مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلاميةأعلام

البروفيسور فؤاد سيزكين ،التعريف بإنجازاته العلمية.

زيدان عبد الغني 

باحث بمركز ابن البنا المراكشي، الرباط

يعتبر البروفيسور فؤاد سيزكين من أنشط الباحثين الرائدين في مجال تاريخ العلوم العربية الإسلامية، وذلك بفعل إنجازاته الغزيرة والدقيقة لهذا الإرث الحضاري المتفرد في الجغرافيا و الثقافة الدينية والعلمية. وقد عملت جل كتاباته على إبراز المكانة الحضارية للتراث العربي الإسلامي، والتعريف بقيم علومها وعلمائها اللذيين أغنوا تاريخ الحضارة الغربية الناكرة للجميل بلسان بعض متعصبيها من العلماء ورجال الدين والفلاسفة[1].كما نجد له في هذا التخصص العلمي الفريد مكانة مرموقة، كرس فيها زمن ليس بالهين، قارب خمسة عقود من البحث والتنقيب عن أهم الاكتشافات العلمية والعملية التي كانت مكتنزة في البيئة الثقافية للحضارة العربية الإسلامية.

  • حـيـاتــه:

ولد البروفسور فؤاد سيزكين بمدينة إستانبول التركية سنة 1924، درس العلوم الإسلامية وعلوم اللغات والآداب العربية والفارسية والرياضيات بجامعة إستانبولبين عامي  1943 و 1951، والتي  حصَّل فيها على شهادة الدكتوراه في موضوع “مجاز القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى التيمي”[2]، وفي نفس السنة التي حصل فيها على شهادة الدكتوراه، منحت له درجة الأستاذية الأولى حول إنجازه لمصادر الإمام البخاري، ليصبح بعدها أستاذا في جامعة إستانبول ثم أستاذا زائرا في جامعة فرانكفورت بين عامي 1961 و1963.

كانت أول بداية الإشتغال للبروفسور فؤادء سيزكين بسلك التدريس  في جامعة استانبول ما بين سنة 1954 و1960)، ثم أستاذا للعلوم الإسلامية واللغات السامية في جامعتي فرانكفورت ومايوركة (1961- 1962)، ليصبح بعض حصوله على درجة الأستاذية  من كلية العلوم  بجامعة فرانكفورت مدرسا لشعبة تاريخ العلوم الطبيعية، ثم مديرا لمعهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، وعضوا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة ومجمع اللغة العربية بدمشق والمجمع العلمي العراقي.

جاء من وراء هذا النجاح الذي حققه البروفيسور”فؤاد سيزكين” تسابق بعض الدول والمنظمات والمراكز والمجامع العلمية إلى تكريمه على إنجازاته القيمة في هذا المجال، فكانت المملكة العربية السعودية أول دولة مانحة لأول جائزة لهذا العلامة وضعتها خصيصا للباحثين في التراث العربي الإسلامي، أطلقت عليها اسم جائزة الملك فيصل للعلوم الإسلامية سنة 1978 ثم تلا بعد ذلك بسنة (1979) إحرازه على ميدالية “جوته” من طرف جمهورية ألمانيا الاتحادية، ليمنح بعد تأسيسه للمعهد الدولي المتخصص بتاريخ العلوم العربية الإسلامية سنة 1982 وسام استحقاق من الدرجة الأولى من طرف رئيس دولة ألمانيا الاتحادية… .

  • كتـابة المشـروع الفـكري.

كان للدور الذي لعبه أستاذه المستشرق الألماني الكبير “كارل بروكلمان”[3]  بكتابه الشامل “تاريخ الأدب العربي”[4] أمرا مهما حفز البروفسور فؤاد سيزكين على كتابة مشروعه الضخم “تاريخ التراث العربي”. يقول في مقدمة الطبعة الأولى لهذا الكتاب لقد “كنت قد عقدت العزم منذ خمسة عشر عاما، على عمل بمخطوطات مكتبات إستانبول للكتاب القيم “تاريخ الأدب العربي” Geschichte der Arabischenlitteratur لكارل بروكلمان ، وكان هذا هو الحافز الذي دفعني إلى القيام بعمل هذا الكتاب…، لكن الباحث عندما يرى أبعاد عمله، ويدرك حقيقة الصعوبات التي تعترض طريقه، فإن ارتباطه بموضوعه يصبح وثيقا، ولا سيما إذا كانت المادة التي جمعها غزيرة وهو- لذلك لا يستطيع التراجع عنه. “[5] لقد كان من وراء هذا العمل الكبير والعزم على تحقيق هذا المشروع الفكري الضخم، إظهار مكانة الأجداد في التاريخ الإنساني، والعمل على قلب الحقائق التاريخية الطامسة لتراث علمي وثقافي لم تسبق أي من الحضارات في تمظهراتها وبإمكاناتها الذاتية والموضوعية وبإمتداداتها في الزمان والمكان. فالهدف من هذا الكتاب الضخم هو نشر التاريخ الحقيقي للعلم العربي الإسلامي في جميع المجالات المعرفية بما فيها: علوم القرآن الكريم، وعلم الحديث، والتدوين التاريخي، والفقه، والعقائد، والتصوف، والشعر العربي، واللغة العربية، والنحو، والبلاغة، والنثر الفني، والعروض، والأدب، والفلسفة، والمنطق، وعلم النفس، والأخلاق، والسياسة، والاجتماع، والطب، والسيمياء، والكمياء، والنبات، والفلاحة، والرياضيات، والفلك، وعلم أحكام النجوم، والآثار العلوية.

  • إعـادة كتـابة تاريـخ العلـوم العـربية:

في نظر سيزكين أنه لا يمكن إحياء هذا التراث الفريد من نوعه من دون أن يتمثله الفرد والمجتمع العربي في ذاكرته وتصوراته، فالعرب المسلمين لما انساقت إرادتهم في اتجاه المعرفة، كانت أول أعمالهم مبنية على ترجمة الكتب القديمة ككتاب “المجسطي” لبطليموس[6] وكتاب “أصول الهندسة” لأقليدس[7] ، هذا الاهتمام الذي نجد له وجودا في زمن ولاية معاوية بن أبي سفيان الذي أصبح فيما بعد أول خليفة أموي[8]. تلك هو الحافز الذي دفع المجتمع الإسلامي إلى أخذ وتمثل العلوم السابقة، وامتلاك الرغبة في تعلمها ودراستها دراسة وصفية وتحليلية ونقدية تصل بالمجال العلمي المدروس إلى نتائج دقيقة ومدروسة تحمل في ذاتها أهمية بالغة، من دون إغفال أهل الرأي القائلين حول هذا المجال العلمي، وذلك حفاظا على الأمانة العلمية المنوطة بأصحابها.

للأسف لم تكن طبيعة أخذ وتمثل العلوم العربية الإسلامية من طرف الأوروبيون مبنية على احترام الأمانة العلمية، اللهم بعض الدراسات التي قام بها بعض المستعربين من هنا وهناك، نذكر منها على سبيل المثال دراسة المؤرخ والكاتب الفرنسي “إرنست رينان” حول ابن رشد ومدرسته[9] والدراسة التي قام بها المستعرب الإسباني “خوليان ربيراتراجو” في كتابه “La Musica De la Cantigas” الذي يعالج في أجزائه الثلاثة، تأثير الموسيقى العربية في العالم الإسلامي حتى القرن 12م وعلى الموسيقى الإسبانية وعلى أغاني “الطروبادور” في الغرب[10]. لكن الأعمال التي غطت الحقائق التاريخية حول الإنتاجات العلمية والفلسفية للحضارة العربية الإسلامية، كانت هي الدافع الأساسي الذي حفز البروفيسور فؤاد سيزكين إلى ضرورة كتابة التاريخ العلمي والثقافي والسياسي للحضارة العربية الإسلامية بجميع مقوماتها الأنطولوجية والأكسيولوجيةوالإبستمولوجية.

  • قيـمة ومكـانة العلـوم العـربية الإسـلامية:

كان لهذا التراث العربي الإسلامي الرائد دور فاعل في تطور العلوم والثقافات الإنسانية،إنه قيمة مضافة خلفت من بعدها العلوم العربية الإسلامية مكانة وجودية في سياق تاريخي معين. فمعرفة قيمة ومكانة العلوم العربية الإسلامية في نظر البروفيسور فؤاد سيزكين، قد أصبح أمرا ضروريا بالنسبة إلينا، لكينعرف من خلالها كيف كان أجدادنا يدرسون المعرفة العلميةونتعرف على النتائج التي توصلوا إليها، لنبرز نحن كأجيال لاحقة، قيمتها ومكانتها في السياق التاريخي للحضارات الإنسانية، في هذا الصدد يقول سيزكينفي كتابه محاضرات في تاريخ العلوم “لابد لنا أن نعرف كيف ابتدأ أجدادنا بالعلوم ومعرفة النتائج التي توصلوا إليها، وبأي اجتهاد واستمرار وبزهد حقيقي وصبر وإنصاف لأعمال السلف… لنجدوا في سيرة الأجداد أسوة حسنة وعبرة مؤثرة ومثمرة. ولينقد مما حصل عند بعضهم من العقد النفسية بمواجهة تطور العلوم الحديثة، الذي لا يقل نصيب آبائنا فيه عمل للأقوام الأخرى[11]“.وبالتالي فالواجب علينا هو استلهام هذا الإرث العظيم من تراثنا ومعرفة العلاقة الترابطية بينه وبين الحضارات السابقة، و اكتشاف مقدوراته التأثيرية على الحضارة الغربية في جميع مناحي إنتاجاتها العلمية والعملية لنتمكن من تثبيت قيمتة ومكانته العلمية في تاريخ الحضارات بشكل عام.

  • أهم أعمال البروفسور فؤاد سيزكين:

تتعدد أعمال البروفيسور فؤاد سيزكين المنجزة داخل “معهد تاريخ العلوم العربية الإسلامية” بفرانكفورت بتنوع فريد قل نظيرها في المعاهد الأخرى، فقد ألف داخل هذا المعهد مؤلفات كثيرة أظهرتالكنوز العلمية العظيمة من ثنايا المخطوطات المطمورة  في شتى الميادين المعرفية.

 سنطرق إلى أهم مؤلفين قامبتأليفهما الأستاذ فؤاد سيزكين بنفسه: الكتاب الأول يحمل عنوان “العلم و التكنولوجيا في الإسلام” “wissenschaftundtechnikim islam” والذي ألفه باللغة الألمانية، يقع هذا الكتاب في خمس مجلداتوكان الغرض من كتابته هو العمل على مِحوَرِ الكشف عن الظلم الذي تعرّض له العالم الإسلامي على مر العصور.

أما فيما يخص الكتاب الثاني الذي يحمل عنوان ” تاريخ التراث العربي” “Geschichte der arabischenSchrifttums“، فهو عبارة عن موسوعة شملت التاريخ الثقافي للحضارة الإسلامية بما حفلت به من مؤلفات و دراسات في شتى مناحي المعرفة.[12]

 

[1]– إن أصحاب هذا الرأي يذهبون بعيدا عن المنطق في تحليلاتهم والتي تقول أن العرب والمسلمين لم تكن لديهم الخبرة في إنتاج العلوم والفلسفة بنفس المكانة التي حظيت بها العلوم والفلسفة الإغريقية، بل إن العرب والمسلمين كانوا مجرد حافظين وناقلين لفلسفة وعلوم أساتذتهم (المقصود بهم اليونانيين) ونذكر من هؤلاء على سبيل المثال:صاحب كتاب “حكمة الغرب” -برتراند راسل- وأصحاب المدرسة اللغوية – ماكس مللر- شليغل…

[2]– هذا الكتاب مطبوع في جزئين تحت عنوان: ” مجاز القرآن” صنعة أبي عبيدة معمر بن المثنى التيمي المتوفى سنة 210هـ“، عارضه وعلق عليه، د محمد فؤاد سيزكين، مكتبة الخانجي بالقاهرة. 1988.

[3] – مستشرق ألماني من أكبر الباحثين الذين عرفتهم الجامعات الأوربية في النصف الأول من القرن العشرين في مجال الدراسات السامية وتاريخ التراث العربي، اشتهر بين علماء اللغة والمتخصصين في الساميات، ألف أفضل معجم عرفته اللغة السريانية، بالإضافة إلى أعمال مهمة تتناول اللغات السامية منها: “الأساس في النحو للغات السامية” – “حول الأصوات في اللغة العبرية” – “التاء نهاية التأنيث في اللغات السامية”…

– للمزيد من المعلومات عن حيات وأعمال كارل بروكلمان انظر كتاب:

بروكلمان كارل “تاريخ الأدب العربي“، ، الإشراف على الترجمة، د محمود فهمي حجازي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القسم الأول 1-2،   1993، ص 15- 27.

[4] – يشتمل هذا الكتاب على ستة مجلدات، يؤرخ فيها المؤلف للثقافة العربية في أصولها المختلفة، مشيرا في ذلك إلى أماكن وجود مخطوطات ناذرة في مكتبات العالم حول التراث العربي الأصيل.

[5] – سيزكين فؤاد “تاريخ التراث العربي“: في علم القرآن والحديث،نقله إلى العربية د. محمود فهمي حجازي، راجعه د. عرفة مصطفى، د. سعيد عبد الرحيم، إدارة الثقافة والنشر بالجامعة، ( المجلد الأول- الجزء الأول)، 1411هـ /1991م، ص11. ( من باب التذكير، أن هذا الكتاب يشتمل في محتواه العام على اثني عشر مجلدات، ترجم إلى لغات عديدة وفهرس لمتحف تاريخ العلوم في خمس مجلدات)

[6] – عالم رياضي وفلكي وجغرافي يوناني، عاش ما بين سنتي 90م و 168م، اشتهر بكتابه “المجسطي”، هذا الكتاب الذي ألف فيه جميع المعارف الفلكية والرياضة والكوسمولوجية القديمة. انظر:

Dictionnared’histoire et philosophe des science,Dominique lecourt, ( sous le direction), puf, 2010, p 451- 452.

[7] – عالم رياضي يوناني عاش بمصر في القرن الثالث قبل الميلاد تحت حكم البطالمة، درس بأكاديمية أفلاطون بأثينا، ليصبح بعدها مدرسا للعلوم الرياضية في مدرسة الإسكندرية. اشتهر بكتابه “الأصول” Les Elements.

Dictionnared’histoireet philosophe des sciences, op.cit, 908 – 909.

[8]– كتاب ” العلوم والتقنية في العالم الإسلامي: مدخل إلى تاريخ العلوم العربية الإسلامية، فؤاد سيزكين، نقله من الألمانية إلى العربية، مازن عماري، معهد تاريخ العلوم العربية، فرانكفورت، المجلد الأول، 1427هـ – 2007م، ص 4.

[9] – نفس المرجع، ص 154.

[10] – نفس المرجع، ص 156.

[11]محاضرات في تاريخ العلوم العربية، فؤاد سيزكين، منشورات معهد تاريخ العلوم العربية الإسلامية، فرانكفورت، سلسلة أ، نصوص ودراسات المجلد الأول، 1404هـ/1984م

[12]– مكتشف الكنز المفقود، فؤاد سيزكين، جولة وثائقية في اختراعات المسلمين، تأليف، أ.د.عرفانيلماز، ترجمة، أحمد كمال، الطبعة الأولى، دار النيل، دت، ص 325-327.

Science

ذ. زيدان عبد الغني

باحث مركز ابن البنا المراكشي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق