وحدة الإحياءمفاهيمتراث

الاهتمام بالمصطلح العلمي في التراث.. الواقع والتحديات

أولا: مقدمة في قضية «المصطلح العلمي في التراث» 

الكلام في التراث ملأ الدنيا وشغل الناس منذ قرن أو يزيد، والكلام في المصطلح شغل العلماء وأنشأ المجامع منذ قرن أو يزيد[1]. وما انشغالهم بالمصطلح إلا للتعبير بلغة الذات عَمّا جد في العصر، وما انشغالهم بالتراث إلا للانطلاق في نهوض الأمة من الأصل. وما كان لمعاصرة ما أن تكون سَوِيّة إلا إذا تأسست على أصالة. وما كان لغد يُبنى أو مستقبل يُستشرف، إلا والذاكرة حية، والذخيرة حاضرة.

ولقد همت الأمة يوما ما بالتعريب في عهد الرواد الأوائل، وكانوا متضلعين في التراث، فولت وجهها، وهي تحاول ما تحاول شطر التراث، ثم لم ينشب أن ضعف الرصيد، وانخفض مخزون التراث في النفوس، وارتفع مقذوف العصر في الرؤوس، فبدأ الإشكال: إشكال شدة الحاجة إلى المصطلح العربي، مع ضعف القدرة على الاستجابة، ثم ازداد الانخفاض والارتفاع، وعمّت موجات من القراءات العصرية للتراث، فظهر إشكال أشد: هو فهم التراث.

وبما أن التراث هو الذات، فقد تطور الإشكال حتى مس كل مكونات الذات، وصار “المصطلح العلمي في التراث” قضية تفرض نفسها في كل أصناف العلوم في التراث: الشرعية، والإنسانية، والمادية.

 ومن ثم آل الأمر إلى أن: لا فهم ولا تقويم ولا توظيف على الوجه الصحيح للتراث في مختلف المجالات، إلا بعد الحسم في قضية المصطلح العلمي في التراث.

ولا استيعاب لما كان، أو التأسيس لما ينبغي أن يكون، إلا بعد الاستيعاب التام لقضية المصطلح العلمي في التراث.

فما المقصود بالمصطلح العلمي في التراث؟ وما واقع الاهتمام به لدى المؤسسات؟ وما التحديات التي تواجه المهتمين به؟ وما المقترحات التي تقترح بشأنه؟

ثانيا: مفهوم «المصطلح العلمي في التراث»  

“المفهوم أساس الرؤية، والرؤية نظارة الإبصار التي تريك الأشياء كما هي: بأحجامها وأشكالها وألوانها الطبيعية، أو تريكها على غير ما هي عليه: مصغرة أو مكبرة، محدبة أو مقعرة..[2].” ومن ثم “فالمصطلح العلمي في التراث” قضية، يتأسس على “المصطلح العلمي في التراث” مفهوما، وهذا أيضا يدور ضيقا وسعة، على حسب مفهوم العلم ضيقا وسعة:

1. فمن حصر مفهوم “العلم” في مجال العلوم المادية، انحسر لديه الإشكال إلى مجال العلوم المادية، وصارت القضية لديه إنما تثار في مجال العلوم المادية، وكان مفهوم المصطلح العلمي في التراث عنده هو: اللفظ الذي يعبر عن مفهوم معين في علم من العلوم المادية التي عرفها تراثنا؛ كالرياضيات، والصيدلة، والفلاحة وغيرها، على أنه رافد لحل معضلة “التعريب” اليوم، ولاسيما بمفهومه الضيق الذي لا يجاوز تسوية الوضعية اللغوية العربية للمصطلح الأجنبي الوافد.

وهذا التضييق للمفهوم، يقف خلفه المفهوم الشائع الذائع اليوم لمصطلح العلم، والذي انطلاقا منه وترسيخا له، قيل للكليات التي تدرّس الرياضيات والفيزياء والكيمياء وغيرها من العلوم المادية “كليات العلوم” كأن غيرها من سائر العلوم ليس بعلوم!

2. ومن مد مفهوم “العلم” إلى مجال العلوم الإنسانية، فسمى كليات أو بعض كليات بكليات العلوم الإنسانية. امتد لديه الإشكال إلى مجال العلوم الإنسانية، ولم تعد القضية الجوهرية لديه هي التعريب اللفظي وإنما التعريب المعنوي أو “إسلامية المعرفة ” بتعبير بعضهم[3]. وصار المصطلح العلمي في التراث عنده هو: اللفظ الذي يعبر عن مفهوم معين في علم من العلوم المادية أو الإنسانية التي عرفها تراثنا؛ كالتربية وعلم النفس، وعلم الاجتماع وغيرها. على أنه معين أكبر العون على التصور السليم للتعريب المعنوي أو الأسلمة للعلوم السلوكية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية…

3. ومن وسع مفهوم “العلم” إلى ما ينبغي له من الوحي الذي هو العلم، كما قال تعالى: ﴿ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم﴾ (البقرة 119)، وإلى العلوم المستنبطة منه التي هي العلوم الشرعية، وإلى سائر العلوم الدارِسة للإنسان أو المادة التي جُعِلت كِفاتاً للإنسان، من انطلق من ذلك اتسع لديه الإشكال وتشعب، وصار “التعريب” للعلوم المادية، و”الأسلمة” للعلوم الإنسانية، و”التجديد” للعلوم الشرعية عنده، مجرد وجوه من وجوه المعضلة. أما المعضلة نفسها فهي فهم التراث، وتقويم التراث، وتوظيف التراث، لإعادة بناء الذات.

ومن ثم صار مفهوم المصطلح العلمي في التراث (مفرداً)هو: اللفظ الذي يعبر عن مفهوم معين في أي علم من العلوم الشرعية أو الإنسانية أو المادية.

وصار مفهوم المصطلح العلمي في التراث (جمعاً) هو: مجموع الألفاظ الاصطلاحية التي عبر بها عن مفاهيم في أي علم من العلوم التي عرفها تراثنا عبر التاريخ.

 وهذا الذي يجعل المصطلح العلمي في التراث خلاصة تصور الأمة، وخلاصة تطور الأمة، وخلاصة علم الأمة، وخلاصة كسب الأمة، ومفتاح فهم الأمة، ومفتاح إقلاع الأمة.

ثالثا: واقع الاهتمام بالمصطلح العلمي في التراث

1. اهتمام المؤسسات الرسمية

لا جرم أن الاهتمام بالمصطلح العلمي في التراث جملة، لدى المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، ضعيف، وأنه متأثر  كل التأثر بالتصور العام السائد للمسألة المصطلحية مفهوما ومجالات: ذلك بأن الذي يتبادر إلى الذهن أولا،عند ذكر المسألة المصطلحية، هو هذا الهم المصطحي الذي حُمّله مكتب تنسيق التعريب في العالم العربي، التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الأليكسو)، وما يُنسق، أو يُفترض أن ينسق، بينه من مجامع لغوية، ومعاهد ومؤسسات، ولجن للترجمة والتعريب.

والمفهوم الذي يستخلص من هذا الهم للمسألة المصطلحية ببساطة هو أنها: قضية الترجمة والتعريب للمصطحات الأجنبية اليوم في العالم العربي.

فالمصطلح الذي هو في البؤرة هو المصطلح الأجنبي؛ أي مصطلح غير الذات، الذي دخل حديثا، أو يريد الدخول إلى الذات، بسبب الاستعمار وما لحقه من موجات التحديث والعصرنة…

والإشكال الذي يعالَج هو إشكال التعريب للتعليم والإدارة وما يتصل بهما من علوم أجنبية، أو يلحق بهما من بقية مجالات الحياة العامة المتأثرة بالاستعمار، وما لحقه من موجات.

والتصور الذي يقف خلف ذلك كله، هو أن الشرط الأساسي لنهضتنا عرباً وتسريعها، هو استيعاب ما لدى الغير من جديد بالعربية.

وهذا المفهوم، على وجاهته، عليه مآخذ، أهمها:

أ. أنه يترك مساحات شاسعة من المسألة المصطلحية خارج الاعتبار، بل يترك الأهم والأولى بأن يكون هو الهمّ المقدم، وهو مصطلحات الذات؛ إذ على أساسها، وفي ضوء مفاهيمها، والرؤية الحاصلة منها، يجب استيعاب ما لدى الغير، واستقبال مصطلحات غير الذات.

ب. أن الإشكال فيه جزئي؛ إذ يقتصر على ما تعانيه الأمة في جعل ما تغرَّب لفظا معرّبا، ويهمل ما هو أدهى من ذلك وأمر؛ وهو ما تعانيه الأمة من أمر المصطلح الأصل، الذي به قامت، وعليه قامت، وله قامت. المصطلح الذي به كانت الأمة الوسط بين الناس، وبه كانت خير أمة أخرجت للناس، وبه كان رجالها شهداء على الناس: مصطلح القرآن والسنة البيان؛ إذ هي لا تفهمه اليوم حق الفهم، ولا تقوم به أو عليه أو له، ولا تقيمه كما أمرت، صدقا وعدلا كما ينبغي له.

ومثل ذلك يقال عما تعانيه من أمر المصطلح الفرع، الذي يمثل خلاصة تفاعلها مع التاريخ وفي التاريخ. المصطلح الذي يمثل كسبها وإسهامها الحضاري في مختلف المجالات: مصطلح العلوم والفنون والصناعات؛ لا تعلمه هو كذلك حق العلم، ولا تقوِّمه حق التقويم، ولا توظفه حق التوظيف.

ج. أن التصور الذي يقف خلق هذا المفهوم لا يمثل حقيقة أولويات شروط النهضة؛ إذ قد يقع التعريب الكامل ولا تنتج عنه النهضة المطلوبة

هذا، والمجال المألوف في التصور العادي المعروف للمسألة المصطلحية، هو مجال العلوم المادية، وأقصى امتداد له ينتهي عند نهاية مجال العلوم الإنسانية. لأنهما، بهذا الترتيب، مظنة الحضور الطبيعي للمصطلح الوافد الذي هو في البؤرة.

وبناء على هذا التصور العام صدرت قرارات الندوات والمؤتمرات المتعلقة بالمصطلح العلمي في التراث مثل:

ـ ما أقرته ندوة الرباط سنة 1981 من ضرورة استقراء وإحياء التراث العربي، وخاصة ما استعمل منه، أو ما استقر منه، من مصطلحات علمية عربية صالحة للاستعمال الحديث وما ورد فيه من ألفاظ معربة. ثم ما اقترحته في المقترح الخامس من «الاستعانة بالتقنيات الحديثة الرائدة في استقراء التراث القديم والحديث، والمصطلحات الموضوعة، لتكون أساسا لتنسيق المصطلحات وتوحيدها».

ـ ما أقرته ندوة عمان سنة 1993 من «اعتبار ما ورد بخصوص منهجية وضع المصطلح العلمي العربي في ندوة الرباط 1981 الأساس الذي ينطلق منه تطوير هذه المنهجية[4]».

ثم من المطالبة بـ«استقراء الأمهات من المؤلفات التراثية، والتعمق في آرائها ونظرياتها ومصطلحاتها القويمة المبررة للاستفادة منها في وضع المصطلح العلمي المعاصر».

ـ ما أقرته ندوة دمشق 1999 من «الحرص على استعمال ما جاء في التراث العربي من مصطلحات عربية أو معربة وتفضيل المصطلحات التراثية على المولَّدة[5]».

وكل هذه القرارات، فضلا عن أنها بقيت مجرد قرارات، فإنها  لصدورها عن تصور معين للمصطلح العلمي في التراث مفهوما ورؤية ومجالات، ظلت بعيدة عن أن تلامس عمق الإشكال، أو تدفع بقوة ومنهجية من يحاول، إن حاول، حل بعض الإشكال.

2. اهتمام المبادرات الفردية

وهو موجود وفيه جهود. يقول الباحث جواد حسني سماعنة، رحمه الله، محاولا تصنيف تلك الجهود: «تتباين أهمية المصطلح العربي التراثي من معجمي إلى آخر، فهو ذو منزلة  أولى في معاجم العلماء وشيوخ اللغة المجمعيين الأوائل استقصاء وجمعا وتدوينا، أمثال: أحمد فارس الشدياق، وحسني سبح، ومصطلفى الشهابي، وعند بعض المصطلحيين المحدثين أمثال: أحمد شفيق الخطيب، وهم كلهم أو جلهم أعضاء رسميون أو مراسلون في المجامع اللغوية والعلمية العربية. وهو في منزلة دون ذلك، عند علماء الاختصاص المحدثين الذين لايتقنون اللغة العربية…، مفضلين عليه التعريب اللفظي والترجمة الحرفية اعتقادا منهم بأن المصطلحات التراثية لا تفي بدلالات المصطلحات الأجنبية الحديثة[6]».

ثم صار الغالب عليه في العقود الأخيرة، سد الحاجات التجارية أكثر من الحاجات العلمية، والاستجابة الآنية المحدودة غير المكافئة لمثل هذه التحديات الضخمة الممدودة. فضلا عن تأثره كسابقه بالتصور العام السائد للمسألة المصطلحية، مفهوما ومجالات.

3. اهتمام معهد الدراسات المصطلحية

 الذي احتضنته مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)

وهو اهتمام متميز يختلف عن جميع ما سبقه في عدة أمور أهمها:

أ. تصوره الحضاري الشامل للمسألة المصطلحية

فهي مفهوما «المسألة التي تبحث مصطلح الماضي، بهدف الفهم الصحيح، فالتقويم الصحيح، فالتوظيف الصحيح. وتدرس مصطلح الحاضر بهدف الاستيعاب العميق، فالتواصل الدقيق، فالتوحد على أقوم طريق. وتستشرف آفاق مصطلح المستقبل، بهدف الإبداع العلمي الرصين، والاستقلال المفهومي المكين، والتفوق الحضاري المبين».

ومن هذا يستفاد  اتساع المفهوم، حتى لا يخرج منه أي اهتمام من اهتمامات المصطلح، أو همّ من همومه؛ سواء تعلق بأصل الذات، أو بالنابت من الذات، أو بالوافد على الذات.

وهي إشكالات لا تعالج قضية التعريب فقط أي «جعل ما تغرب لفظا معربا» كما تقدم، بل «تمس الأبعاد والجوانب كلها في الأمة[7]»؛ إذ «الإشكال المصطلحي في الأمة عميق وخطير ودقيق؛ لأنه يتعلق ماضيا بفهم الذات، وحاضرا بخطاب الذات ومستقبلا ببناء الذات[8]».

وهي مجالات تستوعب كل المجالات، وبالترتيب المخالف للمألوف: مجال الشرع وعلومه، ثم مجال الإنسان وعلومه، ثم مجال المادة وعلومها.

فأما مجال الشرع وعلومه، فهو رأس الأمر وعموده وذروة سنامه، ومصطلحه المصطلح الشريف، وأشرفه مصطلح القرآن، ثم مصطلح السنة البيان، ثم مصطلح العلوم المستنبطة منهما والخادمة لهما. وعلى قدر حاجة الأمة إلى تجديد التدين، تكون حاجة المصطلح في هذا المجال إلى تجديد الفهم والتبيُّن.

وأما مجال الإنسان وعلومه، فحاجة المصطلح فيه إلى الجمارك الحضارية شديدة، لغلبة المصطلح الوافد على مساحات كبيرة منه؛ ذلك بأن البحث في هذا المجال “قائم الآن برؤية الآخر ومنهاج الآخر؛ قائم على الانطلاق من مفهوم مادي للإنسان، ورسالة مادية للإنسان، وعلاقات ونشاط مادي للإنسان، ومن ثم لا يمكن أن يُدرس إلا بمنهج مادي، ولا يُتصور له إلا تاريخ ومستقبل مادي…

وأما مجال المادة وعلومها فهو مجال السيادة للمصطلح الوافد؛ ويقصد به المجال الذي اتخذ المادة موضوعا له “كانت صلبة أو سائلة أو غازية، كعلوم الفيزياء والكيمياء، وعلوم طبقات الأرض وأجواز الفضاء، وعلوم الهندسة والصيدلة… وغير ذلك[9].

ب. مشروعه العلمي الكبير: المعجم التاريخي للمصطلحات العلمية

وخلاصة المقصود به أنه هو ذلك العمل العلمي الجامع لكل الألفاظ التي تسمي مفاهيم، في أي علم، مرتبة المباني ترتيبا معجميا لتيسير الوصول إليها، معروضة المعاني عرضا تاريخيا، لرصد التطور الدلالي والاستعمالي الذي طرأ عليها، منذ ولادتها حتى آخر استعمال لها.

ومن أهدافه القريبة:

ـ  إيجاد معجم تاريخي للمصطلحات العلمية المعرّفة؛ والهدف من هذا الهدف هو جمع جهود العلماء السابقين في مجال بيان المراد من الألفاظ الاصطلاحية في مختلف العلوم، ووضعها رهن إشارة الدارسين المصطلحيين للاستفادة منها بكل ضروب الاستفادة، ولدراستها أيضا بكل أنواع الدراسة.

ـ إيجاد معجم تاريخي لمصطلحات كل علم؛ مثل المعجم التاريخي للمصطلحات الحديثية، أو اللغوية، أو النقدية، أو غير ذلك. ويشتمل على جميع مصطلحات ذلك العلم: المعرّف منها وغير المعرّف، مصنفة معجميا، ومدروسة الدراسة المصطلحية التاريخية.بعد الدراسة الوصفية.

وبظهور مثل هذه المعاجم الخاصة بكل علم، يظهر المفتاح التاريخي الخاص لكل علم، فينفتح باب القراءة الصحيحة لأي مؤلَّف (بفتح اللام) أو مؤلِّف (بكسر اللام) أو مدرسة أو اتجاه.. في أي علم، فيُتخلص من كثير من الأخطاء القديمة والجديدة في الفهم، وما ينبني عليها من اختلافات أو اضطرابات في الحكم.

ومن أهدافه البعيدة:

ـ فهم التراث؛ والذي يعنينا منه هاهنا، هو التراث العلمي، بالمفهوم العام للعلم، وهو مجموع ما ورثناه من العلم عن الآباء. وأنفس ما فيه هو الوحي: كتابا وسنة، ثم عطاء العلوم المستنبطة منه، أو الخادمة له، أو المتأثرة به، عبر القرون؛ من علوم شرعية، أو إنسانية، أو مادية. ثم يأتي من بعد ذلك ما بعد ذلك وما دون ذلك، ممّا تتبرأ منه روح التراث، وقيم التراث، ولغة التراث؛ من دخيل قديم، وغاز جديد، لا صلة له بالتراث إلا أنه من الميراث.

ـ تجديد بناء الذات؛ وأول التجديد قتل القديم فهما كما قيل، وذلك ما تقدم في “فهم التراث“، وإنما يدرس التراث للبناء به وعليه فيما هو آت؛ ذلك بأن الأمة وهي تجتاز مرحلة الاختبار والاختمار، محاوِلةً استئناف السير في اتجاه الشهود الحضاري الواجب عليها للشهادة على الناس، تحتاج أول ما تحتاج إلى تحديد عناصر القوة في ذاتها لتفعيلها، ومعرفة مقدار ذخيرتها ونوعها لتوظيفها والاستفادة منها في بابها وإبانها، وتعرّف وجوه النقص والقصور فيها لتكميلها. وكل ذلك يتيسر بعد فهم التراث وتقويمه، والمفتاح الفاتح لكل ذلك هو “المعجم التاريخي للمصطلحات العلمية”. ولإنجازه مراحل ووسائل مفصلة في مكانها[10].

ج. منهجه الدقيق في الدرس المصطلحي: منهج الدراسة المصطلحية

ذلك الذي «يمكن تلخيص معالمه الكبرى، بإيجاز شديد، منذ الشروع فيه حتى الفراغ منه، في خمسة أركان:

1. الإحصاء

ويقصد به الاستقراء التام لكل النصوص التي ورد بها المصطلح المدروس، وما يتصل به، لفظا ومفهوما وقضية، في المتن المدروس، وذلك يعني:

أ. إحصاء لفظ المصطلح إحصاء تاما، حيثما ورد، وكيفما ورد، وبأي معنى ورد، في المتن المدروس، ما دام قدر من الاصطلاحية، داخل مجاله العلمي الخاص، ملحوظا فيه؛ فالمصطلح مفردا أو مجموعا، معرفا أو منكرا، اسما، أو فعلا، مضموما إلى غيره أو مضموما إليه غيره، كل ذلك ضروري المراعاة عند الإحصاء.

ب. إحصاء الألفاظ الاصطلاحية المشتقة من جذره اللغوي والمفهومي إحصاء تاما كذلك، على التفصيل نفسه.

ج. إحصاء التراكيب التي ورد بها مفهوم المصطلح أو بعضه دون لفظه، إحصاء تاما كذلك.

د. إحصاء القضايا العلمية المندرجة تحت مفهومه وإن لم يرد بها لفظه.

فإذا استخلصت النصوص، وصنفت حسب حاجة الدراسة، التصنيف الأولي، أمكن الانتقال إلى الركن الثاني:

2. الدراسة المعجمية

ويقصد بها دراسة معنى المصطلح في المعاجم اللغوية فالاصطلاحية، دراسة تبتدئ من أقدمها مسجلة أهم ما فيه، وتنتهي بأحدثها مسجلة أهم ما أضاف، دراسة تضع نصب عينيها على مدار المادة اللغوية للمصطلح، ومن أي المعاني اللغوية أخذ المصطلح، وبأي الشروح شرح المصطلح. وذلك لتمهيد الطريق إلى فقه المصطلح وتذوقه، وليسهل تصحيح الأخطاء التي قد يكون جلبها الإحصاء.

3. الدراسة النصية

ويقصد بها دراسة المصطلح وما يتصل به، في جميع النصوص التي أحصيت قبل، بهدف تعريفه، واستخلاص كل ما يسهم في تجلية مفهومه؛ من صفات وعلاقات، وضمائم، وغير ذلك.

وهذا الركن هو عمود منهج الدراسة المصطلحية: ما قبله يمهد له، وما بعده يستمد منه؛ إذا أحسن فيه بوركت النتائج وزكت الثمار، وإذا أسيء فيه لم تفض الدراسة إلى شيء يذكر. ومدار الإحسان فيه على الفهم السليم العميق للمصطلح في كل نص، والاستنباط الصحيح الدقيق لكل ما يمكن استنباطه مما يتعلق بالمصطلح في كل نص.

 فالنصوص، هاهنا، هي المادة الخام التي يجب أن “تعالج” داخل مختبر التحليلات بكل الأدوات والإمكانات، لتقطر منها المعلومات المصطلحية تقطيرا، وتستخرج استخراجا؛ فمعطيات الإحصاء، ومعطيات المعاجم، ومعطيات تحليل الخطاب المقالية والمقامية معا، ومعطيات المعارف داخل التخصص وخارجه، ومعطيات المنهج الخاص والعام، النظري والعملي… كل أولائك ضروري المراعاة عند التفهم، وكل ذلك مما به يتمكن من المفهوم وما يجلي المفهوم.

4. الدراسة المفهومية 

ويقصد بها دراسة النتائج التي فهمت واستخلصت من نصوص المصطلح وما يتصل به، وتصنيفها تصنيفا مفهوميا يجلي خلاصة التصور المستفاد لمفهوم المصطلح المدروس في المتن المدروس؛

من تعريف له يحدده، بتضمنه كل العناصر والسمات الدلالية المكونة للمفهوم.

وصفات له تخصه، كالتصنيف في الجهاز، والموقع في النسق، والضيق أو الاتساع في المحتوى، والقوة أو الضعف في الاصطلاحية، والنعوت أو العيوب التي ينعت بها أو يعاب.

وعلاقات له تربطه بغيره، كالمرادفات والأضداد وما إليها، والأصول والفروع وما إليها…

وضمائم إليه، تكثر نسله وتحدد توجهات نموه الداخلي، كضمائم الإضافات والأوصاف…

ومشتقات حوله من مادته تحمي ظهره، وتبين امتدادات نموه الخارجي.

وقضايا ترتبط به أو يرتبط بها “مما لا يمكن التمكن منه إلا بعد التمكن منها كالأسباب والنتائج والمصادر والمظاهر، والشروط والموانع، والمجالات والمراتب، والأنواع والوظائف، والتأثر والتأثير… وغير ذلك مما قد يستلزمه تفهم مفهوم، ولا يستلزمه تفهم آخر.

 وهذه الشجرة المفهومية الوارفة الظلال، الزكية الغلال في أغلب الأحوال… هي التي يجب أن تُجَلّى بعرضها في الركن الخامس على أحسن حال[11].”

5. العرض المصطلحي

«ويقصد به الكيفية التي ينبغي أن تعرض وتحرر عليها خلاصة الدراسة المصطلحية للمصطلح ونتائجها. وهو الركن الوحيد الذي يرى بعينه لا بأثره. وجماع القول فيه، حسب ما انتهت إليه التجربة، أن يكون متضمنا للعناصر الكبرى التالية على الترتيب:

أ. التعريف، ويتضمن:

ـ المعنى اللغوي، ولاسيما الذي يترجح أن منه أخذ المعنى الاصطلاحي.

ـ المعنى الاصطلاحي العام في الاختصاص، ولاسيما الأقرب إلى مفهوم المصطلح المدروس.

ـ مفهوم المصطلح المدروس معبرا عنه بأدق لفظ، وأوضح لفظ، وأجمع لفظ، ما أمكن.

وشرطه المطابقة للمصطلح. وضابطه أنه لو وضعت عبارة التعريف مكان المصطلح المعرَّف في الكلام لانسجم الكلام. وإنما ينضبط ذلك إذا راعى الدارس في تعريف المفهوم كل العناصر والسمات الدلالية المكونة للمفهوم، المستفادة من جميع نصوص المصطلح وما يتعلق به في المتن المدروس؛ فلا تبقى خاصة دون إظهار، ولا ميزة دون اعتبار.

وللتأكد من صحة التعريف وزيادة بيانه، يحلل بالتفصيل المناسب إلى كل عناصره. ومع كل مقال مثال، وإنما يتضح المقال بالمثال.

فإذا تم التعريف، وهو اللب والنواة، بدأ الحديث عن الصفات وهي اللحمة والكسوة.

ب. الصفات وتتضمن:

ـ الصفات المصنِّفة؛ وهي الخصائص التي تحدد طبيعة وجود المصطلح في الجهاز المصطلحي موضوع الدراسة، كالوظيفة التي يؤديها والموقع الذي يحتله وغير ذلك.

ـ الصفات المبينة؛ وهي الخصائص التي تحدد درجة الاتساع أو الضيق في محتوى المصطلح، ومدى القوة أو الضعف في اصطلاحية المصطلح وغير ذلك.

ـ الصفات الحاكمة؛ وهي الصفات التي تفيد حكما على المصطلح، كالنعوت أو العيوب التي ينعت بها أو يعاب وغير ذلك.

فإذا تمت الصفات الخاصة بالذات، بدأ الحديث عن العلاقات بغير الذات، مما يأتلف مع المصطلح ضربا من الائتلاف، أو يختلف معه ضربا من الاختلاف.

ج. العلاقات؛ وتتضمن كل علاقة للمصطلح المدروس، بغيره من المصطلحات، ولاسيما العلاقات الثلاث:

ـ علاقات الائتلاف؛ كالترادف والتعاطف وغيرها.

ـ علاقات الاختلاف؛ كالتضاد والتخالف وغيرها.

ـ علاقات التداخل والتكامل؛ كالعموم والخصوص، والأصل والفرع وغيرها.

فإذا ضبطت العلاقات الواصلة للمصطلح بسواه، والفاصلة له عن سواه، أمكن الانتقال إلى ما ضم إلى المصطلح، أو ضم إليه المصطلح؛ مما يكثر نسله المصطلحي، ويحدد توجهات نموه الداخلي.

د. الضمائم؛ وتتضمن كل مركب مصطلحي (ضميمة) مكوَّن من لفظ المصطلح المدروس، مضموما إلى غيره، أو مضموما إليه غيره، لتفيد الضميمة المركب في النهاية مفهوما جديدا خاصا مقيدا ضمن المفهوم العام المطلق، للمصطلح المدروس. فكأن المصطلح بضمائمه ينمو ويتشعب مفهوميا من داخله. وأبرز أشكال الضمائم:

ـ ضمائم الإضافة؛ سواء أضيف المصطلح إلى غيره، أو أضيف إليه غيره.

ـ ضمائم الوصف؛ وقد يكون فيها المصطلح واصفا أو موصوفا.

فإذا انتهت الضمائم أمكن الانتقال إلى المشتقات.

ﻫ. المشتقات: وتتضمن كل لفظ اصطلاحي ينتمي لغويا ومفهوميا إلى الجذر الذي ينتمي إليه المصطلح المدروس؛ كالمجتهد مع الاجتهاد، والبليغ مع البلاغة ولا يدخل فيها المنتمي لغويا فقط؛ كالإنفاق مع النفاق، ولا المنتمي مفهوميا فقط كالقصيدة مع الشعر. إذ محل هذا العلاقات.

والمصطلح بمشتقاته من حوله، كأنما ينمو ويمتد مفهوميا من خارجه، وأشكال المشتقات وصورها مشهورة في باب الصرف.

فإذا فرغ من المشتقات بدئ وختم بالقضايا.

و. القضايا: وتتضمن كل المسائل المستفادة من نصوص المصطلح المدروس وما يتصل به، المرتبطة بالمصطلح أو المرتبط بها المصطلح؛ مما لا يمكن التمكن من مفهومه حق التمكن، إلا بعد التمكن منها حق التمكن. وهي متعذرة الحصر لكثرة صورها وتنوعها من مصطلح إلى مصطلح. وأهميتها لا تكاد تقدر في التصور العام للأبعاد الموضوعية للمفهوم، ولاسيما في بعض العلوم.

ومن أصنافها، كما تقدم، “الأسباب والنتائج، والمصادر والمظاهر، والشروط والموانع، والمجالات والمراتب، والأنواع والوظائف، والتأثر والتأثير…”.

 وبالحديث عنها ينتهي الحديث عن الفرض في “العرض”، آخر ركن من الأركان الخمسة التي بني عليها منهج الدراسة المصطلحية[12].

رابعا: التحديات التي تواجه المهتمين بالمصطلح العلمي في التراث 

1. تحدي الإعداد الشامل للنص العلمي في التراث[13]

وهو تحد يحيل على قضية أكبر، ومعضلة أدهى وأمر، هي “معضلة النص” في التراث؛ ذلك بأن البحث في التراث لا يكون علميا حتى يقوم على عدة أركان أهمها:

أ. نصوص موثقة السند؛ أي موثقة النسبة إلى أصحابها؛ وذلك لتضبط الأحكام عليها انطلاقاً من نسبتها، في علاقاتها المختلفة بالقائل والسامع، والعصر والمصر…

ب. نصوص موثقة المتن؛ أي موثقة العبارة التي صدرت عن أصحابها؛ أي محققة؛ وذلك لضبط الأحكام عليها والاستفادة منها انطلاقاً من حدود عبارتها؛ ليلا يُقَوَّل قائل ما لم يقل، فيقوَّل بتقويله عصر، أو مصر، أو اتجاه، أو غير ذلك، وليلا يبني بان بناءه على ما لم يصح، بسبب تصحيف، أو تحريف، أو بتر، أو غير ذلك، فيُفْسِدَ التاريخ والواقع معا.

ج. نصوص كافية للحكم بما يراد به الحكم؛ فإن كان الحكم، مثلا، صفة تعم إنسانا، وجب حضور تراثه كله، وإن كانت تعم مصراً، وجب حضور تراثه كله، وإن كانت تعم عصراً، وجب حضور تراثه كله، وهكذا…

وإذا استثنينا البحوث التي تحصر نفسها في دائرة نصوص الكتاب والسنة، وهي قليلة جدا، فإنه يكاد يتعذر إنجاز بحث علمي جاد، في أي قضية من قضايا التراث ذات الامتداد، التي يقام عليها البنيان؛ وذلك للوضع العام للمعضلة الذي تختل به، بدرجة ما، كل الأركان:

 إذ مخطوط التراث وهو الأكثر، ما زال خارج السيطرة، كما يقال، مراكز وأحوالا. وحتى الآن «للأسف لما يظهر معجم مفهرس شامل كامل لجميع المخطوطات العربية المحفوظة بمختلف خزائن العالم».

ومطبوع التراث وهو الأقل، مازال لما يوثق التوثيق المطلوب نسبة ومتنا؛ ومثل ما قيل عن التوثيق يقال عن التكشيف «ولاسيما للمصادر الأمهات التي تشبه في خصوبتها وسعتها وكثرة عطائها الغابات؛ فكم من بقايا كتب قيمة، لعلماء أفذاذ، يمكن استخراجها من بطون تلك الأمهات، ولا يكشف عنها إلا التكشيف. وكم من علوم ومعارف، وشواهد نادرة لعلوم ومعارف، توجد مطوية في أحشائها، لا سبيل إلى تذليل عقبة العلم بها إلا بالتكشيف. وحتى الآن لم يُكَشَّف من منشور التراث إلا بعض جوانب من بعض الأمهات».

وليس أمر الطبع والتوزيع بأحسن حالا من أمر التوثيق والتكشيف؛ «فكم من نصوص حققت ولم تجد لها طابعاً، وكم من محققات طبعت ولم تجد موزعاً، وكم من مطبوعات وزعت ولم تكد تجاوز أو يجاوز العلم بطبعها البلد الذي طبعت فيه… وحتى الآن لما يصدر معجم مفهرس شامل للمطبوعات العربية في العالم».

فإذا وصلت إلى فهم ألفاظ التراث اللغوية والاصطلاحية وصلت إلى الصّعود؛ «إذ هو تراث قرون وقرون، والمعاجم اللغوية، على كثرتها، اهتمت، أو كادت لا تهتم إلا، بلغة بعض القرون. وهو تراث أعلام ومدارس واتجاهات، وعلوم وفنون وصناعات، ولكل صناعة ألفاظ، ولكل قوم ألفاظ، كما قال أبو عثمان الجاحظ. والمعاجم الاصطلاحية، على قلتها، لم تعن أو كادت لا تعنى إلا برأي الجمهور في اصطلاحات العلوم والفنون. وحتى الآن لما ينحز المعجم التاريخي للغة العربية، بل لما يخطط له التخطيط العلمي المنهجي الجاد، وحتى الآن لما ينجز المعجم التاريخي للمصطلحات العربية، بل لَمَّا يفهم وجه الإلحاح على إنجازه والتمهيد له بالمعجم التاريخي للمصطلحات العلمية المعرفة، من لدن  معهد الدراسات المصطلحية».

أما لماذا كان ذلك كذلك، فأهم الأسباب:

أ. انعدام المنهجية في حركة إحياء التراث؛ فمنذ بداية ما سمي بالنهضة ظهرت حركة بعث التراث، ثم تسابق الناس أفرادا ومؤسسات في تأسيس دور لنشر التراث، ثم تدخلت وزارات ومنظمات، فتأسس فيما تأسس معهد للمخطوطات…

ثم حمي بأخرة وتتابع إنشاء المراكز والجمعيات المهتمة بجمع المخطوطات وإحياء التراث؛ وكلها جهود طيبة مباركة، ولكنها لما تسلم من آفة الانتقاء القبلي في التصوير والشراء، فلم تحل بذلك المشكلة في أي قطر، ولم تسلم من آفة الفردانية في السير، والعصر عصر الجماعية، فلم تطق وحدها منفردة حتى الساعة، ولن تطيق، الاضطلاع بالمراد، إلا أن يشاء ربي شيئاً، بل كثيرا ما تكررت الجهود، إن لم أقل ضاعت، لصرفها في غير ما ينبغي لها.

إن المنهجية العامة في إطار الرؤية الحضارية اللازمة لكشف الغمة وإنقاذ الأمة، تقتضي سيراً غير هذا السير، ونظاماً في صرف الجهد غير هذا النظام.

ب. انعدام العلمية في تحقيق أغلب ما نشر من التراث؛ وهذا واضح لكل من ابتلي بالبحث في أي قضية من قضايا التراث؛ إذ يلتفت أول ما يلتفت إلى المطبوعات، لتمده بالمادة الخام المصفاة، على أساس أن الناشر لها لم ينشرها إلا وقد فرغ منها توثيقا وتحقيقا، سواء كانت محققة على أصول خطية، أم مجموعة من أصول غير خطية، ولكن الذي يَجْبَهه وينغِّص عليه بحثه تنغيصا، أنه يضطر اضطراراً إلى إعادة التوثيق والتحقيق، في أغلب الأحيان، لمادة بحثه، ولاسيما شواهده، إن رغب في الصحة والسلامة العلمية للنتائج، وإلا كان البناء كله على شفا جرف هار…

ج. انعدام التكامل والتنسيق بين أغلب الأفراد والمؤسسات في تحقيق التراث؛ وهذا الداء العياء المستعصي كل الاستعصاء، المؤخِّر للشفاء مهما كان الدواء.

2. تحدي التكشيف الشامل للمصطلح العلمي في التراث

 وهو فرع من فروع التحدي السابق، ولكنه أفرد وأبرز لخُصوصيته وأهميته. ذلك بأن التكشيف الشامل لأي مصدر من مصادر التراث يتضمن، أو ينبغي أن يتضمن، أربعة كشافات:

أ. كشاف أسماء الأعيان؛ والهدف منه أساسا لغوي، بكل ما للغة من محتوى حضاري. ولذلك لا ينبغي أن يند عنه أي نوع من أنواع أسماء التراث، مادية كانت أم روحية، نباتية كانت أم حيوانية، غازية كانت أم سائلة…

ب. كشاف الموضوعات؛ والهدف منه أساسا علمي، بكل ما للعلم في تراثنا من اتساع مفهومي. ولذلك لا ينبغي أن تفوته معلومات أي موضوع من موضوعات أصناف العلوم؛ شرعية كانت، أم إنسانية، أم مادية.

ج. كشاف النقول؛  والهدف منه أساسا نصي؛ لتوثيق الموجود، والبحث عن المفقود، وتكميل الناقص، وجمع المتفرق…

د. كشاف المصطلحات؛ وهذا الذي إن فعل في جميع المصادر، وفي مختلف أصناف العلوم عبر القرون، ومن أهله وبحقه، أدى بعد الجمع والتصنيف والتأليف، إلى التكشيف الشامل للمصطلح العلمي في التراث.

 ولا شك أن المعاجم الاصطلاحية الخاصة والعامة هي المصدر الأول للمصطلح العلمي في التراث، ثم بعد ذلك تأتي كتب التخصصات، ثم المعاجم العامة، ثم كتب الثقافة العامة، ثم سائر كتب التراث، للطبيعة المتداخلة لكتب التراث.

إن التكشيف الشامل لمصطلحات أي علم من علوم التراث في جميع التراث، يضعنا وجها لوجه أمام الواقع المصطلحي لذلك العلم، ما الحجم المصطلحي له؟ ما حجم كل مصطلح فيه؟ ما نسبة المشروح من مصطلحاته وغير المشروح؟ إلى غير ذلك من المستفادات التي يمكن أن يكشف عنها التكشيف.

3. تحدي التعريف الشامل للمصطلح العلمي في التراث

وهو تحد حقيقي، لا يقدره قدره إلا من دفع إلى مضايق التعريف للمصطلح العلمي في التراث. هو تحد حقيقي للأسباب التالية:

أ. ضخامة حجم غير المعرَّف منه؛ فبعد تجارب دراسية له في عدد من التخصصات، عبر عشرات من البحوث الجامعية والدراسات، يمكن الخرص بأن النسبة العامة لغير المعرف، وإن كانت تختلف من علم إلى علم، لا تقل في الجملة عن أربعة أخماس الموجود.

ب. حاجة المعرف منه أحيانا، إن لم أقل غالبا، إلى التعريف؛ ذلك بأن التجربة كشفت عدة مرات عن قصور عدد من التعاريف، حين تعرض على ما يستفاد من الاستعمال، مما يدل على أن المعرِّف (بكسر الراء) غالبا لم يستخلص التعريف من دراسة كل عبارات الاستعمال، وسياقات الاستعمال، ومتعلقات الاستعمال؛ أي إن الإشكال في المنهج، ومتى كان الإشكال في المنهج لم يحل إلا بتصحيح المنهج.

ج. كثرة العمليات التي تسبق التعريف ويتوقف على إتقانها التعريف؛ وهي ما عدا الركن الخامس من أركان ما صار مصطلحا عليه بمنهج الدراسة المصطلحية كما سبق.

خامسا: خاتمة في المقترحات

ـ إعطاء الأولوية في التحقيق والنشر للنص العلمي في التراث.

ـ وضع خطة علمية منهجية متكاملة للتكشيف الشامل للمصطلح العلمي في التراث.

ـ اعتماد مشروع المعجم التاريخي للمصطلحات العلمية (مشروع معهد الدراسات المصطلحية) أساسا لخطة علمية منهجية متكاملة للتعريف الشامل للمصطلح العلمي في التراث.

ـ إلزام جهات الاستعمال من تعليم وإعلام وإدارة وغيرها بما أقرته جهات الوضع من مجامع وغيرها في شأن المصطلح العلمي في التراث وغير التراث.

ـ تطبيق القرارات الصادرة قبل في الندوات والمؤتمرات بشأن المصطلح العلمي في التراث.

ـ اعتماد “منهج الدراسة المصطلحية” منهجا للكشف عن مفاهيم المصطلحات ولاسيما في التراث.

ـ إنشاء بنك خاص بالمصطلح العلمي في التراث.

ـ تكوين مصطلحيين متخصصين في المصطلح العلمي في التراث.

ـ ربط الدراسات في كل التخصصات الجامعية بالمصطلح العلمي في التراث.

 الهوامش


[1]. ظهرت أول محاولة لإنشاء “مجمع” بالقاهرة سنة 1892، هو “مجمع البكري” الذي عرف باسم رئيسه الأول  والأخير: محمد توفيق البكري، «ولم يعقد… سوى سبع جلسات ألقيت فيها بعض البحوث ووضعت كلمات جديدة لمصطلحات أجنبية» (محمد البكري …لأحمد  تمام، إسلام أون لاين). أما البداية الصحيحة الصريحة للمجامع فهي «المجمع العلمي» بدمشق الذي أنشئ سنة 1919، برئاسة محمد كرد على.

[2]. الشاهد البوشيخي، نحو تصور حضاري للمسألة المصطلحية، فاس، ط1، 2002، ص17.

[3].  الوجيز في إسلامية المعرفة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فيرجينيا، ط1، 1987، ص23 –27.

[4]. بحوث ندوة عمان 93، النقطة الأولى من تقرير لجنة الصياغة.

[5].  مجلة مجمع اللغة العربية، بدمشق، مج 75، ج4، ص1038.

[6]. جواد حسني سماعنه، المصطلحية العربية بين القديم والحديث، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة، كلية الآداب، جامعة محمد الخامس بالرباط، السنة الجامعية 1998-1999، ص465.

[7] .  مجلة دراسات مصطلحية،ع1، ص7.

[8] . المصدر نفسه.

[9] .  مجلة الهدى، ع33، ص35.

[10] .  مشروع المعجم التاريخي للمصطلحات العلمية، ص19- 28.

[11]. الشاهد البوشيخي، نظرات في المصطلح والمنهج، فاس ط1، 2002 ص22-26.

[12]. المصدر نفسه، ص26-31.

[13]. النقول في هذه النقطة منقولة من: البحث العلمي في التراث ومعضلة النص: عرض قدمه صاحب هذا البحث في ندوة: «تحقيق التراث المغربي الأندلسي: حصيلة وآفاق المنظمة بكلية الآداب بوجدة تكريما للأستاذ محمد بن شريفة أيام 09-10-11نونبر1995، ص12.

د. الشاهد البوشيخي

الأمين العام لمؤسسة البحوث والدراسات العلمية “مبدع”
والمدير المؤسس لمعهد الدراسات المصطلحية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق