مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

البعد التربوي لألفية ابن مالك الطائي الجياني (الحلقة العشرون)

19-  في الحث على القناعة:

قال الناظم – رحمه الله تعالى -:

وَهْوَ بِمَا يَعْمَلُ فِيهِ مُتَّحِدْ /// وَقْتًا وَفَاعِلًا وَإِنْ شَرْطٌ فُقِدْ 

 فَاجْرُرْهُ بِالْحَرْفِ وَلَيْسَ يَمْتَنِعْ /// مَعَ الشُّرُوطِ كَلِزُهْدٍ ذَا قَنِعْ

  *   *   *

وردَ البيتان في باب «المفعول له»، ويبين فيهما الشيخ الناظم – رحمه الله تعالى – أن من شروطِ المفعول له أن يَتّحد مع الفعل والفاعل في الزمان، بأن يكونا معاً واقعين في زمانٍ واحدٍ، وفي الفاعلِ، بأن يكونَ فاعلُ العَامل وفاعلُ المفعولِ لهُ وَاحداً، نحو: قَصَدْتُكَ ابْتِغَاءَ الخَيْرِ، فالقصد والابتغاء وَقعَا في زمانٍ واحدٍ، وكذلك فالقاصدُ هو مُبتغِي الخيرِ. 

وأما إذا فقد شرط من شروطه – وهي أن يكون مصدرا، مفيداً للتعليل، متحدًا مع الفعل في الزمان، وفي الفاعل – فيمتنعُ النصب، ولزمَ جره بحرف دالٍّ على التعليل، والأكثر أن يُجرَّ باللامِ لأنها الأصل، نحو: أكلتُ للعيشِ، فالأكلُ ليس بمتّحد مع العيش في الزمانِ.

وبيَّن أيضاً الشيخ الناظم – رحمه الله تعالى – أنهُ لا يمتنعُ مع توفر الشروطِ جرُّ المفعول له بحرف دالٍّ على التعليل، بل هو جائزٌ، فتقول: قصدتكَ ابتغاءَ الخير، وقصدتكَ لابتغاءِ الخير، ومثله أيضا قول الناظم: كَلِزُهْدٍ ذَا قَنِعْ، وأصلهُ: قَنِعَ ذا زُهْدًا، ولْيُقَسْ مَا لَمْ يُقَلْ(1).

ويحثُّ الشيخ الناظم – رحمه الله تعالى – في مثاله على القناعة، وهي من حميد الخصال، وكريمِ الأخلاق والخلال، وكنز لا يفنى، وحلية بديعة لا تبلى، وتورث النفسَ السكينة، والراحة والطُّمأنينة، فالعض عليها بالنواجذ عزة وشهامة، وتركها مجلبة إلى المذلة والملامة، وأحسن من قال:

العَبْدُ حُرٌّ مَا قَنِعْ==وَالحُرُّ عَبْدٌ مَا طَمِعْ

وأما القناعة فهي الرضى بالمقسوم، وقطعُ الطمع عمَّا في أيدي الناس، قال أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن خفيف – رحمه الله تعالى -: «القناعةُ تركُ التّشوُّف إِلَى المفقود والاستغناء بالموجود»(2)، وقال الحكيم الترمذي – رحمه الله تعالى -: «القناعة رضا النفس بِمَا قُسِم لَهَا من الرِّزق»(3)، وقَالَ بشر الحافي – رحمه الله تعالى -: «مُلْكٌ لا يسكُن إلا فِي قلب مؤمن»(4)، وَقَالَ ذو النون المصري – رحمه الله تعالى -: «من قنع استراحَ من أهل زمانه واستطال عَلَى أقرانه»(5)، وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: «إنَّ مَنْ قَنِعَ كَانَ غَنِيًّا وَإِنْ كَانَ مُقْتِرًا، وَمَنْ لَمْ يَقْنَعْ كَانَ فَقِيرًا وَإِنْ كَانَ مُكْثِرًا»(6). وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: «الْقَنَاعَةُ عِزُّ الْمُعْسِرِ، وَالصَّدَقَةُ حِرْزُ الْمُوسِرِ»(7)، وقيل: «خَيْرُ الْغِنَى القُنُوعُ، وَشَرُّ الْفَقْرِ الْخُضُوعُ(8)».

وقد ورد التنويه بهذه الخَصلة، والحث على هذه الخَلّة، ومنه قوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) [النحل: 97]، قَالَ الْحَسَنُ البصريُّ: «الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ: الْقَنَاعَةُ»(9)، وقال – صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ»[متفق عليه].قال المُناوي – رحمه الله تعالى -: «والقناعة غِنًى وعِزٌّ بالله وضدُّها فقرٌ وذلّ للغير، ومن لم يقنع لم يشبع أبدًا؛ ففي القناعة العزُّ والغنى والحريّة، وفي فقدها الذّلُّ والتّعبّد للغيْر»(10).

وسُئِل بشر بن الحارث عن القناعة فقال : لو لم يكن فيها إلا التمتع بعِزِّ الغِنَى لكان ذلك يُجزئُ, ثم أنشأ يقول: [من الوافر] 

أَفَادَتْنَا الْقَنَاعَةُ أَيَّ عِزٍّ=وَلا عِزّ أَعَزُّ مِنَ الْقَنَاعَةْ

فَخُذْ مِنْهَا لِنَفْسِكَ رَأْسَ مَالٍ=وَصَيِّرْ بَعْدَهَا التَّقْوَى بِضَاعَةْ

تَحُزْ حَالَيْنِ تَغْنَى عَنْ بَخِيلٍ=وَتَسْعَدُ فِي الْجِنَانِ بِصَبْرِ سَاعَةْ(11)

وقد وردت في فضل القناعة أشعار شاعرة، وأبيات وافرة، ومنها قول ابن عُنَيْن(12): [من البسيط]

الرِّزقُ يَأتي وَإِن لَم يَسْعَ صاحِبُهُ=حَتماً وَلكِن شَقاءُ المَرءِ مَكتوبُ

وَفي القَناعَةِ كَنزٌ لا نَفادَ لَهُ=وَكُلُّ ما يَملِكُ الإِنسانُ مَسلوبُ

وقال آخر(13): [من البسيط]

هي القناعةُ فالزَمْها تعِشْ ملكاً=لو لم يكنْ منكَ إلاّ راحةُ البدنِ

وانظُرْ إلى مالكِ الدنيا بأجْمعِها=هل راحَ منها بغيرِ القُطْنِ والكفنِ

وقال الطغرائي في لاميته(14): [من البسيط] 

يا وارداً سؤْرَ عيشٍ كلُّه كَدَرٌ=أنفقتَ عُمرَكَ في أيامِكَ الأُوَلِ

فيمَ اعتراضُكَ لُجَّ البحرِ تركَبُهُ=وأنتَ تكفيك منه مصّةُ الوَشَلِ

مُلْكُ القناعةِ لا يُخْشَى عليه ولا=يُحتاجُ فيه إِلى الأنصار والخَوَلِ

وقال في الزينبيّة(15): [من الكامل]

فَاقْنَعْ فَفِي بَعْضِ الْقَنَاعَةِ رَاحَةٌ = وَالْيَأْسُ مِمَّا فَاتَ فَهْوَ الْمَطْلَبُ

فَإِذَا طَمِعْتَ كُسِيتَ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ=فَلَقَدْ كُسِي ثَوْبَ الْمَذَلَّةِ أَشعبُ

لَا تَحْرِصَنْ فَالْحِرْصُ لَيْسَ بِزَائِدٍ=فِي الرِّزْقِ بَلْ يَشْقَى الْحَرِيصُ وَيَتْعَبُ

وَيَظَلُّ مَلْهُوفًا يَرُومُ تَحَيُّلًا=وَالرِّزْقُ لَيْسَ بِحِيلَةٍ يُسْتَجْلَبُ

كَمْ عَاجِزٍ فِي النَّاسِ يُؤْتَى رِزْقَهُ=رَغَداً وَيُحْرَمُ كَيِّسٌ وَيُخَيَّبُ

وقال آخر(16): [مخلع البسيط]

إنِّي أَرَى مَنْ لَهُ قُنُوعٌ=يُدْرِكُ مَا نَالَ أَوْ تَمَنَّى

وَالرِّزْقُ يَأْتِي بِلَا عَنَاءٍ=وَرُبَّمَا فَاتَ مَنْ تَعَنَّى

وصلى الله على سيدنا محمد وسلم

ـــــــــــــــــــــــ

الهوامش

(1)  انظر: المقاصد الشافية (3/270 وما بعدها)

(2)  الرسالة (1/295)

(3)  الرسالة (1/295)

(4)  الرسالة (1/294)

(5)  الرسالة (1/295)

(6) أدب الدنيا والدين (ص: 226)

(7) أدب الدنيا والدين (ص: 226)

(8) مجمع الأمثال (1/244)، أنس المسجون (ص:207)، وهو من كلام أوس بن حارثة. ومعنى القنوع هنا القناعةُ.

(9) تفسير الطبري (14/352)، وقد روي نحو عن الإمام علي كرم الله وجهه.

( 10) فيض القدير(1/124)

(11) غذاء الألباب شرح منظومة الآداب (2/421)

(12) ديوان ابن عنين (ص:243)

(13) غرر الخصائص الواضحة (ص:372)

(14) شرح لامية العجم للدميري (ص:6)

(15) حياة الحيوان الكبرى (1/50-51)، وهي لصالح بن عبد القدوس.

(16) أدب الدنيا والدين (ص: 226)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق