وحدة الإحياءدراسات عامة

البيروني في الهند.. تأملات حول “النسبية الثقافية” ومناهج البحث الأنثربولوجي

تمهيد: الباحث والمجتمع

في مدخل كتابه “المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد[1]“، يحدد الفيلسوف محمد عابد الجابري مفهوم المثقف في صيرورته التاريخية والإبستيمية، مبرزا التبعات النفسية والاجتماعية والسياسية التي تنجم عن الانخراط في حقول ومدارات التثقف. ففي تطوره التاريخي يحيل هذا المفهوم إلى شخص يحمل آراء خاصة حول الإنسان والمجتمع، ويقف موقف الاحتجاج والتنديد إزاء ما يتعرض له الفرد والجماعات من أشكال الحيف والتعسف؛ فمعنى المثقف يتحدد موضوعا لا بنوع علاقته بالفكر والثقافة، ولا لكونه يكسب عيشه بالعمل بفكره، بل يتحدد وضعه بالدور الذي يقوم به في المجتمع كصاحب رأي وقضية.

 فالمثقف، بمعنى آخر، هو “ناقد اجتماعي” يهدف أساسا إلى تحليل وتفكيك العوائق والمعوقات التي تقف أمام بلوغ نظام اجتماعي أفضل؛ ومن ثم، فإن اللحظة الحقيقية لميلاد المثقف الفعلي (والفاعل) تتمثل في اختراق الحدود المادية والمعنوية للجامعة والانخراط في مسالك الفعل والتفاعل ليتحول بذلك إلى متكلم صاحب مقالة يخاطب بها المجتمع. يظهر جليا، بحسب الجابري، التأثير البالغ الذي لعبه النموذج الإسلامي للفيلسوف، الذي تشكل في عالم بدون جامعات، في تحديد مفهوم دور المثقف داخل الدائرة الغربية، ذلك النموذج الذي يجعل الدراسة تتوج بالحكمة وبالدعوة إلى الفضيلة والحرية والعدل والتسامح.

عشر سنوات تقريبا بعد كتاب الجابري، أصدر إدوارد سعيد في سنة 2004 كتابا بعنوان: “الإنسانية والنقد الديمقراطي[2]” خص فصله الأخير إلى دور المثقف في الشأن العامThe Public Role of writers and Intellectuals، هذا الدور الذي يتمثل في “التعبير عن” و”التحقيق لـ” مثل العدالة والحرية والمساواة. فالمثقف والمفكر بهذا المعنى هو ذلك الذي آثار الكلام على الصمت، آثار الكلام في الشأن العام، كاسرا طوق الصمت المفروض والبنيوي، منتقدا ومفككا آليات التدجين الثقافي والإيديولوجي وأنساق المصالح الاقتصادية والسياسية وشموليتها الصارمة. ففي إحالته إلى بيير بورديو Pierre Bourdieu يشير سعيد إلى دور المثقف في إنتاج ونشر آليات المقاومة ضد الهيمنة الرمزية Symbolic Domination التي تعتمد، بشكل كبير، على سلطة العلم والتاريخ؛ تتمثل هذه المقاومة الثقافية في المشاركة الملتزمة Engaged Participation والنقد الفعال في مواجهة الظلم، وذلك ليس لتحديد وتعريف ما يجري على أرض الواقع فحسب، بل وأيضا لتقييم إمكانات ومجالات الفعل والتفاعل.

وهنا يخلص سعيد إلى تحديد بعض مجالات العراك الثقافي، منها ثلاث وجهات ملحة، نخص بالذكر منها الوجهة التي تهمنا أكثر في هذه المقالة.[3] ألا وهو العراك الذي يستوجب الانخراط في حماية الماضي والتاريخ Past من الانمحاء أو التسطيح وكذا من استعمالاته المبتذلة؛ لأن دور المثقف الرئيس هو اقتراح بدائل سردية Alternative Narratives وآليات جديدة لمقاربة التاريخ، مقاربة تخرج  تماما عن إطار التوظيف الشعوبي والعرقي والسياسي والديني[4]. وبالتالي فإن التعريف الأدق لمفهوم المثقف يحيل إلى معنى الذاكرة العكسية،The intellectual is perhaps a kind of counter-memory، والتي، بعكس الرؤى الخطية والتبسيطية، تحاول جادة إبراز تشعب الأحداث التاريخية، تداخلها وتعدد قراءاتها.

أولا: بين الشرق والغرب.. جدلية المعرفة والسلطة

تعتبر هذه الفكرة جوهر مشروع سعيد المعرفي الذي أرسى أسسه الأولى في أواخر السبعينات من خلال كتابه الشهير “الاستشراق” حيث أبرز فيه التداعيات الأخلاقية والإيديولوجية في التعامل مع التاريخ وكتابته. إن الاستشراق، من منظور سعيد، كعلم ليست له علاقة بالذات المدروسة؛ (أي الشرق) بقدر ما هو مرتبط بالثقافة السياسية والفكرية الحديثة. قد يظهر الخطاب الاستشراقي وكأنه لا يربط حبال تواصل مع السلطة السياسية بمعناها الخام، لكن وجوده رهين هذه العلاقة وتجلياتها الثقافية والعلمية والأخلاقية. ومن هنا، فإن الشرق ليس مجالا جغرافيا فحسب، بل هو كذلك سلسلة من المنافع تُخلق وتُزكى بوسائل شتى، كالكشوفات العلمية والتركيبات اللغوية والتحليلات النفسية والوصفات الجغرافية، بالإضافة إلى الملاحظات الاجتماعية والمناظرات الأخلاقية.

وأخلاقيا فإن هذا العلم، بمناهجه ومراميه، لا تحركه الرغبة في المعرفة والاتصال، الذي هو كذلك تواصل، بقدر ما تحركه الإرادة في حصر ودمج وتركيب عالم مختلف عن الواقع الملحوظ. فالشرق بتعبير سعيد المستفز قد “أُستشرق”؛ أي أن العلم الذي انفرد بدراسته لم يكن وسيلة للتعرف عليه ومعرفته فحسب، بل كان كذلك أداة إيديولوجية لنشر فكرة اقتصادية وسياسية في نصوص علمية وإستيتيقية وتاريخية وفيلولوجية وأنثربولوجية.

فالاستشراق، سواء في شقه العلمي البحث أو في أفقه الإمبريالي الاستعماري، اعتبر الشرق والمشارقة كموضوعات Objects محكوم عليها بالغيرية السلبية وغير المشاركة، الغيرية الجامدة وغير المستقلة. فحسب المستشرقين التقليديين، كما أسماهم أنور عبد المالك، فإن ثمة ماهية essence تُكون الجوهر المشترك لجميع المشارقة بشتى تجاربهم وأشكالهم… وهذه الماهية تعد، في الوقت نفسه، تاريخية، ضاربة في أعماق التاريخ المظلمة، ولا تاريخية رهينة خصوصياتها السطاطيكية التي لا تتطور عبر التاريخ[5].

إن هذه النظرة المزدوجة تفضي بنا إلى مفارقة منهجية غريبة. فمن جهة، يضحى تاريخ أمم الشرق أكثر مجالات الدراسة في شتى الميادين الثقافية واللغوية والدينية[6]، ومن جهة أخرى، فإن الإنتاج المعرفي والعمل العلمي لعلماء ومفكري بلدان الشرق سيكمم أو يتجاهل، وفي أحسن الأحوال سيؤخذ به من باب الاستئناس ليس إلا.

لقد أرسى فكر إدوارد سعيد النقدي بُنى ما يمكن أن نطلق عليه “علم” “تفكيك إيديولوجيات الهيمنة والتدجين”، وذلك في ميادين علمية متعددة كالدراسات ما بعد الكولونياليةPostcolonial   Studies  ودراسات السود Black Studies ودراسات النوع البشري Gender Studies، الخ. هذه العلوم والدراسات التي تحاول كل في مجال تخصصها، إلى تعرية ميكانزمات الهيجيمونيا المعرفية والسياسية وأنساق إنتاج الخطاب السلطوي. وكان البحث الأنثربولوجي أهم ميادين المعرفة الذي أثرت فيه فكر سعيد بشكل كبير، باعتباره أكثر العلوم المرتبطة بالتاريخ الإمبريالي وبالغيرية الثقافية. فمن باب ردة الفعل على الإيثنو-مركزيات، ارتفعت أصوات منادية إلى ما يمكن أن نطلق عليه “التوبة الأنثربولوجية”، داعية إلى إعطاء الكلمة للذات المدروسة حتى تتحدث عن ذاتها، وإلى التعاطي مع هذه الثقافات بنسبية دون أحكام قيمة.

وبالتالي أضحى سؤال الأخلاق، أخلاق البحث، وسؤال القيم في مقارنة بعضها البعض وفي التواصل بين الباحث والمبحوث فيه وعنه، في كنه السؤال الأنثربولوجي. بيد أن هذه التوبة، مع الأسف الشديد، لم تكن مكتملة، خصوصا في عمليات التنظير لعلم الاجتماع: تُعطى الكلمة، ربما بكل احترام وتقدير، للإنسان موضوع البحث ليعبر عن مجتمعه برموزه وخلجات نفسه وآرائه في أمور المجتمع والسياسة والدين، إلا أن هذه الكلمة المعطاة سرعان ما تُسلب حين يتم ترتيب النتائج وتحليلها ووضعها في نسق تنظيري..

 ومن هنا فالثقافة المدروسة لا تتعدى أن تكون مادة خام لإنتاج الفكر وللتجريد النظري في مجال العلوم الاجتماعية. فهي، بهذا المعنى، ثقافة سالبة لا تشرك بشكل فعلي في عملية الإنتاج الفكري؛ وأبلغ مثال على ذلك هي محاولات التأريخ المتكررة لعلم الأنثربولوجيا التي تلغي بشكل سافر مساهمات الحضارات والثقافات غير الغربية. قد نجد بالتأكيد هنا وهناك بعض الإشارات إلى ابن خلدون وعلم الاجتماع البشري، إذا ما اقتصرنا على الحقل العربي-الإسلامي، إلا أنها تبقى غالبا إما إحالات تمويهية، لإيهام القارئ والمتتبع أن الباحث والدارس يتوخى التنظيم لهذا العلم من خلال ثقافة المجتمع المدروس وبلغته الرمزية، أو إحالات استئناسية أكثر منها استلهامية.

ثانيا: بين التبيئة المفاهيمية والحفرية المعرفية

ومن هنا أتت ضرورة هذه الورقة، ضرورة ذات بعد معرفي أولا وأخلاقي ثانيا، وذلك لإعطاء الكلمة بحق لبعض هذه الأصوات المكممة والمقالات الممحاة والتي أسهمت أيما إسهام في بناء صرح “العمل الأنثربولوجي”. إن عملية التأريخ هذه ليست من قبيل الحفريات الفوكوية (نسبة إلى فوكو)؛ لأننا لا نتوفر بعد على تراكمات علمية كفيلة لإبراز أنساق الإنتاج المعرفي (وهذا عمل ضخم نتوخى القيام به لاحقا)؛ ولا هي من باب التأصيل، بشقيه القومي والديني، لعلوم تكونت لاحقا في حضارات مغايرة (الحضارة الغربية بالخصوص).

 لأنني أعتقد أن العلم هو إنتاج بشري مشترك وتراكم تدريجي للتجربة الإنسانية. صحيح أن هذه المعارف تتلون في عملية صيرورتها وتنقلها من ثقافة إلى أخرى بألوان ثقافية ودينية مختلفة، إلا أنها لا تعترف بالحدود المصطنعة وتقفز عليها؛ ولا هو من قبيل عملية “التبيئة” كما حددها محمد عابد الجابري والتي تقتضي نقل مفاهيم معرفية (الأنثربولوجيا هنا) من حقل ثقافي إلى آخر وإعطائها مضامين تتناسب مع المضامين التي تتحدد بها أصلا في الثقافة المنقولة منها.

فالتبيئة، في اصطلاح الجابري، تعني ربط المفهوم بالحقل المنقول إليه ربطا عضويا، وذلك ببناء مرجعية له فيه تمنحه المشروعية والسلطة. لا ريب، إذن، أن عملية النقل الإيكولوجي هذه لا تختلف عن التأصيل أو إستراتيجية التجديد من الداخل؛ لأنها هي الأخرى تفصل بين خارج وداخل، بين حقل وآخر، وبالتالي فهي تقلل، لا شعوريا، من قيمة الإنتاج المعرفي الذي حصل في ثقافات مختلفة في أزمنة منصرمة، خصوصا ذلك الإنتاج الذي ظل، لظروف جغرافية وسياسية، هامشيا ولم يتوفر على قوة الدفع وسلطة الانتشار الإعلامي.

فعلى الرغم من المجهود التطبيعي الكبير (naturalisation بالفرنسية)، فإن عملية النقل الإيكولوجي هذه تنشأ، بشكل عكسي، وبقوة الفعل، علاقة غير متوازنة بين حقل معرفي منتج إيجابا وحقل آخر مستهلك بشكل سالب، سيما وأن هذه المقاربة تجهل، أو بالأحرى تتجاهل، أن المعرفة هي نتاج جمعي وامتزاج بطيء ومعقد للتجربة الإنسانية.

 إن الانبثاق “المتفجر” للمفاهيم ولأدوات التحليل والانبعاث المدوي للأعلام المتفردين في زمان ومكان بعينهما لهو تراكم لمخاضات أسهمت فيه ثقافات متعددة بدرجات متفاوتة، وإنه لمسار متشعب يصعب تحديد بداياته الأولى ومراكزه، كما يصعب التنبؤ بصيرورته ومآلا ته. فمفهوم التطبيع البيئي، من هذا المنظور، يستحيل عقيما وغير قادر على تخصيب الحقول المعرفية “النائمة”؛ خصوصا وأنه يقتضي، كما في بعض النظريات البيولوجية، نوعا من “عنصرة” الثقافة (racisation بالفرنسية)، باعتبارها نتاجا خالصا وراثيا، منسجما homogène وخطيا linéaire.

انتقادنا هذا يخص كذلك التوظيفات الأيديولوجية والدينية لهذه النظريات “العنصرية” التي تفاضل، من وجهة أخرى ولأهداف مخالفة، بين الحضارات والثقافات محيلة بعضها إلى البداءة المتوحشة ومزاولة هذه المرة، بخلاف النقل البيئي، نوعا من القرصنة التاريخية والثقافية؛ قرصنة شبيهة بما يمكن أن نطلق عليه “الانتواع” الانتقائي (أو الأثننة الاحتوائية) لبعض الأفكار التي انبثقت والمفكرين الذين انبعثوا في بيئات ثقافية مغايرة.

 يمكن أن نعتبر المنهج المتبع هنا نوعا من المقاومة التاريخية كما حددها سعيد؛ أي في محولة حفرنا المعرفي خارج المركزية الغربية، نقوم بعملية تأريخ للعلوم الكونية، من هوامش المركزيات المعرفية، لزعزعة هذه المركزيات الفرحة بمركزياتها المرحلية. بيد أن هذه العملية “التفكيكية” تستوجب تباعا مساءلة مراكز الهوامش نفسها. فداخل النسق الثقافي العربي-الإسلامي تمثل اللحظة الخلدونية مركزا محوريا للتنظير لعلم الاجتماع.

 ومن غير قصد فإن هذه المحاولات الابستمولوجية، إذا ما أمكن تسميتها كذلك، تحيل على غياب الثقافة، على طابعها الاستثنائي، أكثر مما تحيل إلى الحضور المؤثر لمعرفة سوسيو-أنثربولوجية. فاللحظة الخلدونية تقارب هنا في عزلتها وليس كصيرورة ثقافية شارك فيها أعلام فكر مختلفون وأشكال متنوعة للفكر؛ صيرورة ثقافية يمثل فيها ابن خلدون فعلا لحظة انبثاق هامة جدا. فبالإضافة إلى أن هذه النظرة تتناسى لحظات إشراقية أخرى، فإنها تتجاهل كذلك الظروف السوسيو-ثقافية والأيديولوجية لنشأة المعرفة ولديناميات الإنتاج الفكري.

وعلى الرغم من هذا التركيز المفرط على اللحظة الخلدونية فإن أبعاد تحليلاته الأنثربولوجية لم تسبر بعد أغوارها بشكل عميق. فما بين التوظيفات الأيديولوجية الداخلية والاسترادات البراغماتية الخارجية، التي تحاول شرعنة التجريد النظري من خلال فكر محلي، يبقى التفكير في الإسهام الفعلي لابن خلدون في المجال الأنثربولوجي تفكيرا مشوشا. لا ننكر أبدا الإسهامات النوعية التي أضاءت جوانب مهمة من فكر العلامة المغاربي، خصوصا في مجال التفكير السياسي والتاريخي، بيد أن المقاربات الأنثربولوجية المستوحاة من عمل ميداني طويل النفس تظل نادرة، إن لم تكن منعدمة.

ثالثا: البيروني بين الاحتفاء والتغييب

لن أحدثكم، إذن، كما هو معتاد، إلى درجة الابتذال، عن ابن خلدون الذي ظل مرجعا وحيدا وكأنه الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، ولكن عن عالم آخر عاش أربعة قرون قبل المؤرخ المغاربي. إنه أبو الريحان محمد ابن أحمد البيروني الذي ولد سنة (362ﮪ/973م) في ضواحي مدينة خوارزم وعاش لحظات من حياته في ري ثم في غزنة تحت رقابة السلطان محمود الغزنوي الذي أحضره بعد غزوه لمسقط رأسه في سنة 1040م. ولقد سمي بالبيروني ليس لأنه ينتمي، كما ذهب إلى ذلك البعض، إلى بيرون وهي من مدن السند (في باكستان اليوم)، ولكن، وهذا هو الأرجح، لكثرة مقامه خارج بلدته. فـ”البيرون” باللغة الفارسية هو”الغريب” أو الآتي من خارج البلدة؛ هذه الغربة المتكررة التي كان لها، كما سنرى، بالغ الأثر على مساريه الشخصي والفكري.

 بالرغم من الوزن الثقيل الذي يمثله هذا الباحث الكبير، وأسميه باحثا لأنه كان بالفعل باحثا دؤوبا عن المعرفة، في تاريخ الفكر والعلوم، فإن ما وصلنا (أو ما تراكم حوله) عن حياته ومساره العلمي وبالخصوص التيارات الثقافية التي أثرت فيه ضئيل جدا مقارنة مع أعلام كثيرة أقل منه وزنا من الناحية المعرفية[7]. أضف إلى هذا أن أغلب الأبحاث التي تناولت أحد جوانب شخصيته أو فكره اتسمت عموما بالاحتفائية والاحتفالية، مشيرة إشارات خاطفة إلى بعض أفكاره المشرقة دون تعميق الدراسة والتحليل؛ فجل المؤتمرات الموسمية التي تنظم حوله والأبحاث التي تتمخض عنها تنحى هذا المنحى.

أما الدراسات التحليلية، فإضافة إلى نذرتها، فإنها تتسم بالضبابية وبإغفال أهم الجوانب الفكرية، مُْؤثرة الخوض في حقول هامشية، كالتسامح الديني عند البيروني، كشعوبية فكره أو عروبته، وكاستثنائية روحه الثقافية، كما ذهب إلى ذلك كثير من الباحثين[8]. فهذه المقاربات التقزيمية لا تنزع عن فكر البيروني خصوبته المعرفية فحسب، بإقحامه في دائرة المقارنات مع شخصيات دينية وروحانية أكثر منها فكرية[9]، بل إنها، وهذا أدهى، تخرجه، حيفا، عن النسق الثقافي العام الذي أثراه وأطره. فالبيروني ليس بدعا من المفكرين العرب والمسلمين الذين تحلو بالسماحة والانفتاح الثقافيين؛ فغيره كثير، كابن النديم و ابن سينا وابن مسعود…[10].

 بل إن هذا السلوك هو نتاج وتراكم فعلي لتجربة فكرية محكومة بخلفية ثقافية معينة. لابد من الإشارة هنا إلى أن مراسلات البيروني مع ابن سينا أو إشاراته المتكررة إلى بعض المفكرين من أمثال الرازي، الذي كان يعرف عمله جيدا، وأبي العباس الإيرانشهري وإلى بعض فلاسفة المتصوفة، حتى وإن كانت لا تحيل إلى أنه استفاد منهم مباشرة في دراسته حول الهند، كما يلمح إلى ذلك سخاو Sachau في مقدمته لكتاب أبي الريحان “تحقيق ما للهند…”، فإنه يعطينا فكرة عن ديناميات الفعل الفكري التي تجعل هذا العمل ممكنا.

العظيم في فكر البيروني ليس هذه الروح المتسامحة مع الأديان الأخرى ولكنه المنهاج العلمي غير المتساهل الذي وضعه ووظفه لدراسة هذه الغيرية الدينية والثقافية. فالبيروني، كما يشهد بذلك مونتغومري وات، يعتبر سباقا إلى إرساء أسس علم الأديان المقارن قبل مأسسته الفعلية في القرن التاسع عشر؛ ذلك أنه لم يكن جماعا ميكانيكيا للمعلومات والمعارف، بل كان مفكرا منهجيا للفعل الديني، معتبرا إياه كجزء من كل ثقافي، تتداخل فيه الفلسفة بالكسمولوجيا والسوسيولوجيا بالمثولوجيا[11].

ليس هذا فحسب، بل إن عالمنا يعتبر بحق سباقا إلى التفكير في مناهج الدراسات الاجتماعية، والدين لا يمثل إلا بعدا من أبعادها. فبالإضافة إلى صقله وتنزيله لمفهوم قريب من التعريف الحالي للإثنولوجيا: “معرفة الأمم”، مفهوم رائع يمكن أن نساويه بمفهوم العمران الخلدوني، فإنه يسلك، كذلك، منهاجا ذا حس إثنوغرافي، يلح فيه، من جهة، على التجربة الميدانية والاحتكاك والمباشرة كمعايير أساسية للمعرفة الإنسانية[12]، ويرمي من خلاله، من جهة أخرى،  الكشف عن البنيات الرمزية للثقافة المدروسة عبر أساطيرها وطقوسها وتمثلاتها الذهنية[13].

 لقد اشتهر البيروني في كثير من مجالات المعرفة، خصوصا علوم التنجيم والكواكب Astrology and astronomy، علم المعادن Minerology، الصيدلة والتاريخ؛ كما أنه كتب في هذه العلوم كتبا عدة، أشهرها: “الآثار الباقية عن القرون الخالية”، “القانون المسعودي في الهيئة والنجوم”، وكتاب “الجماهر في معرفة الجواهر”. لكن الكتاب الذي أزعم الحديث عنه هنا ليس من هؤلاء ولا يعني بأي علم من هذه العلوم؛ إنه كتاب في علم الاجتماع ذي حس أنثربولوجي عميق، والذي يعتبر بالفعل، كما أشار إلى ذلك أحمد حسن داني، أول كتاب منهجي حول ما أطلق عليه لاحقا “الدراسات الثقافية المقارنة[14]“، أو كما اعتبره محمد طفيل أداة لعلماء الاجتماع لدراسة الثقافات المغايرة[15]. هذا الكتاب هو “تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة[16].

رابعا: البيروني ومناهج البحث في الغيريات الثقافية

يبدأ البيروني كتابه هذا بتقرير ذي مغزى منهجي أنثربولوجي ويجعله نسقا علميا ومعرفيا ينتهجه: “ليس الخبر كالعيان[17]“. فالعيان، حسب المؤلف، هو إدراك للشيء والفعل في زمان وجوده وفي مكان حصوله؛ أي أنه يعنى بالملاحظة المباشرة للظاهرة وإدراك الملحوظ في زمن ومكان وقوعه. أما الخبر وتداوله سمعا، كما هو حال المكتوب ومداولته، دون معاينة مباشرة، قد يشوبه القصور لما يدخل عليه من آفات التحريف والزيادة والسهو والنقصان والكذب والوهم والنسيان. ولولا هذه الآفات مجتمعة لكان الخبر المتواتر وسيلة من أوثق وسائل التحصيل المعرفي، وبما أن الكتابة (أو التأريخ) هي الأخرى نوع من أنواع الخبر فإنه يعتريها، رغم التوثيق، ما يعتري الخبر من علل، ومن ثمة فالحذر والشك لازمان معرفيان في التعاطي مع الخبر الشفهي والمكتوب، لاسيما في المجال الديني والسياسي. وهنا يعدد البيروني بعض مداخل الخلل في تواتر الخبر، منها ما هو نفسي واجتماعي ومنها ما هو سياسي وثقافي: الكسل المعرفي، غياب الشجاعة الفكرية، النزوع إلى التقليد، الطمع، التعصب الديني، المصالح السياسية والاقتصادية، المركزية الإثنية… الخ.

 يقول البيروني: “فمن مخبر عن أمر كذب يقصد فيه نفسه فيعظم به جنسه؛ لأنها تحته أو يقصدها فيزري بخلاف جنسه، لفوزه فيه بإرادته، ومعلوم أن كلا هذين من دواعي الشهوة والغضب المذمومين. ومن مخبر عن كذب في طبقة يحبهم لشكر أو يبغضهم لنكر، وهو مقارب للأول فإن الباعث على فعله من دواعي المحبة والغلبة. ومن مخبر عنه متقربا إلى خير بدناءة الطبع أو متقيا لشر من فشل وفزع. ومن مخبر عنه طباعا كأنه محمول عليه غير متمكن من غيره وذلك من دواعي الشرارة و خبث مخابئ الطبيعة. ومن مخبر عنه جهلا، وهو المقلد للمخبرين وإن كثروا جملة أو تواتروا فرقة بعد فرقة فهو وهم وسائط فيما بين السامع والمعتمد الأول…[18].”

وهذه كلها طرق قل ما يخلو منها من يقصد الحكاية عموما، ناهيك عن الذي يحكي ويروي عن الخصوم في السياسة والمخالفين في الدين والاعتقاد. ففي حواره مع الأستاذ أبي سهل عبد المنعم بن علي ابن نوح التفليسي الذي استنكر على الذين يستنبطون من قول المعتزلة “كان الله عالم بذاته” بأن الله لا علم له، يقر البيروني، في هذا الصدد، بتأثير الأيديولوجية على التحلي بالموضوعية المعرفية. فالإزراء والتلفيق، كما يؤكد لمحاوره، طرق شائعة في التعاطي مع المخالفين في المذاهب، بل إن هذا التحامل يكون أبرز في حالة المذاهب التي يجمعها نفس الدين والنحلة، وذلك لاقترابها واختلاطها[19]. وأما في حالة تباعد النحل والملل فإن التحيز والتحامل يكون الجهل بالآخر، “خفاء السبيل إلى تعرفها[20]“، هو باعثه الأساسي.

وبسبب هذا التباعد فإن المعرفة المتراكمة والمتداولة حول الأديان المخالفة للإسلام والأفكار المغايرة لمعتقداته، كما يقر بذلك البيروني بشيء من الأسى، يشوبها كثير من الجهل المتراكم والتحيز والتعصب. وأما أولئك الذين تأتى لهم معرفة هذه الملل والنحل، ولنقل بإيجاز الأيديولوجيات، المخالفة لم يحملوها محمل الجد المعرفي، ولم يستشفوا أبعاد المعاني والدلائل الثقافية التي تعبر عنها، بل أقحموها، دون تمحيص، في خانة “اللاعقل” واعتبروها ضربا من “الأسحار” و”الأساطير” التي يُستأنس بها التذاذا، لا تصديقا لها ولا اعتقادا. وخير مثال على ذلك ما هو متداول ومكتوب حول أديان الهند ومذاهبهم، حيث أن أكثرها منقول بعضه عن بعض، منغلق في دائرة استنساخية لا تتيح مجالا للإبداع والتوثيق. يقول البيروني منتقدا هذا المنهج التواتري: “وكان وقع المثال في فحوى الكلام على أديان الهند ومذاهبهم فأشرت إلى أن أكثرها هو مسطور في الكتب هو منحولٌ وبعضها عن بعض منقولٌ وملقوط مخلوط غير مهذب على رأيهم ولا مشذب، فما وجدت من أصحاب كتب المقالات أحدا قصد الحكاية المجردة من غير ميل ولا مداهنة[21].”

لم يجد أبو الريحان من أصحاب كتب المقالات في الآراء والأديان المخالفة أحدا قصد الحكاية المجردة من غير ميل ولا “مداهنة” سوى أبي العباس الإيرانشهري الذي ألف عن اليهود والنصارى ودينيهما، ولكن كلامه في غير أهل الكتاب، وبالأخص في بعض فرق الهند، اتسم، عكس ذلك، بالتحامل، ناقلا عن من سبقه من الدارسين بدون تريث وعن عوام هذه الطائفة المدروسة بدون تحقيق وتدقيق. فالكلام في اعتقادات الهند وعاداتهم، حسب البيروني، كله كلام “تواتري”، غير مباشر، وبذلك يصعب التحقق منه. وبالتالي فإنه يبرر ضرورة عمله الميداني حول الهند، كما يحيل إلى ذلك عنوان الكتاب، بهذا الفراغ أو النقص الإبستيمي. 

وبعد إشارته هذه إلى تهافت الباحثين في مناهجهم ومقاربتهم للملل والنحل المخالفة، يؤكد البيروني على أنه سلك منهجا آخر، أكثر موضوعية، “غير باهت” على الخصم، كما يقول، ولا متحرج عن حكاية كلامه وإن باين “الحق” والاعتقاد المتداول واستُفظع سماعه من طرف المخالفين، فذلك اعتاقده، وهو أبصر به، ووجب نقله دون سجال وجدال. فليس الكتاب؛ (أي كتاب الهند)، كما يصرح بذلك، “كتاب حجاج وجدل حتى أستعمل فيه بإيراد حجج الخصوم ومناقضة الزائغ منهم عن الحق، وإنما هو كتاب حكاية فأورد كلام الهند على وجهه…[22].”

خامسا: الحواجز الثقافية والتجاوز المنهجي

بعد هذا التدقيق المنهجي، يردف البيروني معددا الصعوبات المعرفية والمنهجية التي لها يتعذر استشفاف الثقافة الهندية بموضوعية وتدقيق. ففوارق اللغة والدين من جهة، والتباعد التاريخي والثقافي والسياسي، من جهة أخرى، تشكل حواجز لابد من تجاوزها والهيمنة عليها حتى يتم النفوذ إلى المجتمع الهندي وتمهيد الطريق لبناء معرفة رصينة. هناك، إذن، صعوبات منهجية عدة أبرزها التباين الثقافي-ديني والاختلاف اللغوي، دون أن ننسى العامل السياسي الذي يتمثل في كون بعض مناطق الهند كانت تحت غزو محمود الغزنوي، مما عقد أكثر عملية التواصل.

فيما يخص الثقافة والدين، فالهنود يخالفون ثقافة البيروني ليس من حيث الرسوم والعادات فحسب، بل إن الذات المدروسة تخالف الذات الدراسة بالديانة مباينة كلية، فلا هم يقرون لما عند الباحث ولا هذا الأخير يقر بما عندهم. وهذا، كما يشير إلى ذلك أبو الريحان، يجعل المخالطة صعبة جدا، مهما رغب وسعى الآخر ربط الأواصر معهم. فالهنود يَسمون الآخر المغاير بالقذارة التي تفسخ كل وصلة وتستوجب عدم المشاركة والاجتماع، من زواج ومقاربة أو حتى من مجالسة ومؤاكلة ومشاربة[23].

فعن هذه الحواجز الإثنو– ثقافية، والتي يمكن أن نطلق عليها اسم “مركزية الهنود”، يقول البيروني: “يعتقدون في الأرض أنها أرضهم وفي الناس أنهم جنسهم وفي الملوك أنهم رؤساؤهم وفي الدين أنه نحلتهم وفي العلم أنه ما معهم فيترفعون ويتبظرمون ويعجبون بأنفسهم فيجهلون[24]“، حتى أنهم إن حدثوا بعلم أو عالم في مكان آخر “استجهلوا المخبر ولم يصدقوه للآفة المذكورة (المركزية)، ولو أنهم، يضيف البيروني، سافروا وخالطوا غيرهم لرجعوا عن رأيهم، ذلك أن أوائلهم لم يكونوا بهذه المثابة من الغفلة. هذا مع العلم بأن مراكز العلم في الهند، خصوصا بنارس وكشمير، لم تكن مفتوحة “لبابرة” كالبيروني[25]. ولذلك فمن الأرجح أن احتكاك البيروني بأهل الهند تم في الغالب في المناطق التي كانت تحت الإدارة الإسلامية، كملطان، أو ربما حتى في غزنة، حيث التقى بعض أهل العلم المعروفين بـ”الباندي” Pandits.

رغم هذا الانغلاق والاستعلاء الثقافيين من طرف الهنود، لم تكن ردة فعل البيروني مرتبكة ولا متشنجة، بل إنه تحلى بروح موضوعية ونسبية عالية، بالأخص في مقاربته لموضوع بالغ الحساسية بالنسبة للمسلم: الاعتقاد في الله ووحدانيته. فاعتقاد الهند الحقيقي في الله، حسب البيروني، أنه الواحد الأزلي، من غير ابتداء ولا انتهاء، القادر الحكيم، الحي، المحيي، المدبر، المبقي، الفرد، لا يشبهه شيء ولا يشبه شيئا.

وكي لا تكون حكايته كالشيء المسموع فقط، فإنه يروي شيئا من كتبهم شارحا إياها ومبرزا كنهها التوحيدي، ليخلص بعد ذلك إلى محاولة تفسير ظاهرة التعدد العقدي على أرض الواقع، بروح أنثربولوجية محضة، تتقاطع فيها الملاحظة المباشرة والمقارنة مع ثقافات أخرى (اليونان وبعض فرق المتصوفة). كما يفسر لنا كيف تحول مفهوم الاستنساخ عبر الزمن إلى تعددية طقوسية تمجد فيها الأرواح وتأله.

أما بالنسبة للحاجز اللغوي، فإن البيروني يقر بأنه متى رام أحد تعلم اللغة السنسكريتية لإزالة هذه المباينة الثقافية، لم يتسن له ذلك إلا بشق الأنفس؛ لأن لغتهم جد معقدة، فحروفها، قبل كل شيء، تختلف عن الحروف العربية والفارسية، فيجتمع في لغتهم حرفان ساكنان وثلاثة؛ أي أنها متحركات بحركة خفية مما يجعل التفوه بأكثر كلماتها صعبا: “بل لا تكاد الألسن تنقاد لإخراجها على حقيقة مخارجها ولا الآذان تسمع بتمييزها من نظائرها وأشباهها ولا أيدينا في الكتبة لحكايتها، فيتعذر بذلك إثبات شيء من لغتهم بخطنا لما يضطر الواحد إليه من الاحتيال لضبطها بتغيير النقط والعلامات وتقييدها بإعراب إما مشهور أو معمول[26].”

أضف إلى ذلك أن لغتهم منقسمة إلى “فصيح” و”مبتذل” والشيء الواحد عندهم يتسمى بعدة أسام مشتقة، مما يُحوج إلى زيادة نعوت لتحديد المعنى. هذا مع قلة اكتراث الناسخين بالتصحيح والتدقيق، “فيضيع الاجتهاد ويصير ما في الكتاب لغة جديدة لا يهتدي لها أهل الهند أنفسهم[27]“. ومما يعسر الاطلاع على علومهم كذلك، أن كتبهم في العلوم منظومة بأنواع من الوزن، قصدوا بذلك انخفاضها من سرعة ظهور الفساد فيها، إلا أن تعويلهم عليه دون المكتوب يعتبر هو نفسه مدعاة للفساد؛ لأن النظم، يقول البيروني، لا يخلو من نشوب التكلف لتسوية الوزان وتصحيح الانكسار وجبر النقصان، ويحوج إلى تكثير العبارات، وهو أحد أسباب تقلقل الأسامي في مسمّياتها[28].

سادسا: ملامح المنهاج الأنثربولوجي وتعدد أساليبه

إن مقاربة البيروني الداخلية تحتم عليه، إذن، تعلم اللغة للتحاور مع الناس واستجوابهم وللاطلاع على كتبهم وتاريخهم؛ وعلى طريقة علماء الاجتماع المحدثين، لا يستحيي عالمنا، وهذه شجاعة معرفية ومنهجية لزم الإشادة بها، من ذكر ما تعرض إليه من مشاق لتعلم اللغة السنسكريتية والتعامل بها؛ فربما تلقف، وهنا يحكي عن نفسه بنوع من التهكم، من أفواه محاوريه كلاما واجتهد في التوثق منه فإذا أعاده عليهم لم يكادوا يعرفونه إلا بشق الأنفس[29].

 نلمح هنا بجلاء النبرة الانعكاسية عند البيروني Réflexivité؛ أي السرد الانعكاسي الذي يحكي فيه الباحث علاقته التوترية بموضوع وميدان بحثه. ففي معرض حديثه عن العراقيل التي تعرض لها في بحثه، والتي أشرنا إليها، يقول: “يجب أن نتصور أمام مقصودنا الأحوال التي لها يتعذر استشفاف أمور الهند، فإما أن يسهل بمعرفتها الأمر وإما أن يتمهد له العذر…[30].”

 فالبيروني لا يستنكف عن ذكر عجزه وجهله، واعدا قراءه، على تقدم سنه، بمواصلة البحث الجاد لموافاتهم بالجديد. لابد من الإشارة، لتبيان شمولية هذه المقاربة، إلى أن البوادر الأولى للمنهج الذي اتبعه البيروني في الهند نجدها في كتابه “الآثار الباقية عن القرون الخالية[31]“، والذي يقر فيه بصعوبة البحث في ميدان تضاربت فيه الآراء. يقول في هذا الصدد: “قد سألني أحد الأدباء عن التواريخ التي يستعملها الأمم، والاختلاف الواقع في الأصول التي هي مبادئها والفروع التي هي شهورها وسنوها، والأسباب الداعية لأهلها إلى ذلك، وعن الأعياد المشهورة، والأيام المذكورة للأوقات والأعمال وغيرها مما يعمل عليه بعض الأمم دون بعض واقترح الإجابة على ذلك بأوضح ما يمكن السبيل إليه حتى تقرب من فهم الناظر فيها، وتغنيه عن تدوُّخ الكتب المتفرقة وسؤال أهلها عنها، فعلمت أن ذلك أمر صعب المتناول بعيد المأخذ غير منقاد لمن رام إجراءه مجرى الضروريات […][32].”

 كما نلاحظ إلحاحه على المنهج المتبع في كتاب الهند والذي يجمع بين العيان والسماع والمقارنة أو القياس. ففي جوابه عن سؤال محاوره يبدأ البيروني باستعراض بعض الهفوات والخلل في التعاطي لموضوع كهذا. يقول البيروني: “وأبتدئ فأقول أن أقرب الأسباب المؤدية إلى ما سُئِلت عنه هو معرفة أخبار الأمم السالفة وأخبار القرون الماضية؛ لأن أكثرها أحوال عنهم ورسوم باقية من رسومهم ونواميسهم ولا سبيل إلى التوسل إلى ذلك من جهة الاستدلال بالمعقولات والقياس بما يشاهد من المحسوسات سوى التقليد لأهل الكتب والملل وأصحاب الآراء والنحل المستعملين وتصيير ما هم فيه إسّاً يبنى عليه بعده ثم قياس أقاويلهم وآرائهم في إثبات ذلك بعضها ببعض بعد تنزيه النفس عن العوارض المردئة لأكثر الخلق، والأسباب المعمية لصحابها عن الحق، وهي كالعادة المألوفة والتعصب والتظافر واتباع الهوى والتغالب بالرئاسة، وأشباه ذلك.

فإن الذي ذكرته أولى سبيل بأن يؤدي إلى حاق المقصود وأقوى معين على إزالة ما يشوبه من شوائب الشبه والشكوك، وبغير ذلك لا يتأتى لنا نيل المطلوب ولو بعد العناء الشديد والجهد الجهيد. على أن الأصل الذي أصلته والطريق الذي مهدته ليس بقريب المأخذ بل كأنه من بُعده وصعوبته يشبه أن يكون غير موصول إليه لكثرة الأباطيل التي تدخل الأخبار والأحاديث، وليست كلها داخلة في حد الامتناع فتُميز وتُهذب لكن ما كان منها في حد الإمكان جرى مجرى الخبر الحق إذا لم يشهد ببطلانه شواهد أُخر…[33].”

نعود لكتاب الهند لنؤكد أن الصعوبات الميدانية دفعت البيروني، لتحري أقصى ما يمكن من الموضوعية، إلى تنويع المداخل المنهجية. فلقد ارتكز، من جهة، على مراجع ومصادر “ثانوية” second-hand عن دين الهند وأساطيرها وفلسفتها، مترجما بعضها إلى العربية والفارسية، كما اعتمد ترجمات عربية وفارسية لمؤلفات هندية مع الأخذ بجميع الاحتياطات لعدم السقوط في انحرافات الترجمة. واعتمد، من جهة أخرى، على مصادر أولية، كملاحظاته المباشرة واستجواباته ومشاركاته، رغم صعوبات التواصل؛ مما يضطره أحيانا إلى توظيف معارفه الأخرى، في الرياضيات والتنجيم مثلا، كنوافذ تواصلية[34].

ولا مناص هنا من الإشارة إلى أن انتقاد البيروني للخبر بشقيه الشفهي والكتابي لا يعني البتة أنه يلغيه كأداة للتعرف والاستطلاع، بل إنه يؤكد على ضرورة مقارعته بالملحوظ على أرض الواقع وبالخبر الآخر المنقول عن الذات المدروسة (الهند في حالته). وهذا هو المعنى الحقيقي للمقاربة الإيثنو- تاريخية Ethnohistorical Approach والتي تقتضي قراءة التاريخ بنظرات أنثربولوجية والأنثربولوجيا بنظرات التاريخ، وذلك لزعزعة المعلومة التاريخية وجمودها من جهة، وفهم البُنا العميقة للواقع الأنثربولوجي من جهة أخرى.

في تتابع مراحله يعتبر هذا المنهج، بحق، منهجا أنثروبولوجيا حديثا. فهو، كما رأينا، يمزج بين الملاحظة العينية (العيان) (ما يطلق عليه الآن بـ Participant Observation والوصف العميق Thik Description والمقارنة الثقافية Cultural Comparatism، مع الميل المشهود إلى اعتبار السرديات والتمثلات الثقافية من داخل المنظومة المدروسة معتبرا إياها كبنية رمزية Symbolic Structuration تحكم تمثلات ومعاملات العام والخاص.

ففي معرض التعريف بمنهجه، يشير باحثنا إلى أن كتابه هو كتاب حكاية يورد كلام الهند على وجهه، مضيفا إليه، من باب المقارنة، ما لليونانيين ومتصوفة المسلمين، “فإن فلاسفتهم وإن تحروا التحقيق فإنهم لم يخرجوا فيما اتصلوا بعوامهم عن رموز نحلتهم ومواضعات ناموسهم[35]“. فالبيروني، هنا، لا يسائل فحسب الرموز الثقافية التي يشترك فيها أبناء المجتمع الواحد بجميع مستوياتهم ومشاربهم المعرفية، ولكنه يتوخى كذلك مقارنتها مع أنساق ثقافية أخرى، متحريا، بذلك، الكشف عن البنيات العامة التي يشترك فيها الهنود مع غيرهم.

خاتمة

وأخيرا أريد أن أقول أنه رغم كل هذه المصاعب الجمة التي اعترضت باحثنا، والتي تعترض كل باحث جاد، فإنه ثابر واجتهد بشجاعة وإصرار حتى أنه اعترف: “فهذه صورة الحال، ولقد أعيتني المداخل فيه مع حرصي الذي تفردت به في أيامي[36]“. لم يتفرد به عن أمثاله من العلماء في زمانه فحسب، بل وتميز به عبر الأزمنة، رغم الإهمال المقصود وغير المقصود، وذلك سواء بمقاربته المنهجية وبروحه الإنسانية العالية وقدرته على التخلص من مركزيته كباحث كان ينتمي، على الأقل علميا ونفسانيا، إلى أكبر حضارة تمتلك العلم والسلطان. وهذا هو جوهر التساؤل الذي يختم به مونتاي Vincent-Mansour Monteil مقدمته للترجمة الفرنسية لكتاب الهند، حيث يقول: صحيح أن خطاب البيروني كان غير معتاد في عهده، فهل أضحى معتادا في زماننا هذا؟[37].

الهوامش


[1]. محمد عابد الجابري، 1995، المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

[2]. Edward Said, 2004, Humanism and Democratic Criticism, New York: Columbia University Press.

[3]. العراك الأول؛ يتمثل في الدعوة الملحة إلى السلم والمساواة، حيث لا يتحقق السلم الاجتماعي إلا بمساواة اجتماعية. أما العراك الثاني؛ فيتمحور حول تكوين حقول ومجالات التواصل والتكامل عوض ميادين الإقصاء، وذلك بالتأكيد على التوزيع العادل للثروات وبالتفكير في البنيات التي تتحكم في مكانزمات تراكم السلطات والرأسمال.

[4]. إن هذه القراءة الجديدة عبر عنها سعيد بـ “Deintoxicating of History”.

[5]. Abdel-Malek A, 1963, «Orientalism in crisis», Diogenes, 11, 44, p.103-140.

[6]. لكنه تاريخ ساكن ومنفصم عن التطور الاجتماعي. وما الحاضر إلا امتداد باهت له، فيتحول التأريخ تبعاً لذلك إلى نوع من الغرائبية الثقافية (Exotism).

[7]. حول حياة البيروني ومسيرته العلمية والمعرفية، انظر على سبيل المثال: الشحات علي أحمد، 1968، أبو الريحان البيروني، القاهرة: دار المعارف.

Sachau C.E., 1989, «Preface», in Alberuni’s India». New Delhi: Atlantic Publishers & Distributors. Allana G., 1979, «Abū Raihān Mūhammad ibn Ahmed al-Bīrūnī», in Al-Bīrūnī Commemorative Volume, Proceedings of the International Congress, Pakistan, pp. 149-157. Karachi: The Time Press.

[8]. Jussi Aro, 1979, «Encounter of Culturess in the Work of Al-Bīrūnī», in Al-Bīrūnī Commemorative Volume, Proceedings of the International Congress, Pakistan, pp. 319-328. Karachi: The Time Press.

[9]. Louis Gardet, 1979, «Portraits of Two Savants and Humanists – Bīrūnī and Albert the Great», in Al-Bīrūnī Commemorative Volume, Proceedings of the International Congress, Pakistan, pp. 195-203. Karachi: The Time Press.

[10]. F.E. Peters, 1979, «Science, History and Religion: Some Reflections on the India of Abū Raihān Al-Bīrūnī», pp. 233-242. Karachi: The Time Press.

[11] .Montgomery Watt, 1979, «Al-Bīrūnī  and the Study of non-Islamic Religions», in Al-Bīrūnī Commemorative Volume, Proceedings of the International Congress, Pakistan, pp. 414-422. Karachi: The Time Press.

[12]. المراسلات بين البيروني وابن سينا توضح بجلاء هذا الاختلاف بين منهجين معرفيين مختلفين: الأول ينبني أساسا على التجربة والمعرفة التطبيقية والآخر على التراث والتواتر. في هذه الورقة سنحاول أن نستشف بعضا من ملامح هذا المنهاج البيروني.

[13]. Bruce B. Lawrence, 1976, «Al-Biruni’s Approach to the Comparative Study of Indian Culture», in Biruni Symposium, ed. Ehsan Yarshatu. Iran Center: Columbia University.

[14]. Ahmad Hasan Dani, 1979, «Al-Bīrūnī’s Indica: A Re-evaluation», in Al-Bīrūnī Commemorative Volume, Proceedings of the International Congress, Pakistan, pp. 182-189. Karachi: The Time Press.

[15]. Mohammad Tufail, 1979, «Hindu Society at the Time of Al-Bīrūnī’s», in Al-Bīrūnī Commemorative Volume, Proceedings of the International Congress, Pakistan, pp. 294-297. Karachi: The Time Press.

[16]. سأعتمد هنا نسختين:  الأولى  مأخوذة عن النسخة القديمة المحفوظة في المكتبة الأهلية بباريس (مجموعة شيفر، رقم 6080) والتي طبعت سنة 1958 عن دائرة المعارف العثمانية؛ أما النسخة الثانية  فهي صادرة عن عالم الكتب، ط2، ببيروت سنة 1984.

[17]. تحقيق ما للهند… 1984، ص13.

[18]. المصدر نفسه، ص13-14.

[19].  تحقيق ما للهند… 1958، ص3-4.

[20]. المصدر نفسه.

[21]. المصدر نفسه.

[22]. تحقيق ما للهند… 1984، ص15-16.

[23].  يقول البيروني: “فليس بمطلق لهم قبول من ليس منهم إذا رغب فيهم… وهذا مما يفسخ كل وصلة ويوجب أشد قطيعة”، تحقيق ما للهند… 1958، ص15.

[24]. تحقيق ما للهند… 1984، ص20.

[25]. In his preface of Beirun’s India, Sachau wrote: “When Alberuni entered India, times were not favourable for opening friendly relations with native scholars.  India recoiled from the touch of the impure barbarians” (p. xliii).

[26]. المرجع نفسه.

[27]. المرجع نفسه.

[28]. المرجع نفسه.

[29]. المرجع، نفسه، ص18.

[30] تحقيق ما للهند… 1984، ص16.

[31]. الآثار الباقية عن القرون الخالية، عن طبعة لايبزج لـ1923، بيروت: دار صادر.

[32]. المرجع نفسه، ص4.

[33]. المرجع نفسه، ص4-5.

[34]. انظر ص. 20 مثلا، تحقيق ما للهند… 1984.

[35]. المرجع نفسه، ص16.

 [36]. المرجع نفسه، ص9-10.

[37]. «A l’époque, ce langage [celui d’al-Bîrûnî] était peu commun. L’est-il devenu, de nos jours?» in Abû-Rayhân Al-Bîrûnî, Le livre de l’Inde: Extraits choisis, traduits de l’arabe, présentés et annotés par Vincent-Mansour Monteil, Paris: Sindbad/Éditions UNESCO, p. 33.

Science

د. زكرياء غاني

• دكتوراه دولة في علوم البيولوجيا من جامعة جنيف سنة 2000.
• دكتوراه دولة في الأنثربولوجيا الاجتماعية والثقافية بجامعة منتريال بكندا 2009.
• عمل أستاذا باحثا بجامعة MGILL بموريال بكندا من 2001 إلى 2005.
• يعمل حاليا باحث في الأنثربولوجيا بجامعة “برنستن” بالولايات المتحدة الأمريكية.
• نشرت له العديد من الدراسات والأبحاث في العديد من المجلات العلمية الدولية..
• شارك في مجموعة من الندوات والملتقيات العلمية الدولية..
• من دراساته :
ـ القصة الإبراهيمية في الثقافة اليهودية والإسلامية.
ـ النزعة الإنسانية في الزمن التكنولوجي..
ـ الولي والسلطان: نشأة السياسة في المغرب.
ـ التعددية في الإسلام: دراسة أنثربولوجية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق