وحدة الإحياءدراسات عامة

التجديد والاجتهاد مظهر أصالة الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان

 د. يوسف الكتاني

(العدد 19)

 تقديم

لن أحاول في هذا العرض أن أقدم دراسة أكاديمية مفصلة عن التجديد والاجتهاد وخصائصهما ومقوماتهما وشروطهما ومجالاتهما وغيرها، مما يتصل بالاجتهاد كمصدر من مصادر الشريعة الإسلامية، لكون الدارسين أشبعوا الموضوع دراسة وكتابة وتنظيرا.

وإنما أريد من وراء عرضي هذا أن أثير الانتباه أولا إلى ضرورة العمل الجاد من أجل أن تعود الأمة الإسلامية إلى ممارسة حقها في الاجتهاد، كمصدر تشريعي أغنى وأعطى الكثير، وأجدى على المسلمين في أيام نهضتهم، وجعلهم يلائمون بفضله بين دينهم وحياتهم، ويحقق هذه الخاصية التي امتازت بها شريعتهم وهي صلاحيتها لكل زمان ومكان. كما أنني أحاول ثنايا التحدث عن الوسائل المؤدية إلى الاجتهاد، والتي تستعمل لتحقيقه والوصول إليه، سواء ما عرف منها فيما مضى أو هذه الوسائل التي استحدثت اليوم والتي تؤدي بلا شك إلى الخير والتقدم والتفوق.

وإنني لألح على ضرورة اتخاذ الوسائل الكفيلة بممارسة الاجتهاد، حتى يعود تطبيق الإسلام كاملا إلى مؤسساتنا ومجتمعاتنا، وحتى نقضي على هذه الازدواجية التي طغت على سلوكنا، بالتزام الدين في العبادات والبعد عنه في المعاملات فانحرفت به عن وجهته الصحيحة، وعلى حياتنا فأبعدتها عن الطريق المستقيم، والسلوك القويم، الذي ينبغي أن يلتزمه المسلم، فلم نعد في المرتبة العليا التي رفعنا الإسلام إليها، ولم تبق حياتنا إسلامية صرفة، وإنما أصبحنا بين بين، والتحقنا بصفوف المقلدين والتابعين كما تحدث الرسول الكريم بقوله: “لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قيل: اليهود والنصارى؟ قال: فمن إذن؟”[1] ولله الأمر من قبل ومن بعد.

لقد ترتب على هذه الازدواجية أن أصبح الجيل الحاضر من شباب المسلمين أحد فريقين:

– فريق: يعتقد أن الإسلام دين عبادات فحسب، وأن المعاملات وشؤون الحياة تنظمها هذه القوانين الوضعية الدخيلة، وهي وحدها الكفيلة بتنظيمها وتقنينها، وهذا المفهوم العكسي للإسلام وروحه ونصه، ناتج عن الغزو الأجنبي لبلادنا، وسيادة قوانينه وأوضاعه على حياتنا.

– والفريق الثاني: وهو المتمثل في شباب الصحوة الإسلامية، والذي ساعدته ظروفه على الإلمام بالثقافة الإسلامية، و التعرف على روح الإسلام ومقاصده، وهذا الفريق هو الذي يؤمن بأن الإسلام دين ودنيا، حكم ونظام، سلوك وقدوة، وهذا الفريق من الشباب هو أمل المسلمين وعدتهم في مستقبل الإسلام، وعودته نقيا صافيا كما كان وكما أنزل، وأنه يجب أن يسود حياتنا في البيت، والمدرسة، والجيش، والشارع، والمحكمة، وفي السلم والحرب، وفي سائر ظروف الحياة، وبالتالي هو قدرنا وحياتنا وهويتنا.

تحرير الإسلام للعقل البشري

لقد رفع الإسلام عن العقل البشري الحجر والوصاية التي فرضتا عليه أزمانا وأحقابا، وأطلقه من إساره وقيوده التي اصطنعها الجاهلون والغاوون، وسرحه من جور التقليد والتقييد، إلى عدل الإسلام وحريته، وحرض الإسلام بمختلف صنوف التحريض على التفكير، والتأمل، والنظر، واستيعاب عجائب هذا الكون الذي يحيط به، وحمل العقل المسلم هذه الأمانة إلى البشرية كلها، فتفجرت بفضل ذلك ينابيع العلوم والفنون، والإدراك والابتكار، والاجتهاد الذي يعتبر في عرف الإسلام إطلاقا لقوى العقل، وجعل ذلك كله دينا، فوحد بين حقيقتين ظلتا على مدى الزمن في خصومة حادة، وحد بينهما وجمعهما في سماح وتآلف، وهما الحقيقتان الدينية والعقلية كما أكد ذلك الإمام الغزالي بقوله: “الدين عقل من الخارج، والعقل دين من داخل” الأمر الذي وحد مفهوم كل الاتجاهات والمدارس الفكرية الإسلامية، سواء كانت عقائدية، أو فكرية أو غيرهما، إذ هنا تكمن خاصية التطور في شريعة الإسلام، يؤكد ذلك ويبينه أن الشريعة الإسلامية التي تستند قوانينها ومبادئها إلى القرآن والسنة كمصدرين أساسيين، لم تنص إلا على بعض الأحكام التفصيلية فيما يخص أو يتعلق بالحدود والمواريث، ومعنى ذلك أن الإسلام لم يفصل إلا في مبادئ العقيدة والعبادات، وترك مجال المعاملات وهي مجال القوانين في عصرنا الحاضر، فلم يرد في القرآن والسنة إلا المبادئ العامة التي هي أساس كل تقعيد واستنباط واستلهام، وهذا هو السر في هذه الثروة الفقهية الضخمة الثرية، التي استنبطها الفقهاء والعلماء على مر العصور، لما استجد من الوقائع في الحياة، ولما عرض ويعرض من القضايا والمسائل، كما امتازت هذه القوانين والقواعد المستنبطة نفسها، بكونها متطورة مختلفة من عصر، وفي المذهب الواحد نفسه باختلاف المجتهدين والأزمنة والأمكنة جميعا[2].

التجديد والتغيير

ولا بد هنا من توضيح الأمر بالنسبة لفريقين من الناس:

– فريق: يقف جامدا يأبى كل تطور أو تجديد، ومن ثم يعارض فتح باب الاجتهاد أو ممارسته.

– وفريق: لا يفرق بين أمر التجديد والتغيير، ويرى هؤلاء أنه لابد من تغيير شامل لما وجدوا عليه أنفسهم والناس، مجاراة لأحوال العصور، وخضوعا لناموس التطور، معتقدين أن هذا هو التجديد المأمور به، والذي لا مندوحة عنه لفرض الوجود وضمان الاستمرار.

وأساس الغلط عند الفريقين ينشأ من عدم التفرقة بين المدلولين، فإن التجديد ليس هو التغيير، بل التجديد في الدين يكون بإظهاره بالمظهر اللائق، وعرضه على أحسن وجه، وذلك يقتضي المحافظة على جوهره، وعدم تغيير شيء من أوضاعه، وهذا هو المراد بالتجديد الذي يقوم به أولو الأمر من الأمراء والعلماء، كما حدده الرسول الكريم في الحديث الشريف: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها”[3]، وكما فعل عمر بن عبد العزيز لما انحرف الناس عن الجادة في بعض أمور الدين، فردهم إليها، وكما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية حيث نادى بالرجوع إلى صفاء العقيدة، والتمسك بحبلها المتين.

ولما كانت أصول الإسلام هي الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، تحددت مهمة التجديد، وانحصر نظامه، فما كان من قبيل العبادات أو الأحكام التي نص  عليها الكتاب، أو السنة، أو أجمعت عليها الأمة، فالتجديد فيه يكون بالرجوع بالأمة إليه إذا انحرفت عنه أو اتبعت بديلا، أي إذا غيرت منه شيئا وتركت العمل به، وبالتالي فلن يكون في العبادات وأحكامها تغيير كالصلاة والحج وغيرهما، وكذلك الشأن في أحكام الزواج، والإرث، والبيع، والإجارة، فمن غير في شيء من ذلك فقد عمد إلى هدم الدين لا إلى تجديده.

أما ما لم يرد به نص، ولم يتقرر له حكم فيما سلف، مما يحدث بحكم التطور وتقلب الزمن، فإن على العلماء والفقهاء أن يجدوا له حكما بواسطة قياسه على ما يثبت، وإلحاقه بما عرف، وهذا هو التجديد أيضا، لأنه بمقتضى بنائه على أسس الدين وقواعده المعتمدة فيه، يعتبر استمرارا له ونموا.

على أن التغيير لم يرد في القرآن إلا بمعنى الانحراف والزيغ عن السبيل، كما قال تعالى: ﴿إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾ [الرعد: 11]، أي لا يمنعهم رفده، ولا يحجب عنهم رضاه، إلا إذا بدلوا نعمة الله، وكفروا وارتكبوا ما به يستوجبون نقمته وعذابه، ومن ذلك الآية الأخرى ﴿ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾ [الأنفال: 53].

مما يتبين معه أن التجديد هو غير التغيير، وأنه أكثر ما يتعلق بالإحياء، وأساليب التبليغ، وبلورة الأحكام العملية في قوالب تتمسك بالأصالة والعمق الإسلاميين، وتكون في الوقت ذاته منسجمة مع النظرة المتغيرة للإنسان ومتطلبات الحياة، كما أوضح ذلك المرحوم عبد الله كنون[4].

الاجتهاد مظهر صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان

ومن هنا يكون الاجتهاد هو استفراغ الوسع في تحصيل العلم أو الظن بالحكم الشرعي[5] أي استنباط الحكم من دليله، أي استخراج الحكم من الحجة ناشئا عن الملكة[6] أي أن هناك اجتهادا عاما وهو بذل الجهد للتوصل إلى الحكم الشرعي العملي من دليله التفصيلي كما هو في اصطلاح الأصوليين.

وهناك اجتهاد بالرأي وهو بذل الجهد للتوصل إلى الحكم في واقعة لا نص فيها، بالتفكير واستخدام الوسائل التي هدى الشرع إليها للاستنباط بها فيما لا نص فيه.

إذا فالرأي الذي هو أساس الاجتهاد فيما لا نص فيه، هو التفكير بطرق التفكير التي أرشد إليها الشرع، لأنها أقرب إلى الصواب، وأبعد من الزلل، وتهدف إلى تحقيق المصالح العامة الحقيقية، كما ذهب إلى ذلك الإمام الشاطبي في الموافقات، وهو المراد في قول معاذ بن جبل حين سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ولاه قضاء اليمن: أقضي بكتاب الله، فإن لم أجد، فبسنة رسول الله، فإن لم أجد أجتهد رأيي ولا ألو أي لا أقصر.

وهو أيضا المراد في قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عندما سئل عن معنى الكلالة في قوله تعالى: ﴿وإن كان رجل يورث كلالة﴾ [النساء: 12] أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمني: الكلالة غير الولد والوالد.

ومن هنا يكون الرأي بمعنى التفكير بغير الطرق التي مهدها الشرع وهدى إليها، تفكيرا بالهوى وقريبا من الزلل، ويعتبر رأيا مذموما، وهو ما عناه عمر رضي الله عنه بقوله: “إياكم وأصحاب الرأي”.

وهو قول كثير من صحابة رسول الله، صلى الله عليه وسلم: من قال في الشرع برأيه فقد ضل وأضل.

ومن هنا يتبين أن الاجتهاد بالرأي من أنواع الاجتهاد العام، الذي يشمل بذل الجهد للتوصل إلى الحكم المراد من النص الظني الدلالة، ويشمل بذل الجهد للتوصل إلى الحكم بتطبيق قواعد الشرع الكلية، ويشمل أيضا بذل الجهد للتوصل إلى الحكم فيما لا نص فيه بالقياس أو الاستحسان أو الاستصلاح أو غير ذلك من الوسائل التي أرشد إليها الشرع للاستنباط فيما لا نص فيه.

ولذلك يتبين أن الاجتهاد بالرأي لا ينشئ حكما وضعيا من لدن المجتهد، وإنما يكشف عن الحكم الشرعي الذي نصب الشرع أمارات عليه، ومهد الطرق للوصول إليه، مما يجعل الاجتهاد في شريعة الإسلام ضرورة حتمية مواكبة لحياة المسلمين لا في عصر دون عصر، ولا في مكان دون مكان، ولكن في كل العصور، وفي جميع الأزمنة، حتى يبقى المجتمع الإسلامي متطورا متجددا، ويلائم بين العبادة والمعاملة، ويعمل فيه المسلم لمعاشه كما يعمل لمعاده، باعتباره النافذة الضرورية في حياة المسلمين، لتجد قضاياهم ومشاكلهم، ووقائع حياتهم، قواعد وحلولا لها تطبيقا لخاصية الإسلام وقاعدته الأساسية، وهي صلاحيته لكل زمان ومكان، باعتباره الدين الخاتم والصالح للإنسانية كلها، وذلك كله لا يتحقق إلا بممارسة الاجتهاد المستمر، يؤكد هذه الحقيقة الإمام الشهرستاني في “الملل والنحل” بقوله: “إن الحوادث والوقائع مما لا يقبل الحصر والعد، ونعلم قطعيا أنه لم يرد في كل حادثة نص ولا يتصور ذلك، والنصوص إذا كانت متناهية، والوقائع غير متناهية، وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى علم قطعا أن الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار حتى يكون بصدد كل حادثة اجتهاد”.

ويعلل الإمام الخطابي ذلك “بأن الله لو نص على حادثة من الحوادث، وكفى الناس مؤونة الاجتهاد والاستنباط، لماتت الخواطر، وتبلدت الأفهام، وسقطت فضيلة العلماء، فأمر بين غير خاف، وأيضا فلو جاء التوقيف في كل حادثة تحدث إلى آخر الدهر لاشتد حفظه، ولامتنع على الناس ضبطه، ولأدى ذلك إلى الضيق والحرج عمن أمروا، لتعدد عصره، والعجز عن ضبطه وحفظه”.

إن توالي الحوادث والوقائع المستجدة، والمعاملات المستحدثة، وذلك كله من طبيعة الحياة واستمرارها ودوامها، يجعل تلك الحوادث والوقائع كلها محتاجة إلى أحكام وقواعد وإلى استنباط وإيجاد الحلول الملائمة لها، والوسيلة الوحيدة إلى ذلك هو الاجتهاد الذي هو حياة الأمة الإسلامية، ومظهر حيويتها واستمرارها، والباب الوحيد للملائمة بين دينها وحياتها، واستمراره ضروري لاستمرارها وبقائها، مصداقا لما أكده الشاطبي في “الموافقات” “إن الاجتهاد لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع التكليف، وذلك عند قيام الساعة”.

ومن هنا كان الاجتهاد واجبا في حق الأمة الإسلامية كما ذهب إلى ذلك أئمة الإسلام أمثال: الشاطبي، والشوكاني، والبغوي، والعز بن عبد السلام الذي اعتبره ضروريا، وطالب الأمة بممارسته حيث يقول: “إن وقعت حادثة غير منصوصة، أو فيها خلاف بين السلف، فلابد  فيها من الاجتهاد من كتاب أو سنة، وما يقول سوى هذا إلا صاحب هذيان”.

ومن هنا لم يكن علماؤنا في مختلف عصور الإسلام يترددون أو يحجمون عن الاجتهاد، وعن إلحاق الحكم الشرعي بكل حادثة جديدة عرضت لهم، ولم تكن معروفة للسلف، مستدلين على ذلك الحكم استدلالا سليما من أصول الشريعة، بواسطة قواعد الاستنباط التي يرشد إليها علم أصول الفقه، المستمد من كتاب الله الذي هو أصل الأصول التي لا تنتهي إليها أنظار النظار، ومدارك أهل الاجتهاد، كما ذهب إلى ذلك الإمام الشاطبي الذي اعتبر المجتهد: هو كل من اتصف بوصفين[7]:

أحدهما: فهم مقاصد الشريعة وكمالها. وثانيهما: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها، سواء كان يجتهد لنفسه أو لغيره، مما يعني ضرورة معرفة المجتهد المعاصر للموضوع المستحدث الذي يجتهد في استنباط أحكامه الشرعية. أي أنه ينبغي الاجتهاد في حسن فهم الأحكام الشرعية القائمة، والتعرف على عللها من أجل حسن تطبيقها على ظروف مجتمعاتنا المعاصرة. ثم الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية الجديدة التي تنظم المعاملات المستحدثة، والتي لم يكن للسلف بها عهد، ولم يكن لها في الشرع حكم قائم لازم، لا يستغني عنه المسلمون في كل زمان.

الاجتهاد فرض على الأمة الإسلامية

ولذلك أجمع العلماء وفي مقدمتهم الإمام الشاطبي على القول: بأن الاجتهاد فرض لازم للأمة الإسلامية، وواجب عليها، يقوم به الفرد الذي توافرت فيه شروطه، أو كل جماعة إسلامية في كل جيل ممن استكملوا أدوات الاجتهاد، وتهيأت لهم أسبابه من علماء المسلمين.

والاجتهاد مرهون بالتكليف، لأنه ضرورة من ضرورات الحياة الإسلامية لابد له منها، ولأن الحاجة إليه باقية ما بقيت الحياة، كما أكد هذه الحقيقة القائمة الثابتة في حياة الأمة الإسلامية الهدي النبوي الشريف بقوله: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها”[8] ولذلك ذهب الإمام الشوكاني إلى القول بناء على هذا التوجيه النبوي الكريم: بأنه لا يصح أن يخلو عصر من وجود مجتهدين كي لا تتعطل الشريعة عن التطبيق، وهذا هو المراد من قوله، صلى الله عليه وسلم، وإرشاده لأمته.

وإذا كان الاجتهاد مرهونا بالتكليف، فهو قائم على المصلحة التي لا تقوم على الهوى لا على بناء الحكم الشرعي على ما يستحبه المجتهد دون دليل، وإنما هي المصلحة التي يشهد لها الشرع بالاعتبار، والتي لا تصادم نصوص الشريعة، أي هي المحافظة على مقصود الشارع، والتي ترمي إلى أن تحفظ عليهم نفسهم، ودينهم، وعقلهم، وسلامتهم، ومالهم، كما ذهب إلى ذلك الغزالي في “المستصفى”.

وإن مراعاة مصالح الناس هي مقصد الشارع الحكيم، ولذلك لم يتوسع الإسلام في تفصيل أحكام المعاملات المالية والاقتصادية، والنظم الإدارية، والعلاقات الدولية وغيرها، لتطور الاجتهاد بتطور البيئة، واختلاف الزمان والمكان، وإنما دل على ذلك بوجه عام ليكون المسلمون في سعة من استنباط الأحكام، في ضوء المصلحة، ودون حرج، أو خروج على القواعد العامة للشريعة، كما أكد على ذلك الإمام الشوكاني بقوله: “إن الله لم ينصب على جميع الأحكام الشرعية أدلة قاطعة، بل جعلها ظنية قاصدا للتوسيع على المكلفين”[9].

ومن هنا كان تغير الأحكام بتغير المصلحة العامة كما أكد ذلك ابن القيم قائلا: “السياسة العادلة جزء من أجزاء الشريعة، إذ جميع الأحكام الناتجة عن الاجتهاد ومراعاة المصالح، تتبدل بتبدل الزمان، وأخلاق الناس، وهي في الحقيقة مهما تبدلت، فإن المذهب الشرعي فيها واحد، وهو إحقاق الحق، وجلب المصالح، ودرء المفاسد، وهو ما كان عليه اجتهاد الصحابة، رضي الله عنهم، ومن تبعهم بإحسان، قائما على المصلحة العامة، كما هو الشأن في كثير من اجتهاداتهم كالتسعير فإنه كان منهيا عنه على عهد الرسول الأكرم، ثم أبيح فيما بعد، وكالطلاق الثالث يعتبر واحدة، ثم اعتبر عمر ثلاثا عقابا للمطلق وتبعا للمصلحة الظاهرة له آنذاك.

وسائل الاجتهاد

1. الاجتهاد الفردي والجماعي

لقد كان السبب الأساسي في الوصول إلى مرحلة الجمود والتبعية للأجنبي، غياب الشريعة الإسلامية عن منهج الحياة وأسلوبها، حتى إذا جاء القرن الرابع عشر الهجري سلخت من الشريعة كل مجالات المعاملات، ونقل الفكر الغربي إلى البلاد الإسلامية ليكون هو فقه المعاملات الجديد والناظر إلى الجهد الفقهي من خلال فتاوى دار الإفتاء في الأحوال الشخصية، والوقف والعبادات، يجدها ثرية غنية، بينما في النظام السياسي والمعاملات، نلجأ إلى أهل المدارس الحديثة، ولو نظرنا إلى كل المؤلفين والباحثين عبر المائة سنة الماضية، لمعرفة ما بذلوا من جهد في هذا المجال، لوجدنا أنفسنا أمام سياق قانوني جديد، وهذا هو سبب التخلف والجمود، وحالة التصلب الفكرية التي واجهت أمتنا عندما عزلت الشريعة عن الوقائع، وتوقف الاجتهاد العلمي في مجال التجديد الفقهي.

ولا يجب أن نغفل أن هناك مجددين ومجتهدين كثيرين على مر المراحل المختلفة، ولكن لم يكونوا بالقدر الذي يؤصل حركة الاجتهاد، ويصوغ من الشريعة ما يناسب الواقع.

وهذه الجهود امتدت عبر مدرسة القضاء الشرعي، وشيوخ القرويين وعلماء الأزهر وغيرها أمثال: محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، والمراغي، ورشيد رضى، وعبد الرحمن الكواكبي، ومحمد بن عبد الوهاب، ومحمد الكتاني، وعبد العزيز الثعالبي، وعبد الحميد بن باديس، وسواهم من دعاة التجديد والإصلاح الذين نبهوا الأمة الإسلامية إلى ضرورة العودة إلى ممارسة حقها في الاجتهاد، للملائمة بين دينها وحياتها، وكانت حركاتهم، وصيحاتهم، وكتبهم، ونداءاتهم، الناقوس الذي جلجل في آذان شعوبنا، وأيقظها من سباتها، ونبهها من غفوتها، ودفعها للبحث عن نفسها، وتغيير واقعها المرير.

وهكذا لم يخل عصر من العصور، ولا زمن من الأزمنة الإسلامية، من مجتهد من المجتهدين، ولو على قلتهم وندرتهم في العصور الأخيرة، بسبب الجمود والجحود، الذي طمس التجديد والاجتهاد، لكنه لم يستطع القضاء عليه، بفضل الإرادة الثابتة والمصممة لأولئك الرواد، للعودة إلى الاجتهاد، وتجديد أمر الدين، وإذكاء روحه في النفوس والقلوب، عن طريق العودة إلى الأصول، والامتثال للأوامر الدينية، وإحياء القيم الإسلامية.

لقد أكد هؤلاء الرواد أن الاجتهاد ضرورة من ضرورات بقاء الأمة الإسلامية واستمرارها، باعتبار الإسلام دينا يخاطب العقل، ويدعو إلى استعماله، مثنيا في الكتاب الحكيم على “أولي الألباب” وعلى “الذين يعقلون” و “الذين يتفكرون” وأن البقاء والاستمرار للإسلام كدين خاتم لا يتحققان إلا بهذه الوسيلة، وإلا انقطعت ما بين الدين والحياة من روابط، وانفصل أحدهما عن الآخر، وسلكت الحياة طريقا يأباه الإسلام، وهذا يؤدي إلى خمود شعلة الإيمان في القلوب كما ذهب إلى ذلك الدكتور علي فؤاد باشكيل من الرواد المعاصرين الأتراك في بحثه عن الاجتهاد باعتباره مفتاح قضية المسلمين.

لذلك لم يكتف هؤلاء العلماء الرواد بدعوة الأمة إلى ممارسة حقها في الاجتهاد، بل مارسوه هم أنفسهم سواء عن طريق الفتوى، أو عن طريق كتاباتهم وأجوبتهم لما يعرض عليهم من مشاكل العصر ووقائعه، ناهيك بفتوى الشيخ محمد الكتاني الشهيد في أوائل القرن الماضي عن الجنسية، والتجنس ، حيث ذهب إلى تكفير المتجنسين من المسلمين، باعتبار المتجنس يستظل بظل الكافر ويحتمي بحماه، مستدلا على ذلك بالآية الكريمة: ﴿ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا﴾ [النساء: 141].

لقد كانت هذه الفتوى الاجتهادية العظيمة ضربة كبرى لسلاح خطير وشر مستطير، أخذ يستشري في المجتمعات الإسلامية، ويمهد لاستعمارها، بتخطيط وتصميم من لدن أعداء المسلمين، واستطاعت هذه الفتوى أن تقف في وجه تيار التجنس وتقضي عليه، مما دعا كثيرا من علماء المسلمين في تونس والجزائر والشام ومصر وغيرها، إلى الإقتداء بها ونشرها، والعمل بما جاء فيها، ومما جعل فتوى تحريم جنسية غير المسلمين عملا تجديديا اجتهاديا رائعا، جمع بين الأصالة والتجديد، في وقت كانت الأمة الإسلامية في حاجة إليها.

وكفتوى المرحوم عبد الله كنون الذي كان لا يرى الإحرام من الطائرة، وإنما يحرم من جدة بناء على الحديث الشريف “هن لهن” أي المواقيت، ولمن أتى عليهن إلى يوم القيامة”[10] وكما يشاركه الرأي في هذا الموضوع العلامة المرحوم الطاهر ابن عاشور.

كما نجد فتاوي اجتماعية عظيمة للشيوخ: الأفغاني، وعبده، ورشيد رضا، والكواكبي، وذلك في أهم الوقائع والأحداث التي كانت جارية في عصرهم، غير أن هذه الاجتهادات الفردية لن تعد متفقة مع عصر الصحوة الإسلامية، وتعدد دول الإسلام، واختلاف أنظمة الحكم، وحاجة المسلمين في جميع أنحاء العالم الإسلامي، إلا آراء وفتاوى موحدة في شؤون دينهم ودنياهم.

2. الاجتهاد الجماعي 

لقد عرفت العقود الأخيرة من القرن الهجري الماضي، أنواعا من الاجتهاد صدرت عن الهيآت العلمية، والروابط الإسلامية، وكانت هذه الفتاوى صدى لدعوات المصلحين للعودة إلى الاجتهاد، وذلك مثل الفتاوى الصادرة عن الأزهر الشريف، والمجمع الفقهي بمكة المكرمة، ورابطة علماء المغرب، والمجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر وغيرها.

إلا أن هذه الفتاوي أو بعضها، اصطدمت بمعارضة الهيآت الإسلامية المختلفة، كما وقع في فتوى المجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر، بجواز استبدال ذبائح الهدي بثمنها، عندما قرر المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي سنة 1390 هجرية عدم جواز ذلك ردا على الفتوى المذكورة، ولم يعد الزمان زمان الفرد، بل أصبح العصر مطبوعا بطابع الجماعة، كما أن الحكم لم يعد للفرد، بل غدا الحاكم شخصا معنويا ينبثق من روح الجماعة، وهذا هو منطق الإسلام، إذ كان أول من ندد بالاستبداد، وحمل على الطغيان، وأنشأ نظام الشورى، وجعل يد الله مع الجماعة، ودعا إلى الاعتصام الجماعي بحبل الله، ﴿ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا﴾ [آل عمران: 103].

كما كان من نتائج وآثار الصحوة الإسلامية التي تعتبر ظاهرة العصر في العالم الإسلامي، شعور المسلمين بالذنب إزاء التفرقة التي أصابت شعوبهم، وبددت كلمتهم، وشتتت صفوفهم، حتى أصبحوا دويلات لا حول لها ولا قوة، بالرغم من موقعهم الاستراتيجي، وإمكاناتهم المادية والطاقية، وكثرة عددهم، حتى أصبحت الوحدة اليوم هدفهم وغايتهم، لكي يصبح أمرهم بيدهم.

مجالات معاصرة للاجتهاد

لقد أخطأ من قال: إن باب الاجتهاد أغلق، ودعا إلى إغلاقه، متذرعا بشتى الوسائل والأسباب، ذلك أن نشاط الفتوى لم ينقطع أبدا طوال تاريخ الفكر الإسلامي، ومازال المفتون في جميع أنحاء العالم الإسلامي يجيبون المستفتين، ويصدرون فتاويهم في كل حين، وكذلك ظل القضاء الشرعي قائما مستمرا، إذ استمرت الأحكام الشرعية تتوالى في الصدور، وهي مثل الفتوى دائما تحمل بين طياتها الجديد، الذي يحل مشاكل الناس، ويفصل في منازعاتهم، مثلما تطمئن الفتاوى المستفتين المسلمين، وتهديهم إلى ما ينبغي عمله وتطبيقه، نظرا لحال الدول الإسلامية وتفرقها، واختلاف أنظمتها، وقلة العلماء والمجددين والمفكرين، وانحسار دورهم بسبب الاستعمار الذي غزا دولنا بجيوشه، ونظمه وقوانينه، وعاداته الغربية عن مجتمعاتنا وكياننا، وعمل على عزل الدين عن الدولة، فقامت هذه الازدواجية التي ما زلنا نعاني منها في حياتنا، بالتزام الإسلام وتطبيقه في العبادات، والابتعاد عنه في ميدان المعاملات، التي تعتبر في نظر الإسلام روح الحياة وأساسها، لقيام العلاقات الإنسانية عليها، من باب تقليد المغلوب للغالب كما ذهب إلى ذلك ابن خلدون[11]، واستبدلنا مؤسساتنا الدينية، ونظمها الإسلامية، بهذه المؤسسات والنظم التي تقوم كلها على الربا والاستغلال كالبنوك بأنواعها المختلفة، ومؤسسات التأمين، والقرض، والقمار وغيرها، مما يتعارض مع أسس ديننا وأحكامه، وهذه في رأيي ومثيلاتها هي المجالات المعاصرة التي ينبغي أن تتصدى لها جهود المجتهدين في العالم الإسلامي اليوم، حتى ترتفع هذه الازدواجية بين العبادات والمعاملات، وهذا التناقض من حياة المسلمين، الذين أخذ شعورهم بالذنب يتعاظم من جراء ذلك، بفضل روح الانبعاث التي أخذت تنمو فيهم، وانتشار التعليم والثقافة، وعودة الوعي لتصحيح المسار، ومحاولات بعض الدول مراجعة تشريعاتها وتنظيماتها على هدى الكتاب والسنة، وظهور بعض المؤسسات الإسلامية التي تساعد على ذلك وإن كانت قاصرة في تكوينها وعملها، وعدم الالتزام بضمان تنفيذ قراراتها، حتى يستريح المسلم في عالم اليوم من هذه المعاناة، وهذا الشعور الذي أخذ يطغى وينتشر، بسبب الإيمان بشيء، وإلزامه بتطبيق شيء آخر يعتقد حرمته.

وننوه هنا بالمبادرة الطيبة المتمثلة في شركة التأمين الإسلامية المحدودة، التي أنشأها بنك فيصل الإسلامي السوداني بالخرطوم، برأسمال طرح للمساهمين شريطة عدم إفادتهم من فائض عمليات التأمين، وإنما يعود عليهم عائد استثمار رأس المال[12].

إن مؤسسات التأمين في أغلب أنواعها تقوم على وسائل وأنظمة يطبعها الغرر والغبن والربا، كما أنها لا تخلو من شبهة المقامرة، وتتنافى في أعمالها مع طرق الكسب الطبيعية والمشروعة، ولذلك اختلفت آراء وأنظار العلماء فيها، مما يحتم توحيد الرأي حولها بما يتفق وروح الإسلام وتعاليمه.

ومثل التأمين بجميع أنواعه من تعاوني وتجاري وغيرهما، نجد مؤسسة أخرى تطغى على مرافق، مجتمعنا وتستقطب نشاطه، وهي البنوك القائمة على الربا والاستغلال، والتي شهد هذا الجيل محاولة جادة لتغييرها، وإحلال البديل محلها بقيام البنوك الإسلامية التي تقوم على أساس الشريعة الإسلامية وهديها، والتي أثبتت تجربتها مصداقيتها حتى امتد نشاطها إلى أوربا بالرغم من بعد سلبياتها، ويوجد الآن حوالي ثلاثين بنكا ومؤسسة مالية إسلامية منتشرة في أرجاء العالم خاصة وأن هدف المصرف الإسلامي هو التوفيق بين ممارسة النشاط المصرفي في العصر الحديث، وبين الشريعة الإسلامية، وأن يوفر للمسلم وسائل استثمار مدخراته وفق أحكامه.

إن هذه التجربة الناجحة تؤكد أن المسلمين يستطيعون أن يقيموا في دولهم مؤسسات مالية واقتصادية تتفق ومبادئ دينهم، ويكون لها الأثر الأكبر في حياتهم، وحبذا لو سارعت الدول الإسلامية إلى تبني هذه التجربة الرائدة، ودعمها وتقويمها ونشرها وتوسيعها، اقتداء بالدول التي اعتمدتها، بعد التحقق منها ودراسة نظمها، والتأكد من نتائجها.

وكذا الأمر بالنسبة لمؤسسات القرض بجميع أنواعها وأصنافها، لاضطرار المسلمين للتعامل معها واستعمال أموالها، والعقود الاقتصادية الحديثة، كعقد التوريد والبيع بما يسفر عنه سعر البورصة، وبيع العقار قبل بنائه حسب المخطط، والشفعة فيما يقبل القسمة، وثبوت هلال رمضان برقيا أو هاتفيا، وأطفال الأنابيب، واستبدال الأعضاء البشرية، كاستبدال القلوب والكلى والعيون، وزراعة الأنسجة، وبنوك الحليب، والأطعمة المستوردة من البلاد الأجنبية، والتنظيم العائلي أو تحديد النسل، ووضع الودائع في البنوك الأجنبية وحكم الفوائد عنها، كل ذلك يدعونا للتفكير الجدي، والعمل المستمر، ورعاية هذه المحاولات الفكرية والجماعية، في مجالات مهمة تستقطب حياة المسلمين لما لها من مساس بدولهم وأنظمتهم، وتأثير في حياتهم ومجتمعاتهم، وأنها تحتاج إلى رأي جماعي واجتهاد موحد، تقوم به مؤسسة إسلامية تجمع أهل الرأي وعلماء الإسلام في مجمع واحد، يتفرغ لدراسة هذه الأمور، واستخراج الحكم المناسب لها، وتقديم البدائل والحلول المتفقة مع مقاصد الإسلام وروح الشريعة، والملائمة في نفس الوقت مع ما تقتضيه ظروف الحياة وروح العصر، وذلك بإقرار ما هو صالح ومتفق مع الشريعة، وإلغاء ما يتعارض مع أحكامها حتى تستقيم حياتنا، وتنتظم أمورنا.

وإن مما يزيد الاهتمام بموضوع الاجتهاد الجماعي، ويدعو للتفكير الجدي فيه، والمسارعة إلى إنشاء مجمعه أمران مهمان:

أولهما: هذا التسارع التكنولوجي العظيم الذي يزداد يوما بعد يوم، والذي لا نستطيع أن نلاحقه إلا بالجهد الكبير، والتطور العظيم، خاصة بالنسبة لدول العالم الثالث التي يجب عليها أن تلاحق هذا التطور وإلا جرفها التيار، تلاحقه بالوحدة والائتلاف، وانتظام الجهود والتكتل والتآزر، ونبذ كل تفرق أو اختلاف في سائر المجالات.

وثانيهما: هذه الفوضى العارمة التي انتشرت في عالمنا العربي في مجال الفتوى، واختلافها وتعددها في الموضوع الواحد، وخاصة بالنسبة لموضوعات حساسة وهامة بالنسبة للمسلمين، وأذكر منها على سبيل المثال لا الحصر.

– قضية استئجار الأرحام التي يختلف الأمر فيها بالنسبة إلينا كمسلمين عنها في البلاد غير الإسلامية.

– قضية نقل النطف والاحتفاظ بها إلى ما بعد وفاة الزوج فيما يسمى ببنوك النطف.

– قضية نكاح المسيار.

– وقضية القضايا في عالمنا اليوم هي قضية الاستنساخ التي من شأنها إذا لم تقيد ولم تحدد ولم تقدر بقدرها، فستجرف ما قد يكون بقي للناس من أخلاق والتزام وخاصة خارج العالمين العربي والإسلامي لكون أبواب العالم أصبحت مفتوحة ومشتركة.

وهناك قضية جادة وهامة وهي قضية توحيد المطالع أو الرؤية بالنسبة للتاريخ الهجري، وخاصة توحيد الأعياد والمناسبات الدينية الهامة كرمضان والحج وغيرها.

مجمع الاجتهاد للعالم الإسلامي

ومن هنا أخذت الحاجة تشتد إلى مؤسسة اجتهادية جماعية تضم جميع ممثلي دول الإسلام وشعوبه، تتدارس أحداث المسلمين ومشاكلهم، وتتلمس لها الحلول والقرارات، وقد عرف منطلق القرن الهجري الماضي دعوة كريمة من عالم مسلم كبير هو بديع الزمان سعيد النورسي، من أجل إنشاء “مجلس شورى للاجتهاد” كما أكده وأوضحه في كتابه “الاجتهاد في العصر الحاضر”.

وكم يكون لي الشرف أن أبادر بدوري إلى تجديد هذه الدعوة الكريمة، من على هذا المنبر الإسلامي الكريم، هنا في رحاب المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، في هذه المناسبة والمسلمون أشد ما يكونون حاجة إلى الوحدة سياسيا وفكريا وتشريعيا، خاصة وأن هذا المجلس سيكون أوسع وأشمل وأكثر اختصاصا من هاته المجالس والمجامع الموجودة في العالم الإسلامي، والتي تعتبر بدورها طريقا ورافدا لهذا المجلس.

ولهذا أقترح إنشاء مجمع الاجتهاد الإسلامي، ويعتبر هذا المجمع العقل المدبر، والدماغ المفكر، في العالم الإسلامي كله، لانتظام سائر الدول الإسلامية فيه، ويتكون من:

1. ممثلين لكل دولة إسلامية بنسبة 3- 5  من كبار علمائها المرموقين ذوي الكفاءة والاقتدار.

2. يختص هذا المجمع بالنظر في سائر قضايا المسلمين ومشاكلهم، وجميع ما يتصل بحياتهم الفكرية والسياسية والدينية، وتوحيد الرأي فيها، والاجتهاد في شأنها، وإصدار القرارات الموافقة لأحكام الشريعة ومقاصدها.

3. يكون أعضاء المجلس متفرغين لعملهم المتواصل بالمجمع الذي يعقد دورات فصلية، تختم كل سنة بدورة عامة تعلن فيها قراراته.

4. تصدر قراراته بالأغلبية المطلقة لأعضائه

5. يكون للمجمع مقر بمكة المكرمة، أو بأية عاصمة إسلامية أخرى يتفق عليها الأعضاء المؤسسون، ويشرف على تسييره وإدارته رئيس وهيئة منتخبة من بين أعضائه بالتناوب مرة كل سنتين.

6. يكون ممثلو كل دولة، فروعا للمجلس في كل دولة إسلامية، تكون أداة وصل بينها وبين المجمع، تتلقى المشاكل والمسائل، وتحيلها على المجلس للبث فيها.

7. تلتزم الدول المشاركة في المجمع بتطبيق قراراته والعمل على تنفيذها، واحترامها، وعدم مخالفتها.

8. يصدر المجمع مجلة دورية أو سنوية، تنشر قراراته باللغات المنتشرة في العالم الإسلامي.

وأخيرا أحب أن أنوه بأن أسباب الاجتهاد اليوم، أسهل وأيسر منها فيما قبل، وذلك بفضل تدوين علوم القرآن والسنة، ومعرفة حالة الرواة، واستقرار علم الأصول، ومعرفة طرق الاستنباط المعتمدة، مما يجعل أغلب العقبات، التي اعترضت المجتهدين في السابق، مهدت الآن وأزيلت.

كما أن المصادر الرئيسية للأحكام الشرعية، قد استنبط منها الفقهاء الأوائل، جل ما يمكن استنباطه من أحكام شرعية مستحدثة، إذ أن الاستنباط في عصرنا يمكن عن طريق الأصول المكملة، كالقياس، والمصالح المرسلة، والاستحسان وغيرها.

﴿يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم﴾ [الأنفال: 24].

الهوامش

1. رواه الحاكم في مستدركه. وانظر مختصر الجامع الصغير للمناوي 2/26، طبع دار إحياء الكتب العربية، مصر سنة (1373ﻫ/1904م).

2. انظر تفصيل الموضوع في بحثنا “الحاجة إلى الاجتهاد اليوم ومجالاته”، مجلة كلية الشريعة، جامعة القرويين، فاس، ص: 27- 40، العدد 13- 14 1304/1984.

3. رواه أبو داود وفي سننه، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في معرفة السنن والآثار عن أبي هريرة.

4. منطلقات إسلامية، عبد الله كنون، ص: 160- 164.

5. الموافقات، 4/04.

6. الاجتهاد والتقليد، رضا الصدر، ص: 21، دار الكتاب اللبناني، سنة 1976

7. راجع تفصيل ذلك في كتاب “الموافقات”، 4/104 وما بعدها.

8. رواه أبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه والبيهقي في معرفة السنن والآثار، والخطيب في التاريخ وغيرهم عن أبي هريرة.

9. راجع ذلك في كتاب “إرشاد الفحول”.

10. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحج، باب مهل أهل مكة للحج والعمرة، 2/142، طبعة دار الفكر.

11. راجع مقدمة ابن خلدون، ص: 167، الطبعة الرابعة، دار إحياء التراث العربي، لبنان.

12. الإسلام والتأمين، للدكتور محمد شوقي الفنجري، ” مجلة العلوم الاجتماعية”، ص: 188، العدد الأول، السنة الحادية عشرة، مارس 1983، الكويت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق