وحدة الإحياءدراسات محكمة

الاستحسان وأهميته في تفعيل الاجتهاد المقاصدي

إذا كان تقويم مناهج الفكر والاجتهاد عند المسلمين وإصلاحها يعتبر من أهم ما ترمي إليه الأمة لإعادة الارتباط الوثيق بين تعاليم الإسلام ومبادئه وبين واقع المسلمين وممارساتهم؛ فإن من أبرز وسائل تحقيق هذه الغاية تجاوز الإغراق في الانشغال بالجزئيات إلى النظر إليها في ضوء الكليات، والانتقال من التوقف عند الأشكال والرسوم إلى الكشف عن الحقائق والمضامين، والتحرر من التقيد التام بالوسائل إلى العمل معها على تحقيق الغايات والمقاصد، مما يؤهل الفكر الإسلامي للخروج من التقليد والتبعية إلى الأصالة والإبداع.

ولا غرو أن أهم وسائل تحقيق ذلك في مجال الاجتهاد الفقهي الذي سنتناول هنا أحد دعائمه الأساسية؛ الاهتمام بكشف وبيان علل الأحكام الجزئية ومقاصد الشريعة العامة، بما يجلي أن أحكام الشريعة كلها تدور حول تحقيق مصالح الإنسان ودفع المفاسد عنه. على أن تلك الحكم والعلل والغايات والمقاصد قد تشتمل عليها نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وتنص عليها بعباراتها، وقد يصل إليها العلماء بالاجتهاد في فهم الكتاب والسنة وإعمال سائر الأدلة التي بنيت عليهما؛ بما يؤدي إلى استخراج مناط كل حكم وكشف وتوضيح المصالح التي يحققها والمفاسد التي يدفعها.

وبذلك ندرك أهمية الاجتهاد بالرأي في تحقيق قدرة هذه الشريعة على تلبية حاجات الناس وتحقيق مصالحهم على اختلاف الأزمنة والأمكنة؛ ومن ذلك العمل بالاستحسان الذي نرمي إلى بيان النهج المقاصدي في العمل به وأهميته في الاجتهاد.

أولا: نشأة العمل بالاستحسان والاختلاف فيه

1. مبدأ الاستحسان في عصر نشأة الفقه الاجتهادي

إن المتتبع لتاريخ الفقه الإسلامي منذ نشأته الأولى يلحظ أن الصحابة والتابعين لم يكونوا يهتمون بالمصطلحات التي ظهرت بعدهم كالقياس والاستحسان، ولكنهم كانوا يلجؤون في آرائهم وفتاويهم وأقضيتهم إلى الاجتهاد عندما لا يجدون في النازلة نصا من القرآن أو من السنة، فيستلهمون في اجتهاداتهم مقاصد الشريعة وقواعدها العامة.

ومما حفظ لنا تاريخ التشريع من ذلك؛ أنه كان للضحاك بن خليفة الأنصاري أرض لا يصل إليها الماء إلا إذا مر بأرض لمحمد بن مسلمة، فأبى هذا الأخير أن يدع الماء يمر بأرضه، فشكى الضحاك أمره لعمر بن الخطاب، فقضى له بمرور الماء، وكان في هذا مصلحة للضحاك ولا ضرر فيه على ابن مسلمة[1]. ومن ذلك أيضا أن رقيقا لحاطب سرقوا ناقة لرجل من مزينة فانتحروها، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، وبعد أن روّى في الأمر قال: أراك تجيعهم، وأسقط عنهم الحد وأغرم صاحب العبيد ضعف ثمن الناقة للمزني[2]. كما عرف عن علي بن أبي طالب والقاضي شريح بن الحارث أنهما كانا يذهبان إلى تضمين الصناع ما يضيع عندهم بلا تعد منهم؛ من ذلك أن شريحا ضمن قصارا احترق بيته، فقال: تضمنني وقد احترق بيتي! فقال شريح: أرأيت لو احترق بيته أكنت تترك له أجرك؟[3].

فمن هذه الأمثلة، وغيرها كثير، يتبين أن الأحكام التي ذهب إليها كل من عمر وعلي وشريح لم يكن طريقها النص من الكتاب أو السنة، ولا ما عرف فيما بعد بالقياس؛ لأنه كان يوجب أحكاما تغايرها بأن يترك محمد بن مسلمة حرا في عدم سماحه بإمرار الماء لجاره لأن له أن يتصرف في ملكه كما يشاء، وبأن ينفذ حد القطع على من سرقوا ناقة المزني، وبأن لا يضمن الصانع ما تلف لديه بلا تعد منه. ولكن تلك الأحكام روعي فيها قواعد الشرع العامة التي توازن بين جلب المصلحة ودرء المفسدة واتباع طريق الاجتهاد بالرأي، وهو ما اصطلح عليه فيما بعد بالاستحسان؛ حيث يرى المجتهد أن تطبيق النص على عمومه أو القياس المتبادر إلى الذهن في المسألة الواقعة يؤدي إلى ضيق وحرج أو يفوت مصلحة راجحة أو يفضي إلى مفسدة بينة، فيعدل حينئذ عن ذلك إلى حكم آخر يصل إليه باجتهاده ويستحسنه لخلوه عما ذكر.

غير أن هذا المبدأ والأصل الاجتهادي لم يكن محل اتفاق بين العلماء؛ حيث اختلفوا فيه تبعا للخلاف الذي ظهر بينهم في العمل بالرأي والتوسع فيه أو عدم العمل به إلا في حدود ضيقة.

2. الاستحسان بين العاملين به والرافضين له

رفضت بعض الفرق والمذاهب الإسلامية العمل بالاستحسان تبعا لرفضهم الأخذ بالرأي والقياس؛ ومنهم بعض الشيعة وعلى رأسهم الإمام جعفر الصادق ثم المعتزلة وفي طليعتهم إبراهيم النظام وفيما بعد الظاهرية، على أن الذي يثير الانتباه هو موقف الإمام الشافعي من الاستحسان؛ فرغم أنه دافع عن العمل بالقياس إلا أنه خالف القائلين بالاستحسان بشدة ورأى أن العمل به ليس عملا بدليل شرعي يعتبر، بل إنه في نظره عمل بالهوى المذموم شرعا.

أما الذين تزعموا القول بالاستحسان واشتهر عنهم فهم الحنفية ابتداء من الإمام أبي حنيفة وبعض شيوخه الذين عملوا بالرأي، مرورا ببعض فقهاء المذاهب الأخرى الذين عملوا بالاستحسان أمثال الإمام مالك الذي حكمه في كثير من المسائل واعتبره “تسعة أعشار العلم[4]“، وصولا إلى بعض تلاميذ أبي حنيفة الذين حملوا لواء القول به ومن أبرزهم الإمام محمد بن الحسن الشيباني والقاضي أبو يوسف يعقوب.

على أنه بالنسبة للمذهب الحنبلي فإن كثيرا من أتباع الإمام أحمد ذكروا أصوله التي اعتمدها في الاجتهاد ولم يذكروا منها الاستحسان، ولعل ذلك راجع لكونه لم يعتبر الاستحسان أصلا قائما بنفسه، بل اعتبره معنى من معاني القياس؛ فكان يرجع مسائل الاستحسان إلى القياس، وقد يرجعها إلى أصول أخرى كالاستصحاب أو المصلحة المرسلة، بالإضافة إلى قلة اعتماده عليه في اجتهاده لكونه من أئمة مدرسة الحديث، وقد تتلمذ على الإمام الشافعي وتأثر به فكان يعتمد كثيرا على النصوص والآثار ويدور في فلكها، حتى ورد عنه ما يدل على إنكار العمل بالاستحسان الذي لا يعتمد على دليل شرعي[5].

3. موقف رفض الاستحسان ورد اعتراضاته

يمكننا تقسيم الموقف الرافض للعمل بالاستحسان إلى قسمين: أحدهما؛ يتبنى رفضه بمفهومه الاصطلاحي مطلقا؛ وأبرز من دافع عن هذا الموقف ابن حزم، وثانيهما؛ يصرح برفضه لكن يؤخذ من كلامه أنه إنما ينكره لعدم استناده على دليل شرعي؛ وقد كان الشافعي أبرز من تبنى هذا الموقف ودافع عنه. وسنقف أولا على مضمون موقف ابن حزم لارتباطه برفض إعمال الرأي عامة والأدلة المتصلة به، ثم نبين وجهة نظر الشافعي بتفصيل أكثر؛ لما يثيره من إشكال موقفه الآخذ بالرأي والمدافع عن العمل بالقياس والمنكر في نفس الوقت للاستحسان.

  • موقف ابن حزم

إن إنكار العمل بالاستحسان بإطلاق بمعناه الاصطلاحي يقتصر على الرافضين للعمل بالقياس والرأي عامة، وهم كما أشرنا لذلك فريق من الشيعة ثم المعتزلة وأخيرا الظاهرية الذين تبلورت هذه الفكرة معهم أكثر خاصة على يد أبي محمد علي بن حزم المتوفى سنة 456ﻫ، الذي يعتبر رأيه في هذه القضية امتدادا لآراء من كانوا قبله.

وواضح أن ابن حزم قد اطلع على معنى الاستحسان الاصطلاحي عند الأئمة السابقين من خلال وقوفه على اجتهاداتهم فكان إنكاره لهذا الدليل متوجها إلى معناه الاصطلاحي؛ حيث اتجه في بداية أمره إلى دراسة الفقه المالكي الذي كان المذهب السائد في الأندلس، ثم درس المذهب الشافعي ومن خلال دراسته له اطلع على مذهب أهل الرأي العراقيين، ولعل الذي أعجبه من المذهب الشافعي شدة تمسكه بالنصوص، ثم ما لبث أن انتقل إلى مذهب أهل الظاهر متأثرا بعدة شيوخ على هذا المذهب.

وقد عقد في كتابه “الإحكام في أصول الأحكام” باباً “في الاستحسان والاستنباط في الرأي وإبطال كل ذلك”؛ ومما قال فيه: ولا سبيل إلى الاتفاق على استحسان شيء واحد، ونحن نجد الحنفيين قد استحسنوا ما استقبحه المالكيون، ونجد المالكيين قد استحسنوا قولا قد استقبحه الحنفيون، فبطل أن يكون الحق في دين الله مردودا إلى استحسان بعض الناس[6]. ثم قال: ونحن نقول لمن قال بالاستحسان: ما الفرق بين ما استحسنت أنت واستقبحه غيرك، وبين ما استحسنه غيرك واستقبحته أنت؟ وما الذي جعل أحد السبيلين أولى بالحق من الآخر؟ وهذا ما لا انفكاك منه[7].

ومعلوم أن موقف ابن حزم ينبني على رفض استعمال الرأي عامة في الاجتهاد الفقهي، ويكفي في رد موقفه واعتراضه بيان أن الاستحسان إنما يشرع عند القائلين به عندما يكون اطراد العمل بالقياس مفضيا إلى الغلو وإيقاع الظلم على المكلفين، أو إلحاق الحرج والمشقة بهم؛ ومن ثمة يأتي العمل بالاستحسان لرفع ذلك الظلم والحرج عنهم.

  • موقف الشافعي

كان محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204ﻫ يرد على القائلين بالاستحسان ويعترض عليهم؛ وخاصة منهم الأحناف وعلى رأسهم محمد بن الحسن الذي تتلمذ عليه الشافعي وأخذ عنه كثيرا من الفقه وخالفه في مسائل فقهية كثيرة كما خالفه وفقهاء آخرين في القول بالاستحسان؛ حيث تحدث عن هذا الدليل منكرا أن يكون من مصادر التشريع الإسلامي، وقد عقد في مؤلفه “الأم” فصلا بعنوان: “كتاب إبطال الاستحسان[8]” فصل فيه أدلة اعتراضه عليه، كما عقد لنفس الغرض في كتابه “الرسالة” فصلا بعنوان: “باب الاستحسان[9]“. ومن خلال ما ذكر في هذين المؤلفين يمكننا أن نستخلص أهم أدلته في إبطال الاستحسان وهي:

أولا؛ قول الله تعالى: ﴿أيحسب الاِنسان أن يترك سدى﴾ (القيامة: 35)، مع أمر الرسول، صلى الله عليه وسلم، بلزوم جماعة المسلمين، وذلك يدل على أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قد بين الشرع كله، وأن الله تعالى لم يترك الأمر سدى فيما يتعلق بالأوامر والنواهي؛ ومن ثمة فلا يكون اجتهاد إلا في فهم نص أو قياس على نص.

ثانيا؛ الآيات الدالة على وجوب اتباع ما جاء في القرآن والسنة؛ كقوله تعالى: ﴿أطيعوا الله وأطيعوا الرسول﴾ (النساء: 58)، وغيرها من الآيات الدالة على وجوب اتباع الكتاب والسنة دون سواهما، ولما كان الاستحسان ليس فيه إلحاق بالكتاب والسنة، وليس هناك نص يسوغ الأخذ به، فالاجتهاد به يزيد على ما جاء في الأصلين، وليس لأحد اتباع غيرهما.

ثالثا؛ عدم إفتاء النبي، صلى الله عليه وسلم، باستحسانه؛ حيث كان يسأل عن الأمر لم ينزل فيه قرآن فلا يفتي باستحسانه وإنما ينتظر حتى ينزل عليه الوحي.

رابعا؛ استنكار النبي، صلى الله عليه وسلم، على الصحابة الذين غابوا عنه وأفتوا باستحسانهم؛ فقد كان منهم في بعض السرايا أمور أنكرها.

خامسا؛ عدم وجود ضابط للاستحسان ولا مقاييس فيه يقاس بها الحق من الباطل؛ فلو جاز لكل مجتهد أن يستحسن لاختلفت الأحكام في النازلة على حسب استحسان كل واحد بلا ضابط ولا مقياس يبين الحق فيها.

سادسا؛ لو كان الاستحسان مقبولا من العالم لجاز لغيره؛ لأن أساس الاستحسان العقل وهو متوفر عند العلماء وغيرهم.

وبهذا تبين أن الاستحسان في نظر الشافعي مجرد قول بالهوى والرأي المجرد عن الدليل، ومن ثمة فالاستناد إليه في بناء الأحكام يعتبر جهلا لا يليق بالعلماء.

ومن الواضح أن “هذا المعنى لا يقول به أحد ممن عملوا بالاستحسان (…)، وإن كلا من الإمام أبي حنيفة ومالك أجل قدرا وأشد ورعا وخوفا من الله تعالى، من أن يقولا في دين الله بالتشهي والتلذذ ومجرد العقل، من دون الاعتماد على دليل شرعي[10].”

وإنما حقيقة الاستحسان في الجملة عند القائلين به إنما هو ترك القياس على أصل معين لأثر قد ورد، أو الرجوع إلى أصول عامة، أو الرجوع إلى أصل معين آخر. والاستحسان بهذا المعنى يعتبر أمرا مقبولا ومعمولا به في حقيقة الأمر عند الشافعي نفسه أيضا؛ بدليل قوله في بيان اختلاف القائلين في سياق استدلاله على صحة الاحتجاج بالقياس: إنه قد تنزل نازلة تحتمل أن تقاس فيوجد لها في أصلين شبه، فيذهب أحد إلى أصل ويذهب آخر إلى أصل غيره فيختلفان[11].

فليس الاستحسان بمعناه الاصطلاحي عند القائلين به إلا عدولا بالمسألة من أصل إلى أصل آخر مراعاة لمصلحة معتبرة، وليس مجرد قول بالهوى والتشهي؛ ومن ثمة اعتبر بعض الباحثين أن الخلاف بين الشافعي وغيره من الأئمة والفقهاء حول هذا الدليل لا يعدو كونه خلافا لفظيا وفي التسمية فقط وليس اختلافا حقيقيا[12]. والواقع أن هناك خلافا حقيقيا بين الشافعي والقائلين بالاستحسان، سنوضحه في إطار بيان مفهوم الاستحسان وأنواعه عند أشهر القائلين به.

ثانيا: مفهوم الاستحسان وتحقيق وجه الخلاف فيه

إذا كان الشأن بالنسبة لمن قالوا بالاستحسان أنهم أجل قدرا وأكثر رسوخا في العلم من أن يبنوا الأحكام على مجرد الأهواء، فهل كان الشافعي غير عالم بمدلول الاستحسان الذي كان يقول به أولئك الفقهاء في عصره؛ حتى جاء رده عليهم غير مطابق لما كانوا يقصدونه في عملهم بالاستحسان، مع كونه قد التقى بالكثير منهم وحاورهم وناظرهم؛ كما هو الشأن في مناظراته المشهورة مع أبي يوسف، بل وأخذ عن بعضهم العلم؛ كما حدث له مع مالك ومحمد بن الحسن؟

الواقع أننا لا نستسيغ أن يكون الشافعي غير عالم بحقيقة الاستحسان الذي كان يعمل به فقهاء عصره، أو أن يكون اعتراضه عليهم في ذلك غير مبني على خلاف حقيقي في شيء من مفهوم الاستحسان الذي كان يأخذ به أولئك الفقهاء، مع كونه هو الإمام والعالم الذي يعد أول من دون مباحث أصول الفقه وقواعده في أصول مضبوطة محررة، وخصص في رفضه للاستحسان فصلا كبيرا في كتابه “الأم” وفصلا آخر في كتابه “الرسالة”.

1. مفهوم الاستحسان وأنواعه عند أشهر القائلين به

لأجل الكشف عن حقيقة الأمر في هذا الخلاف الذي وقع بشأن الاستحسان؛ لابد من الوقوف على مفاهيم وأنواع الاستحسان الذي كان يعمل به القائلون به؛ وعلى رأسهم كل من أبي حنيفة ومالك وأصحابهما.

فالاستحسان عند أبي حنيفة وأصحابه كما عرفه بعض علماء المذهب الحنفي هو دليل يقابل القياس الجلي[13]، أو بتعبير آخر “هو الدليل الذي يكون معارضا للقياس الظاهر الذي تسبق إليه الأوهام قبل إنعام التأمل فيه، وبعد إنعام التأمل في حكم الحادثة  وأشباهها من الأصول يظهر أن الدليل الذي عارضه فوقه في القوة، فإن العمل به هو الواجب، فسموا ذلك استحسانا للتمييز بين هذا النوع من الدليل وبين الظاهر الذي تسبق إليه الأوهام قبل التأمل؛ على معنى أنه يمال بالحكم عن الظاهر لكونه مستحسنا لقوة دليله[14].”

ويتلخص مفهوم الاستحسان في المذهب الحنفي في خمسة أنواع: أحدها؛ ترك القياس لخبر صح عندهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم. والثاني؛ ترك القياس العقلي لإجماع الصحابة. والثالث؛ ترك القياس العقلي لآثار مروية عن بعض الصحابة. والرابع؛ ترك القياس العقلي للعرف السائد في المجتمع مما لا يخالف نصا أو قاعدة شرعية. والخامس؛ ترك القياس المتبادر إلى الذهن في المسألة لاعتبار عقلي يراه الفقيه مما يقتضي هذا الترك لأنه أكثر تحقيقا للمصلحة.

وأما مفهوم الاستحسان عند مالك وأصحابه كما حدده بعض علماء المذهب المالكي؛ فهو إيثار ترك مقتضى الدليل على طريق الاستثناء والترخص لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته[15]. كما عرف بأنه طرح لقياس يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه، فيعدل عنه في بعض المواضع لمعنى يؤثر في الحكم يختص به ذلك الموضع[16]. وبعبارة موجزة هو جمع بين الأدلة المتعارضة[17].

وينطبق هذا المفهوم للاستحسان في المذهب المالكي على سبعة أنواع: أحدها؛ استحسان بالإجماع وحقيقته وقوع الإجماع في مقابل حكم القياس الظاهر في مسألة واحدة. والثاني؛ استحسان بالعرف وهو ترك القياس الظاهر والأخذ بالعرف المقابل له. والثالث؛ استحسان بالمصلحة ويتجلى في معارضة قياس ظاهر لمصلحة شهدت نصوص الشرع بالقبول لجنسها، وهو ما يعبر عنه بتقديم مصلحة جزئية في مقابل قاعدة كلية؛ حيث تجعل المصلحة هي الأساس الذي ينبغي أن يبنى عليه القياس؛ فإذا أدى إلى غلو في الحكم مفوتا مصلحة معتبرة شرعا، فإنه يعدل عنه إلى حكم آخر يحقق المصلحة المقصودة للشارع. والرابع؛ استحسان بقاعدة رفع الحرج والمشقة؛ حيث يترك مقتضى القياس في بعض المسائل رفعا للمشقة عن الناس وإيثارا للتوسعة عنهم. والخامس؛ استحسان بمراعاة الخلاف الذي يلاحظ فيه اعتبار مآلات التصرفات درءًا لبعض المفاسد. والسادس استحسان بعمل أهل المدينة على غير قياس. والسابع استحسان بالقياس وهو معارضة قياس خفي لقياس جلي؛ فالأخذ بالقياس الخفي يعتبر استحسانا، وإن كان قليل الوقوع في الفقه المالكي.

2. تحقيق وجه الخلاف في هذا الدليل

من خلال أنواع الاستحسان المذكورة عند الحنفية والمالكية يتجلى أنه لا ينبني القول فيها على مجرد الهوى وما يخطر في الذهن؛ ومن ثمة فأغلب تلك الأنواع لا يخالف فيها الشافعي نفسه، سواء منها ترك القياس للسنة أو تركه للإجماع أو تركه لآثار الصحابة أو تركه للعرف، بل إن الشافعي عمل بذلك وسمى بعضه استحسانا.

فترك القياس للسنة ولآثار الصحابة يتجلى عنده مثلا في أن القياس يقتضي عدم دفع الزكاة إلا يوم يحل وقت أدائها، إلا أنه أجاز دفعها قبل حلول وقتها مصرحا بأنه استحسان، تاركا ذلك القياس للرخصة التي رواها في السنة والأثر الذي رواه عن ابن عمر في ذلك[18].

ومن ترك القياس العقلي للعرف السائد المعتبر شرعا أن الشافعي بنى كثيرا من أحكام مذهبه الجديد في مصر على عرف أهل هذا البلد، وترك ما بناه على عرف أهل العراق وأهل الحجاز من قبل، وإلى هذا يرجع كثير من الاختلاف بين مذهبه القديم ومذهبه الجديد[19].

ولما كان الشافعي نفسه يستعمل الاستحسان بالمدلول الذي بيناه فإن من علماء الحنفية من أشار إلى استعماله له فقال: “وليس هذا إلا كما يقول الشافعي عند تعارض الأقيسة هذا أستحسنه[20].”

وبناء على ما رأينا نستطيع أن نحدد محل النزاع بين الشافعي والقائلين بالاستحسان؛ حيث ينكشف على وجه الخصوص في الأنواع التي تقوم في جوهرها عند أبي حنيفة ومالك على ترك القياس المتبادر إلى الذهن لاعتبار آخر قد يكون قياسا خفيا يراه الفقيه مقتضيا لذلك الترك لما فيه من تحقيق للمصلحة، ويندرج في ذلك ترك مالك لمطلق القياس في بعض المسائل والرجوع فيها إلى مقررات التشريع ومقاصده العامة، كما يدخل في ذلك استثناء مسألة جزئية من أصل القياس العام فيها مراعاة لمقاصد الشريعة، ويضاف إلى ذلك الاستحسان بعمل أهل المدينة عند مالك؛ حيث كان الشافعي يعتبر الأخذ بذلك العمل والاحتجاج به أمرا مرفوضا.

ومما ذكرنا يتجلى أن موقف الشافعي لم يكن مبنيا على مجرد خلاف لفظي اصطلاحي، بل إنه كان هناك خلاف حقيقي بينه وبين غيره من القائلين بالاستحسان ينحصر في الأنواع المشار إليها. وسبب مخالفته لهم فيها أن الاستحسان المتعلق بها يتضمن نوعا من جهد المجتهد واختياره الاجتهادي الخاص، باستثناء الاستحسان بعمل أهل المدينة الذي ترجع مخالفته فيه لرفض الاحتجاج بهذا العمل.

ثالثا: أهمية الاستحسان وعلاقته بالاجتهاد المقاصدي

1. أهمية الأخذ بالاستحسان في الاجتهاد الفقهي

رأينا أن جوهر الخلاف في الاستحسان بين الشافعي والعاملين بهذا الدليل يرجع إلى ما فيه من اختيار الفقيه المبني على تفكيره وجهده الخاص؛ ومن ثمة فإنه ينطبق عليه في نظر الشافعي أنه مجرد تلذذ وأن العامل به ينصب نفسه مشرعا إلى جانب الله تعالى. والحقيقة أنه لا يصدق على الاستحسان في أنواعه التي تم الاعتراض عليها ولا على من يعمل بها الوصف الذي قاله الشافعي؛ ذلك أن كلا من أبي حنيفة وأصحابه ومالك وأصحابه لم يكن أحد منهم يترك القياس ويأخذ بالاستحسان في أنواعه المذكورة لمجرد ما تهواه نفسه ويخطر في باله، بل إن كلا منهم كان يرجع إلى مقررات تشريعية عامة دلت نصوص الشرع على اعتبارها لما فيها من تحقيق للمصلحة، وهم بذلك يلجؤون في تلك الحالة إلى نوع من القياس على ما دلت عليه تلك النصوص من استثناء بعض المسائل الجزئية من القواعد العامة، وهو نهج يسير وفق مسلك اجتهادي راسخ في الشرع، أحسن تطبيقه كثير من العلماء وفي طليعتهم مالك؛ وهذا المسلك يتعلق باستثناء حالات الضرورة من القواعد العامة.

على أن هذا التوجه الاجتهادي رغم استناده لمبدأ راسخ في الشرع؛ فإن ذلك لا ينفي ما يوجد فيه من اختيار ذاتي للعامل به في المسائل المطروحة، بناء على ما يلاحظه فيها من اعتبارات ترجح عنده الأخذ بحكم دون آخر، وهذا “هو مناط رفض الشافعي للاستحسان؛ حيث أراد بناء أحكام الشريعة كلها على ما ينضبط أمره والعمل به خارج ذهن الفقيه، ورفض إحالة أي حكم تشريعي إلى هذا الاختيار الباطني الذي قد تختلف فيه اعتبارات الفقهاء فتتعدد أحكامهم المستحسنة في المسألة، ويقال في الشيء الواحد بضروب من الحكم والفتيا، هكذا دون أي ضابط أو مقياس خارجي يرجع إليه عند الاختلاف، مما لا يتحقق شيء منه في العمل بالنص أو الإجماع أو القياس الصحيح الذي توجد فيه العلامات الخارجية التي يجب على كل فقيه أن يتبعها[21].”

والتحقيق في هذه القضية يؤدي بنا إلى تقرير أن المجتهد لا يمكن بحال أن يستغني في جملة من المسائل عن التماس الحكم في قواعد الشريعة ومقرراتها ومقاصدها العامة؛ من أجل تحقيق مصلحة العباد التي من أجلها جاءت الشريعة، ولو أفضى ذلك إلى ترك القياس في تلك المسائل. وليس هذا من باب تفويض حق التشريع للمجتهد بما يمليه عليه عقله وتفكيره بإطلاق ودون أي ضابط كما ظن الشافعي؛ لأنه في تلك الحال لابد أيضا للمجتهد أن يكون ملتزما بعدم مخالفة نصوص القرآن والسنة ومواقع الإجماع، وأن يتوخى السير على النهج الذي قرره المشرع من قواعد ومقاصد عامة، ومع أن تلك الأحكام التي يصل إليها المجتهد باتباعه هذا النهج لا توجد لها أشباه في النصوص الخاصة لتقاس عليها؛ فإن في المقررات التشريعية العامة في هذه الحال ما ييسر السبيل لإيجاد الأحكام المناسبة للنوازل الواقعة والمسائل المطروحة.

2. علاقة الاستحسان بالاجتهاد المقاصدي

إن هذا النهج المشار إليه القائم على العمل بالاستحسان يقترب في عمقه ويسير في جملته وفق مسلك اجتهادي مقرر يتعلق بضرورة الجمع بين القواعد الكلية العامة والأدلة الجزئية الخاصة في الاجتهاد الفقهي، وهو مسلك من مسالك الاجتهاد المقاصدي؛ حيث يتم النظر في الدليل الجزئي من نص معين يدل على حكم معين أو قياس جزئي يدل على حكم معين وما شابه ذلك مع استحضار الكليات والمقاصد العامة، فتكون مراعاة هذه وتلك في آن واحد وبالتالي يكون الحكم مبنيا عليهما معا.

وقد أكد أبو إسحاق الشاطبي (المتوفى سنة 790ﻫ) على ضرورة اعتماد هذا المسلك الاجتهادي؛ حيث قرر أنه إذا كانت الجزئيات مستمدة من الأصول الكلية فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات، عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس؛ إذ محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها؛ فمن أخذ بنص مثلا في جزئي معرضا عن كليه فقد أخطأ، وكما أن من أخذ بالجزئي معرضا عن كليه فهو مخطئ كذلك من أخذ بالكلي معرضا عن جزئيه[22].

وبهذا يمكن القول: إن هذه القضية تعتبر أساس جميع القضايا الأصولية المتعلقة بالأدلة الشرعية؛ لأن بها يتبين ارتباط القضايا الأصولية المتعلقة بالأدلة الشرعية التفصيلية والقواعد الشرعية الكلية؛ بحيث لا يمكن استغناء المجتهد عن النظر في الأمرين معا؛ فلا يستغني بالنظر في الأدلة التفصيلية عن النظر في القاعدة التي تعتبر كلية لها ليعرف مرتبة المسألة الجزئية ومقصد الشارع فيها، كما أنه لا يستغني بالقاعدة الكلية فيجريها في المسألة الجزئية دون النظر في الدليل الخاص بها من الكتاب والسنة وما معهما.

ثم إن هذا النهج ينبني أيضا على مسلك اجتهادي آخر يعتبر من مسالك وضوابط الاجتهاد المقاصدي؛ وهو تقدير مآلات التصرفات واعتبارها في بناء الأحكام، وحاصله أننا لا نقف عند ظاهر الأمر فنحكم بمشروعية الفعل في جميع الحالات والظروف، حتى تلك التي لا يحقق فيها الفعل المصلحة التي شرع لتحقيقها، أو تلك التي يكون فيها تحقيق الفعل للمصلحة يترتب عليه فوات مصلحة أهم أو حصول ضرر أكبر، كما أننا لا نقف عند ظاهر النهي فنحكم بعدم مشروعية الفعل في جميع الحالات والظروف؛ ولو أدى ذلك إلى حصول مفسدة أكبر من التي قصد بالمنع من الفعل درؤها، بل نأخذ بالحكم المحقق للمصلحة الأرجح والمبعد للمفسدة الأكبر.

وقد بين الشاطبي أهمية هذا المسلك وعلاقته بمراعاة المقاصد الشرعية فقال: النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة؛ وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعا لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية ربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساويها أو تزيد عليها؛ فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساويها أو تزيد فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغب جار على مقاصد الشريعة[23].

ويكفينا في التدليل على اندراج الاستحسان في مسلك تقدير المآلات واعتبارها؛ أن الشاطبي عندما تكلم عن النظر في مآلات الأفعال ذكر أنه ينبني عليه عدة قواعد ومنها قاعدة الاستحسان[24]. وبعد أن عرف الاستحسان بأنه الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي، ذكر أنه يجري في مثل المسائل التي يقتضي القياس فيها أمرا، إلا أن ذلك الأمر يؤدي إلى فوت مصلحة من جهة أخرى أو جلب مفسدة كذلك. وكثيرا ما يتفق هذا في الأصل الضروري مع الحاجي، والحاجي مع التكميلي، فيكون إجراء القياس مطلقا في الضروري يؤدي إلى حرج ومشقة في بعض موارده، فيستثنى موضع الحرج، وكذلك في الحاجي مع التكميلي أو الضروري مع التكميلي. ثم نص بعد ذلك على أن أمثلة الاستحسان في الشرع في حقيقتها ترجع إلى اعتبار المآل في تحصيل المصالح أو درء المفاسد على الخصوص، حيث كان الدليل العام يقتضي منع ذلك؛ لأننا لو بقينا مع أصل الدليل العام لأدى إلى رفع ما اقتضاه ذلك الدليل من المصلحة، فكان من الواجب مراعاة ذلك المآل إلى أقصاه[25]. وبهذا انتهى الشاطبي إلى تقرير أن الاستحسان في جوهره نظر في مآلات الأحكام من غير اقتصار على مقتضى الدليل العام والقياس العام؛ ومن ثمة فهو غير خارج عن مقتضى الأدلة إلا أنه نظر إلى لوازم الأدلة ومآلاتها[26].

وبهذه العبارة الأخيرة الموجزة والدقيقة في الدلالة على المطلوب تأكد دخول الاستحسان واندراجه في قاعدة اعتبار المآلات، التي تعتبر إحدى مسالك الاجتهاد المقاصدي ودعائمه الأساسية.

رابعا: تفعيل الاستحسان للنهج المقاصدي في الاجتهاد

إن الاستحسان كدليل ومسلك اجتهادي يسير بصفة عامة في نفس المسار عند العاملين به وهم على وجه الخصوص، كما بينا سابقا، كل من الحنفية والمالكية، وهو نهج يقوم على العمل بأقوى الدليلين؛ حيث أن العموم إذا استمر والقياس إذا اطرد فإن أبا حنيفة ومالكا يريان تخصيص العموم بأي دليل كان من ظاهر أو معنى، ويستحسن مالك أن يخص بالمصلحة، ويستحسن أبو حنيفة أن يخص بقول الواحد من الصحابة الوارد بخلاف القياس، ويرى أبو حنيفة ومالك معا تخصيص القياس ببعض العلة، ولا يرى الشافعي لعلة الشرع إذا ثبتت تخصيصا[27].

وهذا المفهوم هو الذي نبهنا عليه قريبا بخصوص انبناء الاستحسان على النظر في مآلات الأحكام من غير اقتصار على مقتضى الدليل العام، على أن هذا المعنى أظهر بالنسبة للاستحسان المالكي في التخصيص بالمصلحة؛ وهو نهج يقوم على ملاحظة المجتهد أن الإمكانات العقلية تقدم له كثيرا من الأقيسة في المسائل التي يبحث عن حكم ذي مستند لها، وهي أقيسة مستوفية لشروط القياس الشرعي في شكلها وطريقة إجرائها وأركانها، غير أنه عند العمل بكثير منها يلاحظ أن العمل بها يتعارض مع مقاصد التشريع الإسلامي، الذي يدور الاجتهاد في إطاره، كما يتعارض مع مقرراته المستخلصة من كثير من النصوص والتشريعات الثابتة، فيرى عندئذ أن اتباع مطلق القياس لا يؤدي إلى تحقيق ما جاء التشريع لتحقيقه من مصالح الناس، فيستحسن أن يترك القياس إلى ما يخالفه مما يحقق مقاصد التشريع ومقرراته[28].

وهذا المعنى هو ما أشار إليه الشاطبي حين قرر أن الاستحسان أخذ بمصلحة جزئية في مقابل دليل كلي؛ ومقتضاه الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس[29]، وهو ما يشير إليه مالك، الذي تميز بالعمل به أكثر من غيره، في قوله: إن المغرق في القياس يكاد يفارق السنة[30].

والواقع أن الاستحسان بهذا المعنى إنما هو اتباع لما قرره الشارع من استثناء بعض المسائل الخاصة من القواعد العامة ابتغاء تحقيق مصالح الناس ونفي الحرج عنهم؛ وأمثلته في أحكام الشريعة كثيرة؛ منها القرض فإنه في الأصل ربا لأنه درهم بدرهم إلى أجل لكنه أبيح لما فيه من التوسعة على المحتاجين، ومنها الجمع بين المغرب والعشاء للمطر، والجمع بين الصلاتين للمسافر، وقصر الصلاة والفطر في السفر، وسائر الترخصات التي على هذا السبيل؛ فإن حقيقتها ترجع إلى اعتبار المآل في تحصيل المصالح ودرء المفاسد على الخصوص؛ حيث كان الدليل العام يقتضي منع ذلك؛ لأننا لو بقينا مع أصل الدليل العام لأدى إلى رفع ما اقتضاه ذلك الدليل من المصلحة، فكان من الواجب رعي ذلك المآل إلى أقصاه[31].

وبالنظر في أنواع الاستحسان المذكورة آنفا، خاصة في المذهب المالكي، يتبين أنه في مجموعها يوجد فرع كان من الممكن إرجاعه إلى القواعد في الظاهر والحكم عليه بمثل ما حكم به في نظائره، لكن إرجاعه إلى هذه العموميات والقواعد يفوت مصلحة شهدت لجنسها نصوص الشرع، أو يخالف قاعدة نفي الحرج والمشقة، أو يخالف عرفا سائدا أو إجماعا أو عملا متقررا بالمدينة، فيعدل عن إدخاله تحت عموم الدليل ويعطى حكما يحقق المصلحة ويمنع الحرج ويتفق مع العرف أو الإجماع والعمل المتقرر.

بل إن كل تلك الأنواع يمكن إرجاعها إلى ترك الدليل للمصلحة، ولو لم يصرح في بعضها بأنه استحسان بالمصلحة.

فالاستحسان بقاعدة رفع الحرج من صميم العمل بالمصلحة؛ ومن أمثلته دخول الحمام من غير تقدير مدة اللبث ولا تقدير الماء المستعمل، والأصل العام في هذا الفعل هو المنع قياسا على منع كل ما فيه غرر وجهالة، إلا أن نفي جميع الغرر في العقود لا يقدر عليه وهو يضيق أبواب المعاملات، فوجب أن يسامح في بعض أنواع الغرر التي لا ينفك عنها، ومن هذا القبيل تقدير الماء المستعمل في الحمام ومدة اللبث فيه؛ فالاستحسان هنا راجع إلى أن مقصد الشارع في المعاملات التيسير على الناس والتسامح في الغرر التافه أو القليل الذي يضيق الاحتراز عنه[32].

والاستحسان بالعرف راجع للمصلحة من جهة أن عدم الأخذ بأعراف الناس في معاملاتهم يؤدي إلى حرج ومشقة؛ ومنه رد الأيمان إلى العرف مع أن اللغة تقتضي في ألفاظها غير ما يقتضيه العرف؛ فلو حلف رجل لا يدخل بيتا فإن مقتضى القياس لغة الحنث بدخوله كل موضع يسمى بيتا في اللغة ويندرج في ذلك المسجد، إلا أن الاستحسان يقتضي تخصيص العموم المستفاد من اللغة بالعرف والقول بعدم الحنث بدخول المسجد؛ لأنه لا يطلق عليه اسم بيت في العرف[33].

كما أن الاستحسان بعمل أهل المدينة يندرج في هذا الإطار لما في تحكيم هذا العمل من انسجام مع الواقع والبيئة وربط للنصوص والأحكام الشرعية بالحياة العملية التي كانت قائمة بالمدينة، مما يعطي مرونة في الاجتهاد تتلاءم مع الأخذ بالمصلحة؛ ومن أمثلته ما ذهب إليه مالك بخصوص من لم يأته الساعي في زكاة الماشية إلا بعد عامين أو أكثر، فإنه يزكي الذي وجد عنده فقط؛ وهذا استحسان بعمل أهل المدينة جرى على غير قياس[34].

والاستحسان بمراعاة الخلاف راجع أيضا للمصلحة لما يتضمنه الأخذ بمراعاة الخلاف من نظر في مآلات التصرفات، الذي يسير على نهج مقاصد الشريعة حفظا للمصالح المعتبرة فيها؛ ومن أمثلة هذا النوع إذا تزوجت المرأة بغير ولي أو بما لا يصح مهرا فإن النكاح فاسد عند مالك، ومع ذلك رتب عليه استحقاق المهر والميراث إذا دخل بها، والقياس أن لا يترتب عليه ذلك لفساده، ولكن هذا القياس معدول عنه استحسانا مراعاة لخلاف من ذهب إلى عدم فساد ذلك النكاح أصلا[35].

والاستحسان بالقياس يرجع هو الآخر للمصلحة من جهة أن القياس الجلي الذي يتم العدول عنه إنما يترك لما يكون فيه من غلو في الحكم يبتعد عن تحقيق مقصد المشرع؛ فيؤخذ بالقياس الخفي المعارض له لما يؤدي إليه من وسطية واعتدال في الحكم يتناسب مع مقصد الشارع؛ ومثاله أن مالكا رأى أن من نوى صوما متتابعا أو معينا غير متتابع أو كان شأنه سرد الصيام؛ فليس عليه تبييت نية الصوم لكل يوم، وهذا الحكم مبني على الاستحسان، والقياس يقتضي أن عليه التبييت لجواز فطره، ووجه هذا الاستحسان أنه إذا شرع في الصوم وألزمه نفسه صح له أن ينوي منه ما شاء؛ لأن الدخول فيه والالتزام له يجعله بمنزلة العبادة الواحدة في النية[36]؛ فتبين أن القياس الجلي الموجب لتبييت نية الصوم لكل يوم، تم العدول عنه باستحسان معتمده قياس خفي مبني على اعتبار الصوم المتتابع ونحوه بمنزلة العبادة الواحدة، وهي لا تحتاج إلا لنية واحدة، ولا يخفى ما في هذا الرأي من التفات إلى مبدإ التيسير ورفع الحرج.

كما أن الاستحسان بالإجماع يندرج أيضا في إطار ترك الدليل للمصلحة؛ ومثاله حكاية الإجماع، على الأشهر في المذهب المالكي، على إيجاب الغرم على من قطع ذنب دابة القاضي من حصان ونحوه؛ بأن يغرم قيمة الدابة وليس قيمة النقص الذي حصل فيها فقط، مع أن القياس يقتضي أن لا يغرم إلا قيمة ما نقص منها، لكن استحسنوا غرم القيمة كاملة؛ لأن دابة القاضي لا يحتاج لها إلا للركوب، وقد امتنع بسبب ذلك العيب الذي فوت مصلحتها حتى صارت في حكم العدم بالنسبة للقاضي[37].

فتبينت بذلك العلاقة القائمة بين الأخذ بالاستحسان والعمل على تحقيق المصلحة؛ حيث إن ترك أصل الدليل الكلي إنما يكون لأجل تحقيق مصالح الناس التي قررتها نصوص الشريعة في مجموعها وتغيتها مقاصد الشرع العامة.

على أنه يجدر التنبيه هنا على أن هناك فرقا بين ما يندرج من المسائل في الاستحسان وما يندرج منها في الاستصلاح؛ فالاستحسان استثناء جزئي في مقابل دليل كلي يتخلف في بعض أجزائه، في حين أن المصلحة المرسلة تكون حيث لا يكون دليل سواها؛ فحيث لا يكون في المسألة قياس فيه حمل على نص تكون المصلحة المرسلة هي الدليل وحدها، أما إذا كان في المسألة قياس وحصل أن طرد القياس يوقع في مشقة وحرج أو يبعد مصلحة، فإنه يترك القياس استحسانا لجلب المصلحة للمكلفين والتيسير عليهم ودفع المفسدة والمشقة عنهم، فيكون الاستحسان مصدر توسعة يتلافى به ما تؤدي إليه بعض الأقيسة من تفويت بعض المصالح.

وهذا المعنى أكثر ما ينطبق على الاستحسان المالكي؛ لأن جوهره قائم على الالتفات إلى المصلحة والعدل والرخصة والتيسير ومراعاة الأعراف المعتبرة وإبعاد الحرج والمشقة في إطار الضوابط الشرعية؛ ولذلك نجد ابن رشد يقرر أن معنى الاستحسان في مذهب مالك في أكثر الأحوال هو الالتفات إلى المصلحة والعدل[38]. وقد أكثر مالك منه بهذا المفهوم حتى ذكر الشاطبي، في سياق كلامه عن الاستحسان بترك اليسير للتوسعة، أن العلماء قالوا إنه بالغ في هذا الباب وأمعن فيه، موضحا كيف أنه يوجه الاستثناء من الأصول الثابتة بالحرج والمشقة؛ ومن ذلك أنه جوز استئجار الأجير بطعامه وإن كان لا ينضبط مقدار أكله ليسار أمره وخفة خطبه وعدم المشاحة[39]. ومن هذا القبيل أيضا أن ابن عبد البر نقل عنه مجموعة من الاجتهادات المتعلقة بالمعاملات وحسن الجوار، وعقب عليها بقوله: وهذا كله استحسان واجتهاد في قطع الضرر[40].

فتحصل من كل ذلك أن الاستحسان بصفة عامة، والذي عمل به مالك بصفة خاصة واعتبره تسعة أعشار العلم كما أشرنا لذلك آنفا، إنما يعني مراعاة المصلحة والعدل في الأحكام الاجتهادية؛ بما يتضمنه ذلك من الالتفات إلى مقاصد الشارع من تشريع الأحكام؛ التي يجمعها الحرص على جلب المصالح للعباد ودرء المفاسد عنهم في العاجل والآجل.

خاتمة

وأخيرا فقد تبين أن الاجتهاد الفقهي الراسخ والأصيل هو القائم على مقاصد الشريعة بما يجعل منه اجتهادا مقاصديا، وأن الاستحسان يعتبر من أبرز وأهم الأدلة الشرعية الاجتهادية القائمة على روح المقاصد الشرعية خاصة على مستوى المرامي والأهداف، كما يعتبر آلية مساعدة على منح المقاصد دورها الوظيفي في الاجتهاد وتطويره.

ولما كان الاجتهاد الفقهي يتطلب توفر مجموعة من الشروط في من يمارسه؛ من أهمها العلم بأصول الفقه إلى جانب العلم بمقاصد الشريعة؛ فإن الاستحسان بأنواعه المختلفة يجسد الالتحام المطلوب بين الأدلة الشرعية ومقاصد الشريعة في عملية الاجتهاد، مما يؤكد أهمية العلاقة القائمة بين قضايا أصول الفقه والمقاصد الشرعية.

وهذا الأمر يدعو إلى ضرورة تطوير أصول الفقه في إطار مقاصد الشريعة وبموازاة مع تفعيل هذه الأخيرة، بما يساعد على جعل القضايا الأصولية أكثر خدمة للاجتهاد الفقهي الذي من شأنه مواكبة متطلبات الحياة المتجددة، انطلاقا من فهم صحيح لنصوص الشرع وإلمام بقواعده وإدراك لمقاصده ومعرفة واسعة بأحكامه؛ بما يمكن من حسن تنزيل هذه الأحكام على واقع الناس.

الهوامش

[1]. الإمام مالك، الموطأ: كتاب الأقضية، باب القضاء في المرفق، تعليق: محمد فؤاد عبد ، القاهرة: دار الحديث، د. ت. ج 2 ص572.

[2]. الموطأ، كتاب الأقضية، باب القضاء في الضواري والحريسة، ج2 ص573.

[3]. أبو بكر البيهقي، السنن الكبرى، حيدر آباد الدكن، الهند: 1353ﻫ، ج6 ص122.

[4] . الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، شرح عبد الله دراز، بيروت: دار المعرفة، لبنان، ط2، (1395ﻫ/1975 م)، ج4 ص209 وانظر كذلك: الشاطبي الاعتصام، بيروت: دار المعرفة، لبنان (1402ﻫ/1982 م)، ج 2 ص138.

[5]. انظر نسبة إنكار الاستحسان لأحمد من غير دليل وكذا القول به في مواضع من اجتهاداته في: المسودة في أصول الفقه: آل تيمية، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، بيروت: دار الكتاب العربي، د. ت، ص451–452.

[6]. ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، بيروت: دار الكتب العلمية، لبنان، د. ت، ج6 ص 196.

[7]. الإحكام، ج 6 ص 200.

[8]. انظر: الشافعي، الأم، تحقيق: محمود مطرجي، بيروت: دار الكتب العلمية، لبنان، ط1، (1413ﻫ/1993م)، ج7 ص487.

[9]. انظر: الشافعي، الرسالة: تحقيق: أحمد محمد شاكر، بيروت: دار الكتب العلمية، لبنان، د. ت، ص503.

[10]. أسامة الحموي، نظرية الاستحسان، بيروت: دار الخير، دمشق، ط1، (1412ﻫ/1992م)، ص)91

[11]. محمد الخضري، الرسالة، ص479 وتاريخ التشريع الإسلامي، دار الفكر، ط7، (1401ﻫ/1981 م)، ص205.

[12]. انظر على سبيل المثال: نظرية الاستحسان، ص 111 وانظر: عبد الوهاب خلاف، مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه، الكويت: دار القلم، ط5، (1402ﻫ/1982م)، ص81.

[13]. عبد العلي الأنصاري، فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت، بيروت: دار الكتب العلمية، لبنان، ط2، (1403ﻫ/1983م)، ج2، ص278 و320–321.

[14]. محمد السرخسي،  أصول السرخسي، تحقيق: أبو الوفا الأفغاني، بيروت: دار المعرفة، لبنان، د. ت، ج2، ص200.

[15]. الموافقات، م، س، ج4، ص207– 208. والاعتصام، ج2، ص139.

[16]. الاعتصام، م، س، ص139.

[17]. ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، بيروت: دار الكتب العلمية، لبنان؛ ط10، (1408ﻫ/1988م)، ج2، ص278.

[18]. انظر الأم، م، س، ج7، ص443.

[19]. علي حسب الله، أصول التشريع الإسلامي، دار المعارف بمصر، ط5، (1396ﻫ/1976م)، ص350 وانظر: محمد أبو زهرة، الشافعي حياته وعصره آراؤه وفقهه، القاهرة: دار الفكر العربي، (1416ﻫ/1996م)، ص130–131.

[20]. فواتح الرحموت، ج2، ص321.

[21]. محمد بلتاجي، مناهج التشريع الإسلامي في القرن الثاني الهجري: جامعة محمد بن سعود الإسلامية، لجنة التأليف والنشر، (1397ﻫ/1977م)، ج 2 ص 847.

[22]. الموافقات، م، س، ج3، ص7–8.

[23]. الموافقات، م، س، ج4، ص194– 195.

[24]. المرجع نفسه، ص198 وما بعدها

[25]. المرجع نفسه،  ص206–207.

[26]. المرجع نفسه، ص209.

[27]. ابن العربي، أحكام القرآن، تحقيق: علي محمد البجاوي، بيروت: دار الجيل، لبنان؛ (1408ﻫ/1988م)، ج2، ص754–755 والاعتصام، م، س، ج2، ص138 والموافقات، م، س، ج4، ص208–209 مع ملاحظة أنه جاء في عبارة الشاطبي: “ويريان معا؛ (أي أبو حنيفة ومالك) تخصيص القياس ونقض العلة”.

[28]. انظر مناهج التشريع الإسلامي في القرن الثاني، م، س، ج2، ص621.

[29]. الموافقات، م، س، ج4، ص206.

[30]. الاعتصام، م، س، ج2، ص138.

[31]. الموافقات، م، س، ج4، ص207.

[32]. الاعتصام ج 2 ص 143 – 144.

[33]. انظر: محمد أبو زهرة، الاعتصام ج 2 ص 141 ومالك حياته وعصره آراؤه وفقهه، دار الفكر العربي، د. ت، ص336.

[34]. انظر الموطأ؛ كتاب الزكاة، باب العمل في صدقة عامين إذا اجتمعا، ج1، ص224–225، وانظر: الإمام مالك، المدونة الكبرى، بيروت: دار صادر، د. ت، ج2، ص336 – 338 وبداية المجتهد، ج1، ص273.

[35]. انظر المدونة، ج 4، ص244؛ والاعتصام، م، س، ج2، ص145.

[36]. انظر: الباجي المنتقى شرح موطإ الإمام مالك، بيروت: دار الكتاب العربي، د. ت، ج2، ص41.

[37]. الاعتصام، م، س، ج2 ص142.

[38]. بداية المجتهد، ج2، ص185.

[39]. الاعتصام ج2، م، س، ص144–145.

[40]. ابن عبد البر، الكافي في فقه أهل المدينة المالكي، تحقيق: محمد أحيد ولد ماديك، الرياض-البطحاء: مكتبة الرياض الحديثة، البطحاء، ط1، (1398ﻫ/1978م)، ج2 ص939.

Science
الوسوم

الدكتور محمد منصف العسري

• دكتوراه في الدراسات الإسلامية، تخصص مقاصد الشريعة الإسلامية، من جامعة محمد الخامس ـ الرباط.
• مفتش التعليم الثانوي التأهيلي بالمملكة المغربية.
• أستاذ عرضي للدراسات الاسلامية بكلية الآداب – الرباط.
• رئيس تحرير مجلة "تربيتنا" التي تصدرها الجمعية المغربية لأساتذة التربية الإسلامية.
• عضو مؤسس للجمعية المغربية لأساتذة التربية الإسلامية.
• من أبحاثه:
ـ الفكر المقاصدي عند الإمام مالك وعلاقته بالمناظرات الأصولية والفقهية في ق 2 هـ.
ـ النظر المقاصدي عند الإمام مالك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق