مركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلامقراءة في كتابنصوص مترجمة

“التحدث باسم الله: الشريعة والسلطة والنساء”، لخالد أبو الفضل (3)الجزء

بشرى لغزالي

 

 


قام الكاتب خالد أبو الفضل في الجزء الأخير من مؤلفه هذا بانتقاء مجموعة من الفتاوى الخاصة بالنساء التي أصدرها بعض الفقهاء واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية، لما لها من أثر كبير على المجتمعات الإسلامية التي تتبناها ولكونها تجسد السلطوية في التفسير التي يسعى الكاتب إلى تحليلها. وقد اهتم الكاتب بالمنهجية التي اتبعها هؤلاء الفقهاء الوهابيون في إصدار فتاويهم أكثر من الفتاوى في حد ذاتها للكشف عن الفرق بين السلطة والاستبداد.

بدأ الكاتب بعرض فتاوى أُدرجت مواضيعها في إطار الغش والخداع كالفتوى التي تحرم ارتداء حمالات الصدر باعتبارها نوعا من أنواع الخداع لأنها تُظهر المرأة على غير طبيعتها الحقيقية، إلا أن استعمالها لأسباب صحية أو طبية أمر مسموح به. يرى الكاتب أن هذا المفتي لم يُنزل في المقابل نفس التحريم مثلا على العمامة التي تُظهر الرجل أكثر طولا أو غيرها من الملابس التي تخفي بعض صفاته الحقيقية. وقد أشار الكاتب إلى وجود مراجع دينية كثيرة تتحدث عن الغش والتحريف، لكنها لا تنطبق على حمالات الصدر. والمفتي في نظر الكاتب يشبه المرأة بالسلعة عندما يطبق تلك الأحاديث المتعلقة بالغش في التجارة على هذه الحالة. واستنتج أن هذه الفتوى بُنيت على قيم مجتمعية تفيد بأن المرأة مصدر دائم للفتنة.

قدم الكاتب فتوى أخرى صدرت عن فقهاء كالشيخ بن باز وبن جبرين وبن عثيمن، تحرم ارتداء الكعب العالي لأنه غير صحي ويمكن أن يتسبب في تعثر وسقوط المرأة، ويُظهرها أطول مما هي عليه في الواقع، كما أنه يسبب الفتنة. دفعت هذه الفتوى الكاتب إلى التساؤل عن أهلية الفقهاء لتحديد مدى تأثير الكعب العالي على صحة المرأة وسلامتها، وما إذا كان كل ما يتسبب في تعثر المرأة ويضر بعمودها الفقري محرما بما في ذلك الأحذية والكراسي غير المريحة. وقدم في نفس السياق فتوى جاءت ردا على سؤال تقدمت به امرأة تعاني من مرض جلدي أوصاها الأطباء بعدم ارتداء غطاء الرأس والوجه إلى حين شفائها، حيث تدعوها الفتوى إلى عدم رفع الغطاء إلا أمام زوجها وأن تتحلى بالصبر، وهو ما يتعارض في نظر الكاتب مع قاعدة “الضرورات تبيح المحظورات”، وكون الله عز وجل يريد بالناس اليسر ولا يريد بهم العسر. ويشير الكاتب إلى أن هؤلاء الفقهاء لم يشيروا إلى المنهجية المتبعة أو الدليل الفقهي على هذه الفتوى.

وفي إطار الفتاوى الصادرة المعللة بالغش، يحيل الكاتب على فتوى بن باز التي تحلل زواج المسيار الذي يقضي بزواج الرجل من المرأة مع نية تطليقها دون إخبارها بذلك. ويستغرب الكاتب من عدم معاتبة المفتي سلوك الرجل الذي يغش الطرف الآخر في هذا الزواج وبالتالي قبول بعض أنواع الغش. يضيف الكاتب أن زواج المتعة الذي يُحلل أيضا يختلف عن زواج المسيار في كون طرفي العقد على علم بمدة العقد. لكن إذا أُلغيت نية إنهاء العقد خلال فترة الزواج، فإن هذا الزواج يبقى صحيحا شرعا. يخلص الكاتب بعد مقارنة هذين النوعين من الزواج إلى أن زواج المتعة يكون باطلا إذا أُفشيت ظرفية الزواج واتُفق عليها، وبالتالي فإن هذه الفتاوى في نظر الكاتب تفتقر إلى الحزم والجدة وتتسم بالانتقائية.

توقف البروفسور أبو الفضل في مؤلفه عند انتقائية المفتين للدلائل والحجج التي تؤيد وتزكي مواقفهم وآراءهم وتغليبها على التعليمات الإلهية، وهو في نظره شكل من أشكال السلطوية. وتبرز في نظره هذه الإشكالية بشكل أكبر وعلى وجه الخصوص عندما ينتمي المفتي لأحد المذاهب الفقهية التي يعتمدها دون سواها، حينها  يرى الكاتب ضرورة إفشاء المفتي نطاق اختصاصه والمذهب المتبع.

أورد الكاتب أيضا في فصول مؤلفه الأخيرة فتاوى أخرى حرم فيها مجموعة من الفقهاء على المرأة زيارة المقابر وحللها للرجال، ويبررون هذا التحريم بكون عاطفة المرأة ونقصان عقلها كفيلين بجعلها عرضة لاقتراف أفعال مشينة كالصراخ والنحيب والندب، كما يُمكن لهذه الزيارة أن تضر بنفسيتهن. ويقر هؤلاء الفقهاء بأن السماح للنساء بزيارة المقابر سيدفع بأعداد كبيرة من النساء للقيام بذلك، وستصبح هذه المقابر مراكز لتجمع النساء، وهو ما سيجذب الرجال ذوي النفوس الضعيفة للنظر إلى النساء أو مضايقتهن. وبالتالي فإن زيارة النساء المقابر ستثير الفتنة. في المقابل، يشير الكاتب إلى أن هذه الفتوى تبقى رأي الأقلية، أما غالبية الآراء تقول بأن زيارة المقابر كانت في البدء محرمة على النساء والرجال، قبل أن يتم السماح بها لهما معا اعتمادا على مجموعة من الأحاديث. كما أن هناك أقلية ثانية تقر بأن تحريم زيارة المقابر على النساء أو الرجال من عدمه مرتبط كليا بسلوك وممارسة الأفراد في زمان ومكان بعينه.

تابع الكاتب حديثه عن الانتقائية في تقديم الدلائل لتكون على مقاس الإفتاء من خلال مثلا فتوى تحريم سفر المرأة الصادرة عن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، وكذا التناقض وعدم الانسجام الذي يشوب بعض التفاسير التي تصاحب الفتاوى، وذلك من خلال تحليل الحجج المعتمدة والدلائل المقدمة فيها كفتوى تحريم التصفيق ورفع صوت المرأة الذي يحدث الفتنة.

أحال الكاتب على الفتاوى التي لا تُقدم فيها نصوص صريحة وإنما يتم الاكتفاء فيها بمبدأ سد الذريعة كفتوى تحريم قيادة السيارة على المرأة، رغم أنها تتعارض في نظر الكاتب مع وقائع تاريخية تثبت ركوب نساء الخيل والجمل في عهد الرسول (ص) وبعده. حاول الكاتب تطبيق نفس القاعدة على بعض الحالات الأخرى التي تهم الرجال وخلص إلى أن ذلك سيؤدي إلى منعهم في منطقة الخليج من السفر إلى أوروبا وأمريكا خوفا من زيارتهم الملاهي الليلية هناك. واستنتج بذلك عدم اعتماد الفقهاء على منهجية سليمة في إصدار الأحكام.

وما تزال قائمة الفتاوى التي اختارها الكاتب طويلة منها الفتوى المتعلقة بالزواج بالإكراه. رغم أن بن باز والعثيمين يرفضان الزواج القسري، فإنها يحرمان على الفتاة عصيان والدها عبر رفض خطيب دون سبب مُقنع وافق عليه الأب لأنه أدرى بمصلحتها. كما يرى بن فوزان بأن زواج الفتاة أولى من إتمام تعليمها، إذ يكفيها ما قل ودل من العلوم الدينية. يتوقف الكاتب هنا ليوضح في هذا السياق الفرق بين رأي الفقيه في الموضوع وحكم الدين. فاكتفاء المرأة بالقليل من العلم يُعد رأي هذا الفقيه، أما الدين فإنه يأمر كل مسلم ومسلمة بطلب العلم كفريضة، في حين يعتبر الزواج سنة. ويتساءل عن كيفية توصل هؤلاء الفقهاء إلى أن الزواج أولى من الدراسة.

تطرق الكاتب إلى تناقض الأحكام الفقهية مع الأوامر الإلهية في مواضيع مثل صلة الرحم التي يُعتبر قطعها في الشرع مع الآباء أو الأقارب من الكبائر، في حين يفتي بعض الفقهاء بضرورة طاعة الزوج وقبول رفضه زيارة الزوجة والديها إذا رأى الزوج ضررا في ذلك. لكن إذا أخطأ الزوج في قراره، فقد أذنب وسيحاسبه الله تعالى على ذلك، أما الزوجة فهي ملزمة بتنفيذ قرار الزوج في جميع الأحوال، وذلك في غياب دائم للأدلة الشرعية التي تبرر هذه الفتوى.

لكي يبين الكاتب أن غياب الموازنة بين المصالح لا يرتبط فقط بقضايا النساء، قدم أمثلة لفتاوى عن التقاط الصور الفوتوغرافية وتشريح الجثث. ففي رد على سؤال شخص مُغترب أراد أن يرسل صوره لأسرته، وعلى آخر أراد أن يحتفظ بصور أطفاله في محفظته، أفتى بعض الفقهاء، من بينهم بن باز، بكون ذلك محرم شرعا دون وجود استثناءات. وسُئل نفس الفقهاء عن استعمال الصور في جواز السفر ورخصة القيادة وغيرها من الوثائق فأجازوه بحكم الضرورة. يستغرب الكاتب على ضوء هذه الفتاوى من مراعاة هؤلاء المفتين للمصالح المؤسساتية وتقزيم معاناة الفرد المهاجر وعدم إعطائه رخصة النظر في وجه أبنائه ولو عبر الصور. فيما يخص تشريح الجثث، أفتى بن فوزان، في رد على سؤال طالب في الطب عن تشريح الجثث، بتحريم ذلك على جثث المسلمين لاعتباره تمثيلا بالجثث، في حين أحله على جثث المشركين، ويستدل في ذلك بحديث شريف ينفي الكاتب وجوده في أي مرجع؛ كما ينتقد الدلائل المعتمدة مقدما في المقابل وجهة نظر عقلانية.

بعد تقديم الكاتب هذه الأمثلة من الفتاوى، يخلص إلى أن العلاقة بين الفقهاء والعامة- الذين وضعوا ثقتهم فيهم والتي يجب أن تنبني على الاجتهاد والاحترام- تعرف في الواقع خرقا صارخا.

أشار الكاتب فيما بعد إلى خلل في التحليل يظهر عندما يجعل المفتي نفسه مرجعا، كما انتقد المنهجية المتبعة ووقوف قناعات المفتي الأخلاقية حاجزا يحول دون تبيانه الحقيقة. في هذا السياق، تطرق إلى الأحكام التي تصدر عن بعض الفقهاء مثل اعتبار طاعة الزوج واجبة على الزوجة وقام بتحليل هذا الحكم مستدلا بما ورد في القرآن والحديث ليبين أن العلاقة الزوجية في الإسلام هي علاقة مودة ورحمة وليست علاقة تابع ومتبوع. كما تطرق إلى آثار هذه الروايات الأخلاقية والاجتماعية والدينية على وضع المرأة حيث تهدف إلى إقصائهن من الحياة العامة. وأورد أحاديث أخرى يُستدل بها، كتلك التي تعتبر المرأة من مبطلات الصلاة، وأنها فأل سيء…

بعد وفاة النبي (ص)، لعبت النساء دورا كبيرا في تحديد وبناء التراث الإسلامي. لذلك من المنطقي في نظر الكاتب أن يواجه هذا الأمر معارضة في شكل أحاديث تُحذر من اضطلاع النساء بدور في الفضاء العام، وبالتالي الحديث عن ضلع أعوج والسجود للزوج والنقص الفكري وفتنة النساء، وهو ما أدى فيما بعد في رأي الكاتب إلى إعادة صياغة العلاقات بين الجنسين. بالإضافة إلى ذلك، تحدث الكاتب باستفاضة عن العلاقة بين العورة والفتنة في كلامه عن غطاء الرأس، ودعا إلى ضرورة مراجعتها. كما أن إقصاء المرأة بدافع تفادي الإثارة يجعلها تُحاسب على ذنب لم تقترفه، وعلى تطاول رجل غير تقي وعديم الأخلاق لا يتحكم في نزواته، وهو ما يتعارض مع مبادئ الإسلام الأخلاقية. وتساءل في الختام عن سبب إعطاء مسألة الفتنة اهتماما أكبر على حساب قيم أخرى كالعلم والعدل…

تعكس هذه الفتاوى التي عرض الكاتب تناقضا واضحا من خلال، من جهة، تحريم الحلال عند التعامل مع المرأة كجسد يُثير الفتنة وجب إزاحته من الفضاء العام لحماية الرجل من السقوط في شرها، ومن جهة أخرى، عبر تحليل ما هو محرم كالزواج المسيار بغية تمكين الرجل من الاستمتاع بذلك الجسد في إطار “شرعي”. لكن ثقة العامة في أهل العلم من المفتين يجعلهم يرددون تلك الأحكام ويلتزمون بها دون نقاش أو تفكير، لتصبح من المسلمات الدينية التي تتوارثها الأجيال، وجزءا من ثقافتهم ومرجعا في تعاملهم مع النساء، بل نجد النساء أنفسهن يدافعن عن تلك الفتاوى رغم كل المغالطات ويسهرن على تطبيقها وترديدها. وهذا يبرر دعوة الكاتب إلى ضرورة التمييز والفصل بين آراء بعض الفقهاء، التي تنبني على الانتقائية وغياب الموازنة بين المصالح، وأحكام الدين التي تتعامل مع الرجل والمرأة كإنسان خُلق ليتحمل مسؤولية إعمار الأرض ويُحاسب عليها. 

 

نشر بتاريخ: 03/10/2013

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق