مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةمفاهيم

الالتزام بالأوراد

إسماعيل راضي                                                                                                         مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة

 

مِن المعلوم أن الله تعالى أمَر بالتزام ومواظبة الذِّكر وذلك: بِ “الغُدُوِّ وَالآصَال”،[1] بِ “العَشِيِّ وَالإِبْكَار”،[2] “قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ”،[3] و”بُكْرَةً وَأَصِيلًا”[4] كما تقرر ذلك في التعبير القرآني في عدة نصوص.

 وقد تكاسل أقوامٌ عن المواظبة على الذكر، واجتهدوا في تبديع من اشتغل بالأذكار والْتزَم الأوراد صباح مساء ! والالتزام بالأوراد سُنَّة راشدة، وفضيلة مُتجدِّرة في الأمة، فقد كان صلى الله عليه وسلم يقول للصحابة الكرام كما روى مسلم في صحيحه: “من نام عن حزبه، أو عن شيء منه، فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كُتِب له كأنما قرأه من الليل”.[5] 

فدلّ الحديث على أن الصحابة الكرام كانت لهم أوراد وأحزاب مخصوصة يُواظبون عليها، ويتداركونها ولو بعد ذهاب وقتها. والحزب معناه: الجزء من الشيء، قـال صاحب “الـنـهـايـة”: “الحـزب مـا يجعله الرجل على نفسه من قراءة أو صلاة كـالـوِرد”.[6] 

      وقال السندي في شرح سنن ابن ماجه: “الْحِزْب هُوَ مَا يَجْعَلهُ الْإِنْسَان وَظِيفَة لَهُ مِنْ صَلَاة أَوْ قِرَاءَة أَوْ غَيْرهمَا، وَالْمَعْنَى مِنْ نَامَ فِي اللَّيْل عَنْ وِرْده”.[7]

ومـعـنى ذلـك: أن يتخذ الإنسان نصيباً يومياً من الذكر يقرؤه ويتعاهد نفسه عليه، وفي ذلك تثبيتٌ وتمكينٌ له في سِلك الذاكرين الله كثيراً والذاكرات؛ وقد رغّب الشرع الإسلامي في ملازمة الذكر بصِيَغٍ مُعيّنة والمواظبة عليها، وذلك في ما رواه البخاري في صحيحه، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أَحَبُّ الأَعْمَالِ إلى الله أَدْوَمُهَا وَإنْ قَلّ”.[8]

قال ابن حجر العسقلاني في شرحه للحديث: “المداومة على عمل من أعمال البر ولو كان مفضولاً أحب إلى الله من عمل يكون أعظم أجراً لكن ليس فيه مداومة”.[9]

وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي أن الحديث فيه إشارة إلى أن أحب الأعمال إلى الله عز وجل: “ما داوم عليه صاحبه وإن كان قليلاً، وهكذا كان عمل النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل آله وأزواجه من بعده وكان ينهى عن قطع العمل”.[10]

ومِن ثَمّ، تحتاج المداومة إلى ضبط العدد، والذاكر يَعُدُّ على نفسه كيْ يُلزمها بالمواظبة، وهذا ليس من البدعة في شيء، فقد أمر الله بالذكر مطلقاً، فقال: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً”.[11] والأذكار منها الواجب والمسنون والمستحب والجائز؛ والوِرْد هو تحديدٌ محمود لـمُطلق مندوب:

وهاهو ابن القيم يقول: “وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: من واظب على (يَا حَيُّ يَا قَيُّومْ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ) كل يوم بين سُنَّة الفجر وصلاة الفجر أربعين مرة أحيى الله بها قلبه”،[12] وهذا النوع من الذكر فيه تخصيص الصيغة والعدد، وفيه تخصيص الزمن، ولم يأت في كتاب ولا في سُنّة، وهذا لا يجوز عند البعض لأنه بدعة!

وقال ابن القيم كذلك عن شيخه ابن تيمية: “كان يُدنيني منه حتى يُجلسني إلى جانبه، وكنت أسمع ما يتلو وما يذكر حينئذ، فرأيته يقرأ الفاتحة ويُكررها، ويقطع ذلك الوقت كله أعني من الفجر إلى ارتفاع الشمس في تكرير تلاوتها، ففكرت في ذلك، لِمَ قدْ لزِم هذه السورة دون غيرها ؟…”.[13]

فهاهنا كذلك التزامٌ ومواظبة على نوعٍ من الذكر، فيه تخصيص سورة من القرآن يُكررُ تلاوتها في وقت مُخصَّص، وكلُّ ذلك لا دليل عليه من السنة! فأين المنكرون والمتنطِّعون والمعارضون؟ وأين الدليل على هذا وذاك من السنة؟…

إنه تحديدٌ وتخصيصٌ محمود لمُطلق مندوب “والمداومة على عمل من أعمال البر ولو كان مفضولاً أحب إلى الله من عمل يكون أعظم أجراً لكن ليس فيه مداومة” على حد قول ابن حجر العسقلاني في “فتح الباري”.[14]

 

الهوامش:


[1]– قال الله تعالى‏:‏ ‏”وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ” ‏[سورة ‏الأعراف‏، الآية: ‏205‏].

[2]– قال الله تعالى‏:‏ “وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ” [سورة غافر، الآية: 55].

[3]– قال الله تعالى‏:‏ “وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ” [سورة ق، الآية: 39].

[4]– قال الله تعالى‏:‏ “وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّك بُكْرَةً وَأَصِيلًا” [سورة ‏الإنسان‏، الآية: ‏25‏]، و قال عز وجل‏:‏ “يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوا ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً” [سورة ‏الأحزاب‏، الآيات: ‏41-42‏].

[5]– أخرجه مسلم في الصحيح، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، دار ابن حزم، ص 376، أخرجه  كذلك: أبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه في “السنن”، ومالك في “الموطأ”، وأبو عبيد في “فضائل القرآن”، وعبد الرزاق في “مصنفه”، وابن حبان فـي “صحيحه” كما في “الإحسان”.

[6]– ابن الأثير، “الـنـهـايـة”،  المكتبة العلمية، بيروت، 1979م، (1/376).

[7]– “شرح سنن ابن ماجه” للسندي، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فيمن نام عن حزبه من الليل،  بيت الأفكار الدولية، الأردن، الطبعة 1، (1/583).

[8]– صحيح البخاري، كتاب الرقاق، دار الحديث، القاهرة، 2004م، (4/209).

[9]– “فتح الباري”، دار الحديث، القاهرة، 2004م، (11/336).

[10]– “مجموع رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي”، “المحجة في سير الدلجة”، ج4 ص 409.                   

[11]– سورة الأحزاب، الآيات: 41-42.

[12]– “مدارج السالكين”، دار الحديث، القاهرة، 2005م، ج1 ص360.

[13]– “الأعلام العلية”، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 2005م، الفصل 4، ص594-595.

[14]– “فتح الباري”، دار الحديث، القاهرة، 2004م، ج11 ص336.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق