعي وعدم جوازه في حقوق الله المحضة التي ليس لها خصم معين.
  3. جواز التحكيم في جميع الأحكام إلا أربعة أشياء النكاح واللعان والقذف والقصاص.
  4. جواز التحكيم في الأموال فقط.

فمجال التحكيم في الشريعة الإسلامية مجال محدود فهو لا يتجاوز الحقوق التي يملك الأفراد التصرف فيها، قال ابن عرفة: ظاهر الروايات أن التحكيم يجوز فيما يصح لأحدهما ترك حقه فيه ولا يجوز في كل ما تعلق به حق الغير أو حق لله تعالى، إن التحكيم لا يجوز في إقامة الحدود وفي القصاص، واللعان، والولاء، والنسب، والطلاق، والعتق، والرشد، والوصية، والحبس المعقب، وأمر الغائب، ومال اليتيم، فالنسب لا يمكن أن يكون محلا للتحكيم لأنه تعلق به حق الولد، وكذلك الترشيد، فإذا أردنا أن نحكم بتسفيه شخص، وذلك لنتمكن من الحجر عليه، فإن هذا الحكم تتعلق به حقوق هذا الشخص، وما يترتب على ذلك من أضرار على أمواله وعلى وضعيته، فيتطلب الأمر تصدي جهة خارجة على الخصوم للبث في هذه النازلة وهي جهة القضاء.

وعليه، فإن كل أمر استلزم جهة ثالثة غير الأطراف والمحكم للبث فيه لا يمكن أن يكون موضوع التحكيم. وكذلك الشأن في المسائل المتعلقة بالحالة الشخصية للأفراد، فهذه لا يمكن أن تكون محلا للتحكيم[8].

الرجوع عن التحكيم 

هل يجوز للخصمين الرجوع عن التحكيم قبل حكم المحكم؟

نعم، إن الفقهاء أجازوا رجوع كل واحد من الخصمين عن تحكيمه قبل شروع المحكم في حكمه، وقد مثلوا لذلك بالتوكيل، فمن وكل شخصا جاز له أن يسحب منه الوكالة قبل التصرف[9].

هل يجوز للمحكم الرجوع عن حكمه؟

إذا حكم المحكم بعد تحكيمه فلا يجوز له الرجوع عن حكمه لأنه بعد التحكيم يصبح حكم المحكم كحكم القاضي، وإما إن تبين له أن حكمه حكم بغير حق فيجب عليه الرجوع امتثالا لقوله تعالى: ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون﴾ (المائدة: 47) وقوله جل جلاله: ﴿وأقسطوا إن الله يحب المقسطين﴾ (الحجرات: 9) وقوله تعالى: ﴿وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط﴾ (المائدة: 42) وقوله عز من قائل: ﴿ ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق﴾ (المائدة: 48).

هذه أهم الجوانب التي تتعلق بالتحكيم في الفقه الإسلامي قدمناها بإيجاز وهي قواعد تختلف كل الاختلاف عن التحكيم في القوانين الوضعية كما سنرى.

التحكيم في القوانين الوضعية

إن معظم القوانين الوضعية أفردت لنظام التحكيم بابا خاصا كما هو الشأن بالنسبة للمغرب حيث نظم المشرع المغربي التحكيم في الفصول من 306 إلى 327 من قانون المسطرة المدنية.

ويقصد بالتحكيم اتفاق أطراف النزاع على اللجوء إلى جهة قضائية اختيارية لفض نزاعاتهم القائمة أو المحتملة بواسطة شخص أو عدة أشخاص معينين من طرفهم أو من طرف هيئة مختصة، فالتحكيم قضاء غير نظامي يمارس من طرف جهات معينة منظمة تنظيما قانونيا أو حرا.

والتحكيم تتعدد صوره بحسب تطور العلاقات الإنسانية، فبعد أن كان قاصرا على نوع معين من المنازعات نجده، اليوم، يشمل كثيرا من العلاقات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والدولية، فهو إما تحكيم اختياري أو إجباري، خارجي أو داخلي.

التحكيم الاختياري والتحكيم الإجباري

يكون التحكيم اختياريا Arbitrage Volontaire إذا لم يكن الالتجاء إليه أمرا مفروضا على الخصوم، فيكون اللجوء إليه بمحض إرادة أطراف النزاع، وهذا هو الأصل في التحكيم[10].

ويقابل هذا النوع من التحكيم، تحكيم يفرض قسرا على الخصوم بنص تشريعي يجب اللجوء إليه في منازعات معينة منصوص عليها في القانون، فيكون، حينئذ، إجباريا بحيث لا يجوز إطلاقا الالتجاء إلى القضاء العادي بالمرة، أو أنه يجوز ذلك ولكن بعد طرح النزاع على التحكيم أولا.

ومن أمثلة هذا النوع من التحكيم في النظام الفرنسي وغيره من الأنظمة بعض المنازعات العمالية: Litge De Travail.

التحكيم الخاص والتحكيم النظامي

إن الصورة الغالبة التي عرف عليها التحكيم هي أن يتفق الأطراف في نزاع معين قائم أو سيقوم على كل جزئيات ودقائق التحكيم، فيعينون باتفاقهم، بعد قبول التحكيم، المحكمين وطريقة التحكيم ويضعون لسيره الإجراءات التي تنظمه، وهذا ما يعرف بالتحكيم الخاص أو الحر، هذا الأخير يجعل كأساس له مبدأ الثقة في شخص المحكم والطمأنينة لتقديره السليم، وهو نوع، غالبا، ما يسود في إطار العلاقات الداخلية.

أما بالنسبة للمعاملات الخارجية، فالملاحظ، أن التحكيم قد أصبح في ظلها يأخذ طابعا نظاميا Arbitrage Institutionnel تسهر عليه منظمات ولجان أنشئت لهذه الغاية.

التحكيم الوطني والتحكيم الدولي

إن حكم المحكمين يكون وطنيا إذا ما صدر في إقليم الدولة المراد تنفيذه فيها بغض النظر عن جنسية الخصوم أو موطنهم، ويكون أجنبيا إذا اتصلت جميع عناصره بدولة أخرى، أو توزعت بين عدة دول أجنبية[11].

ولقد اهتم فقهاء القانون بإقامة التفرقة بين التحكيم الوطني والتحكيم الدولي، نظرا لكثرة المنازعات القانونية التي تثور بالنسبة للتحكيم في مجال التجارة الدولية، خاصة عند تحديد القانون الواجب التطبيق، فالتجارة الدولية هي المجال الخصب للتحكيم الدولي.

علاقة التحكيم بالتجارة الخارجية

إذا كان التحكيم سمة من السمات التي تطبع العصر الحاضر نظرا لأهميته المتزايدة في العلاقات التجارية بصفة عامة، فإنه في العلاقات التجارية الدولية يعد من أهم الوسائل المجدية والفعالة التي تساهم في تنشيط وتشجيع التجارة الخارجية واستقرارها.

وهكذا لا يكاد يخلو عقد من عقود التجارة الدولية من النص على أن كافة المنازعات الناشئة عن العقد أو تنفيذه تحل عن طريق التحكيم، وأن العقد الذي لا يحتوي على شرط التحكيم يتفق أطرافه حينما يثور نزاع على اللجوء إلى التحكيم لتسوية النزاع.

وهكذا فقد قامت غرف التجارة في مختلف دول العالم بإنشاء العديد من المراكز الدائمة والمتخصصة في التحكيم تقوم بتقديم خدماتها لكل من يطلبها من بينها جمعية التحكيم الأمريكيةAmerain  ribition Association: و محكمة التحكيم الأوربيةLacour Arbitrale Europeénne: ورابطة الدول الأمريكية للتحكيم التجاريCommission Inter- Mericain commercial Arbitaration: وغرفة التجارة الدولية بباريسLa cour D’arbitrage De La chambre De Commerce International: ويهمنا في هذا البحث أن نعرف بغرفة التجارة الدولية باعتبارها أهم غرفة للتحكيم التجاري الدولي: تعتبر غرفة التجارة الدولية (Icc) أحد أهم المنظمات الدولية في مجال التجارة العالمية حيث ساهمت منذ إنشائها في تنظيم العديد من قواعد التجارة العالمية، من عقود البيع الدولي إلى خطابات الاعتمادات المستندية ومصطلحات البيع الدولية، المسماة اختصارا بـ”نكوتيرمز” ومن أهم إسهامات غرفة التجارة الدولية في تسوية منازعات التجارة الدولية ما تقوم به عبر محكمة التحكيم وقواعد التحكيم التي وضعتها ونظمتها غرفة التجارة الدولية.

وقد تأسست محكمة التحكيم بغرفة التجارة الدولية في باريس سنة 1923 وتعد حاليا أكبر منظمة عالمية في مجال التحكيم التجاري الدولي حيث بلغ عدد القضايا التحكيمية المعروضة عليها حتى سنة 1995، 855 قضية بلغت قيمتها 20 مليون دولار وفي عام 1995 بلغ عدد طلبات التحكيم المقدمة للغرفة 437 طلبا تخص أكثر من 1012 طرفا من 93 دولة منها العديد من الدول النامية معظمها جهات حكومية.وبالرغم من أن اسمها ظاهريا “محكمة التحكيم الدولية” فهي في الحقيقة ليست محكمة، بل مجرد جهة إدارية تقوم بالمساعدة والإشراف على إجراءات التحكيم في قضايا التحكيم التي تقوم بها هيئات التحكيم طبقا لقواعد إجراءات التحكيم لدى غرفة التجارة الدولية، مع أن محكمة التحكيم تعقد جلساتها في مقر الغرفة في باريس، إلا أن الهيئات التحكيمية التابعة لها والمكونة من مواطنين لأكثر من 60 دولة تعقد جلسات التحكيم في 30 دولة عبر العالم وتقوم محكمة التحكيم بتلقي طلبات التحكيم من أطراف النزاع واختيار المحكم أو المحكمين في حالة عدم قيام الأطراف بذلك، ثم تتولى الإشراف المباشر على إجراءات التحكيم منذ بدايتها، حيث تعقد محكمة التحكيم اجتماعاتها أربع مرات في الشهر، لمتابعة القضايا التحكيمية المعروضة عليها عبر العالم، ويرأس محكمة التحكيم رئيس وبمعيته ثمانية محكمين يمثلون القارات الخمس وتختص محكمة التحكيم طبقا لقواعد التحكيم لدى الغرفة بأن تقوم عند الضرورة بالمهام التالية:

  1. تحديد هل يوجد اتفاق واضح على التحكيم
  2. تعيين المحكمين
  3. الفصل في الطعن في المحكمة
  4. تحديد مكان جلسات التحكيم
  5. مراجعة وثيقة التحكيم
  6. الموافقة على تمديد مدة التحكيم
  7. تحديد أتعاب ومصاريف التحكيم
  8. المصادقة على قرارات التحكيم

وتعتبر المهمة الأخيرة هي أهم المهام التي تمارسها محكمة التحكيم حيث يتطلب نظامها في الحكم أو المحكمين عرض مسودة قرار التحكيم على محكمة التحكيم لمراجعته والتأكد من سلامته من الناحية الشكلية فقط، دون التدخل في مضمون القرار، مع حقها في إبداء الملاحظات على القرار أو إعادته للمحكم للتصحيح قبل صياغته النهائية والتوقيع، وهذه تعتبر خاصية هامة للتحكيم لدى غرفة التجارة الدولية لضمان “جودة نوعية القرارات” ولا يوجد لها مثيل في هيئات التحكيم الدولية الأخرى ومتى تمت المصادقة على القرار فإنه يصبح نهائيا وملزما للأطراف.

ومع الإقرار بأن التحكيم لدى غرفة التجارة الدولية يعتبر أكثر كلفة من غيره من الهيئات الدولية الأخرى إلا أن التنظيم الإداري والإشراف والمتابعة وبالأخص المصادقة على الأحكام التي تقدمها محكمة التحكيم بغرفة التجارة الدولية، تجعل خدماتها مميزة عن غيرها من الهيئات، وكذا حسن اختيارها للمحكمين من أفضل الكفاءات القانونية في مجال تخصصها عالميا.

وتحرص محكمة التحكيم على تنوع الخبرات في أعضائها وخلفياتها القانونية، فخلال العشر سنوات الماضية ضمت أكثر من عشرين دولة إلى الممثلين في المحكمة وبالطبع فإن هذا ينعكس على اختيار المحكمين الذين تعود محكمة التحكيم في اختيارهم إلى اللجان الوطنية الممثلة في محكمة التحكيم، ولا شك أن وسائل التقدم في التجارة العالمية وما أسفرت عنه الاتفاقيات الدولية كاتفاقيات (الكاط) وغيرها من متطلبات تفرض على سائر دول العالم المزيد من العناية بقضايا التجارة العالمية، والمغرب من بين الدول التي أولت اهتماما خاصا للتشريعات المنظمة للتجارة فصدر العديد من القوانين التي راعى المشرع فيها التطور الذي تعرفه التجارة الدولية، ويجمل بنا أن نختم هذا البحث بإبراز أهم الخاصيات التي تميز نظام التحكيم التجاري بالمغرب وعلاقة هذا النظام بالتحكيم التجاري الدولي.

لقد اهتم المشرع المغربي بالتحكيم كمؤسسة قائمة بذاتها منذ قانون المسطرة القديم، كما أدخل عليه تعديلات عديدة واكبت التطور الذي عرفه هذا الميدان، وهكذا أنشأ المغرب أول غرفة للتحكيم متخصصة في التحكيم البحري بالدار البيضاء سنة 1980.

أما على المستوى الدولي فقد صادق المغرب على اتفاقية نيويورك المتعلقة بالاعتراف وتنفيذ الأحكام التحكيمية الأجنبية وذلك بمقتضى الظهير الشريف المؤرخ في 12 فبراير 1969.

وعلى صعيد التحكيم التجاري الداخلي فقد خصص المشرع المغربي بابا كاملا من أبواب المسطرة المدنية للتحكيم وهو باب الثامن عشر من القسم الخامس في إحدى وعشرين فصلا تبتدئ من الفصل 306  وتنتهي بالفصل 327 وهي فصول تتناول مختلف الأحكام التي تبين قواعد وإجراءات التحكيم التجاري الداخلي منذ طرح النزاع على التحكيم إلى صدور حكم المحكم أو المحكمين، وتذييله بالصيغة التنفيذية من قبل رئيس المحكمة أو من ينوب عنه، وكذا الحق المخول لممارسة طرق الطعن العادية وغير العادية المشار إليها في الفصول من 322 إلى 37 من قانون المسطرة المدنية[12].

وتجدر الإشارة إلى أن نظام التحكيم التجاري المغربي بالرغم مما يوفره للتجار والتجارة من ضمانات وامتيازات كثيرة فإنه لم يسلم من الانتقادات، ومع ذلك فإنه يفرض نفسه كنظام مستقبلي لمواكبة التقدم الاقتصادي وعولمته، ولا سيما إذا قامت الغرف المهنية بتنظيمه أحسن تنظيم، وإعطائه ما يستحقه من عناية وأولوية واهتمام وترشيد، وذلك بإنشاء مركز للتحكيم يتكون من لجان تتكلف بتعيين أعضاء من الغرف وخارجها، معروفين بكفاءاتهم واجتهاداتهم وحسن أخلاقهم وجديتهم للنظر في المنازعات التجارية، وتسهيل تسويتها أو الفصل فيها بطلب من الأطراف بشكل سريع وفعال كما تسهر على حسن سير المسطرة[13].

علاقة قانون التحكيم الداخلي المغربي بالتحكيم التجاري الدولي

يلاحظ أن القانون الداخلي المغربي للتحكيم يعرف فراغا كبيرا بالنسبة للتحكيم التجاري الدولي، فالقواعد الواردة في باب التحكيم تتعلق فقط بالتحكيم الداخلي مما يشكل عرقلة أمام التجار ورجال الأعمال لاختيار المغرب مكانا لإجراء التحكيم.

فالنصوص التي أوردها المشرع المغربي في باب التحكيم تشتمل على كثير من القواعد الآمرة، تتعلق بمراحل التحكيم منذ الاتفاق عليه إلى تنفيذ القرار التحكيمي، مما يجعل التساؤل يطرح بإلحاح حول مدى تطبيق هذه القواعد الآمرة على حالات التحكيم التي يتخللها عنصر أجنبي، والأكثر من ذلك أن المشرع المغربي لم يقر أدنى قاعدة بالنسبة للتحكيم التجاري الدولي كما فعلت كثير من التشريعات، كما أن القضاء المغربي كثيرا ما يتردد في تذييل القرار التحكيمي الأجنبي بالصيغة  التنفيذية، ولاسيما إذا كانت الدولة المغربية أو إحدى مؤسساتها طرفا في النزاع، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى عدم وجود ضابط لمفهوم النظام العام المغربي مما يجعل المجال مفتوحا أمام السلطة التقديرية للقاضي[14].

لذا ينبغي إعادة النظر في القانون المنظم للتحكيم بإضافة مواد تهم موضوع التحكيم التجاري الدولي، تساهم بفعالية في تنشيط المعاملات التجارية الدولية، سيما وأن المغرب له طموح كبير في جلب المستثمرين الأجانب الذين يهمهم أولا وقبل كل شيء الاطمئنان على الأموال التي يستثمرونها، بتأكدهم من الضمانات القانونية والقضائية المخولة لهم.

لذا فإن نظام التحكيم يسع الثقة في نفوس المستثمرين الأجانب، ويطمئنهم على البلاد التي يريدون استثمار أموالهم بها، ثم إن التحكيم يكتسي أهمية بالغة في عصرنا الحاضر لكونه أصبح يؤدي دورا فاعلا في فض النزاعات ولاسيما التجارية منها إلى جانب القضاء العادي الذي أنهكته كثرة القضايا المعروضة عليه.

إن الأخذ بنظام التحكيم على نطاق واسع لمن شأنه تخفيف العبء على القضاء وتحقيق رغبة الكثير من التجار الوطنيين والأجانب في حل نزاعاتهم عن طريق حكم المحكمين.

الهوامش

  1. ابن منظور، لسان العرب، ج15، ص31-32.
  2. كتاب (العين) ج3، ص67.
  3. علي عندليب، التحكيم في الفقه الإسلامي، مجلة التوحيد العدد 87 السنة15 آذار 1997، ص12.
  4. ابن نجيم، البحر الرائق شرح كنز الدقائق، ج7، ص24.
  5. إن مدونة الأحوال الشخصية المغربية في هذه النازلة اتجهت اتجاها يخالف الفقه المالكي ففي الفصل 56 فقرة 3 نزعت سلطة التفريق بين الزوجين من الحكمين فأبقت لهما فقط أن ينظر في النزاع وأن يحاولا إصلاحه وإن لم يتمكنا رفعا الأمر للقاضي يقضي بما يراه وهذا ما دعا إليه مذهب الشافعية والحنفية.
  6. القاموس المحيط، ص654 ولسان العرب، مجمع البحرين، ج1، ص326.
  7. الروضة، ج1، ص9-394.
  8. عبد الكبير العلوي المدغري، التحكيم وموقعه من القضاء في الشريعة الإسلامية، مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ص41-42.
  9. المغني، ج،10 ص173.
  10. محمد الوكيلي، (تحكيم البنك الدولي لتسوية خلافات الاستثمار بين دولة وشخص خاص أجنبي)، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في القانون من كلية الحقوق جامعة محمد الخامس.
  11. ذهب الفقيه بوشار إلى أن التحكيم وطنيا إذا اتصلت جميع عناصره بدولة القاضي ويكون أجنبيا إذا اتصلت جميع عناصره بدولة أخرى غير دولة القاضي، انظر:

Fouchard: Op. Cit- p 16- 17 n° 29.

  1. بحث للأستاذ عدلي حماد مستشار قانوني نشر بجريدة عكاظ السعودية عدد 1418، سنة 1997.
  2. التحكيم التجاري الداخلي مداخلة قدمها الأستاذ عبد العالي العضراوي في اليوم الدراسي حول التحكيم التجاري بالمغرب، (جريدة العلم)، العدد 17158، بتاريخ 19 أبريل 1997.
  3. خصومة التحكيم التجاري الدولي بين التشريعات المقارنة والتشريع المغربي، بحث نهاية التمرين أعده المحلف القضائي عزيز الزاهر من الفوج الخامس والعشرين.
Science
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق