وحدة الإحياءقراءة في كتاب

التجربة اليابانية: دراسة في أسس النموذج النهضوي

يسعى كتاب “التجربة اليابانية: دراسة في أسس النموذج النهضوي” لمؤلفه الباحث المغربي “سلمان بونعمان” الصادر عن مركز نماء للبحوث والدراسات إلى بناء تصور مركب حول النهضة اليابانية من منظور تحليلي يستفيد من جل الأدبيات الفكرية التي أنتجت حول النموذج النهضوي الياباني، ويحاول بناء علاقة فكرية جديدة تستعيد سؤال النهضة في أبعاده الفكرية والتاريخية والمعرفية والعملية. وهذا ما ارتكز عليه هذا الجهد العلمي المتميز عبر بناء مقاربة منهجية ذات بعد استيعابي نقدي  للأطر الحاكمة في مسألة النهوض الحضاري وطبيعة التفاعل  مع تجربة اليابان النهضوية المثيرة في التاريخ المعاصر.

لقد استأثرت التجربة اليابانية باهتمام واسع في الخطاب الإسلامي والعربي النهضوي واستمر هذا الإهتمام إلى المرحلة المعاصر من خلال المقارنة بين التجربتين اليابانية الإسلامية والعربية؛ حيث انتقل الوعي بالتأخر التاريخي من علاقتنا بالغرب إلى علاقتنا ببلد عريق من بلدان الشرق الأقصى، وأخذ هذا الوعي صيغة التساؤل التالي: لماذا أخفق العرب والمسلمون فيما نجح فيه اليابانيون؟ “لماذا نجح اليابانيون وفشل العرب؟”.

وسعيا للإجابة عن هذه الإشكالية تم الإنطلاق من قاعدة  فكرية راسخة طبعت جل الكتابات النهضوية مفادها أن ملامح النصف الثاني من القرن التاسع عشر عرفت تشابها، إن لم يكن تقدما، في المحاولات الإصلاحية العربية، على مستوى إرسال البعثات الدراسية، في عهد كل من محمد علي في مصر، والسلطان العلوي(الحسن الأول) في المغرب، وخير الدين التونسي في تونس، مقارنة بفترة الإصلاحات في عهد الإمبراطور الميجي  في اليابان.

يلفت الباحث سلمان بونعمان النظر إلى  أن خطابات النهضة   المعنية باستلهام النموذج الياباني، أنتجت قصورا منهجيا ؛ معرفيا وتاريخيا عميقا بطبيعة الفارق بين السياق التاريخي والحضاري بين المنظومتين، مستندا على ما كشفه الباحث والمؤرخ المغربي “محمد أعفيف”في كتابه “أصول التحديث في اليابان 1568-1868″، وهو الكتاب الذي يعد مراجعة جذرية لمنظور المقارنة وتفنيدا لها.

يبرز هذا العمل الفكري أن التجربة اليابانية تطرح أسئلة دالة تتعلق بفلسفة النهوض وعلاقة الهوية والثقافة بالنهضة والتغيير، كما تبعث هذه التجربة على القلق المعرفي الحاد والتأمل الفاحص فيها بوصفها نموذجا في النهوض مركب الأبعاد، فعزلتها الفكرية حيناً وانفتاحها على الأفكار العالمية حيناً آخر، قد أغنياها بتجارب الترقّب والتوجس الدائمين في حالة   من العزلة، حيث أسهم هذا العامل النفسي في إبداع وتعزيز معادلة الاستمرارية والتغيير اللتين تتميّز بها اليابان عن باقي التجارب الأخرى.

في هذا الكتاب الهام يبين المؤلف أن “المعجزة اليابانية” لم تبدأ مع عصر “ميجي” في القرن التاسع عشر، وإنما استندت إلى خلفية فكرية عميقة وطويلة بدأت منذ القرن السادس عشر. ومن جهة أخرى، لم تكن ظروف العرب مشابهة لظروف اليابان، فقد توفرت لدى اليابان مقدمات تاريخية مهمة تشكلت على امتداد أربعة قرون سابقة على “عصر الميجي”، ومعها حركة فكرية وسياسية عميقة تدعو للإصلاح والتغيير، وهكذا لم تشكل إصلاحات الميجي طفرة أو تطورا مفاجئا؛ سماه البعض بالمعجزة منقطع الصلة عما سبقه، إنها في الواقع محصلة لتطورات عرفتها اليابان منذ القرن السابع عشر على الأقل، وهي تطورات حققت لليابان خصوصياتها وسماتها المميزة التي تجعلها تختلف عن غيرها من الدول الشرقية. وفي هذا السياق أبرزالباحث “بونعمان” أن حركة النهوض الياباني قامت على حركية فلسفية وفكرية كثيفة ورصينة ودينامية أدبية خصبة، وليس على مجرد التوسع التقني والإنتاج الصناعي فقط.

لقد قام المؤلف بتفكيك المقاربات المنهجية والرؤى والدراسات التي تعاطت مع التجربة اليابانية، معتبرا إياها رهانا معرفيا للبحث يساعد في تحديد طبيعة الدراسة ومجالها ومنهجها، إذ انتقد مؤلف الكتاب مقاربتين طغت في معظم الدراسات المنجزة، وتحكمت في النظر إلى هذا النموذج، الأولى سماها ب:”المقاربة الانبهارية” تجاه التجربة اليابانية وإضفاء طابع “المعجزة” اللاسننية عليها، والثانية سماها” المقاربة التبسيطية الاختزالية” التي تهدف إلى تأسيس المحتوى العملي قبل تحديد المحتوى الحضاري. وبالمقابل حاول الباحث في هذه الدراسة، التفكير في نموذج أكثر تفسيرية لهذه الظاهرة، مؤكدا على أن النموذج الكامن في المقاربات السابقة تحول إلى سلطة قاهرة، استُلِبتْ معه الأمة عن واقعها وسَلَب منها القدرة على المبادرة التاريخية والفعل الحضاري، تحول معها هذا النموذج إلى سلطة أفرزت منطقاً لا يتقن إلا لغة المقايسة والمماثلة، وهو ما يمكن تسميته بمنطق “النمذجة”، حيث صارت سلطة النموذج عائقاً بنيوياً في عملية النهضة وتحول بين مجتمعاتنا وبين إمكانية إبصار حاضرها ورؤية واقعها وفهمه.

كما أكد صاحب الكتاب بأنه لا يمكن الحديث عن”معجزة يابانية”، وإنما هي دورة حضارية يتم فيها التفاعل والتلاقح والتداول، ويكون بموجبها الصعود والانحدار. بل إن موضع التقدير البالغ لهذه التجربة الناجحة كونُها تجربة إنسانية لها سلبياتها وايجابياتها، صحيح أن لها خصوصياتها، ولكنها تجربة حضارية يمكن النظر من خلالها إلى نجاح الإنسان وإخفاقه، هزيمته أو إصراره، وقدرته على التكيف والمرونة أو ضعفه عن ذلك. ولكنها لا تشكل معجزة خارج سياقها التاريخي والسوسيوحضاري، لذا فليس  هناك ما يدعو إلى الانبهار بهذه التجربة، ولا ينبغي و الاستغراق في “وهم المعجزة اليابانية”.

لقد ارتكزت هذه الدراسة من الوجهة المنهجية على ما اصطلحت عليه ب”المقاربة الحضارية المركبة النسبية”، التي تحاول تجاوز المنظور الانبهاري الاستثنائي والمقاربة التبسيطية الأحادية في تفسير نهضة اليابان، إلى طرح جدلية جديدة تتفاعل فيها خصوصية الظاهرة النهضوية وتعقد الواقع التاريخي والجغرافي والسياق الحضاري لليابان وتركيبية فعل النهوض، بوصفه تغييرا جماعيا  تتظافر فيه كل القوى الفاعلة على إحداث تغييرات جذرية  وموصولة تنقل المجتمع القديم من دائرة الخوف والعزلة، ومن كل ما هو جديد إلى المشاركة في النهوض الذي يحمي الأصالة ويطور جميع ركائز المجتمع المادية والاجتماعية والروحية. كما أنها تطرح كذلك “نسبية التجربة” باعتبارها تجربة لها سلبياتها وإيجابياتها وتخضع لسنن بناء الحضارات وتأسيس العمران البشري وقوانينهما.

إن هذه الدراسة، كما يؤكد صاحبها ليست بحثا معمقا عن تاريخ اليابان الحديث والمعاصر، وإنما هي محاولة للكشف عن الأسباب والعوامل الكامنة وراء النهوض الياباني وتعميق النظر فيها، ذلك بتحليل جذور النهضة وإرهاصاتها الأولى قبل عصر”الميجي”، واستكشاف ميزات كل مرحلة والتحولات الهامة التي اجتازها تاريخ النهضة في اليابان، مع تفكيك أهم مرتكزات النهوض الياباني ومداخله الحاسمة التي ساهمت في تطوير الخبرات والمهارات وإطلاق دورة حضارية جديدة في رحم المجتمع الياباني،  بلورة منظور تركيبي يشرح طبيعة النموذج النهضوي الياباني ورهانات التفكير في التجارب الآسيوية والإشكالات المثارة حولها منهجيا وحضاريا. كما أن الدراسة تحاول استكشاف المحاولات اليابانية للتكيف مع الوضع الدولي والضغط الغربي، وطبيعة النموذج الذي أثبت إمكان انتهاج وسائل مستقلة ومختلفة للنهضة بعيدا عن النزعة المركزية الغربية، وكيفية استخلاص للدول النامية -وخاصة الدول العربية والإسلامية- الدروس والعبر والاستفادة من الروح الثورية لهذا النموذج، أملا في إطلاق نهضة عربية وإسلامية جديدة. وهذا ما انعكس على بناء تصميم الدراسة التي أخضعت المعلومات والقضايا والأفكار في قالب منهجي جديد يلفت النظر إلى الجوانب  المهملة في هذه التجربة مركزا بالأساس على مرحلة النهضة اليابانية الأولى وإرهاصاتها في الفصل الأول، معرجا على جدلية الانفتاح والانغلاق في الثقافة اليابانية وطبيعة العزلة اليابانية عن العالم خصوصا في مرحلة توكوجاوا، في حين عالج الفصل الثاني مرتكزات النهضة اليابانية من خلال ثورة الميجي التي استفادت من التراكم الهائل المنجز أواخر القرن السادس عشر، مقتصرا على تشريح ثلاث عناصر أساسية في بناء الفعل النهضوي وهي البعد المعرفي والبعد الإنساني البشري والبعد المنهجي في استنباب التكنولوجيا.

أما الفصل الثالث فقد تناول رهانات التفكير في النموذج الياباني، وآفاق الاستفادة المنهجية والحضارية منه، من خلال طرح لقضية الوعي الحضاري بشروط النهضة ودور الثقافة والقيم في معركة النهضة والتحرر، لتختم الدراسة بآفاق التفكير في النموذج النهضوي، معتبرا أن دراسة معمقة لمسار النهضة اليابانية في مختلف مظاهرها تظهر بالملموس مدى فائدة دروس تجارب التحديث الآسيوية لإطلاق نهضة عربية جديدة.

التجربة اليابانية: دراسة في أسس النموذج النهضوي

ذ. عبد الخالق بدري

باحث بمركز أجيال للتكوين والوقاية الاجتماعية بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق