وحدة الإحياءدراسات عامة

التاريخ الشامل عند كل من “المختار السوسي” و”بول فيينPaul Veyne “

 من حق الإنسانية أن تقدم ما لديها من اجتهادات ومشاريع فكرية، من أجل الوصول إلى بعض المفاتيح التي تمكنها من التفسير الموضوعي والإنساني لحركة التاريخ والمجتمع[1].

وفي هذا الإطار تندرج كتابات العلامة المختار السوسي التي يمكن اعتبارها جزءًا من الذاكرة الجماعية المغربية ومشروعا كبيرا لم يكتب له أن يكتمل، لكنه أصيل وأصالته تكمن في تعامله مع الواقع الاجتماعي والديني والسياسي والعلمي والثقافي والعمراني للمغرب ولسوس خاصة ومحاولة تفسيره.

أهم ما ميز الفترة التي عاصرها المختار السوسي هو وجود إنتاج متميز بطابعه التوثيقي المونغرافي تناول الحقبة الوسيطية وغيرها من الحقب الإسلامية، عكس إلى حد كبير الهم التأصيلي إلى جانب نوع من التحديث المنهجي على مستوى التناول والتقديم، ويعتبر ما أنجزاه العلامة المختار السوسي ومحمد داوود صاحب “تاريخ تطوان” من الكتابات المجددة، وهي لا تتقيد بقيود الفترة الوسيطية ولا بغيرها من الفترات[2].

لكن تنفرد كتابات المختار السوسي بروح علمية استطاع من خلالها أن يقدم رؤيته للعالم والظواهر الاجتماعية وللتاريخ، حيث يقول: “إلا أنني أذكر أني حاولت فتح الباب فبذلت جهدي وأفرغت وسعي، فكم غلط لابد أن يقع لي وكم من تحريف أو تصحيف اسم لا جرم واقع فيه، فعليهم أن يقوموا ليستمروا وليصححوا الأغلاط فهل من مجيب؟[3]“، كما يقول أيضا في موضع آخر: “فقد حبب إلي الجولان في البلاد، ومخالطة كل الطبقات في كل ناد، ومجاذبة الحديث العلمي بين كل الجماعات من حاضر وباد، لعلي أستفيد ما لم يكن به علم قبل… فأكبر اللذات عندي المجاذبة حول تحرير مسائل المنقول أو المعقول، وهل بقي من اللذات إلا محادثة الرجال ذوي العقول[4] .”

وقام بتوظيف العديد من الأدوات العلمية وهو العلامة التقليدي المنفتح على العلوم الحديثة أهمها: التدوين والتوثيق والملاحظة بالمشاركة والمقابلة؛ ففي باب التوثيق نجد المختار السوسي قد خصص حيزا مهما للمراجع والمصادر التي اعتمد عليها، وهي كثيرة وغنية ويفرد لها حيزا مهما في كتاباته ضمن  الفهرسة، كالخزانة المسعودية والخزانة اليزيدية، والخزانة الكتانية، والخزانة اليوسفية، والخزانة العليا بالرباط وخزانات الأسر العلمية… بل يتجاوز ذلك إلى وصفها وتبويبها كما هو الحال في كتابه “خلال جزولة” الجزء الثاني، حيث قام بوصف الخزانات التي زارها أثناء رحلته؛ كـ(خزانة إيليغ، خزانة أدوز، خزانة ازاريف، خزانة تيلكات، خزانة تاسنولت بماسة…)[5]، وما كان مجمعا أو مشتتا أو ناقصا من المراجع والكتب ولكنه اطلع عليه يذكر مكان وجوده، كما كان واسع الاطلاع على العديد من الكراسات والقصائد والرسائل والمذكرات والنسخ المصحفة ومشجرات الأنساب والمخطوطات والتراجم والعلم بالأسر والمدارس العلمية والأسر الرئيسية كما يسميها المختار السوسي والرؤساء من القياد والشيوخ.

ويعد أسلوب المقابلة من أهم الوسائل العلمية الحديثة التي تستخدم في البحوث النفسية والتربوية والسوسيولوجية وغيرها من الحقول المرتبطة بالعلوم الإنسانية، وهي تسمح للباحث أن يتصل بشكل مباشر بمصدر المعلومات والمعطيات[6]، ويبرز توظيفه لهذا الأسلوب في العديد من كتاباته حيث يذكر في  كتابه “سوس العالمة” أن كشكوله “من أفواه الرجال” جمع فيه كل محادثة دارت بينه وبين من جالسهم، خرجه في عشرة أجزاء وفيه أخبار الرؤساء والفقهاء والصوفية والحوادث والعادات، مما جعله في طليعة الكشاكيل ومنه تولد كتابه الضخم”المعسول” وقد أسعفه في جمعه مشاركته في الحياة الاجتماعية والدينية والعلمية والسياسية وقربه من مراكز القرار  المركزية والمحلية.

كما وظف أسلوب الملاحظة بالمشاركة، حيث يشارك الناس نشاطهم ويسجل ما يلاحظه وهذه الآلية أكثر استعمالا وشيوعا عند الأنتربولوجيين والسوسيولوجيين والرحالة[7]، فمحمد المختار السوسي لم يكتف بالإشارة إلى عادات القبائل وأعرافها وحياتها الاجتماعية، بل أفرد لها عملا خاصا بها وهو “أخلاق وعادات سوسية”، عمل لم يكتب له أن يكتمل لكنه جمع فيه ما شهده من عادات إلغ وما إليها تحت اسم: “حديث سيدي حمو” فجعلها رواية وهو يراه موضوعا سهلا لكنه نافع في وصف الهيئة الاجتماعية[8].

والجوانب الأخرى التي تفرد بها العلامة المختار السوسي عن معاصريه هي تلك الروح الرسالية، حيث اعتبر نفسه صاحب رسالة حضارية، وأن ما يقوم به هو من الواجب الديني والوطني، لذلك كرس وقته وجهده من أجل الدفاع عن مجد سوس العلمي من دون تعصب، ومن خلال ذلك عن حضارة المغرب ووحدته في وجه من ينكر الإشعاع الحضاري على حاضرة وبوادي المغرب على الخصوص، حيث يقول: “كلها مقصورة على أداء الواجب علي من إحياء تلك البادية التي سبق في الأزل أن كنت ابنا من أبنائها، ويعلم الله أنه لو قدر لي أن أكون ابن تافيلالت أو درعة أو الريف أو جبالة أو الأطلس أو تادلة أو دكالة، لرأيت الواجب علي أن أقوم بمثل هذا العمل نفسه…”.

كما انتفض العلامة المختار السوسي في وجه الأطروحات الاستعمارية، لذلك سعى إلى إبراز مدى التوازن والتلاحم على مستوى النسيج الاجتماعي لسوس التي هي جزء لا يتجزأ من المغرب، وهذا التلاحم هو الذي حقق في نظره المجد العلمي لسوس وخفف من أثر التناقضات والتعارضات الطارئة، وهو الذي ضمن لها البقاء زمن السلم والحرب وحتى ضد الغزو الخارجي.

أولا: المدخل إلى تصحيح كتابة التاريخ

يعد التأريخ من أبرز نشاطات محمد المختار السوسي في مجال الفكر، اهتم به قبل سنة 1938؛ إذ انكب أثناء مقامه بمراكش على إنجاز مؤلفه “مراكش في عصرها الذهبي”. ويمكن اعتبار هذا المشروع، الذي حال النفي دون إتمامه، محاولة أولى لبلورة تصور كان الشيخ العلامة قد كونه عن تاريخ المغرب، حيث قال: “إن تاريخنا لم يكتب بعد كما ينبغي حتى في الحواضر التي كتب عنها كثيرون قديما وحديثا”. يعكس هذا التصريح كيفية تعامله مع جانب من تاريخ وطنه، فهو ينم عن استقراء وتمعن تقودهما حاسة النقد ومنظور مغاير لما ينبغي أن يخلد بالتدوين من تاريخ المغرب العام[9].

يشترك معه في هذا الاتجاه النقدي أحد الباحثين المعاصرين حيث يقول: “كي نسعى إلى إيجاد تفسير لتاريخ حضارتنا، علينا أن نعيد قراءة حولياتنا التاريخية وموسوعاتنا الحضارية وكتب الفقه والأدب والرجال والطبقات[10].”

 هذا جزء من المشروع الذي دعا إليه المختار السوسي، حيث يقول بهذا الصدد: “نحن نوقن أنه سيأتي يوم يثور فيه أولادنا أو أحفادنا ثورة عنيفة ضد كل ما لا يمت إلى غير ما لآبائهم من النافع المحمود ثم يحاولون مراجعة تاريخهم ليستقوا منه كل ما في إمكانهم استدراكه[11]“، ومشروعه يتجاوز مجرد إعادة قراءة التاريخ أو مراجعته، فهو استطاع أن يدرك نقطة التحول في المسار التاريخي ويتنبأ بوقوعه وينبه على علاماته وإرهاصاته حيث يذهب إلى القول: “… ولهؤلاء يجب على من وفقه الله من أبناء اليوم أن يسعى في إيجاد المواد الخام لهم في كل ناحية من النواحي التي تندثر بين أعيننا اليوم… وما ذلك إلا بإيجاد مراجع للتاريخ يسجل فيها عن أمس كل ما يمكن من العادات والأخبار والأعمال والمحافظة على المثل العليا… فإن من سيأتون في الغد سيستلهمون كل ما يقدم إليهم كيفما كان، ليستنتج منه ما يريدوا أن يعرفوه عن ماضي أجدادهم[12].”

إن للمختار السوسي يقينا بأن تاريخ  المغرب العام كان ولا زال على عهده “لم يكتب كما ينبغي” وأن مهمة كتابته بالشكل الصحيح سيقوم بها المؤرخون المتخصصون في المستقبل، وما على المؤرخين التقليديين أمثاله سوى أن يجتهدوا في توفير المواد الخام ما استطاعوا.

إذا كان ما كتب عن تاريخ المغرب ليس بالتاريخ المطلوب، فما هو إذن التاريخ الشامل عند العلامة محمد المختار السوسي؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تقتضي تحديد مفهومه بداية عند المختار السوسي، فهو يسم بالنقص كل ما كتب عن تاريخ المغرب من خلال تصريحات ضمنها مقدمة مؤلفاته، فهو من حيث الشكل الذي قدم به تاريخ سوس ظل وفيا للاتجاهات التقليدية[13] التي كانت متبعة في كتابة التاريخ، ليس في المغرب وحسب وإنما في سائر أنحاء العالم الإسلامي. لكن الجديد في منهجه هو مزج سائر أصناف المصادر التي أمكنه الوقوف عليها بغية تقديم أوفى صورة عن الموضوع المطروق، عبر توظيف أكبر قدر ممكن من المعلومات، مما يتيح له تعديد زوايا رصد حياة المجتمع السوسي عبر مراحل تاريخه، فالتاريخ، إذن، لدى محمد المختار يقترن بالشمول بسائر أبعاده[14].

وقد قام العلامة محمد المختار السوسي بتحديد الخطوط الكبرى للتاريخ البديل[15]؛ أي التاريخ الشامل عبر استيفاء الشروط التالية:

1. الاستناد إلى مادة تاريخية متنوعة شرط أن لا يكتفي المؤرخ بالجمع؛ أي أن يتعدى ذلك إلى التمحيص والنقد، حيث يقول المختار السوسي بهذا الشأن: “لا خير في مؤرخ جماع فقط من دون أن يظهر أثر فكره فيما يكتب[16].”

2. مراعاة الخصوصيات لكل ناحية وإقليم عبر كتابة ما أسماه السوسي بالتاريخ الخاص، ويقول في هذا السياق: ولا قصد عندي إلا أن أنشر حسب ما في طاقتي من تاريخ هذه الجهة التي اصطلحت بأن أطلق عليها “جزولة” ما أؤدي به لعشاق التاريخ المغربي العام والخاص ما يقر به الطرف، ويبتهج بمعرفته الفؤاد[17].”

3. التزام الموضوعية.

4. أن يكون التناول لحياة المجتمع شاملا[18].

إذا توقفنا عند ضرورة أن يكون التناول لحياة المجتمع شاملا؛ أي جامعا للنواحي العلمية واللغوية والثقافية والاجتماعية والدينية والسياسية والعمرانية فهذا مهم. وقد تجسد ذلك بشكل جلي من خلال كتاباته لكنه يظل غير كاف بالنسبة للمختار السوسي؛ لأن عامل الزمن محدد ومعتبر بالنسبة له، فحياة المجتمع لا يكفي فيها تعدد مجالاتها، بل ينبغي البحث في الصيرورة التاريخية، وربط ماضي المجتمع بحاضره ووصل الأمس باليوم، لكي يصل الخلف إلى تفسير موضوعي للسنن الفاعلة في النفس والكون.

فالفعل الحضاري للإنسان يتأثر ببيئته المعايشة عبر مختلف الأزمنة، وفي هذا الإطار يقول المختار السوسي: “من طبائع الأيام التحول من حال إلى حال، ففي كل يوم طلوع جديد لم يكن معروفا أو أفول معروف لم يكن في يوم من الأيام جديدا، فما يألفه الأجداد حتى يكون جزءًا من حياتهم قد يكون عند الأحفاد منكورا، وما يكون منكورا عند جيل ما قد يكون عند جيل آخر مألوفا، وهذا ما يراه الإنسان في نفسه فيكون في كهولته غيره في شبيبته فكرا وذوقا ورغبة… وهي أطوار جبلت عليها هذه الحياة، سنة الله في الكون ولن تجد لسنة الله تبديلا… والتحول في الهيأة الاجتماعية في غالب الأزمنة يعهد منه أن يتابع ببطء حتى لا يكاد يفطن له إلا الألمعيون[19].”

فالسنن الكونية تحكم حركة التاريخ والبشرية كما تجري على السلف والخلف، والفقه بها مشكلة حقيقية يعاني منها العقل المسلم المعاصر؛ أي أنه يفتقد إلى منهج  للنظر “منهج الثقافة التاريخية”، ذلك أن سرد النصوص التاريخية وتسجيل الحدث التاريخي دون القدرة على الفقه بالقوانين المحركة وسننها الماضية لا يغني عن صاحبه شيئا[20].

وهذا ما تنبه له العلامة محمد المختار السوسي كما سبق وذكرنا، وأراد من الخلف الوقوف لأجل تأمله، لكي يجد الجواب لسؤال مهم: كيف تحقق المجد العلمي لسوس الأمس، وكيف يمكن بعثه في سائر أرجاء المغرب؟ فهو يرى بأن بوابة التاريخ الشامل هو السبيل إلى تحقيق هذا الفتح الحضاري للأمة المغربية.

ثانيا: مفهوم التاريخ الشامل عند كل من “المختار السوسي” و”بول فيين”

إن دعوة المختار السوسي إلى كتابة التاريخ الشامل  تجعلنا نستحضر أطروحة مماثلة رغم اختلاف الأصول الثقافية والعلمية، يتعلق الأمر بالمؤرخ المعاصر ” بول فيين” الذي أثار فكرة مهمة من خلال كتابه: “[21]Comment on écrit L’histoire”؛ مفادها أن  دراسة أي مؤرخ لا تعتبر هي الحقيقة المطلقة؛ لأن لكل مؤرخ منهجه الخاص به، ومن تم فهو ينتقي المادة التي تخدم منهجه وغايته وبالتالي تظل جوانب كثيرة من تاريخ كل أمة أو شعب غير معروفة أو غير مفسرة أو مخفية، والمختار السوسي كان صريحا وواضحا، واعتبر أن ما يسوقه  يصلح  للمؤرخ الماهر وإن كان لا يصلح للأديب الماهر، وأنه يبحث في الهيئة الاجتماعية وإن لم يتبنى إشكالية اجتماعية كما هي متعارف عليها اليوم لينظم بها تاريخ إلغ وما ارتبط به من أنحاء القطر السوسي[22]؛ لأنه كان كثيرا ما يجمع ويشرح ويصف ويبرر وينتقد ولا يحلل أو يتحقق من فرضيات وضعها مسبقا، ولكن وصفه كان دقيقا للأحداث التاريخية والسياسية التي عايشها وتجميعه كان شاملا للمعطيات المونغرافية لجهة سوس.

إن المؤرخ الغربي المعاصر يتقاطع مع “العلامة التقليدي المنفتح على العلوم الحديثة” على مستوى  نقطة أساسية وهي كون الشعور الوطني والتقاليد الجماعية تجعل من الماضي والتاريخ شيئا مهما، ويبحث هذا الشعور عن تبريراته التاريخية، وعن بنية تحتية يرتكز عليها للاستمرار في الزمان والمكان، كما يشترك معه على مستوى التعاطي مع التاريخ بنوع من الشمولية، “فبول فيين” يؤسس لإطار إبستمولوجي يسعى من خلاله إلى وضع الأحداث في إطارها السوسيوتاريخي، وعلى هذا الأساس يتبدى مشروعه كإطار نقدي للتعاطي التقليدي مع المعرفة والكتابة التاريخيتين[23]، فالتاريخ بالنسبة له ليس هو تاريخ الأحداث والوقائع بقدر ما هو تاريخ شمولي يعتمد على العلوم الأخرى لفهم الأحداث والظواهر بالاعتماد بصفة أخص على السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا. فالتاريخ ناقص ويجب أن يكمل بهذه الحقول المعرفية وهي جزء لا يتجزأ من التاريخ[24]، في حين اعتبر المختار السوسي أن موضع النقص في التاريخ يكمن في غياب تواريخ جهوية أو إقليمية من المفترض أن يكتبها جيل بأكمله، وبالتالي فإدماج البعد المحلي والجهوي في كتابة التاريخ يعطي لتاريخ الوطن شموليته.

 إذا كان “بول فيين” قد قام بإغناء البناء النظري والإبستمولوجي لكيفية كتابة التاريخ، واعتبر أن التاريخ الشامل والكامل هو الذي يجمع ما بين التاريخ والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا، فإن المختار السوسي قريب من هذه الأطروحة حيث  ينتقل مشروعه الفكري من التنظير للتكامل داخل الحقل المعرفي الواحد، وهو حقل التاريخ إلى التأسيس للتكامل مع الحقول المعرفية الأخرى، حيث يقول العلامة المختار السوسي: “فلئن قمتم بهذه المساعي ليأتين مؤرخ آخر ويسجل عنكم علماء آخرين في كل علم، ودكاترة عظاما في ميادين شتى…[25]“، وفي موضع آخر يتأكد ذلك بشكل واضح حيث يدعو الأجيال القادمة إلى ضرورة الاستفادة من الإنتاج الأجنبي، الذي عني بالأخلاق والعادات والاجتماع والاقتصاد في كل ناحية من نواحي المغرب، فهذا الإنتاج خير معين على إحياء تاريخ المغرب العام، شرط تصحيح أغلاطه ومنزلقاته ومراكمة إيجابياته[26].

ثالثا: الإنتاج الفكري للمختار السوسي ومشروع التكامل المعرفي ما بين التاريخ والعلوم الأخرى

 ينطبع فكر العلامة محمد المختار السوسي بسمات تجديدية تجلت في كون التكامل الذي ينشده له بعد وظيفي؛ أي أنه يتجاوز التراكم المعرفي ويستهدف التمحيص والتفسير الموضوعي والنهضة والتجديد، وهو يقول في كتابه “سوس العالمة”: “فهل فينا من يبرهن أنه يعيش حقيقة في القرن العشرين، وأنه تملص من سباته العميق الذي كان استولى منذ القرون الوسطى”، وقد ترجمت بعض آرائه النيرة حول بنية النظام التعليمي آنذاك هذا المنحى التجديدي ونختار منها ما ورد بكتابه “خلال جزولة” حيث يقول: “… ثم أوقف القاضي أعماله حينا، فدارت المحادثات فأرانا ظهيرا ورد من الحكومة لتعيين الفقيه العفياني المذكور لإلقاء درسين أحدهما صباحا يكون ابتدائيا لتلاميذ الكتاتيب في العربية، والآخر في الرسالة بين العشاءين يكون عاما لهم ولكل من شهده، وهذا أمر كانت نشرته الجرائد قبل اليوم، قائلة أن ذلك يكون كأساس لنشر التعليم العربي في جميع المدن، فتذكرت مثل هذه الخطوة الأولى في مصر أيام الشيخ محمد عبده على يد عبد العزيز جاويش في إمارة عباس الخديوي الوطني الشهير، فقلت في نفسي عسى أن تأتي هذه الخطوة المغربية بمثل ما أتت به تلك الخطوة المصرية، فإننا نرى مصر اليوم تتموج بالعلوم العربية في كل جهة بادية و حاضرة، والمترقب أن تنكشف هذه الغمة عن سلم طويل وعن تمام أمل الأمة، لتثمر كل الآمال وهل تثمر إلا بالحرية والاستقلال؟ وهل تؤتي أكلها إلا متى نهضنا بالعلوم؟ وإذ ذاك نرى كل الكتاتيب القرآنية في البادية والحاضرة منظمة كما ينبغي، معتنى فيها بمبادئ العلوم، حتى تكون كلها مدارس ابتدائية محافظا فيها على الأخلاق الدينية والعادات القومية، زيادة على المحافظة على القرآن، كما نرجو أيضا أن نرى رجوع الحياة إلى مدارس العلم البدوية كالمدارس القديمة المنبثة في أرجاء سوس، حتى توافق العصر في تدريسها ونظمها، فإن الشعب المغربي لا ينهض علميا دينيا ودنيويا إلا بتنظيم كل الكتاتيب وكل المدارس التي تغمره من أدناه إلى أقصاه، فكل قديم نافع وحديث لا بد منه[27].”

إن الإنتاج الغني للعلامة المختار السوسي يمكن أن يؤسس للتكامل بين كل الحقول المعرفية المعنية بدراسة التاريخ والمجتمع كما سلف الذكر، فهي تزخر بدرر معرفية يصلح أن يأخذ منها المؤرخ والأديب والسوسيولوجي والأنثربولوجي والدارس لعلم السياسة وعلم الاجتماع والباحث في الفقه الإسلامي.

فإن قمنا بتصفح الأجزاء الأربعة لمؤلفه “خلال جزولة” كمثال، سنكتشف أهم المباحث العلمية البارزة التي يمكن التأسيس من خلالها لبحوث جديدة، وفي مقدمتها المبحث الأدبي من خلال نثره وشعره الغزير وجلساته الأدبية، ومن خلال هذا المبحث اتضح احتفائه باللغة العربية ودفاعه عنها في وجه الغزو الثقافي؛ إذ يقول: “إنما لا نحب أن ينسى أولادنا مدنيتنا الشرقية ومميزاتنا القومية ولغتنا الموروثة، ونحن نتحقق أننا لا نحيا إلا بالجمع بين لغتنا وبين غيرها من اللغات، ولكن ما العمل اليوم ولا تزال الأبواب مجافة والحضارة الغربية تغلب حتى تجرف مقوماتنا وديننا وتقاليدنا، واللغة الغربية كادت تنسي أبناءنا اللغة العربية حتى كأنها من لا شيء، فالله المرجو أن تنقلب الكفة وهو وحده المطلع على ما نطلب[28].”

كما اتضح اطلاعه الواسع على المنظومات الشلحية والملاحم الشعبية وعلى مختلف ألوان الأدب العربي المعاصر و الأدب الإلغي، و تجلى اعتنائه الشديد بأهله وخاصته من خلال مختلف مؤلفاته ونلمسه أكثر من خلال جوابه على رسالة الأديب الإلغي الكبير الطاهر بن علي والتي ختم بها رحلته الثالثة حيث يقول فيها:  “… وأما ما تناولته حول الأدبين: الأدب العصري الذي تفيض به علينا مصر والشام والعراق فيضا غمر حواضرنا المغربية اليوم، والأدب العدملي الذي أدركناه يروج في المدرسة الإلغية، فأحب منك أن تسمع مني القول الفصل في ذلك، ثم اتخذه حكما مصمتا دائما، فإن طول عمرك لا يزيدك فيه إلا تأكيدا[29].

إن هذه الألوان العصرية في الأدب هي مثل الأصباغ الملونة الظريفة الجذابة لا عين كل مبصر فتبهر أنظاره بكل وهلة، ثم إن صاحبها إن كان درس الأدب العربي القديم الذي يستمد من كل ما يعرفه الإلغيون من الأدب الجاهلي والأموي والعباسي والأندلسي، فإنه سرعان ما يدرك من تلك الألوان تلك الروح الخلابة التي هي نفسية الأدب العربي، فتنقشع أمامه سحب تلك الألوان التي كانت تبهر بادئ ذي بدئ فيلمس منه  بيده مكان المتانة والأسلوب الرائع، ويستخرج من بين العبارات المنسجمة مكان البلاغة والفصاحة، فيكون الناقد البصير فيما يقبل ويرد ولا يكون مغرورا بتلك الأصباغ ولا يندفع باندفاع التيار مع كثيرين من شبه المتأدبين الحضريين في استحسان كل ما قيل، فقد عادت عليه دراسته الفنية للأدب قديما وحديثا بكل نفع، فيقبل عن علم وذوق، ويرد عن علم وذوق، وأما إن لم يدرس الأدب حق الدراسة ولم يغربل المعاني التي كانت العرب تستسيغ أذواقها حتى يعرف كيف الذوق العربي الحقيقي، وكيف يسلك إلى المعاني في الحقيقة والمجاز والكناية والتلميح ولم يستحضر فقه اللغة ولا القدر الكافي من النحو ولا درس الأمثال النثرية والشعرية ولا اطلع على ما حوالي ذلك من الأخبار التي يحتاج إليها الأدب، و لا ألم بتاريخ الأدب العربي ولا بحياة كبار الشعراء فإن لم تكن له يد في كل هذه الأمور واتكل على ذوقه فقط فإنه يحسب نفسه من أصحاب الأذواق السليمة…

وأما الأدباء الجزوليون الذين لا يزالون بعيدين عن هذه الأمواج ولم يعرفوا بعد ما في عالم الأدب الجديد اليوم، فإن عندهم ما ينقص غالب أدباء الحضر في مدن المغرب، فإنهم درسوا الفن واستحضروا منه كل ما يحتاج إليه فيه، ولا ينقصهم إلا شيء يسير جدا، هو مداخلة أدب العصر مع تريث  قليل… فإن فاتهم أن يحلقوا في سماواته صياغة، فإن يفوتهم تذوق حسن التعبير وروعة الأسلوب، ومتانة التركيب ولطف الانسجام، ويرى هذا متجليا في أقوال شوقي وحافظ والزهاوي والرصافي والزنكلوني والزركلي ومحمد العيد وأمثالهم ممن يجيدون إن قالوا ولا يرمون القوافي على عواهنها[30].”

  الأجمل أن ينظم العلامة المختار السوسي كل تلك الدرر في عقد فريد هو أدب الرحلة حيث يقول: “وقد تجمعت عندي مواد أخرى عن بعض نواح لم أكن زرتها في هذه الرحلات لا تليق إلا لأمثالها، ولكن كيف يتيسر الآن من ذلك ما نريد؟

وبعد فهاك الرحلة الأولى الساذجة، وأعتقد أنها دون أخواتها الآتية من وجهات شتى، لا في الفوائد ولا في ذكر الآثار، فاقبلها بفضلك على علاتها. ثم إن هناك رحلة أخرى أقدم من هذه الأربع من الحمراء إلى إيلغ كنت كتبتها عام 1354 لا تدخل تحت ذيل هذه، وإن كان لها لونها ووصفها، وما ذلك إلا لأنها أقدم منها، وهي تتكلم على حاحة، وإيداوتنان وأكادير[31].”

   لقد وضع العلامة الرحالة المختار السوسي خارطة مبسطة مفصلة لكل الأماكن التي زارها (من إيلغ حتى تارودانت، ومن إلغ إلى ماسة ثم جهة تامانارت، ثم توقفه بمدرسة بونعمان ورحلته إلى هشتوكة وأكادير فايدوتنان فأورير وهوارة مرورا بإيكلي وتازمورت وصولا إلى تيزنيت) وقد قال: “فاخترت أن أفتتح بالجهة التي كانت سبلها معبدة أمامي قبل اليوم بكثرة الإخوان والأصحاب، فعزمت على أن أزور تيزنيت فأكادير فتارودانت وما إلى هذه المدن الثلاث التي هي حواضر سوس اليوم، وكان يجب أن لا أتقيد بأسابيع معدودة لتتسع الفسحة أمام مباحثي… ولذلك وضعت برنامج سفري، إتباعا للأخ الذي سأسافر رفقته وأرجع في صحبته في بحر شهر فقط… فأردت أن أودع هذه الرحلة ما أراه نافعا من ذلك، مما يلفت أنظار المطالعين في الرحلات كما كان قبل ذلك المسافرين أمثالي ممن يركبون متون الرحلات…[32].”

كما يقول في موضع آخر: “كانت الأيام تواتينا قبل اليوم في متابعة مثل هذه الرحلات، فقد رأى القارئ الرحلات التلاث قبل هذه، والآن تمثل هذه الرابعة بين يديه، وبذلك يمكن لكتاب “خلال جزولة” أن يتضمن بهذه الرحلات المتتابعة كل ما أمكن تقييده بالقدم بعدما رأته العين وزارته القدم [33].”

ولما نستحضر أدب الرحلة الذي برع فيه العلامة المختار السوسي فهذا يقودنا إلى الحديث عن مبحث علمي آخر يتعلق الأمر بعلم الأنثروبولوجيا الذي يُعنى بدراسة المجتمع ومختلف أنساقه (النسق القرابي، النسق الثقافي، النسق الديني، النسق الاقتصادي، النسق السياسي…)، حيث اعتمد الأنثروبولوجيون الأوائل في تحليلاتهم التطورية أو المقارنة على مصادر كثيرة أهمها كتابات الرحالة والمبشرين ورجال الإدارة في المستعمرات الأوروبية، وبخاصة في المجتمعات الإفريقية التي كانت تستهويهم فيها الشعائر والطقوس والعادات الغريبة.

وقد واجه الباحثون الحقليون في المجتمعات التقليدية بوجه عام عدة صعوبات تتعلق بندرة الإحصاءات والبيانات والوثائق المتعلقة بالمجتمعات الريفية التي تكاد تكون معدومة، أو يكون الموجود منها غير دقيق: سواء ما يتعلق منها بتاريخ تلك المجتمعات الريفية أو سجلات المواليد والوفيات والزواج والطلاق، أو مساحة الأراضي الزراعية أو عدد السكان، أو بصفة عامة كل ما يلزم لإجراء دراسة اجتماعية سليمة، وهو ما يجعل الاعتماد على مثل هذه المعلومات أمرا محاطا بكثير من المخاطر. وهذا الأمر الدقيق الخطورة تنبه له العلامة المختار السوسي لذلك وفر من خلال مؤلفاته خصوصا تلك التي ركز فيها على وصف الهيأة الاجتماعية بسوس في أغلب صورها وتحولاتها،  وينبغي أن نتوقف هنا لكي نشير إلى أن الوصف من أهم التقنيات التي تندرج ضمن علم الإثنوغرافيا الذي هو فرع من علوم الأنثروبولوجيا.

  وما أكثر الصور والمواضع التي تشكل مادة حية لدراسة أنثروبولوجية لمنطقة سوس، حيث قام  المختار السوسي بوصف تفصيلي للنسيج الاجتماعي والديني والعلمي والثقافي والاقتصادي والعمراني لكل منطقة زارها وعاينها من إقليم سوس، لكل بواديه وحواضره، والأهم أنه جزء من هذا النسيج عايشه وتتبعه، عارف بأسراره وخباياه، عالم بجواهره كما بتناقضاته وتعارضاته، مدرك لمظاهر التغير والتحول فيه، يقول: “فتكونت لنا هيئة اجتماعية توافقنا لأنها كانت متسلسلة عن الأجداد، لا يحس فيها بأنها تتغير في كل جيل وإن كانت في الحقيقة لابد أن يكون فيها تغير ما في كل جيل، فكانت لها موازين خاصة مألوفة، إليها يتحاكم ذوو الأذواق والأفكار عند الاختلاف، فيتخذ حكمها مسمطا وقانونها مرتكزا في أعماق النفوس لا مسطر في الطروس، تلاءمت فيه مقتضيات حياتنا وديننا وعادات مجتمعنا تلاؤما تاما، دين عربية ولغة الدين، وعادات تكونت تحت نظرهما في قطر امتزج فيه العرب والبربر تمازج الماء القراح بالراح[34].”

وعند تناوله للنسيج المجتمعي لمنطقة سوس نجده يستحضر في كل رحلة طبيعة السكان (شلوح، عرب، يهود، بيض، سود، حراطين…) وعددهم بعبارته (يسكنها زهاء 200 كانون أو عدد نسماتها) مقيدات الأنساب وأصول القبائل ومقيدات الوفيات وتحدث عن الأوبئة (الطاعون…) وأسعار المنتوجات وموجات الغلاء (الشعير، القمح، التمر، الإدام) والمجاعات والأمراض، كما تناول أنواع اللباس والتأثيث والنظافة ووقف عند بعض مظاهر التحضر (الكهرباء، الهاتف السيارة، العجلة…)، وتطرق لمختلف المأكولات والمزروعات (الزيتون، أركان، عصير قصب السكر، البقول، الفواكه، الزيوت، السكر، الكروم، النخيل، العرعار…) كما وقف عند مختلف الأعراف والتقاليد السوسية (أعراف الخطبة والزواج والاحتفال، لذلك قام بوصف للأعراس والاحتفالات المرافقة لها (الهدايا، لباس العريس والعروسة، المعازف، الرقصات، المأكولات…).

ـ أعراف قسمة الماء بين الساكنة (العيون، السواقي، المزارع) وتخزين المياه بالصهاريج والسقاية؛

ـ أعراف المشارطة بالنسبة للفقهاء بالمساجد ومساعدة الطلبة بالمدارس القرآنية (مؤونة المدارس)؛

ـ أعراف حفظ القرآن الكريم ومذاكرة الأوراد والحديث خصوصا صحيح البخاري بالمجالس؛

ـ أعراف المصالحة (المنازعات القبلية، صراعات الحروب بين القبائل…)؛

ـ أعراف الكرم واستقبال الضيوف وجلسات الشاي والسمر؛

ـ أعراف فصل الخصومات والخلافات بين أعضاء الجماعة داخل القبيلة وقد أورد مثالا عنها واعتبرها بمثابة قانون ينظم شؤون القبيلة، يقول العلامة المختار السوسي: “وقد اطلعت على بعض قوانين أهل “أكرض” منذ قرنين فأردت  أن أورد نموذجا منها، ولنكتف بواحد من نصه:

اتفقت الجماعة كلها بمحضرهم جميعا عند الشيخ إبراهيم ابن القائد محمد التامانارتي.

أولا من جمر النخلة يعطي مثقالا في الإنصاف، الغرامة، ويغرمها لربها، سواء ولدت أم لا، ومن جاء بحزمة الجريد ينصف أيضا –يغرم- بعشرة أوجه الوجه من الفلوس  القديمة التي يتبايع بها الناس قديما، ومن قبض في البحيرة ينصف أو سرقها أو خرجت عليه كذلك.

ومن نزع التين ناضجا أو غير ناضج ينصف بعشرة أوجه، ومن كسر ماء الناس ينصف بمثقال إذا كسرها بغير إذن أربابها، ومن وجد امرأة في متاعه تنزع الكرموس الناضج أو غير الناضج أو سوى ذلك فليقبضها ولا يفلتها حتى تؤدي له ما أفسدت، ثم تنصف بعشرة أوجه، ومن ذهب وطبع الماء من الشركاء بغير إذن رب النوبة ينصف بعشرة أوجه، وطبع الماء طرح النبات في وسط الجدول لينظر إلى أي الشقين اللذين يفرق إليهما الماء في الجدول أكثر أو هما متساويان… ومن قبض بدار أو بيت ينصف بخمسة مثاقيل وإن أنكر يحلف خمسا وعشرينا يمينا، وذلك في جميع ما حازه سور البلد… ومن اتهم بسرقة دار أو قبض فيها، وأقام رب الدار شاهدا واحدا  يحلف عليه بخمس وعشرين يمينا مع إخوانه… فهذه قوانين القرن الثاني عشر، وعليه فليقس ما بعده[35].”

ولم يكن الشيخ العلامة يكتفي بوصف العادات والأعراف السوسية، بل يتوقف عند بعض معالم تطورها ومدى تأثيرها على النسق الاجتماعي والديني للساكنة، كما توقف أيضا لمعاينة النسق القانوني الذي يتداخل  مع كل من الدين والأعراف بمنطقة سوس، لذلك وبعد أن تعرض لطرق إدارة الحكومة أو المخزن للأحباس والمواريث والقضاء أفرد حيزا مهما لتراجم القضاة وسيرهم (كيفية توليتهم وعزلهم، أصولهم، غزارة علمهم وفقههم…) وتوقف عند كيفية فصلهم في المنازعات وفحصهم لمختلف النوازل والفتاوى الصادرة عنهم[36].

كما قام العلامة المختار السوسي بوصف المواسم، مواسم الرجال ومواسم النساء حيث تساق إليها الذبائح والهدايا، ولم يتوقف عند هذا الحد، بل بين وظيفتها وعرض موقفه الشرعي منها باعتباره عالم دين، وقام بوصف الأسواق والحلقات (حيث تباع المنتوجات وينظم الشعر  وتتردد الملاحم)، ووقف عند أساليب السحر وطرق إبطالها وتناول معتقدات الناس بالمجتمع السوسي وناقشها على ضوء الواقع والشرع.

من الجوانب التي أولاها العلامة المختار السوسي عناية كبيرة هي الخصائص العمرانية للمناطق التي زارها بإقليم سوس حاضرة وبادية وتطورها على مر التاريخ، بحيث توسع في وصف (المدن والقرى والبوادي والمدارس القرآنية والعلمية (المدرسة الإلغية، المدرسة البوعبدلية، المدرسة البونعمانية…) والمساجد والجوامع وحتى الترميمات التي تجرى عليها والصلوات التي تقام فيها، كما وصف الخزانات العلمية والكتاتيب القرآنية والزوايا والأضرحة والمقابر، والوديان والطرق والشعب والجبال التي شاهدها وعاينها في رحلاته، واستفاض في وصف البساتين والرياضات وتقنيات الزراعة التقليدية والحديثة، والقصبات والأسوار والثكنات والسواقي ومطاحين المياه والصهاريج، وحتى آثار البنايات والأزقة توقف عندها وخصها بالوصف…

كما وصف الدور الشهيرة التي عاينها في أسفاره (دار البارود، دار الشنكيطي…)  والفنادق والنزل والبنايات الحكومية (إدارات، نظارات الأحباس، محاكم…).

يحضر النسق الديني والعلمي بشكل مكثف في كتابات العلامة المختار السوسي  بحيث نجده يتتبع في كل إقليم سوس الأسر العلمية المختلفة (مشجرات الأنساب، خزاناتهم العلمية، مؤلفاتهم…) وطلبة العلم[37]، كما تتبع الصلحاء والأسر الشريفة والمتصوفة (أخبارهم، آثارهم، أملاكهم، فضائلهم، كراماتهم…) وأبرز علاقتهم بسلطة المخزن (القياد، الباشاوات…) والسلاطين الذين تعاقبوا، وتوقف مليا ليبين أحوال الزاوية المغربية انطلاقا من إقليم سوس، وأبرز مظاهر التحول التي طرأت عليها، كما لو كان ينبه غيره من الباحثين لاستكمال البحث على هذا المستوى، حيث يقول: “ثم لما كانت في هذه الزاوية المغربية بقايا لا تزال بكرا لما تفرع بعد، وهي مكنونات مصونات كدرر غوال يصونها الدهر، عزمت على أن أجتبي بالتجوال بين مدارسها وخزائنها، ورجالات عملها ما أحييه بقلمي لهذا العصر العجيب، واجلوه على منصة المطالعة لكل قارئ نهم طلعة طالما يهيب بمثلي بلسان الحال فيقبح أن لا يجيب، فإن من مزايا هذه الناحية، أنها لا تزال تعيش كما يعيش أهل القرون الوسطى في الأفكار”، ويستدرك العلامة المختار السوسي ما سبق من قول خلال فترة نشره لكتابه “خلال جزولة” ليوضح في الهامش، أن هذا الحكم على سوس كان سنة 1361، وأما اليوم أي سنة 1377، فقد تبدلت حالة سوس؛ إذ أن أهل سوس الآن بعد الاستقلال غيرهم إذ ذاك.

ويستطرد فيقول: “والإمعان لما يجدونه بين أيدي آبائهم من علم وعقلية، ومتوجهات صارت بها سوس اليوم أعجب العجاب بين الأقطار، فكانت بذلك منتقى صافيا لمن يريد أن يتملى بما كان الأسلاف من أهل تلك القرون يتخذونه المثل الأعلى، ويرونه أفضل النظرات التي يستحق بها عندهم أن ينظر بها إلى الدنيا، وأتمنى لو يفسح لي المجال لأترسم أيضا الأفكار الاجتماعية ممن ألقاهم، كما أترسم أفكارهم العلمية[38].”

لقد أوضح المختار السوسي (باعتباره جزءًا من هذا النسيج المجتمعي، ولكونه عالما وفقيها مطلعا) أهم السمات التي تطبع النسق الديني بمنطقة سوس، حيث أبرز إلى جانب اعتناء أهل سوس بتحفيظ القرآن وعلومه ودراسة فنون الحديث والتفسير والأصول والبيان والأدب خصوصا من قبل العلماء والأسر العلمية والطلبة ومن يليهم، ما توفر لديه من نوازل فقهية وفتاوى صدرت عنه (وهو العالم الفقيه المتبحر في كتب الحديث والفقه وأصوله بل والمتصيد لأمهات الكتب الدينية أينما وجدت) أو عن غيره من العلماء الفقهاء (وكمثال عن تلك الفتاوى: جواز الصلاة في السيارة وصلاة الخوف، مسألة السعاية على القراض، زكاة الأوراق…)، كما توقف للتأمل في واقع التدين بسوس واعتبر أن وجود الخرافات إلى جانب حصول التدين خير من الإلحاد؛ إذ يقول في هذا الصدد: “…فإنه نعم الجيل إخلاصا لدينه، وغيرة على قوميته… فقد خالطته فرأيت صدورا رحبة، ونفوسا طيبة، وقلوبا صافية، ودينا متينا، وترفعا عن السفاسف التي يقع في كثير منها أبناء هذا العصر الممعن بعض أبنائه في الإلحاد هنا وهناك، والدين الخرافي خير من لا دين، كما ينسب للأستاذ الإمام في القطر المصري، ونحمد الله على قلة هذا الإلحاد في قطرنا هذا.”

وهذا لا يمنعه من الدفاع عن السنة الصحيحة ودحض البدع والخرافات بالتي هي أحسن وبدون غلو، لذلك كان لا يتردد في توضيح الموقف الشرعي من تلك المظاهر، حيث يقول: “وقد كان رفيقي سيدي التهامي اقترح علي أن أخاطب مقام الشيخ الجم الكرامات بأبيات اقتفاء لوالدي في عينيته المشهورة فلم انشرح بذلك صدرا؛ لأنني لا أقدر أن أخاطب إلا بما أفهمه بلا غلو، ولكنه ألح علي إلا أن أقول فقلت هذه القصيدة المهلهلة النسج على عمد ليمكن للناس أن يفهموها، ولم أقل فيها إلا معتقدي في الشيخ وأمثاله، رضي الله عنهم، بلا غلو؛ لأننا نحاول أن لا نخرج عن السنة في كل شيء على قدر طاقتنا[39].”

ويقول في موضع آخر: “ومن هناك إلى المدرسة العليا، فمررنا على المجزرة التي يذبح فيها الذابحون ما يقدمونه هديا إلى المشهد، على عادة الناس عند طلب حاجتهم وقد اجتهد العلماء أن يبينوا للناس ما في ذلك، ولكن من يصيخ إلى السنة والناس عبيد ما ألفوا، وقد قال مالك لا يساق الهدي إلا إلى الكعبة، ولابن سليمان الرسموكي كلام فصل فيه لحوم أمثال الذبائح إلى ثلاثة أقسام: ما ذبحوا لوجه المسوق إليه لا توكل، وما ذبحوا لوجه الله صدقة على المساكين توكل، وما لم يتضح أمرها فإنها مكروهة[40].”

ويقول أيضا: “فوجدنا قبر سيدي محمد معلوما بجص على قبره،  وإزاءه في مقابلة رأسه قبر سيد يسمى صاحبه مباركا هو والد سيدي عبد الله بن مبارك فدعونا للشيخ ثم مشينا خطوات قليلة، فإذا بقبر سيدي عبد الله بن مبارك… وقد قلت، هكذا تكون قبور السنيين فلا قبة ولا بدعة[41].”

ولم يكن فقط يدافع العلامة المختار السوسي عن السنة، بل كان حريصا على الحقائق المرتبطة بهذا الإقليم، والتي قد تستغل من طرف بعض الباحثين الأجانب لتقديم صورة مشوهة عن قرى سوس؛ إذ يقول: “وقد لفت أبصارنا في مشهدي السيدتين تصاوير كثيرة بالمغرة في الجدران وعند مصاريع الأبواب، فيها حيوانات وأشياء أخرى حتى الصلبان، فعلمت أن ذلك من عمل البنائين منذ سنتين، أراد أن يجمل المقامين بها فقلت لصاحبي: يجب أن يزال كل هذا، وأنا أقول في نفسي لو اطلع على هذه الصلبان بعض المستشرقين لادعى في ذلك أمورا أخرى على عادتهم في الاستنتاج المعاكس للحقائق في الذي يرونه عند الشرقيين، وقد رأيت على كثير من أبواب الدور في نواحي سوس صور الصليب بالقطران أو بالحمم، كتعاويذ من العين ربما كان أيضا على جنب الجدران، فمتى بينت للبعض ما يدل عليه ذلك امتعض امتعاضا شديدا، فيقوم في الحين فيمحوه[42].”

وإلى جانب معرفة العلامة المختار السوسي بمختلف الطرق الصوفية ورجالاتها (الناصرية، الدرقاوية..) فقد أوضح أدوار الزوايا بمنطقة سوس، فهي تبرز حسب ما ذهب إليه كعامل من عوامل الاستقرار الاجتماعي والديني (حفظ القرآن الكريم ومدارسته، إحياء الابتهالات الدينية وملاذ للفقراء والمعوزين والمحتاجين ولطلب الحماية) ويقول المختار السوسي في هذا الصدد: “كما زرنا أيضا مصلى الصيف، ويسمى (مركع سيدي احمد بن موسى) وهو غير واسع، ثم ذهبنا حتى زرنا المطبخ ورأينا كسكسو الزاوية المعتاد لكل من ورد أيا كان، صباحا ومساء… واطلعنا على محل المطاحن، وفيها 13 مطحنة تطحن دائما، وقد كان القتلة يهربون إلى حرم الزاوية، فيتولون خدمتها، والآن وبعد انبساط الحكومة يكرى من يخدم… ثم نزلنا فزرنا دار المساكين خارج الزاوية، وفيها أيتام وأيمات يأكل الجميع من الزاوية[43].”

 كما خص النسق السياسي بحيز مهم في كتاباته، إذ توقف عند علاقة القبائل بالسلاطين ورجالات المخزن( الحروب، الصراعات، الإتاوات والرسوم المخزنية، الهبات، المراسلات، الظهائر، الشكايات…) كما توقف عند أحوال القياد والباشاوات والشيوخ والرياس (مجال نفوذهم، التولية والعزل، الاعتقالات، السجون، الصراعات المكائد والدسائس…) وكذلك توقف عند أحوال العامة في ظل الاحتلال وسيادة المخزن، ويعود سبب توفقه في ذلك، كما سلف القول، إلى كونه جزء من هذا النسيج المجتمعي الواسع (علاقات قرابة، مصاهرة، صداقة…) عايشه وعاينه عن قرب، بالإضافة إلى علاقته العميقة كعالم معروف بالعديد من العلماء الفقهاء والأدباء والقضاة والأسر العلمية والأسر الشريفة ومعرفته الواسعة برجالات السلطة المحلية والمركزية على امتداد إقليم سوس والعديد من مناطق المغرب.

إن الأنساق السالفة الذكر (النسق الاجتماعي، العلمي، الثقافي، العمراني، الديني، السياسي…) تحضر بشكل متداخل في كتابات المختار السوسي وحسب سياقها التاريخي، والقول بأن ذلك إنما هو انعكاس لواقع المجتمع السوسي المتميز بالغنى والتنوع يستحق الدراسة والتمحيص، وهذا ما كان يسعى وراءه المختار السوسي ويريد من الباحثين التحقق منه، لكن في إطار مشروعه الكبير “التاريخ الشامل”،  لذلك فهو لم يتوقف فقط عند أهم الأخبار التاريخية التي تخص كل منطقة نزلها، ويتتبع الوقائع التاريخية الماضية ويصححها ويدقق فيها أحيانا في جل كتاباته خلال جزولة بأجزائه الأربعة على وجه الخصوص (يصحح كمثال ما ورد من أخبار عن سوس وقبائلها، وما ورد عن مدينة إيكلي وثورة المهدي بن تومرت في كتاب الاستبصار في ممالك الأمصار، ودخول الجعفريين إلى سوس، وقد أستحضر رد العلامة ابن خالد الناصري في كتابه “طلعة المشتري في النسب الجعفري” على ابن خلدون الذي قال بعدم دخولهم…) اعتمادا على ما توفر لديه أو انطلاقا من كتب المؤرخين الشهيرة، ويواكب تاريخه الحاضر ويتوقف عند مراحل حاسمة فيه للتأمل والنقاش، (الحرب العالمية الثانية، هجوم الأمريكان والبريطانيين على سواحل المغرب، زلزال أكادير، الصراع العربي الإسرائيلي…)، بل اجتهد في تجميع كل المعطيات الأنثروبولوجية الأساسية التي تشكل التاريخ المحلي لجهة سوس، والتواريخ المحلية والجهوية حسب المختار السوسي هي التي ستسد موضع النقص في تاريخ المغرب وتحقق له الشمولية.

إن التكامل المعرفي الذي ينشده المختار السوسي يمكن أن يتعمق بين علم التاريخ وعلم الأنثروبولوجيا بالخصوص، فيكون أحدهما في خدمة الآخر، ويمكن القول أن فروع الأنثروبولوجيا العامة وبخاصة الإثنولوجيا والاثنوجرافيا لا تختلف عن علم التاريخ في الموضوع وهو الحياة الاجتماعية، أو في الهدف وهو فهم الإنسان أو في طرق البحث ذاتها[44]… لكن الاختلاف بين هذه العلوم الأنثروبولوجية من ناحية وعلم التاريخ من الناحية الأخرى هو اختلاف في اتجاه التحليل.

وبذلك يكون الشيخ العلامة المختار السوسي قد قدم خدمة جليلة للبحث العلمي، وللباحثين في مختلف التخصصات، لاسيما التاريخ والأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا والفقه والأدب المحلي، وكذلك نعتقد أنه قد خلد تاريخ منطقة سوس بالتدوين والدراسة، ورشحه كنموذج أصيل لبناء مشروع تاريخ المغرب الشامل والصحيح.

الهوامش


1. مجلة المنعطف، عدد1، 1991، ص52.

2. محمد القبلي، نحو مقاربة أولية لمراحل البحث في تاريخ المغرب الوسيط، المعهد الجامعي للبحث العلمي، مطبعة فضالة- المحمدية، 1197، ص137.

3. المختار السوسي، سوس العالمة، 1960.

4. خلال جزولة، الجزء الثاني، المطبعة المهدية، تطوان، ص5.

5. انظر: محمد المختار السوسي، خلال جزولة- الجزء الثاني، ص32 من الفهرس.

6. عبد الكريم غريب، منهج وتقنيات البحث العلمي، منشورات عالم التربية، 1997، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء، ص83.

7. المرجع نفسه، ص101.

8.  مجلة المنعطف، م، س، ص45-46.

9. علي امحمدي، مشروع إعادة كتابة التاريخ في تصور المختار السوسي، الذاكرة المستعادة: أشغال الندوة التي نظمها اتحاد كتاب المغرب بأكادير سنة 1984، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1986، ص82.

10. عبد الحليم عويس، مجلة المنعطف، م، س، ص25.

11. المختار السوسي، المعسول، الجزء الأول، المقدمة.

12. المرجع نفسه.

13.  علي امحمدي: مشروع إعادة كتابة التاريخ في تصور المختار السوسي، الذاكرة المستعادة، م، س، ص83 بتصرف.

14. المرجع نفسه، ص84.

15. المختار السوسي، سوس العالمة، ص: أ- ب.

16. المختار السوسي، المعسول، الجزء الأول، ص: أ.

17. محمد المختار السوسي، خلال جزولة، مقدمة الجزء الثاني، الجزء الثالث، الجزء الرابع.

18. علي امحمدي: مشروع إعادة كتابة التاريخ في تصور المختار السوسي، الذاكرة المستعادة، م، س، ص84.

19. المختار السوسي، المعسول، الجزء الأول.

20. عمر عبيد حسنة: الشاكلة الثقافية: مساهمة في إعادة البناء، المكتب الإسلامي، طبعة 1993، ص194.

[21] .Paul Veyne, Comment on écrit L’histoire, Essai d’épistémologie, Paris, Seuil, 1ére édition, 1971, p: 145

22. أحمد التوفيق، الذاكرة المستعادة، مرجع سابق، ص72.

[23]. Jacques Le goff, « La nouvelle histoire » édition complexe- Bruxelle, 1988, P: 64

[24]. -Paul Veyne, Comment on écrit L’histoire, Essai d’épistémologie, op. cit., p: 145

25. المختار السوسي، المعسول، الجزء الثاني، م، س، ص391.

26. المختار السوسي، سوس العالمة، ص233.

27. المختار السوسي، خلال جزولة، الجزء الأول، م، س، ص9-10.

28. المختار السوسي، خلال جزولة، الجزء الثالث، ص159.

29. المرجع نفسه،  ص202.

30.  المختار السوسي، خلال جزولة، الجزء الثالث، م، س، ص204.

31.  المختار السوسي، خلال جزولة، الجزء الأول، م، س.

32. المرجع نفسه، ص6.

33.  المختار السوسي، خلال جزولة، الجزء الرابع.

34. المختار السوسي: المعسول، الجزء الثاني، م، س.

35.  المختار السوسي، خلال جزولة، الجزء الثالث، م، س.

36.  المختار السوسي، خلال جزولة، الجزء الثاني والجزء الرابع، م، س، (من الصفحة 115 إلى الصفحة 141).

37. لقد توسع بشكل كبير في تتبع رجالات وأسر العلم  من خلال مؤلفه الضخم المعسول بأجزائه العشرين، الذي ركز فيه على تراجم الرجال العلماء بمنطقة سوس.

38.  المختار السوسي، خلال جزولة، الجزء الثاني، م، س، ص5-6.

39. المختارالسوسي، خلال جزولة، الجزء الثالث، م، س، ص122.

40. المرجع نفسه، ص128.

41. المرجع نفسه، ص54.

42.  المختار السوسي، خلال جزولة، الجزء الثاني، م، س، ص230-231.

43. المختار السوسي، خلال جزولة، الجزء الثالث، م، س، ص130.

44. محمد عبده محجوب، الاتجاه السوسيو أنثروبولوجي في دراسة المجتمع، وكالة المطبوعات، الكويت،، ص102.

دة. لبنى أشقيف

دكتورة باحثة في القانون العام- كلية الحقوق
جامعة القاضي عياض، مراكش

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق