وحدة الإحياءتراث

البعد الحضاري للمسألة التراثية

 التراث ذاكرة الأمم والشعوب ومرآة تاريخها؛ ومستودع خبراتها التاريخية. فهو الرصيد المعرفي والثقافي الخاص الذي تملكه كل جماعة وتخوض، من خلاله، مسيرتها الحضارية. ويعبّر عن شخصيتها الحضارية في تفاعلها مع العالم من حولها.. كما أن هذا الرصيد يكون دوما، من الغنى والشمول بحيث يغطي حقولا معرفية بالغة الامتداد والتنوع، وإن تباينت من حيث القيمة والعمق والجدوى..

غير أن الحديث عن التراث لا ينبغي بحال أن يحصر في البعد البناني المكتوب؛ فإلى جانب التراث المكتوب نجد التراث الشفهي، وإلى جانب التراث المادي نجد التراث الروحي أو الرمزي، وإلى جانب التراث العمراني نجد التراث الطبيعي..

ومع الأهمية القصوى لمختلف هذه الأضرب من التراث إلا أننا في هذا الملف سوف نركز، بشكل أساسي، على التراث المكتوب في أهم أبعاده الفكرية والعلمية المختلفة..

 وبهذا الصدد، وجب النصّ على أن تراث أمتنا الإسلامية، إنما هو حصيلة اجتهاد العقل المسلم في تعامله مع النصوص الإسلامية التأسيسية كتابا وسنة، في السياقات المختلفة التي شهدت تشكله؛ مما يجعل مستويات هذا الاجتهاد وقيمته، تتباين تبعا لمدى ابتعاده أو اقترابه من روح الإسلام ومقاصده الكلية..

وهو ما يطرح ضرورة التعامل المنهاجي مع هذا التراث وفق رؤية كلية تميز بين الثابت فيه والمتغير، وبين الكلي والجزئي، وبين المطلق والنسبي.. ذلك أن المقاربة المنهجية للتراث، تحكمها ضرورات البناء المعرفي والاستبصار النظري، التي بمقتضاها يغدو التعامل مع هذا التراث، منتجا، ومفيدا، ونافعا، ومنسجما مع الذاتية الحضارية للأمة، ومرجعيتها العقائدية. انطلاقا من أن التراث، ليس شيئا جامداً، ولكنه رصيد حي، يستمد قيمته من أسلوب استخدامه، ومن مغزى الأهداف والمقاصد التي يهدف هذا الاستخدام إلى تحقيقها، في الآن والمآل.. وهي رؤية كلية وجب أن تحرص على:

أولا؛ التعامل مع التراث في إجماله دون تجزيء..

ثانيا؛ التعامل مع التراث بما ينسجم ومرجعيته المعيارية الحاكمة..

ثالثا؛ التعامل مع التراث باعتباره نتاجا إنسانياً محكوماً بشروط إنتاجه الزمانية والمكانية..

رابعا؛ التعامل مع التراث بما ينسجم ومقاصد الإسلام وروحه الناظمة..

خامسا؛ النأي عن التوظيف الإيديولوجي للتراث، في معترك الصراعات السياسية..

سادسا؛ الالتزام بالقراءة الموضوعية للتراث، بعيدا عن كل التحيزات، والتحزبات، بما يخدم وحدة الأمة وتقدمها..

سابعا؛ الوعي بأن حاجتنا إلى التراث، حاجة وجودية حقيقية، وليست من باب الترف الفكري، بحيث لا توجد نهضة تمت في الهباء، فالعلم كما الحضارة، كلاهما يقومان على منطق التراكم والتأثيل، فلا تقدم علمي ولا حضاري بغير الاجتهاد والتجديد، المستندين إلى أساس التراكم والتأثيل.. وإن عملية استقراء تاريخية بسيطة، تؤكد أنه لم توجد نهضة حضارية لأمة من الأمم تمت بغير بناء موصول على التراث، بما في ذلك، النهضة الأوروبية؛ فقد كانت عبارة عن حركة إحيائية كبرى للتراث اليوناني والروماني، والمسيحي..

ثامنا؛ الوعي بأن حديثنا عن التراث، كما سلف الإلماح إليه، لا يحيل إلى شيء مضى واندرس؛ لأن تراثنا تراث حي، يعيش فينا ونعيش فيه، ووجودنا الحضاري واستمرارنا التاريخي، يتوقف عليه إلى حد كبير، ولا يمكن تصور هذا الوجود وذلك الاستمرار من دونه، كما أن هويتنا وذاتنا الحضارية تتحدد به، ولا يمكن أن تتحدد بتراث مستورد من الغير..

ومع أن التراث العربي الإسلامي تعرض، لأسباب معلومة، لقراءات استشراقية مغرضة، حاولت أن تجعل منه مجرد ترداد مشوه، وباهت، للتراث الغربي في امتداداته اليونانية؛ وبمقتضى هذه الرؤية المتمركزة على الذات الحضارية الغربية، جرى النظر إلى الفلسفة الإسلامية باعتبارها مجرد ترجمة للفلسفة اليونانية، وإلى النحو العربي باعتباره امتدادا للنحو اليوناني بالإسكندرية، وإلى الفقه الإسلامي باعتباره امتدادا للقانون الروماني..

وقد رصدنا تردد صدى هذه الأحكام، خلال عقود في حوضنا الحضاري والثقافي إلى أن ظهرت مجموعة من الدراسات الغربية وأقصى شرقية تفنّد بصفاء وجلاء هذه الادعاءات، وتبدد سراباتها بكل علمية وموضوعية، انطلاقا من وقائع التاريخ ومعطياته الدامغة مما أغنى عن كل سجال بهذا الصدد.

الدكتور أحمد عبادي

• الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق