مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةمفاهيم

الاستفهام المكرر في القرآن العظيم ومذهب السبعة فيه

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على على من لا نبي بعده، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه.

وبعد:

فقد اجتمع الاستفهامان في بعض المواضع في القرآن الكريم، وقد عبر عنه الشاطبي بالتكرار في حرزه(1) فقال: «وما كرر استفهامه»، وكذا ابن بري في درره(2) حيث يقول: «فصل والاستفهام إن تكررا»، لكن الغالب في كتب القراءات تعبيرهم عنه بالاستفهامين إذا اجتمعا.

تعريف الاستفهام المكرر ومواضعه

هذا المبحث هو من باب الهمزتين من كلمة، لكن كثير من المصنفين يذكره في أول سورة الرعد؛ لأنه أول ورود له، والمقصود به اجتماع استفهامين في آية أو في آيتين متجاورتين، ويراد بالاستفهام ما فيه همزتان على بعض التقادير لا على كل تقدير؛ لئلا يرد الحاذف، وخرج عنه نحو: «أَتَأْتُونَ ..أَئِنَّكُمْ» بالأعراف، ويراد أيضا لفظ الاستفهام وإن دخل معنى التعجب والإنكار(3).

وجملة ما ورد من ذلك في كتاب الله تعالى أحد عشر موضعاً: 

في الرّعد موضع [الآية: 5]: ﴿أَ۟ذَا كُنَّا تُرَٰباً اِنَّا لَفِے خَلْقٖ جَدِيدٍ﴾. 

وفي الإسراء موضعان [الآيات: 49-50 و98-99]: ﴿أَ۟ذَا كُنَّا عِظَٰماٗ وَرُفَٰتاً اِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاٗ جَدِيداٗۖ ٤٩ قُلْ كُونُواْ﴾، ﴿ أَ۟ذَا كُنَّا عِظَٰماٗ وَرُفَٰتاً اِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاٗ جَدِيداًۖ ٩٨ اَوَلَمْ يَرَوْا﴾ . 

وفي المومنين موضع [الآية: 82]: ﴿أَ۟ذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباٗ وَعِظَٰماً اِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾. 

وفي النّمل موضع [الآية: 69]: ﴿إِذَا كُنَّا تُرَٰباٗ وَءَابَآؤُنَآ أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ﴾. 

وفي العنكبوت موضع [الآيتان: 27-28]: ﴿إِنَّكُمْ لَتَاتُونَ اَ۬لْفَٰحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنَ اَحَدٖ مِّنَ اَ۬لْعَٰلَمِينَۖ ٢٧ أَئِنَّكُمْ لَتَاتُونَ اَ۬لرِّجَالَ﴾. 

وفي السّجدة موضع [الآية: 9]: ﴿أَ۟ذَا ضَلَلْنَا فِے اِ۬لَارْضِ إِنَّا لَفِے خَلْقٖ جَدِيدِۢ﴾. 

وفي والصّافات موضعان [الآيتان: 16-53]: ﴿اَ۟ذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباٗ وَعِظَٰماً اِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾، ﴿أَ۟ذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباٗ وَعِظَٰماً اِنَّا لَمَدِينُونَ﴾. 

وفي الواقعة موضع [الآية: 50]: ﴿أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباٗ وَعِظَٰماً اِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾. 

وفي والنّازعات موضع [الآيتان: 10-11]: ﴿أَ۟نَّا لَمَرْدُودُونَ فِے اِ۬لْحَافِرَةِ ١٠ إِذَا كُنَّا عِظَٰماٗ نَّخِرَةٗ﴾.

وكلّها يجتمع الاستفهامان منها في آية، سوى العنكبوت والنّازعات فإنّهما من آيتين(4).

ونقل المنتوري عن من تكلم على رجز ابن بري قال: «وانظر قول النّاظم: «والاستفهام إن تكرّرا»، فإنّه يقتضي أنّ كلّ ما تكرّر فيه الاستفهام فحكمه ما ذكره، وقد تكرّر في غير هذه المواضع الأحد عشر، ولم يكن حكمه كما قال، مثل قوله في الأعراف [الآيتان: 79-80]: ﴿وَلُوطاً اِذْ قَالَ لِقَوْمِهِۦٓ أَتَاتُونَ اَ۬لْفَٰحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنَ اَحَدٖ مِّنَ اَ۬لْعَٰلَمِينَۖ ٧٩ إِنَّكُمْ لَتَاتُونَ اَ۬لرِّجَالَ﴾، وكقوله في النّمل [الآيتان: 56-57]: ﴿وَلُوطاً اِذْ قَالَ لِقَوْمِهِۦٓ أَتَاتُونَ اَ۬لْفَٰحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَۖ ٥٦ أَئِنَّكُمْ لَتَاتُونَ اَ۬لرِّجَالَ﴾؛ وليس ذلك من الاستفهام المكرّر المصطلَح عليه عند القرّاء؛ لأنّ قوله: ﴿أَتَاتُونَ﴾ في الآيتين جميعا لم يختلف فيه في الاستفهام، وكذلك ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَاتُونَ اَ۬لرِّجَالَ﴾ في النّمل لم يختلف فيه في الاستفهام أيضا، وإنّما الخلاف في: ﴿إِنَّكُمْ لَتَاتُونَ اَ۬لرِّجَالَ﴾ في الأعراف، والمقصود هنا ما وقع فيه الخلاف، في الأوّل والثّاني جميعا نحو: ﴿أَ۟ذَا﴾، ﴿أَئِنَّا﴾. وقال مكيّ في التّبصرة: واختلفوا في الاستفهامين إذا اجتمعا، نحو: ﴿أَ۟ذَا﴾ و﴿أَئِنَّا﴾. وقال الشّاطبي في قصيدته:

وَمَا كُرِّرَ اسْتِفْهَامُهُ نَحْوَ أَٰءِذَا
أَءِنَّا فَذُو اسْتِفْهَامٍ الْكُلُّ أَوَّلاَ

فخرج من ذلك ﴿أَتَاتُونَ﴾ في الموضعين، لاتّفاق القرّاء فيهما على الاستفهام، وكذلك قوله تعالى في والصّافات [الآية: 52]: ﴿أَ۟نَّكَ لَمِنَ اَ۬لْمُصَدِّقِينَ﴾؛ إذ لا خلاف فيه في الاستفهام، وقد تكرّر هنا في ثلاثة ألفاظ، وليس المقصود إلاّ اللّفظين الأخيرين. قال الدّاني في الإيضاح: فإن قال قائل: فما تقول في الاستفهامات الثّلاثة الّتي اجتمعت في سورة «والصّافات» دون سائر القرآن؟ وهي قوله: ﴿أَ۟نَّكَ لَمِنَ اَ۬لْمُصَدِّقِينَ ٥٢ أَ۟ذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباٗ وَعِظَٰماً اِنَّا لَمَدِينُونَ﴾، هل الاستفهامان الأوّلان هما المختلف فيهما، في الجمع بينهما وفي الإخبار بأحدهما، أم هما الأخيران؟. قال: قلت: هما الأخيران دون الأوّلين، وهما قوله: ﴿أَ۟ذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباٗ وَعِظَٰماً اِنَّا لَمَدِينُونَ﴾؛ لكونهما متّصلين، وأحدهما علّة للآخر، ووقوعهما في آية واحدة، وكون قوله: ﴿أَ۟نَّكَ لَمِنَ اَ۬لْمُصَدِّقِينَ﴾ منفردا في آية أخرى، وكون المعنى فيه غير المعنى الّذي هو فيهما، فلذلك لم يدخل في جملة الاستفهامين، وصار من جملة الاستفهام المفرد. فكان من حقّ النّاظم أن يقيّد ذلك كما قيّده غيره لئلاّ   يدخل في لفظه ما لا خلاف فيه ممّا ذكر». 

وقد رد عن هذا الاعتراض الشيخ الأستاذ أبو عبد الله القيجاطي رضي الله عنه فقال: «الاستفهامان الواقعان في القرآن يشترط فيهما شرطان: أن يرجعا معا إلى شيء واحد،  وأن يكون كلّ واحد منهما يحتمل الاستفهام والخبر، فلا يحتاج كلام النّاظم إلى تقييد، ولا تدخل عليه المواضع الثّلاثة المذكورة، لأنّها لا يصلح فيها الشّرطان، فيطلق عليهما استفهام»(5).

مذهب السبعة في الاستفهامين إذا اجتمعا

اختلف السبعة في الاستفهامين إذا اجتمعا، وهذا الاختلاف على ثلاثة أقسام:

  1. الإخبار بالأول والاستفهام بالثاني.
  2. عكسه: وهو الاستفهام بالأول والإخبار بالثاني.
  3. جمع الاستفهامين.

فكان نافع والكسائيُّ يجعلان الأول منهما استفهاما والثانيَ خبرا، ونافعٌ يجعل الاستفهام بهمزة محققة وبعدها همزة مسهلة بين بين، ويدخل قالون بينهما ألفا. والكسائيُّ يجعله بهمزتين محققتين. وخالف نافع أصله هذا في النمل والعنكبوت فجعل الأول منهما خبرا والثاني استفهاما. وخالف الكسائي أيضا أصله في العنكبوت خاصة؛ فجعلهما جميعا استفهاما، وزاد في النمل نونا في الخبر فقرأ: «إِنَّنَا لَمُخْرَجُونَ» بنونين. 

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالجمع بين الاستفهامين بهمزة محققة وأخرى مسهلة في جميع القرآن. وابن كثير لا يمدّ بعد الهمزة، وأبو عمرو يمد. وخالف ابن كثير أصله في موضع واحد في العنكبوت فجعل الأول منهما خبرا. 

وقرأ عاصم وحمزة بالجمع بين الاستفهامين بهمزتين حيث وقعا، وخالف حفص أصله في الأول من العنكبوت فقط؛ فجعله خبرا بهمزة واحدة مكسورة. 

وقرأ ابن عامر بجعل الأول من الاستفهامين خبرا بهمزة واحدة مكسورة، والثاني استفهاما بهمزتين، وأدخل هشام بين الهمزتين ألفا، ولم يدخلها ابن ذكوان حيث وقعا. وخالف أصله في ثلاثة مواضع؛ في النمل والواقعة والنازعات، فقرأ في النمل والنازعات بجعل الأول استفهاما والثاني خبرا، وزاد نونا في الخبر في النمل مثل الكسائي، وقرأ في الواقعة بجعلهما جميعا استفهاما بهمزتين، وهشام على أصله يدخل ألفا بين الهمزتين(6).

ويمكن أن تقسم هذه المواضع إلى قسمين باعتبار التزام القراء بمذاهبهم أو مناقضتهم لأصولهم:

القسم الأول: فيه سبعة مواضع لها حكم واحد، أولها موضع سورة الرعد، وثانيها وثالثها في سورة الإسراء، ورابعها في سورة المومنين، وخامسها في سورة ألم السجدة، وسادسها وسابعها في سورة والصافات. فحكمه هذه المواضع أن نافعا والكسائي يستفهمان في الأول ويخبران في الثاني، وأن ابن عامر يخبر في الأول ويستفهم في الثاني، وأن الباقين يستفهمون في الأول والثاني، وهم على أصولهم في تحقيق الهمز أو تسهيله، أو إدخال الألف بين الهمزتين.

القسم الثاني وفيه أربعة مواضع:

الموضع الأول، سورة النمل: وحكمها أن نافعا يخبر في الأول ويستفهم في الثاني، وأن ابن عامر والكسائي يستفهمان في الأول ويخبران في الثاني، وأن الباقين يستفهمون في الأول والثاني.

الموضع الثاني، سورة العنكبوت: وحكمها أن نافعا وابن كثير وابن عامر وحفص يخبرون في الأول ويستفهمون في الثاني، وأن الباقين يستفهمون في الأول والثاني.

الموضع الثالث، سورة الواقعة: وحكمها أن نافعا والكسائي يستفهمان في الأول ويخبران في الثاني، وأن الباقين يستفهمون في الأول والثاني.

الموضع الرابع، سورة النازعات: وحكمها أن نافعا وابن عامر والكسائي يستفهمون في الأول ويخبرون في الثاني، وأن الباقين يستفهمون في الأول والثاني. 

وهم على أصولهم في الهمز كما تقدم(7).

وجه الاستفهام المكرر

قال مكي: «فأما علة الاستفهام والخبر؛ فعلة من استفهم في الأول والثاني أنه أتى بالكلام على أصله في التقرير والإنكار، أو التوبيخ بلفظ الاستفهام، ففيه معنى المبالغة والتوكيد، فأكد بالاستفهام هذه المعاني، وزاده توكيدا بإعادة لفظ الاستفهام في الثاني، فأجراهما مجرى واحدا.

وحجة من أخبر في أحدهما واستفهم في الآخر أنه استغنى بلفظ الاستفهام في أحدهما عن الآخر؛ إذ دلالة الأول على الثاني كدلالة الثاني على الأول، وأيضا فإن ما بعد الاستفهام الثاني في أكثر هذه المواضع تفسير للعامل الأول في «إذا» الذي دخل عليها حرف الاستفهام، فاستغنى عن الاستفهام في الثاني بالأول»(8).

وقال المهدوي: «من استفهم بالأول وأخبر بالثاني فإنه أدخل الاستفهام على صدر الكلام واستغنى به عن الاستفهام بالثاني؛ لأن كل واحدة من الجملتين متعلقة بالأخرى. ويقوي ذلك أن الذي بعد ألف الاستفهام فعل مضمر دل عليه «إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ»، و«إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ»، فالتقدير: أنبعث إذا كنا ترابا. فدخول ألف الاستفهام على هذا الفعل المضمر حسن؛ لأن الاستفهام إنما وقع على البعث، ويقوي ذلك عز وجل: «أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ
اَ۪نقَلَبْتُمْ عَلَيٰٓ أَعْقَٰبِكُمْ»، وقوله: «أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ اُ۬لْخَٰلِدُونَ» فدخلت ألف الاستفهام على الأول وموضع الاستفهام هو الثاني؛ لأن المعنى: أفتنقلبون على أعقابكم إن مات أو قتل. وكذلك المعنى: أفهم الخالدون إن مت.

ومن أخبر بالأول واستفهم بالثاني فإنه أوقع الاستفهام في موضعه الذي هو عمدته؛ لأن استفهامهم إنما وقع عن البعث لا عن كونهم ترابا. فالمعنى: نبعث إذا كنا ترابا. وأيضا لو كان الأول بمعنى الاستفهام وقرئ على الخبر لجاز لدلالة الثاني عليه،؛ لأن الدلالة تقع بما بعد كما تقع بما قبل، كما قال: «وَلَا تَحْسِبَنَّ اَ۬لذِينَ يَبْخَلُونَ»، يريد: ولا تحسبن بخل الذين يبخلون. فدل «يبخلون» على «بخل» وهو بعده.

ومن استفهم بالاستفهامين جميعا فإنه جعل الاستفهام في الأول إذ هو صدر الكلام، ثم أعاده في الثاني إذ كان هو موضع الاستفهام. وكذلك شأن العرب إذا قدمت شيئا في غير موضعه أن تعيده في موضعه، من ذلك قوله عز وجل: «أَيَعِدُكُمُۥٓ أَنَّكُمُۥٓ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباٗ وَعِظَٰماً اَنَّكُم مُّخْرَجُونَ»، والمعنى: أيعدكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون، فلما قُدمت «أن» قبل موضعها أعيد ذكرها»(9).

  1.  حرز الأماني ووجه التهاني بيت 789.
  2. الدرر اللوامع في مقرإ الإمام نافع بيت 107.
  3. ينظر: كنز المعاني للجعبري 4/ 1803.
  4. ينظر: التبصرة ص241.
  5. ينظر: شرح الدرر للمنتوري 1/329-330.
  6. ينظر: التيسير ص290.
  7. ينظر: شرح الفاسي 3/61-62، كنز المعاني 4/1805-1806.
  8. الكشف 2/ 21.
  9. شرح الهداية 2/ 369-370.

ذ.سمير بلعشية

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق