وحدة الإحياءشذور

الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، ودوره في تشكيل فن السماع بالمغرب

نسعى من خلال هذه المداخلة الوجيزة أن نقترب من موضوع يحتاج إلى أعمال علمية كبيرة وموسعة، ويقتضي دراسات تتقاطعها تخصصاتُ التاريخ والفقه والتصوف والأدب والموسيقى والأنثروبولوجيا وغيرها، كما تستعجل قبل هذا وذاك، إخراج جم من المخطوطات والوثائق المنسية أو المهملة، والعمل على تحقيقها تحقيقا علميا ثم نشرها وإذاعتها بين الناس.

يتعلق الأمر بموضوع الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ودوره في تشكيل فن السماع المغربي. فالاقتراب من تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في المغرب، على أهمية ما أُنجز فيه وحوله من إضاءات، ما يزال في مسيس الحاجة إلى بحث في المظان التاريخية للوقوف على تفاصيل هذا الاحتفال في مختلف اللحظات التاريخية منذ انطلاق هذا الاحتفال في القرن السابع الهجري على عهد العزفيين إلى راهننا المعاصر؛ وذلك من أجل الوقوف على مختلف مظاهر هذا الاحتفال الرسمية والشعبية وآثارها الأدبية والعلمية والاجتماعية والدينية وأبعادها الحضارية ومدى إسهامها في تشكيل وجه من أوجه الهوية الدينية للمغرب الأقصى؛ وكذا من أجل رصد الوظائف المتعددة التي صارت تضطلع بها كل تلك المظاهر؛ حيث صار هذا الاحتفال، بطقوسه وعاداته في اللباس والطبخ والتزيين والإنشاد والاجتماع والعمران وسك العملات وإحياء ليالي الذكر والتذكير في المساجد والزوايا والمشاهد والبيوتات الخاصة… صار هذا الاحتفال بفضل ذلك وغيره علامة مميزة للشخصية الإسلامية المغربية.

  هذه آفاق ينبغي على البحث والباحثين أن يمخروا عبابها، فثمة أصداف تنتظر في شغف من سيظفر بها ليجليها لنا، كيما نتعرف على الأبعاد الاجتماعية والنفسية والسياسية والفلسفية والجمالية والحضارية لاحتفال المغاربة بالمولد النبوي الشريف؛ وهو الاحتفال الذي تظل كل نظرة تعتبر مظاهره من مخلفات الأعراف والعادات الثانوية أو التقاليد التي تعللها الوراثة والألفة والحنين، تظل نظرةً قاصرة وكليلة عن إدراك خفايا امتداد هذا الاحتفال وإصرار المغاربة، رسميا وشعبيا، على التمسك به وإحياء وتجديد مظاهره و ومباهجه.

سيلزمنا في البدء، وقبل تناول بعض مقاصد هذا الاحتفال ومدى إسهامه في تشكيل فن السماع، أن نقترب قليلا من تاريخ انطلاقه وتطوره. هي مجرد إضاءات ليس إلا.

أولا: الاحتفال بالمولد النبوي: اقتراب تاريخي

من المعلوم أن الاحتفال بالمولد النبوي الكريم كان قد ظهر وانتعش رسميا منذ عهد الفاطميين بمصر وتونس حيث كانوا يحتفلون به ضمن احتفالهم بستة مواليد، وهي مولد الرسول الأعظم، صلى الله عليه وسلم، ومواليد آل البيت، عليهم السلام، علي ابن أبي طالب والحسن والحسين وفاطمة الزهراء؛ ومولد الخليفة الحاضر. كما أن مكة المكرمة كانت تحتفي بهذا العيد، حيث ينقل لنا الرحالة الأندلسي ابن جبير في “رحلته” عام (579ﻫ/1183م) أن مشهد مولد الرسول، صلى الله عليه وسلم، بمكة المكرمة يفتح في شهر ربيع الأول يوم الاثنين تحديدا فيدخله الناس كافة، ويضيف أبو العباس العزفي في كتابه “الدر المنظم في مولد النبي المعظم” أن يوم المولد يتخذ عطلة عامة بمكة المكرمة وتفتح فيه الكعبة المشرفة ليؤمها الزوار.

 وإذا كان بعض الباحثين يعين القرنين السادس والسابع الهجريين باعتبارهما تاريخ ظهور الاحتفال بعيد المولد النبوي الشريف1، فإن غيرهم يؤكد “أن العباسيين احتفلوا به طوال مختلف عهودهم وأن العلويين والشيعة عامة قد احتفلوا به حتى قبل قيام الدولة العباسية2“، وممن احتفل بالمولد النبوي الشريف خلال القرن السابع الهجري الملك مظفر الدين بن زيد الدين صهر صلاح الدين أمير أربل (وهي مدينة تقع جنوبي شرقي الموصل بالعراق) (توفي 630ﻫ/1232م). وقد زار هذه المدينة ابن دحية السبتي، وهو من كبار علماء المغرب في عصر الموحدين، عام (604ﻫ/1207م)، وحين رأى احتفال الملك مظفر الدين وولعه بعمل المولد النبوي الشريف ألف له كتاب “التنوير في مولد السراج المنير”.

أما في المغرب، فقد كان أول من دعا إلى الاحتفال بعيد المولد النبوي الكريم أبو العباس العزفي السبتي المتوفى سنة (633ﻫ/1236م)، ويذكر في مقدمة الكتاب الذي بدأ تأليفه “الدر المنظم في مولد النبي المعظم” الحافز الذي حدا به إلى الدعوة لهذا الاحتفال؛ ذلك أن أبا العباس العزفي لاحظ متابعة المسلمين ومجاراتهم للنصارى في احتفالهم بأعياد “النيروز” و”المهرجان” و”ميلاد السيد المسيح عليه السلام”، فدفعته غيرته على الإسلام والمسلمين في الأندلس وخوفه على هويتهم ودينهم إلى أن يفكر في ما يدفع هذه المناكر ولو بأمر مباح. فكان أن انتبه إلى ضرورة العناية بمولد النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، فبدأ يطوف على الكتاتيب القرآنية بسبتة ويشرح لصغارها المغزى والغايات الفاضلة من هذا الاحتفال، كما حض على تعطيل قراءة الصبيان في هذا اليوم العظيم. وهكذا انطلق هذا الاحتفال كشكل من أشكال المقاومة لما بدأ يدب بين المسلمين من محاكاة  للنصارى في احتفالاتهم بأعيادهم الدينية.

 ولما تولى ابنه أبو قاسم العزفي إمارة سبتة، كان من إنجازاته أن حقق رغبة والده فاحتفل في سبتة بالمولد النبوي في أول ربيع من إمارته عام (648ﻫ/1250م)، ويصف ابن عذارى المراكشي احتفال أبي قاسم العزفي في أول ربيع له بالمولد الكريم، فيكتب: “ومن مآثره العظام، قيامه بمولد النبي، عليه السلام، من هذا العام، فيطعم فيه أهل بلده ألوان الطعام، ويؤثر أولادهم ليلة يوم المولد السعيد بالصرف الجديد من جملة الإحسان إليهم والإنعام، وذلك لأجل ما يطلقون المحاضر والصنائع والحوانيت يمشون في الأزقة يصلون على النبي عليه السلام، وفي طول اليوم المذكور يسمِّع المسمعون لجميع أهل البلد مدح النبي عليه السلام، بالفرح والسرور والإطعام للخاص والعام، جار ذلك على الدوام في كل عام من الأعوام3.”

ومن أجل إشاعة هذا الاحتفال، وبعد أن أكمل أبو القاسم كتاب والده “الدر المنظم في مولد النبي المعظم”، بعث بنسخة منه إلى الخليفة ما قبل الأخير في سلالة الموحدين عمر المرتضى مشيرا عليه بإحياء هذه “البدعة الحسنة” كما وصفها كتاب “الدر المنظم”، فصار هذا الخليفة الموحدي يحيي ليلة المولد بمراكش ويحتفل بها احتفالا. ويبدو أن الإنشاد والسماع كانا حاضرين أيضا كمحورين رئيسين في هذا الاحتفال، كما يوحي بذلك “كتاب المسموعات” الذي ألفه مؤرخ المرتضى أبو علي الحسن بن علي بن محمد بن عبد المالك الكتامي الرهوني المعروف بابن القطَّان نزيل مراكش (661ﻫ/1263م). وهو كتاب ضمنه قصائد مختارات فيما يخص المولد الكريم، وشهور رجب وشعبان ورمضان، وغير ذلك.وهو كتاب مفقود.

 وقد امتد الاحتفال بالمولد النبوي في المغرب على عهد المرينيين إلى أن أصبح عيدا رسميا معمما في جميع جهات المغرب مع يوسف بن يعقوب بن عبد الحق المريني أواخر صفر عام (691ﻫ/1292م). وفي أيام أبي سعيد الأول بن يوسف أضيف إلى ليلة المولد الاحتفال بسابعه، وفي أيام هذا السلطان تبنت الدولة القيام بنفقات الاحتفال بليلة المولد في سائر جهات المملكة. وقد اتخذت هذه الاحتفالات طابعيها الاحتفائي الباذخ والبهي مع أبي الحسن وأبنائه، حيث دأب أبو الحسن المريني على إحياء ليلة المولد سفرا وحضرا؛ إذ يقتني لها ألوان المطاعم والحلويات والبخور والطيب؛ مع إظهار مظاهر الزينة والتأنق في إعداد المجالس كل حسب مرتبته وطبقته، ويأخذ الجميع من لباسه أبهاه ومن ريحه أطيبه، ويقدم في هذه الليلة ما طاب ولذ من الفواكه الطرية واليابسة والحلويات وغيرها، وقد يقع الإطعام بعد العِشاء الآخرة. وكانت إذا “استوت المجالس وساد الصمت قام قارئ العشر فرتل حصة من القرآن الكريم، ويتلوه عميدُ المنشدين ويؤدي بعض نوبته تم يأتي دور قصائد المديح والتهاني بليلة المولد الكريم4.”

  وكانت تواكب (هذه) الاحتفالاتِ الرسمية احتفالاتٌ أخرى شعبية، حيث تُقام الأفراح وتستنير المدن بالأضواء، ويَتجمل الناس وتُزين المدن. وصار يوم الثاني عشر من ربيع الأول يوم دخول الصبيان بفاس للكتاتيب القرآنية، ومناسبةً لختان الأطفال. كما دأب الصوفية على الاحتفال بهذا العيد بزواياهم أو بالبيوتات الخاصة؛ فهذا أبو مروان عبد الملك الريفي أحد تلامذة أبي محمد صالح الماجري دفين آسفي، يقيم المولد النبوي في منزله بسبتة بحضور المريدين ومن إليهم ويستعمل في الليلة السماع، كما أن شعراء الملحون في هذا العهد كانوا يتبارون لإظهار براعتهم الشعرية بمناسبة المولد النبوي “حيث يجتمعون صباح يوم العيد في الميدان الرئيسي ويعتلون المنصة واحدا تلو الآخر لإلقاء أشعارهم وقد تجمهر عليهم الناس، ثم يُنَصَّبُ أميراً للشعراء من أحرز منهم قصب السبق5.” ويُذكر كذلك أن السلطان المريني كان يقيم حفلا بهذه المناسبة يستدعي له رجال العلم والأدب، وأن الشعراء كانوا يلقون القصائد أمامه فيُنعم على الفائز الأول بمائة دينار وفرس ووصيف وحُلَّتِه التي يكون لابسا في هذا اليوم ويمنح سائر القراء خمسين دينارا لكل واحد6.

وقد ازدهت وازدهرت هذه الاحتفالات مع السعديين، وتعيينا في عهد المنصور كما وصف ذلك بإسهاب عبد العزيز الفشتالي في “مناهل الصفا” مما سنقف عليه لاحقا، لتتطور بعد ذلك هذه التقاليد في عهد الدولة العلوية. وقد عرض لنموذج من ذلك المؤرخ مولاي عبد الرحمن بن زيدان في كتابه “العز والصولة”، وهو الاحتفال الذي مازلنا نعيش فصولا رائعة منه في زماننا الحاضر. على أن امتداد هذا الاحتفال على مدى قرون يجعلنا نتساءل: ما هي المقاصد والغايات التي جعلت المغاربة يتمسكون بهذه “البدعة الحسنة” ويتفننون في الاحتفاء بها وإحيائها؟

ثانيا: الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ومقاصده

لن نستقصي هنا كل المقاصد المرجوة من هذا الاحتفال، بل حسبنا التمثيل على بعضها وتحريرها بنماذج مبينة.

1. الفرح برسول الله صلى الله عليه وسلم

إن من أبرز ما يعبر عنه الاحتفال بالمولد النبوي الكريم ويطلبه هو الفرح بولادة “الفجر الأعظم7” سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، وهو الفرح المستمدة شرعيته من قوله تعالى: ﴿قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا﴾ (يونس: 58). فقد جاء في “الدر المنثور8” للحافظ السيوطي وفي غيره منقولا عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قوله: “فضل الله العلم ورحمته محمد، صلى الله عليه وسلم9“، بل إن بعض العارفين يذهب إلى أنه، عليه السلام، الرحمةُ عينها؛ إذ لما كان سائر الرسل قد بُعثوا رحمة إلى أقوامهم؛ وكان، صلى الله عليه وسلم، قد فاقهم خَلقا وخُلقا وعلما وكرما؛ حتى استمدوا من روحانيته غرفا من البحر أو رشفا من الديم، كان، صلى الله عليه وسلم، هو “عينَ الرحمة” لقوله سبحانه: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ (الاَنبياء: 106)10. من هنا وجب علينا الفرح والابتهاج والحبور بهذه الرحمة التي أهداها لنا ومَنَّ بها علينا الحق سبحانه. فقد قال أبو العباس المرسي في لطيفة نفيسة: “الأنبياء إلى أممهم عطية، ونبينا صلى الله عليه وسلم لنا هدية، وفرق بين العطية والهدية؛ لأن العطية للمحتاجين والهدية للمحبوبين، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: “إنما أنا رحمة مهداة11.” ومن ثم كان الاحتفال بهذا العيد فرحا بهذه الرحمة الربانية المهداة وشكرا على هذه النعمة المسداة التي أنعم الله علينا بها لما بعث فينا خليله وحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم.

 ومما يزكي مشروعية هذا الفرح ما يُروى عن أبي لهب أن العباس بن عبد المطلب رآه بعد مماته في المنام فسأله عن حاله، فقال له: “في النار، إلا أنه يخفف عني كل ليلة اثنين بإعتاقي ثويبة [الأسلمية، جاريته] عندما بشرتني بولادة النبي صلى الله عليه وسلم12“، فإذا كان هذا حال الكافر الذي لا تنفعه طاعة أو خير مع كفره، حيث يخفف عنه العذاب فقط إكراما له لفرحه بولادة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فما بال المسلم المؤمن الذي لا يَكمُل إيمانه حتى يكون المصطفى أحب إليه من نفسه وولده والناس أجمعين. ذاك هو المعنى الذي ضمنه الحافظ شمس الدين محمد بن ناصر الدين الدمشقي في هذه الأبيات البديعة لما قال:

إذا كــان هذا كـافــرا جاء ذمُّه      ***       يثبت يـداه في  الجحيم مُخلَّدا
أتى أنه في يوم الاثنين دائـــمــا     ***         يُخفَّفُ عنه للسرور بــأحمدا
فما الظن بالعبد الذي كـــان عُمره    ***         بأحمد مسرورا وبات مـوحدا

ولعل هذا الفرح هو الذي جعل المحبين للمصطفى يتخذون من يوم مولده عيدا عظيما يضارع عيدي الفطر والأضحى في الفرح والسرور، ويزيد عليهما بامتداد السرور بحب المصطفى في الزمن وعدم انحصاره  بوقت دون آخر؛ إذ كل وقت للمحبين بذكر الهاشمي عُرس13. يقول الشاعر:

الـمسلمـــون ثلاثة أعيـادهم     ***      الفطر والأضــحى وعيد المولد
فإذا انقضت أفراحهــم فسرورهم   ***    لا ينقضـــي أبـدا بحب محمــد14

هذا المعنى ذاته في تمجيد عيد المولد وتعظيم شأنه وشأوه تشير إليه وتزكيه حكاية دالة جرت بين العالم الصوفي ابن عباد الرندي والولي الصالح أحمد بن عاشر دفين سلا؛ “فقد ذكر ابن عباد رحمه الله ونفع به أنه خرج في يوم ميلاده، عليه السلام، إلى خارج البلاد، فوجد الولي الصالح الحاج ابن عاشر، رحمه الله، مع جماعة من أصحابه، فاستدعوه لأكل الطعام، قال فاعتذرت بأني صائم فنظر إلي الشيخ نظرة منكرة، وقال لي: إن هذا اليوم يوم فرح وسرور، فلا يستقيم فيه الصيام؛ لأنه يوم عيد15“، بل إن الابتهاج بمولده جعل الكثير من العلماء والعارفين يفضلون ليلة ميلاده على ليلة القدر حتى إن أبا عبد الله محمد بن أحمد بن مرزوق ألف رسالة في إثبات ذلك سماها: “جنا الجنتين في فضل الليلتين” آثر فيها ليلة المولد على ليلة القدر من إحدى وعشرين وجها16.
كل هذه الإشارات تبرز أن الفرح برسول الله، صلى الله عليه وسلم، واحد واستدامته من المقاصد الجليلة من مقاصد الاحتفاء بمولده الكريم17.

2. الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم

المقصد الثاني الذي يتحقق من الاحتفال بالمولد النبوي الكريم،هو إبراز مزايا وفضائل الصلاة على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والإكثار منها؛ إذ يعد هذا الاحتفال مناسبة متميزة للإبحار في الصلاة على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والنهل من أنوارها والاقتباس من أسرارها وغنى عن البيان فضل الصلاة على الرسول الأكرم، وما ورد فيها من حض وندب وترغيب في القرآن والسنة الشريفة، فقد قال تعالى: ﴿اِن الله وملائكته يصلون على النبيء، يأيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما﴾ (الاَحزاب: 56)، وورد عنه، صلى الله عليه وسلم، أنه شوهد وقد أطال السجود، فلما سئل قال: “هذه سجدة سجدتها شكرا لربي فيما آتاني في أمتي، من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشرا”، بل إنه، صلى الله عليه وسلم، وصف المعرض عن الصلاة عليه بالبخيل، لما قال عليه السلام: “البخيل من ذكرت عنده فلم يصل عليه”، كما أن الصلاة عليه توجب شفاعته، صلى الله عليه وسلم، لقوله: “من صلى علي أو سأل لي الوسيلة، حقت عليه شفاعتي يوم القيامة18“. والصلاة على رسول، صلى الله عليه وسلم، واجبة على المؤمن في سائر الأوقات، لكنها تصبح أكثر حضورا أو ظهورا وانتعاشا في مناسبة المولد النبوي الشريف، لأنها تعد مجلى من مجالي الفرح برسول الله صلى الله عليه وسلم.

3. التعبير عن محبة الرسول الأكرم وتثبيتها في القلوب

المقصد الثالث الذي تقف عنده والمطلوب من الاحتفال بعيد المولد النبوي الشريف هو التعبير عن محبته والعمل على تثبيتها من الأفئدة وترسيخها في القلوب، وذلك أن هذه المحبة شرط في الإيمان فقد ورد في الحديث الشريف قوله صلى الله عليه وسلم: “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين19“، بل حتى يكون المحبوب المصطفى، عليه السلام، أحب للمؤمن من نفسه؛ فعن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: “لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي التي بين جنبي، فقال له صلى الله عليه وسلم: لن يومن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه، فقال عمر: والذي أنزل عليك الكتاب  لأنت أحب إلي من نفسي التي بين جنبي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر20“. وإشاعة محبة الرسول، صلى الله عليه وسلم، وتثبيتها وترسيخها هو ترسيخ لمختلف مناحي الدعوة المحمدية وقيمها ومثلها وأخلاقها وفضائلها؛ لأن من أبرز علامات المحبة طاعة المحبوب  إذ المحب لمن يحب مطيع، مما يجعل من مقتضيات محبة المصطفى، صلى الله عليه وسلم، اتباعَه والتمسك بسنته والتخلق بأخلاقه وسلوك نهجه والذود عن حرمته والتحقق بمبادئ دعوته وقيم رسالته، قال تعالى: ﴿قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله﴾ (ءال عمران: 31).

4. ترسيخ الشخصية الإسلامية المغربية وتحصين هويتها الدينية

هذا المقصد هو نتيجة تترتب ضرورة عن المقصد الآنف، فالتعلق بالرسول الكريم، والتحقق بمحبة يقتضي التمسك بسنته كما سلف، وهو ما يعني مساهمة الاحتفال بعيد مولده في تقوية وتغذية الهوية الإسلامية المغربية، وترسيخ التخلق بأخلاق الرسول الكريم، عبر استحضار سيرته ومكارمه وكمالاته ومعجزاته وأصول رسالته ومقاصد دعوته، ويكفي التذكير ببعض عادات المغاربة في مثل هذه المناسبة مثل سرد كتاب “الشفا” للقاضي عياض وإنشاد بردة الإمام شرف الدين البوصيري وهمزيته ووتريات الإمام البغدادي خلال الاثني عشر يوما من ربيع الأول، وكلها أخلاق نبوية وسيرة مصطفوية منظومة أو منثورة أو تستحضر في شكل محبوب ومحبِّب في السنة النبوية الشريفة وفي التعلق والتخلف بها.

ومما يدعم دور هذا الاحتفال في ترسيخ وتغذية الشخصية الإسلامية المغربية ما سبقت الإشارة إليه من كون انطلاق عادة هذا الاحتفال كانت بغاية المحافظة على الهوية الإسلامية لأهل سبتة والأندلس وصرفهم عن التقليد الديني للنصارى. وذاك ما يسوغ هذا المقصد في سياقنا الحضاري والتاريخي والذي تهُدد فيه العولمة الثقافية كل الهويات الفقيرة بالمحو والتذويب.

هذه فقط نماذج من المقاصد والغايات المطلوبة شرعا من الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، ولما كانت هذه المقاصد هي عينها التي يخدمها ويطلبها فن السماع المغربي باعتباره ترتيلا للأشعار الدينية، مديحية كانت أو صوفية، وفق الطبوع الأندلسية المغربية دون معازف أو آلات، كانت بالنتيجة مناسبة هذا الاحتفال أبرز فرصة لانتعاش فن السماع المغربي خصوصا في شق المديح النبوي الشريف، حيث شكلت دوما مناسبة المولد النبوي الشريف إطارا حيويا لانتعاش النظم في المديح النبوي، ومجالا لتوهج تنغيم مختلف النصوص المتصلة بسيرة الرسول، صلى الله عليه وسلم، ومولده ومعجزاته والصلاة عليه والمبرزة لشمائله ومكارمه، أكانت فصيحة موزونة أم موشحة أم ملحونة. وإليكم إلماعات لبعض محطات تشكل فن السماع المغربي والتي أسهمت في تشكيلها،  بقوة وعمق، الاحتفالات المتواترة  بعيد المولد النبوي الشريف.

ثالثا: الاحتفالات المولدية وتشكل فن السماع بالمغرب

منذ انطلاق الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في المغرب الموحدي كما سلف خلال القرن السابع للهجرة، ظهر بتواز معه “نوع جديد من الغناء يعرف بالسماع21“. ذلك أن إحداث الاحتفال بهذه المناسبة أبرز إلى الوجود فنا إنشاديا جديدا يقوم على إنشاد قصائد المديح النبوي وترنيم المولديات وفق طبوع الموسيقى الأندلسية المغربية دون استعمال للمعازف والآلات. وكما يتبدى من هذا التعريف فإن هذا الفن قد استفاد من موسيقى الوافدين الأندلسيين على المغرب منذ عهد المرابطين ومن تفاعلاتها مع التراث الفني المغربي المحلي، كما استفاد أيضا من الانتعاش الذي شهده القرن السابع للهجرة في شعر المديح النبوي بظهور شعراء أعلام وأسماء بارزة في النظم الصوفي، أمثال أبي مدين الغوث (توفي 594ﻫ/1198م) وشرف الدين البوصيري (توفي 608ﻫ/1211م) وعمر بن الفارض (توفي 632ﻫ/1235م) وأبي الحسن الششتري (توفي 668ﻫ/1269م).. إلخ.

ويمكن أن نقف على بعض مضامين المادة الإنشادية الأولى لهذا الفن من خلال ما أضحى يُتغنى به في الحفلات المولدية العزفية، حيث يخبرنا ابن دراج السبتي (توفي 693ﻫ/1293م) أن معظم ما يترنم به على عهده “إما مدح المصطفى سيد ولد آدم وخاتم المرسلين، وإما مشوقات إلى البيت والحطيم(…)، وإما زهديات تزهد في الدنيا ومتاعها القليل (…)، وإما وعظيات تذكر العبد بذنبه الذي سبق في أم الكتاب22.”

وبامتداد الاحتفال الرسمي بالمولد النبوي وتبني هذا الاحتفال أيضا من لدن الطرق الصوفية المنتعشة على اختلافها وتنوعها، ستتاح لفن السماع شروط هامة وإمكانات متجددة للتداول والرواج والتوهج، ومن ثم سيعرف تطورا وتبلورا إن على صعيد المتن النظمي أو على صعيد الإنشاد النغمي. هكذا، ومنذ العهد الموحدي الذي رأينا حضور السماع فيه ثابتا أساسيا في الاحتفالات الرسمية كما يدل على ذلك كتاب “المسموعات” المفقود، سيتلاحق ويمتد هذا الحضور، حيث ستنتظم العناية بهذا الفن في العصر المريني حين سيصبح المولد النبوي عيدا عاما في المغرب على عهد يوسف بن عبد الحق المريني عام (691ﻫ/1292م)؛ إذ ستحضر العناية بالإنشاد والسماع في الحفلات السلطانية الرسمية كما في الحفلات الشعبية مع أطفال الكتاتيب القرآنية أو مع حلقات الذكر لدى الجماعات الصوفية23. وهو ما سيمتد مع العصر الوطاسي (875-956ﻫ/1470-1549م)24، ثم بشكل خاص مع الاحتفاء الكبير الذي اتخذته الحفلات المولدية السعدية على عهد أحمد المنصور الذهبي (988-1017ﻫ/1578-1608م).

نقرأ في “مناهل الصفا” وصفا دقيقا لأحد مجالس هذه الحفلات. يقول الفشتالي: “فإذا استوت الورود، واصطفت الصفوف وتقاربت الأجناس وتآلفت الأشكال، ورضيت مقاعدها السراة (…) تقدم أهل الذكر والإنشاد يقدمهم مشائخهم من بعد أن يفرغ الواعظ من قراءة ما يناسب المقام من الاستفتاح بفضائل النبي، صلى الله عليه وسلم، وسرد معجزاته والثناء على شريف مقامه وعظيم جلاله، واندفع القول لترجيع الأصوات بمنظومات على أساليب مخصوصة في أماديح النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، يخصها العرف باسم “المولديات” نسبة إلى المولد النبوي الكريم، قد لحنوها بألحان تخلب النفوس والأرواح، وترق لها الطباع وتبعث الانشراح في الصدور والأشباح، وتقشعر لها جلود الذين يخشون ربهم، يتفننون في ألحانها على مذهب تفننها في النظم، فإذا أخذت النفوس حظها من الاستمتاع بألحان المولديات الكريمة، تقدمت أهل الذكر المزمزمون بالرقيق من كلام الشيخ أبي الحسن الششتري، رضي الله عنه، وكلام غيره من المتصوفة أهل الرقائق. كل ذلك تتخلله نوبات المنشدين للبيتين من نفيس الشعر يتحينون به المناسبة بينها وبين ما يتلى من الكلام عند الإنشاد25.”

إن هذا النص يمدنا بتفاصيل نفيسة تضيء لنا بعض قسمات فن السماع خلال العصر السعدي، وخصوصا ما تعلق منه بأسلوب الإنشاد حيث يسجل تطور هذا الأسلوب وفق النهج الأندلسي، وذلك من خلال التفنن في إنشاد الموشحات والعناية بإنشاد “البيتين26“، مع تحين “المناسبة” بين الأشعار والتنسيق بين معانيها. كما نسجل في النص إشارة هامة توحي بنوع من التمييز في السماع بين “إنشاد المولديات”؛ أي القصائد الخاصة بالمولد النبوي الشريف، وبين “الزمزمة بكلام القوم”؛ أي التغني بمرددات الصوفية في حِلَق الذكر، وهو التمييز الذي سوف يتبلور بشكل واضح لاحقا بين شق المديح النبوي وشق كلام القوم في فن السماع.

وعلى غرار هذه الحفلات الرسمية بعيد المولد النبوي الشريف، أولت الزوايا عناية خاصة بولادة “الفجر الأعظم” سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، حيث أقامت بدورها احتفاءات روحية واحتفالات طقوسية صوفية بهذه المناسبة المحمدية. وهو ما فسح أمام فن السماع، الذي اقترن بالتصوف منذ عهده الأول في القرن الثالث للهجرة، إمكانات أخرى لمزيد من التطور والانتعاش والازدهار. وهنا نشير إلى أن الولي الصالح سيدي عبد الله بن حسون تلميذ عبد الواحد الونشريسي صاحب أرجوزة “الطبوع والطبائع” سوف يجيز استعمال الآلات في زاويته بمناسبة المولد النبوي الشريف، وهي العادة التي ما تزال قائمة بالموازاة مع الاحتفالات البديعة لـ “موكب الشموع” خلال المولد النبوي بسلا، في الوقت الذي اعتنت فيه زوايا أخر خلال مناسبة المولد بالسماع المجرد من الآلات والمعازف. فهذا “الشيخ أبو المحاسن يرخص في السماع للمولد الشريف، فيجتمع لذلك عنده خلق عظيم، ويحضر أهل السماع الذين يحفظون مقطعات الشيخ أبي الحسن الششتري وما يجري مجراها، ويحكمون صناعة تلحينها دون آلة، ويحكمون طرق تلحين الميلاديات المعربة الموزونة بأوزان الشعر العربي وما يجري مجراه، والملحونة الموزونة على عروض البلد وغيره على العادة في ذلك بحضرة فاس27.”

إن ما كانت تعرفه الزاوية الفاسية خلال عهد مؤسسها أوائل القرن الحادي عشر للهجرة، ليس إلا نموذجا لما كان قد أضحى متداولا ومعمولا به في العديد من الزوايا الصوفية بالمغرب؛ مع ضرورة الإشارة هنا إلى أن العناية بالسماع في الزوايا كانت تتصل بشكل عضوي ووثيق بركن من أركان التصوف في جميع الطرق، وهو الذكر وما يجري مجراه من تسابيح وأوراد، وهذا ما يجعلنا ندخل ضمن المادة الإنشادية المتغنى بها في السماع بالزاوية، إلى جانب النصوص الشعرية المولدية وأشعار القوم وأناشيدهم ومقطعاتهم، نصوصا أخرى “نثرية” مثل الدعوات والصلوات والأحزاب، وهي نصوص تحلى أيضا بالأنغام ويشملها الترنيم والتلحين كما هو الشأن، على سبيل المثال، مع “الصلاة المشيشية28” و”أحزاب الإمام الشاذلي29” و”دلائل الخيرات30” للإمام الجزولي وحزب “سبحان الدايم31” المتداول بين أتباع الشيخ سيدي محمد بن عيسى. وترنيم النصوص النثرية واحد من أهم خصائص السماع في الزوايا الصوفية32، بل لعله المصدر الأساس لظهور الأسلوب المغربي في إنشاد المولديات النثرية33 ضمن حفلات عيد المولد النبوي الشريف. ويتميز هذا الأسلوب بتقسيم متن المولد النثري إلى “مواقف” تنشد فرديا، بحيث يخصص كل موقف بطبع أو بجملة من الطبوع المتجانسة، ويتخلل هذه “المواقف” إنشاد جماعي لصلاة مخصوصة تعرف في بعض الموالد بـ”التعطيرة” كما هو الشأن في مولد “إسعاف الراغب” لمحمد بن جعفر الكتاني؛ كما  تخلل بمستعملات مديحية تناسب نغم ودلالات كل موقف، ليتم في نهاية الموقف الأخير عند الانتهاء في السرد إلى ولادة المصطفى، صلى الله عليه وسلم، الوقوف جماعيا وإنشاد البيت الشهير لابن الصباغ الجذامي (توفي 648ﻫ/1250م):

وُقُوفاً عَلَى الأَقْدَامِ فِي حَقِّ سَيِّدٍ    ***     تُعَظِّمُهُ الأَمْلاَكُ وَالجِنُّ وَالإِنْسُ34

ويبقى أبرز عمل ضخ فن السماع بروح جديدة، أفضت إلى تكثير ألحانه وتوسيع منشداته وتطوير رصيده الغنائي وحضوره خصوصا في مناسبة المولد النبوي الشريف، هو ما قام به، خلال العصر العلوي، أحمد بن محمد بن عبد القادر الفاسي (توفي 1164ﻫ/1750-1751م)، حين أقدم على تخصيص نوبة رمل الماية كاملة للمديح النبوي، وذلك بتحويل أشعار ميازينها الأربعة35 في طرب “الآلة” من أغراض الغزل والنسيب والتشبيب ووصف الطبيعة ومجالس الأنس36، إلى أغراض المديح النبوي من شمائليات وحجازيات واستشفاع بالرسول صلى الله عليه وسلم37.
وتتجلى أهمية مبادرة الفاسي هاته في كونها فتحت آفاقا رحبة أمام المنشدين للتغني بألحان موسيقى “الآلة”، دون معازف ومضارب، في الأماكن المقدسة المخصصة للشعائر والعبادات كالمساجد والمشاهد والزوايا. كما أنها من ناحية ثانية أتاحت لطرب الآلة “رئة أخرى” يتنفس بها حين يضيق عليه الخناق بكثرة النقد وفتاوى الإنكار. ولهذا، وإكبارا لابتكار الفاسي، راح الموسيقيون الآليون يجتمعون في ضريحه بفاس صباح يوم عيد المولد من كل سنة لإنشاد “كل ميازين رمل الماية دون آلات، وإنما بـ”التوسيد”38“. وهي العادة التي سيترتب عنها نشاط إنشادي مديحي أسبوعي “كل جمعة بعد العصر في سيدي ابن عباد، رضي الله عنه، داخل باب الفتوح بلا آلة أيضا كذلك، وكل أربعاء في الضحى عند ضريح سيدي بوغالب رضي الله عنه39“. لتمتد هذه العادة إلى كثير من المناطق في المغرب مثل مشاهد مولاي إدريس الأزهر بفاس أبي العباس السبتي بمراكش وسيدي العربي بن السايح بالرباط صبيحة كل جمعة وغيرها من الزوايا والمزارات عشية نفس اليوم.

ولعل من إيجابيات المبادرة المذكورة وحسناتها على المدونة الإنشادية في السماع، أنها ستدفع مهرة هذا الفن لانتحاء نهج الفاسي40 والعمل من أجل تعميم أسلوبه على باقي نوبات طرب الآلة41. الأمر الذي سيترتب عنه شيوع ظاهرة فنية بديعة وبارزة في فن السماع وهي التي تعرف بـ”القدود42“؛ وتعني إنشاد صنائع طرب الآلة في أشعار أخرى تكون في “قَدِّ ومقاس” الأشعار الأصلية لتلك الصنائع، والتي سيكون من نتائجها الإقدام على تلحين البردة انطلاقا من تخاليل طرب الآلة وأدوار صنائعها وأنغام طبوعها، ضمن ما يعرف بـ”العمل الفاسي”؛ أي الطريقة الفاسية في التلاوة التنغيمية لبردة الإمام البوصيري43. كما ستشجع تلك المبادرة، ومن طرف خفي، على بروز ظاهرة أخرى، وهي “تعمير” التواشي الموسيقية الصامتة بالأشعار من أجل إتاحة التغني بها دون معازف وآلات في مجالس السماع.

هكذا تبدى لنا بجلاء كيف أسهمت الاحتفالات المتوالية والمزدهية بعيد مولد الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، في تشكيل فن السماع المغربي نظما ونغما وأداء وتداولا، وذلك لكون هذا الفن يخدم نفس المقاصد والغايات التي من أجلها أحدث هذا الاحتفال، فالسماع في شق المديح النبوي تعبير من ناحية عن الفرح بالمصطفى، صلى الله عليه وسلم، وهو في مضمونه الإنشادي ليس سوى صلاة على الرسول، صلى الله عليه وسلم، واستحضار لشمائله وكمالاته، وإفصاح عن محبته ودعوة إلى التخلق بأخلاقه والتمسك بسنته. ومن ثم فإن هذا الفن يوفر أداة لطيفة تستجلب النفوس من خلال شجي الأنغام وبهي الأنظام فصيحها وموشحها وملحونها لتتحقق هذه النفوس بمحبة الرسول الكريم، ومن ثم تتمسك بشريعته وسنته وتتخذه قدوة وأسوة. وهي وظيفة غاية في النبل والبهاء، إن من حيث المقصد أو الأداة؛ ذاك أن الإنسان ميال بطبعه للجمال وهو مُعَوَّل السماع في الدعوة إلى محبة الرسول، صلى الله عليه وسلم، جمال الشعر وجمال اللحن وجمال الأداء، وكذا جمال الطقوس ومباهج المجامع في مجالس الإنشاد…، ولتلك المظاهر أسرار لها حين آخر للتفصيل ولها حقيقتها النفيسة التي قد  لا تُدرك إلا بالتجربة والذوق والوجدان.

الهوامش:

—————————————————————————————

1. محمد المنوني، “المولد النبوي الشريف في المغرب المريني”، دعوة الحق، ع1/1468، ص119.
2. عباس الجراري، الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه، الرباط: مكتبة القارئ، 1979، الجزء الأول، ص 144.
3. ابن عذارى المراكشي، “البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب. قسم الموحدين.”، تحقيق الأساتذة: محمد ابراهيم الكتاني، محمد زنيبر، محمد بن تاويت، عبد القادر زمامة، الدار البيضاء: دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1985، ص398. (التشديد في النص منا)
4. “المولد النبوي الشريف في المغرب المريني”، م، س، ص120. (التشديد في النص من عندنا).
5. “الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه”، م، س، ص146.
6. المرجع نفسه.
7. محمد العربي بن يوسف الفاسي، “مرآة المحاسن من أخبار الشيخ أبي المحاسن”، دراسة وتحقيق، محمد حمزة الكتاني، منشورات رابطة أبي المحاسن ابن الجد، الدار البيضاء، 2003م، ص187.
8. “الدر المنثور في التفسير بالمأثور”، تحقيق عبد الله التركي، القاهرة: مركز هجر للبحوث والدراسات العربية والإسلامية، 2003، 7/668.
9. راجع مثلا: أبو فرج جمال الدين الجوزي، “زاد المسير في علم التفسير”، خرج آياته وأحاديثه ووضع حواشيه أحمد شمس الدين، بيروت: دار الكتب العلمية، 2009، 4/31؛ و”تفسير المنار”، لمحمد رشيد رضا، خرج آياته وأحاديثه وشرح غريبه إبراهيم شمس الدين، بيروت: دار الكتب العلمية، ط2، 2005، 1/344.
10. ابن عطاء الله السكندري، “لطائف المنن”، تعليق عبد الحليم محمود، القاهرة: دار المعرف، (د. ت)، ص32.
11. المرجع نفسه، ص148-14.
12. ” صحيح  البخاري”، (كتاب النكاح و كتاب مناقب الأنصار).
13.  يقول ابن الصباغ الجذامي في قصيدة مولدية شهيرة وسائرة:
فكل له عرس بذكر حبيبه   ***   ونحن بذكر الهاشمي لنا عرس
ديوانه، تقديم و تحقيق نور الهدى الكتاني، منشورات المجمع الثقافي. أبو ظبي 2003: ص 121.
14. عبد العزيز العيادي العروسي،”المولد، (الموروث الشفوي في قصائد المديح النبوي)”، طنجة 2002: ص35.
15. راجعها في “البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب. قسم الموحدين.”، م، س، ص 179.
16. المرجع نفسه، ص280-283.
17. لمزيد بيان حول تأصيل هذا الفرح، يمكن الرجوع إلى مقالنا: “فرح المغاربة بالرسول الأكرم من خلال المدائح النبوية: قراءة عاشقة”، ضمن “أشغال الملتقى الوطني الأول للنصرة”، منشورات مركز خديجة، رضي الله عنها، لنصرة الرسول، صلى الله عليه وسلم، سلا 2010، ص81-90.
18. للوقوف على فضل الصلاة على النبي، صلى الله عليه وسلم، راجع مثلا: إسماعيل بن إسحاق الجهضمي المالكي، “فضل الصلاة على النبي”، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت 1977، وراجع أيضا: عبد الله بن عبد القادر التليدي، “إتحاف أهل الوفا بتهذيب كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى”، بيروت: دار الشائر الإسلامية، 2000: ص363-380.
19. ” صحيح البخاري”، (كتاب الإيمان).
20. “صحيح البخاري”، (كتاب الإيمان والنذور وفي غيره).
21. أحمد الناصري، “الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى”، تحقيق وتعليق جعفر الناصري ومحمد الناصري، الدار البيضاء: دار الكتاب، 1956، 1/208.
22. ابن دراج السبتي، “الإمتاع والانتفاع بمسألة سماع السماع”، دراسة وإعداد: محمد ابن شقرون، مطبعة الأندلس، القنيطرة (د. ت)، ص70.
23. انظر: محمد المنوني، “ورقات عن حضارة المرينيين”، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ط3، (1420ﻫ/2000م)، ص524-526.
24. انظر: محمد المنوني،  “تاريخ الموسيقى الأندلسية بالمغرب”، مجلة “البحث العلمي”، ع 15-16/1969، ص166.
25. عبد العزيز الفشتالي، “مناهل الصفا في أخبار الملوك الشرفا، تحقيق عبد الله كنون، 2/224.
26. وهي نمط من الإنشاد الفردي ذي الأسلوب المخصوص والمسبوك على وزن عروضي معين ووفق طبع موسيقي محدد تتخلله عناصر موسيقية تعرف بـ”النننات””. لمزيد من التوسع راجع: محمد بن العربي الدلائي الرباطي (توفي 1285ﻫ/1869)، “فتح الأنوار في بيان ما يعين على مدح النبي المختار” دراسة وتحقيق محمد التهامي الحراق، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرباط 2011م، قسم الدراسة: 1/152-175.
27. “مرآة المحاسن من أخبار الشيخ أبي المحاسن”، م، س، ص187.
28. مازالت هذه الصلاة، إلى اليوم، ترتل بشكل جماعي في جل الزوايا ذات المشرب الشاذلي، وغالب ترتيلها في نغم رصد الذيل.
29. مثال ذلك عناية مريدي الزاوية الوزانية إلى اليوم بالترتيل الجماعي لـ”حزب الفلاح” في نغم “الحجاز المشرقي”.
30. من أشهر طرق ترتيله الجماعية التي مازالت حية في زمننا، الطريقة “السردية” المتداولة بين أصحاب دلائل الخيرات” بمراكش، وطريقة أهل وزان التي تخصه بالترتيل في نغمي حمدان والماية، وطريقة أهل مكناس التي تستعمله في نغم المزموم. راجع بصدد العناية بتلحين “دلائل الخيرات”: محمد المهدي الفاسي، “ممتع الأسماع في الجزولي والتباع ومالهما من الأتباع”، تحقيق وتعليق، عبد الحي العمراوي وعبد الكريم مراد،، ط1 (1415ﻫ/1994م) ص 49.
31. ومازال هذا الحزب ركنا رئيسا في مجامع الطائفة العيسوية، يردد بكيفية سردية لا تخلو من تنغيم يميل أساسا إلى نغمي عراق العجم و الذيل.
32. وهو ما نقف أيضا عليه في غير المغرب من بلدان المغرب العربي. راجع مثلا “الموسيقى الصوفية في بلاد المغرب العربي”، محمد الكحلاوي، “جريدة الفنون” الكويتية، ع. 48/ديسمبر 2004: ص15.
33. انظر الإشارة إلى نماذج منها في: “التآليف المولدية”، عبد الحي الكتاني، مجلة السنة النبوية، ع. 3/2003:
ص129-161. وقد وقفت على ستة وثلاثين تأليفا مولديا مغربيا، وذلك في دراسة غير منشورة بعنوان: “نحو جرد أولي لمدونة المدائح النبوية بالمغرب”. ونسجل أن بعضها أكثر رواجا من الآخر، حيث يسود مثلا تداول مولد “إسعاف الراغب الراغب الشائق بخبر ولادة خير الأنبياء وسيد الخلائق” لسيدي محمد بن جعفر الكتاني (توفي 1345ﻫ/1926م) في جل الزوايا ذات المشرب الدرقاوي، ويسود مولد “ربيع القلوب في مولد النبي المحبوب” لسيدي العربي بن عبد الله التهامي الوزاني الرباطي (توفي 1339ﻫ/1920م) في زوايا دار الضمانة؛ ومولد الفقيه الحجوجي بالزوايا التيجانية… إلخ. على أنه ظهرت في الوقت الراهن نصوص تعرف بـ”الشمائل” حلت لدى البعض محل تلك الموالد، وهي وإن كان بعضها يقتبس جملة من الأحاديث النبوية الشريفة، فإن جلها يفتقر إلى عناصر الجودة اللغوية والبلاغة الأسلوبية والرونق السردي والنفحة الروحية التي تسري في موالد الأشياخ الصوفيين الذين صدرت عنهم هذه الموالد ممهورة  بمحبتهم الفارضية للمصطفى، صلى الله عليه وسلم. هذا فضلا عما يشتم بين ثنايا تلك النصوص البديلة من تجنب واتقاء للكثير من “الأحاديث” و”الأوصاف” و”الأخبار” و”الأحوال” التي تُلمز بالغلو ويُجرح في صحتها دونما معرفة بخواص الموالد النثرية وأبعادها التربوية ووظائفها الروحية في النسق الصوفي.
34. ديوانه، م، س، ص120.
35. من المعلوم أن “طرب الآلة” كان مقتصرا على ميازين أربعة هي: البسيط، القائم ونصف، البطايحي، القدام، قبل أن يضيف المغاربة إليه ميزان الدرج. راجع بهذا الصدد بعض المدونات التي تخلو من ميزان الدرج مثل: محمد البوعصامي، “إيقاد الشموع بلذة المسموع بنغمات الطبوع”، تحقيق عبد العزيز بن عبد الجليل، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، الرباط 1995؛ “مجموعة الحايك”. نشرة بخط أحمد زويتن، مكتبة الرشاد، الدار البيضاء 1972؛ “كناش محمد بن الحسين الحايك التطواني الأندلسي”، نسخة مصورة عن مخطوطة الحاج عبد السلام الرقيواق الطنجي، الدار البيضاء 1981؛ “كناش الحايك”. تحقيق مالك بنونة، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، الرباط 1999.
36. راجع نوبة رمل الماية في صورتها الغزلية، ضمن: “الحايك”. نـ. الرقيواق: ص10-29.
37. راجع نوبة رمل الماية في صورتها المديحية، ضمن: “الحايك”. نـ. زويتن: ص13-28؛ تـ. بنمنصور: ص37-65؛ تـ. ابن جلون: ص42-62؛ من وحي الرباب: ص23-51.
38. “الموسيقى المغربية المسماة أندلسية”، ص123.
39. إبراهيم التادلي الرباطي، “أغاني السيقا ومغاني الموسيقى”، دراسة وتحقيق عبد العزيز بن عبد الجليل، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، الرباط 2011م، ص300.
40. محمد المختار العلمي، “فن السماع والمدح”، ضمن “أضواء على الموسيقى المغربية”، صالح الشرقي: مطبعة فضالة، المحمدية 1977، ص174.
41. في هذا الإطار ظهرت بعض نسخ “الحايك” التي أُثبتت في طررها المقابلات المديحية لصنائع مدونة طرب الآلة. مثاال ذلك كناش الفنان العربي السيار الذي اعتمده مالك بنونة لإثبات المقابلات المديحية في تحقيقه للحايك، وهذا الكناش في ملك الفنان المنشد الحاج أحمد حرازم. وكذلك النسخة التي أفاد منها صالح الشرقي في عرضه جدول المقابلات المديحية للصنائع الآلية ضمن كتابه “أضواء على الموسيقى المغربية”، وهي نسخة تأدت إليه من الشاعر المنشد محمد المختار العلمي. فيما اقتصرت أعمال أخرى على تحويل نوبة معينة من أشعار الغزل إلى أشعار المديح النبوي، كما هو الشأن  مثلا مع سيدي عبد السلام بن ريسون الذي قلب نوبة “العشاق من الخمريات والغزل إلى المديح” (النهضة الفنية بتطوان قبل سنة 1912، مدرسة سيدي عبد السلام بن ريسون ودورها ضمن ندوة تطوان قبل الحماية (1860-1912): ص263.
42. لمزيد توسع راجع “فتح الأنوار في بيان ما يعين على مدح النبي المختار”، م، س؛ قسم الدراسة، 1/554-560.
43. لمزيد توسع راجع محمد التهامي الحراق، “موسيقى المواجيد، مقاربات في فن السماع المغربي”، منشورات الزمن، الرباط 2010م، ص73-80.

Science

د. محمد التهامي الحراق

• دكتوراه في الآداب من جامعة محمد الخامس بالرباط.
• المسؤول الثقافي والفني عن مؤسسة الذاكرين للأبحاث الصوفية وموسيقى السماع ـ الرباط
• عضو في مركز خديجة لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
• نائب رئيس مؤسسة مولاي عبد الله الشريف للدراسات والأبحاث ـ فرع الرباط.
• مشرف ومعد للعديد من البرامج التلفزية والإذاعية حول التصوف، منها:”عباد الرحمن”، و”ذكر ومذاكرة”، و”مرحبا بالمصطفى”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق