مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

الانتصار للشعر والشعراء في نَضْرة الإغْرِيض في نُصْرة القَرِيض للمظفر بن الفضل العلوي المتوفى سنة (656 هـــ) ( الحلقة الثالثة)

فيما يجوز للشاعر استعماله وما لا يجوز وما يدرك من صواب القول ويجوز:

لا ينكر المظفرُ على الشاعر المولَّد اللجوءَ إلى الضرورات الشعرية التي استعملها العرب في أشعارهم، بل يلتمسُ لهم العذرَ، وقبل ذلك يُشيرُ إلى العيوبِ التي يجملُ بالمولَّدِ أن يبتعدَ عنها ولا يُسامح في ارتكابها.

فالذي يجوز للشاعر المولد استعماله في شعره من الضرورة هو جميع ما استعملته العرب في أشعارها من الضرورات، وأما الذي لا يجوز للمولد استعماله ولا يسامح في ارتكابه فهو جميع ما يأتي عن العرب لحنا لا تُسيغُه العربيةُ ولا يُجَوِّزُه أهلُها سواء كان في أثناء البيت أو في قافيته، فإن اللحنَ لا يجوزُ الاقتداءُ به. فمن ذلك اللحنُ الذي سَمَّوه جراً على المجاورة، قول الشاعر:

فَيَا مَعْشَرَ الأَعْرَابِ إِنْ جَازَ شُرْبُكُمْ  ///  فَلَا تَشْرَبُوا مَا حَجَّ لله رَاكِبِ

شَرَابا لِغَزْوَانَ الخَبِيثِ فَإِنَّهُ  ///  يُنَاهِيكُمُ منه بِأَيْمَانِ كَاذِبِ

وهذا لحن قبيح وصوابه ما حج لله راكبُ.[1]

وممّا لا يجوزُ للمُوَلَّدين استعمالُه ما استعملته العَرَبُ من التقديم والتأخير الذي لا وجهَ له، ولا يجوزُ الحَذوُ عليه ولا الاقتداءُ به فإنه لحنٌ مُستقْبَحٌ كقول الشاعر:

لَهَا مُقْلَتَا حَوْرَاءَ طُلَّ خَمِيلَةً  /// مِنَ الوَحْشِ مَا تَنْفَكُّ تَرْعَى عَرَارُهَا

أراد: “لها مُقلتا حَوراءَ مِن الوَحشِ ما تَنفكُّ تَرْعى خَميلَةً طُلَّ عَرارُها”.[2]

ومما لا يجوزُ للموَلَّدين الاقتداءُ به ولا العملُ عليه لأنه لحنٌ فاحشٌ الإقواءُ في القافية؛ وذلك أن يعملَ الشاعرُ بيتا مرفوعا وبيتا مَجرورا كقول النّابغة الذّبياني:[3]

أَمِنْ آلِ مَيَّةَ رَائِحٌ أَوْ مُغْتَدِ /// عَجْلَانَ ذَا زَادٍ وَغَيْرَ مُزَوَّدِ

زَعَمَ البَوَارِحُ أَنَّ رِحْلَتَنَا غَدا /// وَبِذَاكَ خَبَّرَنَا الغُرَابُ الأَسْوَدُ

ومما لا يجوزُ للمولَّدين استعمالُه الإكفاءُ وهو اختلافُ حرفِ الرَّوِيِّ، ومثالُ ذلكَ قولُ الراجز:[4]

بُنَيَّ إِنَّ البِرَّ شَيْءٌ هَيِّنُ    ///    المَنْطِقُ الطَّيِّبُ وَالطُّعَيِّمُ

ومما لا يجوزُ له أيضاً الإيطاءُ وهو أن يُقَفِّيَ الشاعرُ بكلمة في البيت ثم يأتي بالكلمةِ نَفسِها في بيت آخر يكون قريبا من الأول فإن تباعدَ ما بين البيتين كانَ المُرتَكَبُ مُغْتَفَراً [5]، وقد أوطأت العَربُ كثيرا؛ قال النابغةُ الذبياني [6] :

أو أَضَعُ البَيْتَ  في خَرْسَاءَ مُظْلِمَةٍ    ///   تُقَيِّدُ العَيْرَ لا يَسْرِي بِهَا السَّارِي

ثُمَّ قالَ بعد أبياتٍ يَسيرةٍ:

لا يَخفِضُ الرِّزَّ عَن أرضٍ ألَمَّ بها    ///   ولا يضِلُّ عَن مِصباحِه السَّارِي

ومما لا يجوزُ للمولَّد استعمالُه السِّنَادُ وهو اختلافُ كلّ حركة قبلَ حرفِ الرَّوِيّ، كقول عمرو بن الأهتم التغلبي:[7]

أَلَمْ تَرَ أَنَّ تَغْلِبَ أَهْلُ عِزٍّ   /// جِبَالُ مَعَاقِلِ مَا يُرْتَقَيْنَا

شَرِبْنَا مِنْ دِمَاءِ بَنِي سُلَيْمٍ   ///   بِأَطْرَافِ القَنَا حَتَّى رَوِينَا

ففتحة القاف وكسرة الواو سناد لا يجوز، لأن أحَدَ الحَذْوَيْنِ يُتابِعُ الرِّدْفَ والآخَرُ يُخالِفُه، وقد أجازَ الخليلُ الضّمةَ مع الكسرة ومَنعَ مِن الضمة مع الفتحة، فإن كان مع الفتحة ضمة أو كسرة فهو سناد. فأمّا الذي جَوَّزه فكقول طرفَةَ: [8]

أَرَقَّ العَيْنَ خَيَالٌ لَمْ يَقِرْ   ///  طَافَ وَالرَّكْبُ بِصَحْرَاءَ يُسُرْ

فهذه ضمة مع كسرة وهو جيد. وأما الذي منع منه وذكر أنه سناد فكقول رؤبة:[9]

وَقَاتِمِ الأَعْمَاقِ خَاوِي الـمُخْتَرَقْ

ثم قال:

أَلَّفَ شَتَّى لَيْسَ بِالرَّاعِي الحَمِقْ

فجمع بين الفتحة والكسرة ثم قال:

مَضْبُورَةٍ قَرْوَاءَ هِرْجَابٍ فُنُقْ

فأتى بالضمة مع الفتحة والكسرة، وهو سناد قبيح لا يجوزُ استعمالُ مثلِه.

وأما التضمين هو أن يُبنى البيتُ على كلامٍ يكون معناه في بيت يتلوه مِن بعدِه مقتضيا له، كقول الشاعر: [10]

وَسَعْدٌ فَسَائِلْهُمْ وَالرِّبَابُ  ///  وَسَائِلْ هَوازنَ عَنَّا إِذَا مَا

لَقِينَاهُمُ كَيْفَ تَعْلُوهُمُ  ///  بَوَاتِرُ يَفْرِينَ بَيْضاً وَهَامَا

وكل هذه العيوب لا يجوزُ للمولَّدين ارتكابُها لأنهم قد عَرَفوا قُبحَها، والبَدويُّ لم يأبه لها.

ومما لا يجوزُ للمولَّد استعمالُه أيضاً كسرُ نون الجمع كما جاءَ في مثل قول جرير: [11]

عَرِينٌ مِنْ عُرَيْنَةَ لَيْسَ مِنَّا  ///   بَرِئْتُ إلى عُرَيْنَةَ مِنْ عَرِينِ

عَرَفْنَا جَعْفَرا وبَنِي عُبَيْدٍ    ///  وأَنْكَرْنَا زَعَانِفَ آخَرِينِ

وهذا لحن وصوابه آخرينَ مفتوح النون.

ومما لا يجوز للشاعر المولد ارتكابه من الضرورة في شعره أن يصرفَ ما لا ينصرفُ، لأن أصلَ الأسماء كلها الصرفُ، وإنما طرأت عليها عللٌ منعَتها من الصرف، فإذا صرفَ الشاعرُ ما لا ينصرفُ فَقَد رَدَّه إلى أصلِه كقول الشاعر:[12]

لَمْ تَتَلَفَّعْ بِفَضْلِ مِئْزَرِهَا   ///   دَعْدٌ وَلَمْ تُغْذَ دَعْدُ بِالعُلَبِ

فَصَرَف “دَعْداً” وتركَ صَرْفَه في بيتٍ واحد. وأما أن يأتيَ الشاعرُ إلى ما ينصرفُ فيتركَ صَرفَه فلا يجوزُ لأنه إخراجُ الشيء عن أصله، وإخراجُ الأشياءِ عن أصولِها يُفسدُ مَقاييسَ الكَلامِ فيها.

ويَجوزُ للمُوَلَّد ضَرورةً قَصرُ الممدود ولا يجوز له مَدُّ المقصور؛ لأن مَدَّ المَقصورِ خروجٌ عن الأصل، وأما قصرُ الممدود فهو رَدُّ الشّيء إلى أصلِه نحوَ قول الشاعر:[13]

بَكَتْ عَيْنِي وَحُقَّ لَهَا بُكَاهَا  ///   وَمَا يُغْنِي البُكَاءُ وَلَا العَوِيلُ

فقَصَرَ البكاءَ ومَدَّه في بيت واحد.

 ومما لا يجوزُ الاحتجاجُ به في مَدِّ المقصور لأنه على غير أصلِ الوضعِ الذي اتفق العلماءُ عليه قولُ الفرزدقِ: [14]

سَيُغْنِينِي الذِي أَغْنَاكَ عَنِّي  ///   فَلَا فَقْرٌ  يَدُومُ وَلَا غِنَاءُ

فالروايةُ الصحيحةُ أن يكونَ أولُه مفتوحاً لأن معنى الغنى والغناءِ واحدٌ، والشاعر إذا اضطُر إلى مد المقصور غَيَّرَ أولَه ووَجَّهَه إلى ما يجوزُ استعماله.[15]

ويجوز للشاعر الاجتزاءُ بالضمة عن الواو ضرورةً كقول الشاعر:

فَبَيْنَاهُ يَشْرِي رَحْلَهُ قَالَ قَائِلٌ:   ///     لِمَنْ جَمَلٌ رِخْوُ المِلَاطِ ذَلُولُ؟

وكان الأصل: فبَيْنا هُوَ فلمّا اجتزأ بالضّمّة حَذفَ الواوَ. ويجوزُ للمولَّد أن يَرُدَّ المنقوصَ إلى أصلِه في الإعراب ضرورةً فيَضُمَّ الياءَ في الرفع، ويكسِرَها في الجرّ كما تُفتَحُ في النصب لأن الضمةَ والكسرةَ مُقدَّرَتان في الياء وإن سَقَطَتا، فنقول في (قاضٍ) في حال الرفع (قاضِيٌ)، وفي حال الجر (قاضِيٍ) غيرَ مهموز، وكذلك في جواري وغواني.

كما يجوزُ للمُوَلَّد أن يُسكِّنَ الياءَ في حالِ النّصبِ فيُلحقَ المنصوبَ بالمرفوع والمجرور، كما جازَ له أن يُحركَ الياءَ في حال الرفع والجر فيُلحِقَ المرفوعَ والمجرورَ بالمنصوب، وفي هذا المنحى ساقَ المظفرُ كلاما لأبي العباس المبرد يقولُ فيه إن هذا من أحسنِ الضروراتِ لأنهم شبهوا الياءَ بالألف، يعني أنهم إذا أسكنوها في الأحوالِ الثلاثِ جرى المنقوصُ مَجرى  المقصور فصارت الياءُ كالألف؛ إذ الألفُ ساكنةٌ في جميع أحوالها مثل قول الشاعر:[16]

مَهْلا بَنِي عَمِّنَا مَهْلا مَوَالِينَا  ///  لَا تَنْبُشُوا بَيْنَنَا مَا كَانَ مَدْفُونا

أسكَنَ الياءَ في “مَوالينا” وهي في موضع نصب.

ومما يجوز للمولد استعمالُه إثباتُ الواو والياء في مثل (لم يغز) و (لم يرم) فيقول عند الضرورة لم يغزو ولم يرمي كأنه أسكن الواو والياء بعد وجوب الحركة لهما.

ومما يجوز استعماله وهو كثير في الاستعمال حذفُ التنوين لالتقاء الساكنين؛ فمن ذلك قولُ الشاعر: [17]

حُمَيْدُ الذي أَمَجٌ دَارُهُ   ///   أَخُو الخَمْرِ ذُو الشَّيْبَةِ الأَصْلَعُ

كان ينبغي أن يقول (حُمَيْدٌ) فأسقَط التنوينَ.

ويجوز للمولد حذفُ نون “مِن” إذا ولِيَتْها اللامُ الساكنة كقول الشاعر: [18]

أَبْلِغْ أبا دَختنوشَ مَأْلُكَةً  ///  غَيْرَ الذي قَدْ يُقالُ مِلْ كَذِبِ

أراد أن يقول: من الكذب، فحذف النون لسكونها وسكون اللام بعدها.

ويجوزُ للشاعر المولَّد استعمالُ الماضي في موضع المستقبل والعكس أيضاً، فأما استعمالُ الماضي في موضع المستقبل فكقوله تعالى: «وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الَجنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الـمَاءِ»، والمعنى وإذ يُنادي أصحابُ النَّار، وأما استعمالُ المستقبَل في موضع الماضي فكقوله تعالى: «فَفَرِيقا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقا تَقْتُلُون»، أراد فريقا قَتَلْتُمْ.

ويجوز للشاعر المولَّد تأنيثُ المذكر وتذكير المؤنث على المعنى وهو أفشى في العُرف والاستعمال من أن يؤتى عليه بشاهد أو مثال، قال الشاعر: [19]

أَتَهْجُرُ بَيْتا بالحِجَازِ تَلَفَّعَتْ   ///   بِهِ الخَوْفُ وَالأَعْدَاءُ مِنْ كُلِّ جَانِبِ

أنَّثَ الخوفَ لأنه ذهب به إلى المخافة، ومن تذكير المؤنث قوله تعالى: «السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ»، لأنه تعالى أراد بالسماء السقفَ، لقوله تعالى: “وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفا مَحْفُوظا”.

ومما يجوزُ للمولَّد استعمالُه حذفُ الهمزة عند الضرورة، أنشد سيبويه لعبد الرحمن بن حسان: [20]

فكنتَ أَذَلَّ مِنْ وَتِدٍ بِقَاعٍ   ///   يُشَجِّجُ رَأْسَهُ بِالفِهْرِ وَاجِ

يريد واجئ.

ويجوز للشاعر المولد حذفُ همزة الاستفهام للضرورة مع دلالة الكلام عليها، كما قالَ الكميت:[21]

طَرِبْتُ وَمَا شَوْقاً إلى البِيضِ أَطْرَبُ  ///  وَلَا لَعِباً مِنِّي وذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ

أرادَ:  أَوَ ذُو الشَّيْبِ يلعبُ.

ومما يجوزُ للشاعر المولد استعمالُه عند الضرورة في شعرِه الخَرْمُ، وهو حَذفُ أول مُتحرك من الوتد المجموع في أول البيت، والوتدُ المجموعُ حرفان متحركان بعدَهُما ساكنٌ مثل (غزا) (رمى)، ولا يدخل الخرْمُ على بيتٍ أولُه سببٌ أو فاصلة، وأكثر ما يجيءُ في أولِ البيت من القصيدة، قال الشاعر: [22]

كُنَّا حَسِبْنَا كُلَّ بَيْضَاء شَحْمَة   ///   لَيَاليَ لَاقَيْنَا جُذامَ وَحِمْيَرَا

أراد أن يقول و(كنا) فحذف الواو.

وأما الخزْمُ بخاء مُعجَمَة وبراء معجمة فمما لا يجوزُ للشاعر المولد استعمالُه ولا يسوغ له تعاطيه أبدا، وهو زيادةُ كلمة يأتونَ بها في أوائل الأبيات يُعتَدُّ بها في المعنى ولا يُعتدُّ بها في الوزن، وإذا أريدَ تقطيعُ البيت حُذِفَت تلكَ الكلمةُ الزّائدة وهي تُستعملُ في جميع البحور، كما قال الشاعر:[23]

اُشْدُدْ حَيَازِيمَكَ للمَوْ  ///  تِ فَإِنَّ الـمَوْتَ لَاقِيكَا

والبيت من الهزج ولا يستقيمُ إلا بإسقاط اُشْدُدْ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] نَضرة الإغريض في نُصرة القَريض، ص:239-240

[2] نفسه، ص: 242

[3] ديوان النابغة الذبياني، ص: 105

[4] نضرة الإغريض، ص: 247

[5] نفسه، ص:248

[6] ديوان النابغة، ص: 124

[7] نضرة الإغريض، ص: 249-250

[8] ديوان طرفة بن العبد، ص:39

[9] نضرة الإغريض، ص: 251

[10] نفسه، ص: 254

[11] ديوان جرير، ص: 475

[12] نضرة الإغريض، ص: 258

[13] نفسه، ص: 249

[14] نفسه، ص: 260

[15] نفسه، ص: 260

[16] نفسه، ص: 262-263

[17] نفسه، ص: 264

[18] نفسه، ص: 266

[19] نفسه، ص: 285

[20] نفسه، ص: 287

[21] نفسه، ص: 287

[22] نفسه، ص: 288-289

[23] نفسه، ص: 291

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق