الرابطة المحمدية للعلماء

التاريخ بين العلم والإيديولوجيا؟

كتابان
يغمطان العالم الإسلامي إسهامه في البناء الحضاري للإنسانية.

 من المثير للتساؤل صدور
كتابين لمؤلفين غربيين كلاهما يشككان في الإسهام الحضاري للإسلام والمسلمين؛ الأول
لـ ” سليفان غوغنهايم” «أرسطو في جبل سان ميشال: الجذور الإغريقية
لأوروبا المسيحية». والثاني لـ”بنيامين بوكيش” بعنوان: «القانون الدولي
الإسلامي، مشروع هارون الرشيد للتقنين»؛ الأول يدعي أن أوروبا المسيحية كان لها
اتصال مباشر بالعلوم اليونانية عبر اللغة اللاتينية دونما حاجة إلى المسلمين..بينما
الثاني يزعم أن كتاب «السير الكبير» لمحمد بن الحسن الشيباني، والذي كتبه لهارون
الرشيد (170 – 193هـ) منقول عن مدونة الإمبراطور البيزنطي “جستنيان”
(القرن السادس الميلادي).كما اعتمد فيه على  الدثائر والقوانين اليهودية.

وبينما انبرى للرد العلمي على
ادعاءات “سليفان غوغنهايم” جماعة علمية معتبرة تتكون من 56 مؤرخا
أوروبيا  من المتخصصين في التاريخ الوسيط،
نشروا بيان حقيقة بجريدة ” ليبراسيون” الفرنسية يوم 30 أبريل الماضي
بعنوان: ” نعم الغرب المسيحي مدين للعالم الإسلامي” كشفوا فيه عن أهم
المغالطات المعرفية والتحيزات الإيديولوجية التي وجهت البحث. كاشفين أنه يندرج في الاتجاه
المعاكس للبحث المعاصر الذي طالما ركز على التلاقح والتواصل الثقافي والعلمي بين
مختلف الحضارات من خلال التعلم و التأليف والترجمة..

وهو المنحى النقدي الذي عززه
المؤرخان؛ “غابرييل مرتينيز غرو” الأستاذ المحاضر بجامعة باريس و ”
جوليان لوازو” الأستاذ بجامعة مونبوليي اللذين لم يترددا في التشكيك،
وبالتالي في تفنيد أطروحة الكتاب الأساسية مبرزين ، بشكل أساسي، مبالغة “سليفان
غوغنهايم” في تقدير دور العالم البيزنطي ، وذلك بجعله من كل
“يوناني” عالما، ومن كل مسيحي آت من الشرق مجرد ناقل للثقافة. مؤكدين ،
بالمقابل، أن الإسهام العلمي للحضارة الإسلامية في مجالات الجبر والموسيقى
والهندسة الرياضية والفلك خلال القرنين التاسع والثالث عشر كان أهم من نظيره البيزنطي.
وهو ما لم يكن من الممكن تحقيقه ،حسب المؤرخين، لولا ما تمتعت به الحضارة العربية
الإسلامية من روح علمية، ونقاش فكري، وتنوع ثقافي، وفكر قانوني، وإبداع فني..

وبينما شهد شهود من
أهل”سليفان غوغنهايم” على الطابع المغرض والإيديولوجي لكتابه، بدليل أن أحد مواقع الإنترنت التابعة لليمين المتطرّف نشر
فصولاً منه قبل أشهر من صدوره، فقد تصدى للرد على الكتاب الثاني الأستاذ رضوان
السيد في محاضرة له بجامعة الإسكندرية المصرية حول
مخطوطةٍ مطويةٍ أو ضائعة في السِيرَ لمحمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن
أبي طالبي، الثائر على المنصور العباسي (-159هـ)، والملقب بالنفس الزكية، والمقتول
عام 145هـ بعد فشل الثورة. وقد نشر أهم مضامين هذه المحاضرة بجريدة الحياة
اللندنية بعدد 24/5/ 2008.

 وقد كشف رضوان السيد أن المصادر الزيدية (وكتاب محمد النفس الزكية لا
يُذكرُ في غيرها)،قد ذكرت أن كتاب الشيباني في السِير مأخوذ في أكثره من كتاب
النفس الزكية هذا. في حين تذكر المصادر الحنفية أن الشيباني إنما بارى فيه ونافس
شيخ أهل الشام الأوزاعي (-157هـ) والذي كان بين أوائل من كتبوا في السِير، أي في
مسائل القتال والحرب والسلم والتعاهد بين المسلمين والأمم الأخرى، وبوجه خاص
البيزنطيين الذين عادة ما تنعتهم المصادر الإسلاميةبـ “الروم”. ويرجح
رضوان السيد أن الشيباني إنما كتب كتابهُ في السير في خمسينات القرن الثاني
الهجري، حينما كان الرشيد (حفيد المنصور) ما يزال طفلاً، ولذلك فقد استبعد أن يكون
الكتاب أو المشروع بتكليفٍ منه.

مؤكدا ، بالمقابل، أن الرشيد قد كلف زميل الشيباني الأكبر سناً منه؛ أبا
يوسف يعقوب بن إبراهيم (-182هـ) بكتابة المؤلف الآخر المسمى الخراج عن السياسة
المالية للدولة في ما يتعلق بالأرض المفتوحة. “أما الشيباني نفسه، الذي أصبح
قاضياً للرشيد بعد وفاة أبي يوسف، فقد أتى إذن في نهاية تطورٍ للفن الفقهي المعروف
بالسِيرَ يعود إلى عشرينات القرن الثاني الهجري، وهو الكتاب السادس أو السابع في
تلك السلسلة التي بلغت ذروتها به، وربما لم يؤلف بعده في هذا الفن غير كتاب
السِيرَ للواقدي (-207هـ) الذي لا نعرفُ عنه ومنه غير الصفحة التي نقلها عنه
الإمام الشافعي (-204هـ) في كتاب: الأمّ!”

وقد أشار رضوان السيد ،بعد ذلك، أن هذه الأطروحة المغرضة لبوكيش تندرج ضمن
نمط من الكتابة التاريخية الإيديولوجية “التي بدأت أواسط السبعينات من القرن
الماضي مع وانسبورو (دراسات قرآنية) وباتريشيا كرون ومايكل كوك (الهاجرية).” والتي
تمعن في إبراز الإسلام من خلال نصوصه التأسيسية كمجرد امتداد باهت وغير أصيل
للتراث اليهودي والمسيحي لدرجة الزعم أن القرآن الكريم مترجمٌ بحذافيره عن
السريانية أو عن إحدى صيغ الإنجيل السرياني “الأبيوني” الضائع.

 ليتساءل عن مغزى الإمعان في تكريس
هذا النمط من التأليف المغرض بعد مضيّ مئات السنين على العلاقات العلمية بين الشرق
والغرب واليهودية والمسيحية والإسلام؟! و”كيف يصدقُ أحد متخصصاً كان أو غير
متخصص، بوجود علائق وثيقة بين مدوَّنة جستنيان وكتاب الشيباني، والنصان موجودان
بين أيدينا، وما تنبه لذلك أحد قبل بنيامين يوكيش، ثم كيف تُكتب أطروحات وأطروحات
في سريانية أو يهودية القرآن، وتُطبع تلك الأطروحات بعد مناقشتها في دُور نشرٍ
جامعية وأكاديمية محترمة؟!”

ليخلص  رضوان السيد إلى أن هذا
النمط من الدراسات حول الإسلام التي ظهرت في العقود الثلاثة الأخيرة، “لا
علاقة لها بالعلم ولا بالحقيقة. بل علائقها كلها تنحصر بظروف الصراع على الإسلام
في عالم اليوم. وعلى هذا النحو، وليس غيره، ينبغي فهم كل التخرصات حتى تلك التي
تتسم بنسبٍ متصلٍ يصل إلى أربعة أو خمسة أجيال.”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق