مركز عقبة بن نافع للدراسات والأبحاث حول الصحابة والتابعينغير مصنف

التحفة الجسيمة في ذكر حليمة

للعلامة الحافظ مُغُلْطَايْ بْنِ قِلِّيج البَكْجَرِي (ت 762هـ) 2 / 2

 

 

بقلم: عبداللطيف السملالي

وفي سبيل إثبات صحبة السيدة حليمة، وإبراز الدليل على إسلامها توسل العلامة مغلطاي إلى تلك الغاية المنشودة بمَتْنَيْنِ اِثْنَيْنِ، مع إيراد بعض الشواهد المُعَضِّدَةِ التي كان يراها كفيلة بترجيح رأيه:

المَتْنُ الأول: حديث أبي الطفيل (عامر بن واثلة الكناني) الذي « قَالَ: رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، يَقْسِمُ لحماً بالجِعْرَانَةِ، وأنا يومئذٍ غُلامٌ أحمِلُ عَظْمَ الجَزُورِ، إذ أقبلَتِ امرأةٌ، حتى دَنَتْ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فبسَطَ لها ردَاءَه، فَجَلَسَت عليه، فقلتُ: مَن هذه؟ قالوا: هذه أُمُّه التي أرضَعَتْه».

المَتْن الثاني: حديث عبدالله بن جعفر بن عبدالمطلب، «عن حليمة، أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، السعدية التي أرضعته قالت: خرجت في نسوة من بني سعد بن بكر نلتمس الرضعاء بمكة على أتان لي قمراء في سنة شهباء لم تبق شيئا……» وهو حديث طويل فيه ذكر إرضاع حليمة للنبي صلى الله عليه وسلم في بني سعد.

اجتهد الحافظ مغلطاي في تخريج الحديثين من طريق شيوخه، مع بيان مختلف طُرُقِهِما وتَبَايُن أسانيدهما، معززًا ذلك بإيراد شواهد على الحديث، وذكر علته، ولم يغفل الإشارة إلى الرواة وما قيل فيهم، وحرص كل الحرص على إبداء رأيه في الحديث المستدل به، كمثل قوله: «فصحّ على هذا بحمد الله الحديث، وزالت علّته»[1].

وبعد بَسْطِ عمدته في الاستدلال على خبر السيدة حليمة وإسلامها، اتبع المؤلف أسلوب الفَنْقَلَة في تقرير رأيه، وإفحام خصومه بالحجة والبرهان. ومن أمثلة ذلك قوله: «فإن قيل: ما وجه الاستدلال من هذين الحديثين؟ قلنا: من وجوه:»[2].

وقوله أيضا: «فإن قيل: سلّمنا أنّ القادمة في حُنَيْن عليه، عليه السلام،  مُرْضِعَتُه. فما دليلك على أنّها حليمة، لاحتمال أن يكون غيرها. قلنا: لا يُحتمل أن تكون إلّا هِيَ..»[3].

ولتدعيم جوابه بالأدلة الواضحة ولدفع شُبَهِ المُنْكِرينَ صُحْبَتَهَا وَإِسْلَامَهَا، استعمل المؤلف تفريع الاستدلال إلى أوجه.

كما استطاع العلامة مغلطاي أن يستثمر مطالعاته الكثيرة، ومراجعته الدقيقة لكتب معرفة الصحابة، وكتب الحديث، لتعزيز رأيه في إثبات صحبة مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم، السيدة حليمة، فلو لَمْ تَنَلِ الصُّحْبَة لما ذُكِرَتْ في تلك المُصَنَّفَاتِ الجامعة، وأصحابها كانوا من العلماء المُعْتَبَرِين في تمحيص الروايات، والدراية الكبيرة في معرفة تراجم الصحابة، ومن تلك الكتب:

الطبقات الكبرى. محمد بن سعد بن منيع البغدادي، المشهور بابن سعد(ت230هـ).

التاريخ الكبير. أبو بكر أحمد بن أبي خَيْثَمة (ت 279هـ).

المعجم الأوسط. أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني (ت 360هـ).

المعجم الكبير. أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني (ت 360هـ).

معرفة الصحابة. أبو عبد الله محمد بن إسحاق ابن مَنْدَه (ت 395هـ).

الإكليل في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وأزواجه وأحاديثه. الإمام أبو عبدالله الحاكم (ت 405هـ).

معرفة الصحابة. أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (ت 430هـ).

الاستيعاب في معرفة الأصحاب. أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبدالبر.(ت 463هـ).

أسد الغابة في معرفة الصحابة. أبو الحسن علي محمد ابن الأثير (ت630هـ).

ومما يُسْتَغْرَبُ له في هذه الرسالة الجليلة القدر، المُعْتَمِدَة على النصوص الموثقة، أسَاسُهَا تعْدِيلُ ناقل الخبر أو تجْريحُه، أن الحافظ مغلطاي وهو المحدِّثُ النّاقدُ، في معرض إثبات صحبة حليمة، استأنس برؤيا واعتمدها قرينة داعمة لما رجَّحَهُ ورآه صوابا قائلا:

 (وكنت رأيت في ليلة الأحد ثاني وعشـرين من ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة في المنام عيسى عليه السلام، وسألته عنها، فقال مجيباً: رضي الله عنها، وَحُقَّ لمن سمع ما سمعت من البرهان. وشاهد ما شاهدت من تلبّس الأوثان، مَالَ أن تكون من خيار الصّحابة، ومن لهم من الله المرجع والإنابة)[4].

كما اعتمد أخباراً منقولة عن الأخيار، دون أن يعمل نظر المحدثين في قبول تلك الأخبار، والتأكد من صحتها، وأورد أيضا أحاديث مُعَلَّقَة وضعيفة دون بيان حالها، فقد تساهل في هذا الجانب، ونقل عن كتب شَحَنَهَا أصحابُها بالأخبار الموضوعة، أو التي لا أصل لها، من ذلك نَقْلُهُ عن كُتُبٍ يُعْوِزُها التّحْقِيقِ، مثل:

ـ شرف المصطفى. لعبدالملك بن محمد النيسابوري الخَرْكُوشِي (ت 407هـ).

ـ شِفاء الصُّدور. لأبي الربيع سليمان بن سَبُع السَّبْتي (توفي نحو 520هـ).

 ـ الدُّرُّ المُنَظّم في مولد النبي المُعَظّم. لأبي العباس أحمد بن محمد العَزَفي السَّبْتِي (ت 633هـ).

وجملة القول: إن رسالة التحفة الجسيمة في ذكر حليمة، رسالة مفيدة في بابها، اهتدى المؤلف إلى إفراد هذا الموضوع برسالة جامعة لأشتات النصوص الحديثية، ونخبة وافية من أقوال العلماء في صحبة السيدة حليمة.

وقد أَحْسَنَ  العلامة مغلطاي استثمار مجموعة كبيرة من المصادر المتنوعة التي كانت بين يديه، ووَظَّفَ نصوصها بأمانة في بيان قُوَّةِ حُجَّتِهِ، وإبراز دِقَّةِ بُرْهَانِهِ، كما اعتمد على أصول خَطِّية جَيِّدة، بعضها عليه خطوط أصحابها، وهذا مما زَانَ هذا العِلْقَ النَّفيس وجوَّدَ مَضْمُونَه، مثل كتاب: (الإكليل في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وأزواجه وأحاديثه). للإمام الحاكم، الذي يعد اليوم في حكم الضائع.

 ورغم صِغَرِ حَجْم رسالته ومَحْدودِ صفحاتها، فقد استطاع المؤلف أن يَنْهَلَ من مصادر ومراجع متعدّدة في سبيل صياغة رسالته والإحاطة بموضوعه، وبَلَغَ مجموع ما تَسَنَّى له الوقوف عليه واحدا وثلاثين كتابا، ضَمّتْ مُخْتَلِف العلوم والفنون: حديث، وسِيَر ومَغازٍ، معرفة الصحابة، ودلائل النبوة، وتواريخ الرجال والرواة، وتواريخ بلدانية.

واللافت للنظر أن المؤلف تَعَمَّد في رسالته الاختصار والاقتصار على بعض المرويات فقط، فلو توسع واستفاض في إيراد أخبار مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم، واستوعب الروايات المختلفة في شأنها لأجاد وأفاد، لكنه عدل عن ذلك وهو ما صرح به في خاتمة رسالته قائلا: «وقد تَرَكْت من أخبارها رضي الله عنها، أكثر مما كَتَبْت، ولكنّي آثرت الاختصار، ومشهور الأخبار»[5].

وإن رسالة: (التحفة الجسيمة في ذكر حليمة)، نالت تنويها من قِبَل صاحبها في كتابه (الزَّهْرُ الباسم في سيرة أبي القاسم) قائلا: «أفردت لِذِكْرِهَا جزءًا اسمه (التحفة الجسيمة في ذكر حليمة)، استدللت فيه على صحة إسلامها وبطلان قول من شَذَّ، فقال: لم تُسْلِم، فلينظر من ثمَّ ففيه ما يُشْفِي النَّفْس ويُزِيلُ اللَّبْس»[6].

و مما يَحْسُن التَّذْكِيرُ به في هذا المَوْضِع؛ أن هذه الرسالة كان لها الأثر الحَسَنُ في كتب السِّير والشّمائل المتأخرة، وقد أفاد منها العلماء وارتضوا رأي الحافظ مُغُلْطَايْ  في إسلام السيدة حليمة السعدية، وممن اقتبس منها واعتمدها، أو أشار إليها نذكر:

 العلامة إبراهيم بن محمد الحلبي، المشهور بسبط ابن العجمي (ت 841هـ). في كتابه (نور النّبْراس في شرح ابن سيّد الناس).

 والعلامة محمد بن يوسف الصالحي (ت 942هـ)،أَدْرَجَ خلاصة مضمونها في كتابه: (سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد).

والعلامة محمد بن عبدالباقي الزُّرْقَاني (ت 1122هـ)، في كتابه: (شرح المواهب اللَّدُنِيّة بالمنَح المحمدية).

وبعد انزواء هذه الرسالة النفيسة في رفوف بعض الخزائن العلمية بالمشرق العربي، ومحدودية تداولها بين العلماء وطلبة العلم، قام في عملين منفصلين كل من الباحثين المجدين: الدكتور بدر العمراني، والأستاذ محمد بن محمد علوان، بدراسة وتحقيق الرسالة المُنَوَّه بها، وقد اعتمدا مخطوطتين اثنتين، واستندَا على كلتيهما في إخراج هذه عملهما، وهما محفوظتان في:

1. مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. الرياض. رقم 8343 (ضمن مجموع).

2. مكتبة الخالدية. القدس. رقم: 1708.

وصدَر العملُ الأولُ بدراسة وتحقيق الأستاذ محمد علوان. ومعه (جزء فيه حديث حليمة السعدية). لأبي الحسن محمد بن علي ابن صخر البصري (ت 443هـ)، نشرته دار التوحيد للنشر بالرياض، سنة  1437هـ/ 2016م. ويقع الكتاب في 150 صفحة.

أما العمل الآخر فبَاشَرَهُ الدكتور بدر العمراني، وصدر ضمن منشورات الرابطة المحمدية للعلماء بالمغرب. مركز عقبة بن نافع للدراسات والأبحاث حول الصحابة والتابعين. سلسلة لطائف الصفوة رقم 3. دار الأمان. الرباط. 1437هـ/ 2016م. 126صفحة.

وقبل الختام ألفت عناية المهتمين بسيرة أم النبي صلى الله عليه وسلم، من الرضاعة إلى أنها نالت تقديراً يليق بمقامها من قِبَلِ الأدباء والشعراء الذين أشادوا بمكانتها وعدَّدُوا ما جنته من البركات والخيرات بفضل إرضاعها النبي عليه الصلاة والسلام، من ذلك قول أحدهم:

فازت حليمة من رضَاع مُحَمَّد … خيرِ الورى طرًا بأعظم مقصد

نَالَتْ من البركات حِين مَضَت بِهِ … والسَّعدُ قارنها بطلعة أَحْمد

قد درَّ مِنْهَا الثَّدْي حِين رضاعه … أمنت بِهِ من كل جهد مجهد

وأتانها للركب قد سبقت بهَا … فَرحا وتيها بالرسول الأمجد

أغنامها صَارَت شباعا كلما … سرحت تجود لَهَا بِدِرِّ مُزْبِد

وَرَأَتْ من الْخيرَات وَهِي تحفها … وَالنَّاس فِي مَحْل وعيش أنكد

نَالَتْ بِهِ كل المسَرَّة والهَنَا … فَهْوَ الَّذِي قد سَاد كل مُسَوّد[7]

ولم يتخلف العلامة مغلطاي عن الإدلاء بنصيبه في هذا المضمار الأدبي، مُعَدِّدًا مفاخرها السَّنِيّة بقوله:

أَضْحَـتْ حَلِيمَةُ تَزْدَهِي بِمَفَاخِرٍ … مَا نَالهَا في عَصـْرِهَا اِثْنَانِ

مِنْهَا: الْكَفَالَةُ، وَالرَّضَاعُ، وَصُحْبَةٌ … وَالْغَايَةُ الْقُصْوَى: رِضَا الْمَنَّانِ[8]

ومما استحسنه مغلطاي من شعر في إجلال قدرها، وجمَّلَ بِهِ صفحات رسالته اللطيفة؛ قول شيخه العلامة أبي الحسن علي بن جابر الهاشمي اليمني (ت 725هـ):

أمّا حَلِيمَةُ مُرْضِعُ الْمُخْتَارِ … فَبِهِ غَدَتْ تَزْهَى عَلَى الأَخْيَارِ

في جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ دَار مَقَامِهَا … أَكْرِمْ بِهَا يَا صَاحِبِي مِنْ دَارِ[9]

 


[1] . التحفة الجسيمة. ص70.

[2] . التحفة الجسيمة. ص 71.

[3] . التحفة الجسيمة. ص80 .

[4] . التحفة الجسيمة. ص 77.

[5] . التحفة الجسيمة. ص92.

[6] . الزهر الباسم في سير أبي القاسم. 1/524.

[7] . المقتفى من سيرة المصطفى. 37.

[8] . التحفة الجسيمة. 92.

[9] . نفسه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق