مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

البعد الأخلاقي في طريقة الجنيد السالك

لقد جاء دين الإسلام منهج هداية للبشرية، لتصحيح عقائدها، وتهذيب نفوسها، وتقويم أخلاقها، وإصلاح مجتمعاتها، وتنظيم علاقاتها، ونشر الخير والفضيلة بين أفرادها، لذا فقد كانت مكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب، ومعالي القيم، وفضائل الشيم، وكريم الصفات والسجايا، من أسمى ما دعا إليه الإسلام، والذي تميَز بنظام أخلاقي فريد،لم ولن يصل إليه نظامٌ بشريٌّ أبدا.

ولقد بلغ من عظم مكانة الأخلاق في الشريعة الإسلامية أن حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم مهمة بعثته وغاية دعوته في كلمة عظيمة جامعة، فقال: (إنما بعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق).

وفي هذا أكبر دليل وأنصع حجة على أن رسالة الإسلام حققت ذروة الكمال، وقمة الخير والفضيلة والأخلاق، كما أن قدوة هذه الأمة عليه الصلاة والسلام كان المثل الأعلى والنموذج الأسمى للخلق الكريم.

وحسبنا في ذلك ثناء ربه عليه في قوله سبحانه (وإنك لعلى خلق عظيم)،[القلم، 4]. ووصفته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقالت: (كان خلقه القرآن).[مسند الإمام أحمد، 25001].

ولخّص الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب الأخلاق الإسلامية، حين قال للنجاشي: “أيها الملك، كنا أقواما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسئ الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلَع ما كنَّا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمَرَنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدَقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا، وحرّمنا ما حرّم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا…”.[سيرة ابن هشام، 1/235-236].

وانطلاقا من هذا الوصف الدقيق كانت رسالة الإسلام رسالة أخلاق رفيعة، وفضائل كريمة، وسلوكات نبيلة، مقصدها وغايتها مرضاة الحق تبارك وتعالى، وتحقيق المحبة والقرب من أحسن الناس خُلُقا عليه السلام.

 فعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون. قالوا: يارسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون).[سنن الترمذي، كتاب البر والصلة 2018].

فمن التزم بصالح الأعمال، وأفضل الأخلاق في الأقوال والأفعال، نال القرب منه صلى الله عليه وسلم، وبالتالي ” فهو قريب من الله تعالى بقدر قربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل من جمع كمال هذه الأخلاق استحق أن يكون بين الخلق مَلِكاً مطاعا يرجع الخلق كلُّهم إليه، ويقتدون به في جميع الأفعال. ومن انفك عن هذه الأخلاق كلها واتصف بأضدادها استحق أن يخرج من بين البلاد والعباد… كما أن الأول قريب من الملِك المُقرَّب، فينبغي أن يُقتدى به ويُتقرّب إليه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبعث إلا ليتمم مكارم الأخلاق كما قال”.[إحياء علوم الدين، 5/72].

ومكارم الأخلاق هذه هي أساس التصوف وروحه، ويتجه رجال القوم في تعريفه إلى الجانب الأخلاقي، بل إن مدار طريقهم على حسن الخلق، معتمدين في ذلك على قواعد الشريعة الإسلامية، وأسوتهم في هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده.

فالقدوة الحسنة والتأدب بآداب الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام في كل الأمور هي منهاجهم وطريقهم، فقد ” أحيوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم وقفوا في بدايتهم لرعاية أقواله، وفي وسط حالهم اقتدوا بأعماله، فأثمر لهم ذلك أن تحققوا في نهاياتهم بأخلاقه، وتحسين الأخلاق لا يتأتى إلا بعد تزكية النفس، وطريق التزكية بالإذعان لسياسة الشرع”.[عوارف المعارف، 1/248].

فالأخلاق عندهم ليست عملا ظاهرا فحسب، بل هي مسائل قلبية محلها الروح، وتظهر آثارها على الجوارح، لهذا فقد وازنوا بينهما، فحققوا أعلى الرتب وأشرف المنازل الخلقية، وتحققوا بأحسن الآداب وأكملها، وذلك ب “ترك ما لا يعنيهم، وقطع كل علاقة تحول بينهم وبين مطلوبهم ومقصودهم، إذ ليس لهم مطلوب ولا مقصود غير الله تبارك وتعالى…”.[اللمع، 29].

فمبنى التصوف إذاً على الأخلاق والسلوك، لتهذيب النفس، وتصفية الروح، والتخلص من الأخلاق السيئة، وهو قبل هذا كله التزام بأداء الفرائض واجتناب المحارم، وكل ما نزل من الحق تبارك وتعالى، لأنه “من المستبعد جدا أن يكون الإنسان ذا خلق كريم مع الناس، مُحبّاً للحق، معطاء، متواضعا، صبورا عليهم، رحيما بهم، ودودا لهم، متسامح النفس معهم، ثم لا يكون ذا خلق كريم مع ربه، فلا يؤمن بحق ربوبيته وألوهيته، ولا يذعن له بذلك، ولا يؤدي واجب العبادة له”.[الأخلاق الإسلامية وأسسها، 43].

ولمن أراد سلوك طريق التصوف، فعليه التخلق بالأخلاق المحمدية، والتحقق بالكمالات الربانية، التي نصّت عليها الشريعة الإسلامية، تصريحا وتلويحا: من حياء وتواضع ومروءة وفتوة وقناعة… وغيرها من الآداب التي اعتنى بها الإمام الجنيد، فشكلت أساس منهجه، وعمدة طريقته.

فالأخلاق في طريقة الجنيد هي روح التصوف ولُبُّه، ولا بد في سلوك مذهب القوم من التحقق بأعلى المنازل وأجلِّها في حسن الخُلُق مع الحق والخلْق، ” وقد سئل الإمام الجنيد عن التصوف ما هو؟ فقال: اجتناب كل خلق دَني، واستعمال كل خلق سَني، وأن تعمل لله، ثم لا ترى أنك عملت “.[تاج العارفين، 151].

ومن هذه الأخلاق نذكر:

 أولا –  الحياء:

سئل عنه الجنيد فقال: “رؤية الآلاء ورؤية التقصير، فيتولّد بينهما حالة تسمى الحياء”.[تاج العارفين، 111].

فمدار هذا الخلق لديه أنه حالة تتولّد بين موقفين للإنسان المسلم التقي:

* الأول: رؤية الآلاء، أي نعم الله عز وجل التي أسبغها على الإنسان ظاهرا وباطنا.

* والآخر: رؤية التقصير، أي شعور المرء بأنه لا يستطيع أن يُوفِّي هذه النعم حقها من الشكر، كما ينبغي أن يكون.[رياض الصالحين، 210].

ذلك الحياء الذي يقوّي الإيمان، ويمحو الذنوب، ويصل بالإنسان إلى مقام الإحسان، ويقيه من الوقوع في المهلكات، بوازع ذاتي وضمير حيادي، يأخذ بيد الإنسان إلى طريق الخير.

فقد تميّز حياء أهل الخصوص بالتعظيم والهيبة والخشية والمحبة وإخلاص العبودية لله عز وجل، فإن الحق تعالى مطّلع عليهم وحاضر معهم، فالحياء عندهم ليس مجرد احمرار الوجه وتنكيس الرأس، بل هو معاملة صادقة وإخلاص تام في حق الخالق والمخلوق والنفس.

قال ذو النون المصري: “الحياء وجود الهيبة في القلب مع وحشة ما قد سبق منك إلى ربك..”، وقال السري السقطي: ” إن الحياء والأنس يطرقان القلب، فإن وجدا فيه الزهد والورع، وإلا رحلا “.

وجعله الهروي (ت481ھ) على ثلاث درجات:

• حياء يتولد من علم العبد بنظر الحق إليه، فيجذبه إلى تحمل المجاهدة ويحمله على استقباح الجناية ويسكته عن الشكوى.

• حياء يتولد من النظر في علم القرب، فيدعوه إلى ركوب المحبة، ويربطه بروح الأنس، ويكره إليه ملابسة الخلق.

• حياء يتولد من شهود الحضرة، وهي التي تشوبها هيبة ولا تقاويها تفرقة، ولا يوقف لها على غاية.[منازل السائرين، 54-55]

إنه خلق نبيل، وزينة النفس البشرية، ورافد من روافد التقوى، لأنه يلزم صاحبه فعل كل ما هو جميل، ويصونه عن مقارفة كل قبيح، وهو من أجمع شعب الإيمان التي تقود صاحبها إلى الجنة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار) . [سنن الترمذي، رقم 2009].

ثانيا- التواضع:

   عبر الجنيد عن التواضع بقوله: “خفض الجناح للخلق، ولين الجانب لهم”.[تاج العارفين، 218].

وقال أبو حفص: “من أحبّ أن يتواضع قلبه فليصحب الصالحين وليلتزم بحرمتهم، فمن شدة تواضعهم في أنفسهم يقتدي بهم ولا يتكبّر… وقيل لبعض الحكماء: هل تعرف نعمة لا يحسد عليها، وبلاء لا يرحم صاحبه عليه؟ قال: نعم، أما النعمة فالتواضع، وأما البلاء فالكبر”.[عوارف المعارف، 1/260-261].

إنه خلق الأنبياء والمرسلين، وشيمة النبلاء والصالحين، وزينة الفضلاء والعارفين، تواضعوا للحق والخلق، عرفوا الحق فاتبعوه، والباطل فاجتنبوه.

ولا يكفي في التواضع العمل الظاهر، بل يجب أن يرافقه ويوافقه عمل الباطن، بتذلل القلب لله عز وجل والانكسار على أعتابه، “فإن وافقه القصد الخفي في النفس، بأن كان الحذر من انخداع الناس بظاهر استقامته وصلاحه، فذلك هو التواضع الحقيقي الذي يفسّره التذلل بين يدي الله وإظهار الفاقة له، وإنكار أي قيمة أو مكانة للنفس”.[شرح وتحليل الحكم العطائية، 4/291].

فالمسلم يتواضع من غير مذلة ولا مهانة، فهو يعلم أن ذلك خلق أوجبه الله عليه، ولا يزيده به إلا رفعةً وسمواً.

وحتى لا يسقط المسلم في مهالك الكبر، فعليه بالتواضع الذي اتصف به سيّد المتواضعين عليه السلام، فإن تواضعه صلى الله عليه وسلم كان روحه الإخلاص لله تعالى، والحنو على عباد الله، والرأفة والرحمة بالمؤمنين، وعليه كان من الواجب على المؤمن السالك لطريق الحق تعالى الاتصاف بخلقه صلى الله عليه وسلم، فيخضع لأمر الله، ويتواضع لعباد الله، ويلين لهم جانبه، ويحب لهم الخير، وينصح لهم في كل حالة من أحوالهم.

 فالتواضع اعتراف بحق الله وحق عباده، وحقيقته: ” أن يتضع العبد لصولة الحق.. وأن يرضى بمن رضي الحق لنفسه عبدا، من المسلمين أخا، وأن لا يرد على عدوه حقا، ويقبل من المعتذر معاذيره”.[منازل السائرين، 60-61].

  فالمسلم يتواضع مع الله عز وجل بأن يتقبّل دينه، ويخضع له سبحانه، ولا يجادلَ ولا يعترضَ على أوامر الله برأيه أو هواه، ويتواضع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يتمسّك بسنته وهديه، فيقتدي به في أدب وطاعة، ودون مخالفة لأوامره ونواهيه، والمسلم يتواضع مع الخلق بألا يتكبّر عليهم، وأن يعرف حقوقهم، ويؤديها إليهم مهما كانت درجتهم، وأن يعود إلى الحق، ويرضى به، مهما كان مصدره.

وما بلغ الأنبياء والمرسلون والعارفون والصالحون المنازل العالية والأخلاق السامية إلا بالانقياد للحق، وتعظيم حقوق الخلق، فمن قبِل الحق وانقاد له، ولم يحقّر أحداً، وتواضع لعباد الله، فهذا هو المتواضع للحق والخلق، وهو القائم بحقوق الله وحقوق الخلق.

ثالثا- المروءة:

   قال الجنيد: “المروءة احتمال زلل الإخوان “.[تاج العارفين، 200].

اعتبرها أهل التصوف جُماع الأخلاق ومُنتهاها، ولحُمة الفضائل وسَداها، وخُلُق الكرام، وأروع ما تحلّى به الرجال، فهي حِلية الفضلاء، وشِيمة النبلاء، بها تكمُلُ إنسانية الإنسان، ويتميز بها عن غيره من المخلوقات تميزا كبيرا.

وعرّفها كثير من أهل العلم بأنها هي: كمال الإنسان، من صدق اللسان، واحتمال عثرات الإخوان، وبذل الإحسان إلى أهل الزمان، وكف الأذى عن الأباعد والجيران.

وقال الماوردي: “اعلم أن من شواهد الفضل ودلائل الكرم: المروءة التي هي حلية النفوس وزينة الهمم، فالمروءة مراعاة الأحوال التي تكون على أفضلها حتى لا يظهر منها قبيح عن قصد، ولا يتوجّه إليها ذم باستحقاق”.[ أدب الدنيا والدين، 325].

وجعلها ابن القيم على ثلاث درجات:

• الدرجة الأولى: مروءة المرء مع نفسه، وهي أن يحملها قسرا على ما يُجَمِّل ويُزيِّن. وترك ما يُدنّس ويُشيِّن، ليصير لها ملكة في العلانية. فمن أراد شيئا في سره وخلوته: ملكفي جهره وعلانيته.

• الدرجة الثانية: المروءة مع الخلق، بأن يستعمل معهم شروط الأدب والحياء، والخُلُق الجميل، ولا يُظْهِرُ لهم ما يكرهه هو من غيره لنفسه. ولْيتَّخِذِ الناس مرآةً لنفسه. فكل مكرهه ونفر عنه، من قول أو فعل أو خلق، فليجتنبه. وما أحبّه من ذلك واستحسنه فليفعله.

• الدرجة الثالثة: المروءة مع الحق سبحانه، بالاستحياء من نظره إليك، واطلاعه عليك في كل لحظة ونفس، وإصلاح عيوب نفسك جهد الإمكان. [مدارج السالكين، 2/287288].

رابعا- الفـتـوة:

   أكثر تعريفات الصوفية للفتوة تنطوي على معانٍ خُلُقية عالية في التعامل مع الخلق أكثر من انطوائها على حقائق إلهية، وفي ذلك دلالة على أن الفتوة عندهم منظومة خلقية احتاجوها في التعامل فيما بينهم، ومع الناس، فهي أخلاق اجتماعية، كقول الجنيد: “الفتوة كف الأذى وبذل الندى. وألا تُنافر فقيرا، ولا تُعارض غنيا”.[تاج العارفين، 182].

   وقد أصّل القشيري الفتوة بمعنى يجمع فيه فتوة الصوفية والفتوة عامة، حيث قال: “أصل الفتوة أن يكون العبد دائما في أمر غيره”.[الرسالة القشيرية، 226].

ومن معانيها المختصة بالصوفية، ما ذكره أيضا من أن ” الفتى من كسّر الأصنام، قال الله تعالى ( سمعنا فتًى يذكرهم يقال له إبراهيم).[الأنبياء، 60].. وصنم كل إنسان نفسه، فمن خالف هواه، فهو فتى على الحقيقة”.[المصدر السابق، 227].

ومخالفة الهوى تكون بالإحسان إلى الناس، وكف الأذى عنهم، واحتمال أذاهم، واستعمال حسن الخلق معهم، فالفتوة إذاً هي: “الإيثار على النفس بما تحب، والإحسان إلى الخلق بما يحب. ولذا قيل: لم تكمُلِ الفتوة إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول في موضع لا يذكُر فيه أحدٌ إلا نفسه: (أُمّتي أُمّتي). وقيل: ألاّ ترى لنفسك فضلا على غيرك، والفتى من لا خصم له، ومرجعها إلى السخاء والتواضع والشجاعة في مواطن الاضطراب، ففتوة العامة بالأموال، وفتوة الخاصة بالنفوس، وفتوة خاصة الخاصة بالأرواح، وبذل المُهج في جانب المحبوب”.[معراج التشوف، 37].

فالفتوة عند الجنيد جمعت مكارم الأخلاق من: عفو وإيثار وحماية للضعيف ونكران للذات وكرم وسخاء… بل تجاوزت لديه هذه المعاني النبيلة إلى عدم النظر إلى الأعمال نظرة اعتبار وتقدير، مع إسقاط الروابط التي تربط الإنسان بأي شئ أو موجود غير الله تعالى، وعلى ذلك فالفتوة عنده هي الزهد الكامل، يظهر ذلك من خلال قوله: ” الفتوة عندي ترك الرؤية وإسقاط النسبة”.[المرجع السابق].

خامسا – القناعة:

قيل للجنيد: ما القناعة؟ قال: ” ألاّ تتجاوز إرادتك ما هو لك في وقتك “.[تاج العارفين، 192].

  فهي عُنوان الغِنى، وكنز لا يفنى، وثوب لا يبلى، بلغ بها العارفون لله عز وجل الدرجات العلى، والمقامات الأسنى، عرفوا ربهم فقنعوا به عن سواه، واقتربوا منه فأغناهم عمن سواه، ما تحلّى بها أحد إلا زادته يقينا واطمئنانا وسرورا وراحة بال، وصار أغنى الناس، وما دخل الطمع والحرص قلبا إلا أفسداه، وصرفاه عن الطريق السوي المُوصّل لرب العزة جل وعلا، فأصبح أفقر المخلوقات.

فالقانع بالكفاف أسعد حياة، وأرخى بالا، وأكثر دعة واستقرارا من الحريص المتفاني في سبيل أطماعه وحرصه، والذي لا ينفك عن القلق والمتاعب والهموم.

من أجل ذلك كان القانع أغنى الناس، لأن حقيقة الغنى هي عدم الحاجة إلى العباد، والاكتفاء بما رزقه الله تعالى، لا يحتاج ولا يسأل أحدا سواه، ولا يتطلع إلى ما عند الله عز وجل من رزق، ليَقِينِه وإيمانه بأنه تعالى كاتبه وقاضيه ومُقرِّرُه، ولا يحسد الناس على ما في أيديهم مما قسّمه الله تبارك وتعالى لهم.

وسار على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام، والتابعون لهم بإحسان من العلماء والصالحين والعارفين بالله عز وجل والصوفية، ممن عاشوا على القناعة والكفاف والتعفف والزهد في الدنيا، فأمدّهم ذلك بيقظة روحية، وبصيرة نافذة، حفّزتهم على التأهب للآخرة بالأعمال الصالحة، فامتلأت قلوبهم إيمانا ويقينا وثقة بالله عز وجل، لأن من قنع برزقه فإنما هو مؤمن ومتيقن بأن الله تعالى قد ضمن أرزاق العباد وقسّمها بينهم.

قيل لأبي يزيد البسطامي: بماذا وصلت إلى ما وصلت؟ فقال: “جمعتُ أسباب الدنيا فربطتُها بحبل القناعة، ووضعتُها في منجنيق الصدق، ورميتُ بها في بحر اليأس فاسترحت”.[الرسالة القشيرية، 162].

فمن رغب في هذه المنزلة، فعليه بالقناعة مع حسن العبادة، والكفاف مع الطاعة والصبر، إخلاصا لله عز وجل، وطمعا في ثوابه تعالى، لأن من قنع وزهد في الدنيا وطلب الآخرة “تجيئه الصحة، يجيئه الملك والسلطنة والإمارة، تجيئه تُصيِّر ذرته جبلا، قطرته بحرا، كوكبه قمرا، قليله كثيرا، محوه وجودا، فناؤه بقاءً، تحرُكه ثباتا، تعلو شجرته وتشمخ إلى العرش، وأصلها إلى الثرى.. تَصِيرُ الدنيا عنده كحلقة الخاتم، لا دنيا تملكه، ولا أخرى تُقيِّده…”.[ الفتح الرباني والفيض الرحماني، 39].

   إنها أخلاق العارفين والصالحين من الصوفية، اقتبسوها من مشكاة النبوة، المستمدة من الوحي الإلهي والنور الرباني، حققوا الكمالات الخلقية، والمراتب العلية بحسن الاقتداء وصحة الأخذ من الشريعة الغراء.

    وقد أبدع الحافظ أبو نعيم الأصفهاني (ت430ھ) عندما وصف حقيقة التصوف، فقال: “التصوف أحوال قاهرة، وأخلاق طاهرة، تقْهرُهُمُ الأحوالُ فتأسِرُهُمْ، ويستعملون الأخلاقَ فتُظْهِرُهُمْ، تحلَّوا بخالص الخدمة،فكُفُوا طوارقَ الحِيرة، وعُصِمُوا من الانقطاع والفتَرة، ولا يأنسون إلا به، ولا يستريحون إلا إليه. فهم أرباب القلوب المُتسوِّرُون بِصائبِ فراستهم على الغيوب، المراقبون للمحبوب، التاركون للمسلوب، المحاربون للمحروب، سلكوا مسلك الصحابة والتابعين، ومن نحا نحوهم من المتقشفين والمتحققين العالِمين بالبقاء والفناء، والمميِّزين بين الإخلاص والرياء، والعارفين بالخَطْرة والهمة والعزيمة والنية، والمحاسبين للضمائر، والمحافظين للسرائر، المخالفين للنفوس، والمحاذرين من الخنوس بدائمِ التفكر، وقائمِ التذكر، طلبا للتداني، وهربا من التواني، ولا يستهين بحرمتهم إلا مارق، ولا يدعي أحوالهم إلا مائق، ولا يعتقد عقيدتهم إلا فائق، ولا يحِنُّ إلى موالاتهم إلا تائق، فهم سُرُجُ الآفاق، والممدود إلى رؤيتهم بالأعناق، بهم نقتدي وإياهم نوالي إلى يوم التلاق “. [حلية الأولياء، 1/61]. آمين يارب العالمين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق