مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

التأصيل العقلي في إثبات الرؤية

   تكون رؤية الله جائزة عقلا بالنظر إلى ثلاثة أصول أساسية اعتمدها  الأشعري وأتباعه في هذا الشأن وهي: أن الله موجود، وأنه يرى الأشياء، وأن إثبات الرؤية لا يؤدي إلى القول بحدوثه أو تشبيهه بخلقه أو تجويره.
• أ- هل الوجود يصحح كون الله يجوز أن يرى؟
   ذكر الأشعري  في الإبانة  أن المصحح لرؤية الله بالأبصار ” أنه ليس موجود إلا وجائز أن يريناه الله عز وجل وإنما لا يجوز أن يرى المعدوم، فلما كان الله عز وجل موجودا مثبتا كان غير مستحيل أن يرينا نفسه عز وجل”.
   هذا الدليل هو الوحيد الذي اعتمد عليه الباقلاني ابتداء لإثبات جواز رؤية الله يالأبصار فقال: “الحجة على ذلك أنه موجود تعالى. والشيء إنما يصح  أن يرى من حيث كان موجودا  إذا كان  لا يرى لجنسه لأنا لا نرى الأجناس المختلفة، ولا يرى لحدوثه إذ قد نرى الشيء في حال لا يصح أن يحدث فيها، ولا لحدوث معنى فيه إذ قد ترى الأعراض التي لا تحدث فيها المعاني”.
• ب- هل كون الله يرى الأشياء يدل على أنه يرى؟
   قال الأشعري في الإبانة: ” إن الله عز وجل يرى الأشياء، وإذا كان للأشياء رائيا فلا يرى الأشياء من لا يرى نفسه. وإذا كان لنفسه رائيا فجائز أن يرى نفسه. وذلك أن من لا يعلم نفسه لا يعلم شيئا. فلما كان الله عز وجل عالما بالأشياء كان عالما بنفسه، فلذلك من  لا يرى نفسه لا يرى الأشياء. فلما كان الله عز وجل رائيا للأشياء كان رائيا لنفسه، وإذا كان رائيا لها فجائز أن يرينا نفسه، كما أنه لما كان عالما بنفسه جاز أن يعلمناها وقد قال الله تعالى:  ﴿إني معكما أسمع وأرى﴾[ طه: 40]، فأخبر أنه سمع كلامهما ورآهما، ومن زعم أن الله عز وجل لا يجوز أن يرى بالأبصار يلزمه أن لا يجوز أن يكون الله عز وجل رائيا ولا عالما ولا قادرا، لأن العالم  القادر الرائي جائز أن يرى”.
   يحسن في البداية أن نحلل قول الأشعري ونفككه. ولننبه أولا إلى أنه يسعى لإثبات قضيتين: أن الله يرى نفسه، وأن الله يراه غيره.
• أما أن الله يرى نفسه فهو يعتمد على القياس الشرطي المتصل، ويمكن توضيح ذلك من خلال الإشارة إلى مقدمتيه  اللتين ينبني عليهما:
– الذي يرى غيره يرى نفسه.
– الله يرى غيره.
– الله يرى نفسه.
• وأما ان الله يراه غيره فهو كذلك مبني  على أصلين:
– الذي يرى نفسه جائز أن يراه غيره.
– الله يرى نفسه.
– الله يجوز أن يراه غيره.
   ولكن المشكلة تكمن في التسليم بالأصل الأول من القياسين السابقين: فما الذي يدل على أن الذي يرى غيره يرى نفسه؟ ثم ما الذي يدل على أن الذي يرى نفسه جائز أن يراه غيره؟
– ههنا يعتمد الأشعري على قياس آخر مفاده أن الرؤية تساوي العلم: ” إذا كان رائيا لها – أي لنفسه – فجائز أن يرينا نفسه، كما أنه إذا كان عالما  بنفسه جاز أن يعلمناها”.
   وفي ضوء هذه التسوية يكون كل أصل من الأصلين المشار إليهما قائما على قياسين آخرين نوضحهما فيما يلي:
• الذي يرى غيره يرى نفسه، هذه النتيجة مبنية على هذا الإستدلال:
– الذي يعلم الأشياء يعلم نفسه، ” من لا يعلم نفسه لا يعلم شيئا”.
– الله يعلم الأشياء.
– الله يعلم نفسه.
– ثم إذا كان الذي يعلم كالذي يرى.
– وكان الله يعلم نفسه.
– كان الله رائيا لنفسه.
• وأما النتيجة الأخرى : الذي يرى نفسه جائز أن يراه غيره، فتفصيل الاستدلال فيها كما يلي:
– الذي يعلم نفسه جائز أن يجعل غيره عالما به.
– الله يعلم نفسه
– جائز أن يجعل الله غيره عالما به.
– ثم إذا كان الذي يعلم كالذي يرى.
– وكان جائزا أن يعلم الله غيره.
– فالله جائز أن يرى غيره.
   تلك هي الدلالة الثانية المجوزة لرؤية الله بالأبصار في تصور الأشعري  (…).
• ج – هل إثبات الرؤية يؤدي إلى حدوث الله أو تجويره؟
   هذا المعنى نفاه الأشعري في ” اللمع” ورأى أن ذلك يقوم دليلا على جواز الرؤية:
– أن ما لا يجوز أن يوصف به الباري تعالى ويستحيل عليه فإنما لا يجوز لأن في تجويزه إثبات حدثه أو إثبات حدث معنى فيه، أو تشبيهه، أو تجنيسه، أو قليه عن حقيقته، أو تجويره، أوتظليمه، أو تكذيبه.
– وليس في جواز الرؤية إثبات حدثه لأن المرئي لم يكن مرئيا لأنه محدث، ولو كان مرئيا كذلك للزم ( … ) أن يرى كل محدث وذلك باطل ( … ).
– وليس في الرؤية إثبات حدوث معنى في المرئي لأن الألوان مرئيات، ولا يجوز حدوث معنى فيها ( … ).
– ليس في  إثبات الرؤية لله تعالى  تشبيه الباري تعالى ولا تجنيسه ولا قلبه عن حقيقته، لأنا نرى  السواد والبياض فلا يتجانسان  ولا يتشابهان  بوقوع الرؤية عليهما، ولا يتقلب السواد عن حقيقته إلى البياض ( … ) ولا البياض إلى السواد.
– وليس في إثبات الرؤية تجويره  ولا تظليمه ولا تكذيبه لأنا نرى الجائر والظالم والكاذب  ونرى من ليس بجائر ولا بظالم ولا بكاذب.
” فلما لم يكن في إثبات الرؤية شيء مما لا يجوز  على الباري ، لم تكن الرؤية مستحيلة، وإذا لم تكن مستحيلة  كانت جائزة على الله”.

مصدر النص: الحبيب عياد. الكلام في التوحيد دار المدار الإسلامي . ط:1 – 2009. ص: 566 وما بعدها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق