مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراثشذور

الاعتبارات التي ينبغي النظر فيها مِن قِبل القضاة

قال السّلطان العلاّمة سيدي محمد بن عبد الله العلوي(ت1204هـ) في رسالة بعث بها إلى القضاة يُوجّههم فيها إلى المسائل التي يجب اعتبارها قبل إصدار الأحكام، هذا نصها كما أوردها القاضي العباس بن إبراهيم المراكشي في كتابه«الإعلام بمن حلّ مرّاكش وأغمات من الأعلام»:

«بسم الله الرحمن وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.

مسائل المذهب باعتبار الحكم فيها وفاقا وخلافا على خمسة أقسام:

الأول: ما هو متفق على إثبات الحكم فيه.
الثاني: ما أثبتَ الحكمَ فيه الأكثرُ كالثلثين، ونفاهُ الأقلُّ كالثلث، وهو المعروف عند الفقهاء بالمشهور والراجح.
الثالث: ما اختُلف فيه على قولين متساويين إثباتا ونفيا.
الرابع: ما أثبت الحكمَ فيه الأقلُّ كالثلث ونفاه الأكثرُ، وهو المسمّى عند الفقهاء بالمرجوح وبمقابل الراجح والمشهور.
الخامس: هو ما أثبتَ الحكمَ فيه رجلٌ أو رجلان ونفاه الباقي وهو المسمّى بالشاذّ.

فالأقسامُ الأربعة ما عدا الأخيرة نعمل بها كلَّها في عبادتنا، والقسم الخامس وهو الشاذّ لا نعمل به فيها، وأما غير العبادات مما يتعلق به حقوق العباد كالنكاح والطلاق والعتق والمعاملات الجارية بين الناس، فالعمل عندي فيها بالأقسام الثلاثة، وهي المتّفق عليه والمشهور، وما تساوى فيه الطرفان، وأما القسمان الباقيان وهما مقابل المشهور والشاذّ فلا أعمل بهما في حقوق العباد خوفاً من المحذور بخلاف العبادة، فأعمل فيها بمقابل المشهور دون الشاذّ؛ لأن العبادة بيني وبين ربّي، ودينُ الله يسر، كما قال تعالى:«وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدّينِ من حَرَجٍ»، وقال صلى الله عليه وسلم:«من غَصَبَ شِبرا من الأرض طوّقه من سبعين أرضين يوم القيامة».

والرّجال الذين ذكرتُ يعتبر اتفاقهم واختلافهم؛ فإنما أعني بهم أصحابَ الإمام مالك الذين حملوا عنه مذهبه كابن القاسم، وأشهب، وابن نافع، وابن وهب، ومُطرّف، وابن الماجِشون وغيرهم ممن أدرك الإمام مالكا، وكذلك الذين جاؤوا بعده ولم يدركوه فأخذوا عن أصحابه كسحنون وابنه محمد، وأَصْبَغ، وابن الـموّاز، وابن حبيب، وابن عَبْدُوس، والقاضي إسماعيل، وغيرهم، وكذلك الذين جاؤوا بعد هؤلاء كالأَبْهري، وابن أبي زيد، والقابسي، وابن القصّار، والقاضي عبد الوهّاب، وأضرابهم، ثم تلامذتهم كأبي بكر بن عبد الرحمن، وأبي عمران الفاسي، وابن يونس، وابن شعبان، ثم اللّخمي، والمازَري، وابن رشد، وابن العربي، وسَنَد، وعياض، وأمثالهم، ولست أعني الأجهوري وأصحابه، وكل فتوى أفتى بها الأجهوريون فإن وافقت قول العلماء الأقدمين الذين تقدم ذكرهم فنعمل بها، وإن لم توافقهم فلا نعمل بها، وننْبُذُها وراء ظهورنا.

فيجب على القاضي أن يحكم في حقوق الناس بالمتفق عليه، ثم بقول الأكثر وهو المشهور، ثم بأحد القولين المتساويين بعد أن يجتهد في القول الذي يحكم به منهما خشية أن يُضيّع حقَّ المساكين ويَمِيلَ إلى قويّ، فكل من ثبت له حقّ من المساكين بأحد القولين المتساويين فليُثْبته له بذلك القول، وليُلْغِ القولَ الذي يَبطُل به حقُّ المسكين، فإذا حكم القاضي بما ذكرنا كان قد اسْتَبْرَأَ لدينه وعِرْضه، وأين القضاة الذين كانوا يحكمون بما ذكرنا ولا يُهمِلُون حقَّ المساكين؟ وإنما نظرُ القضاة اليوم إلى صاحب المال لماله، وصاحب الجاه لجاهه، فيحكمون لهم ويُغَلِّبُونهم على المساكين بالقول الشاذّ والعياذ بالله.

وأما أنا فكل قضية وصلت إلينا فإننا ننظر في الحكم الذي حكم به القاضي، فإن وجدناه حكم بالمتفق عليه فعلى بركة الله، وإن وجدناه حكم بأحد القولين المتساويين وأثبت حقَّ المسكين وألغى الطرف الآخَرَ فكذلك، وإن وجدناه حكم بالقول الآخَرِ الّذي يُلْغِي فيه حقَّ المسكين فلا يلومنَّ إلا نفسه، وكذلك إذا حكم بالقول الشاذّ، فإنه يجب على السلطان نزعه وعقوبته».

المصدر:«الإعلام بمن حلّ مراكش وأغمات من الأعلام»(6/121ـ123) للقاضي العباس بن إبراهيم السّملالي المراكشي(ت1378هـ) تحقيق عبد الوهاب بن منصور، نشر المطبعة الملكية بالرباط، ط2/1422هـ/2001م.

Science

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق